مقاربة معلقة امرئ القيس في ضوء المنهج الأنثروبولوجي

فريد أمعضشو

حين نستحضر امرأ القيس فإننا نكون أمام أحد أبرز وأشهر شعراء العربية، وإن لم نقل أمام أبرزهم وأشهرهم على الإطلاق. إنه يعد، كما قال المرحوم شوقي ضيف، “أباً للشعر الجاهلي، بل للشعر العربي جميعه”1. وقد وضعه محمد بن سلام الجُمَحي (ت231هـ) على رأس الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية، يليه، في الطبقة نفسها، النابغة الذبياني، فزهير بن أبي سُلمى المُزني، ثم الأعشى ميمون بن قيس2. وكان مقدَّماً، أيضاً، لدى علماء البصرة، ولدى كثير من فُحول الشعراء العرب في الجاهلية والإسلام؛ فقد سُئل لبيد بن ربيعة العامري عن أشعر الناس، فأجاب: “الملك الضّـلّيل”؛ وهو لقب لامرئ القيس، وُسِم به لأنه كان ملكاً ابن ملك ابن ملك، قُدر له أن يعيش حياة التشرد والتنقل بين الأحياء والقبائل؛ سعياً لاسترداد مجْد أجداده، وللثأر لمقتل أبيه الذي اغتالته بنو أسد. وقيل للفرزدق، الذي كان راوية مُكثِراً لامرئ القيس: “مَن أشعر الناس يا أبا فراس؟”، فقال: “ذو القروح”؛ وهو لقبٌ آخرُ لامرئ القيس لُقب به مِن بعد التحاقه بيوستينْيانُس؛ قيصر الروم، الذي رحّب به وأكرمه وأعانه، إلى أن وشى به أحدُهم لدى القيصر، كما تقول بعض الروايات، متهماً إياه بتطاوُله على شرف ابنة مُضيِّفه وكرامة أهلها، فما كان من القيصر إلا أن ابتعث له بحُلة جميلة، لكنها كانت مسمومة، بداعي رغبته في إسعاده وإكرامه، ولما ارتداها امرؤ القيس، في يوم صائف، بدأ لحمه يتناثر، وجسدُه يتقرّح، إلى أن مات؛ فسُمي باللقب المذكور. وقال عمر بنُ الخطاب رضي الله عنه للعباس بن عبد المطلب لما سأله عن الشعراء: “امرؤ القيس سابقهم، خَسَف لهم عين الشعر”. ولهؤلاء وغيره، ممّن يُقدِّمون امرَأ القيس، مُسَوِّغاتٌ يسوِّغون بها إيثارَهم الشاعرَ على باقي شعراء العربية. قال أبو عبيدة مَعْمر بن المثنى (ت210هـ): “يقول مَن فضّله (أي امرأ القيس): إنه أولُ من فتح الشعر واستوْقف، وبكى في الدِّمَن، ووصف ما فيها. ثم قال: دَعْ ذا رغبةً عن المَنْسَبَة، فتبعوا أثره. وهو أول مَن شبّه الخيل بالعصا واللَّقوة والسِّباع والظباء والطير، فتبعه الشعراءُ على تشبيهها بهذه الأوصاف”3. وفي السياق نفسِه، ذكر ابن سلام عدداً من الأمور التي كانت مُنطلَق كثيرين في تفضيل امرئ القيس وتقديمه، فقال إنه “سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، واستحْسنها العربُ، واتبعته فيها الشعراء: استيقاف صحْبه، والتَّبـْكاء في الديار، ورقة النَّسيب، وقُرب المأخذ. وشبّه النساء بالظباء والبَيْض، وشبه الخيل بالعِقبان والعصِيّ، وقيّد الأوابد، وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين المعنى”4.
ويعد “امرؤ القيس” أشهر ألقاب الشاعر حُنْدُج بن حُجْر بن الحارث الكِندي؛ بحيث غلب على اسمه الحقيقي، وعلى لقبَيْه الآخرَيْن المتقدمين، إلى درجة أنّا إذا سمعْنا اسمه، أو قرأناه في كتابة من الكتابات، لا نعرف صاحبه، أو على الأقلّ الأكثرية منا، بخلاف ما إذا سمعنا، أو قرأنا، لقبَه الأشهر الذي يكاد يعرفه الجميع؛ لشهرة شاعرنا، وريادته، وحيازته قصبَ السبْق في جملة من المجالات والأمور التي أتيْنا على ذكرها آنفاً. ويتقاسم هذا اللقبَ مع تسعة شعراء عرب آخرين، أغلبهم من قبيلتي كندة وبكر، ذكرهم جميعاً أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي (ت370هـ) في أحد تآليفه5. وكنية الرجل هي أبو وهب، وقيل: أبو الحارث، وقيل: أبو زيد. وقد عاش في القرن السادس الميلادي، وينحدر من أسرة مالكة ماجدة ذات جاه وسلطان في المجتمع؛ إذ إن أباه وأجداده كانوا ملوكاً ومن علية القوم، وأمّه هي فاطمة بنت ربيعة؛ أخت المهلهل، وينتهي نسبُه الأعلى إلى كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان6.
إن مَن يتصفح ما كُتب عن امرئ القيس وأشعاره يقف على كَمّية مهمة من الدراسات والأبحاث في هذا الصدد، سواء أكانت بأقلام عربية أم أجنبية، وسواء أكانت هذه الكتابات قديمة أم حديثة. ولكن ما يَلفت انتباهَنا أن الناس قد “كلفوا بالحديث عن سيرة امرئ القيس وانتمائه القبلي من جهتيْ أمه وأبيه، وعن سيرة جدّه وأبيه أكثر من كلفهم بالحديث عن شعره الذي جمعه حمّاد الراوية، المشكوك في وُثوق روايته، بعد أكثر من قرنين من وفاته”7.
لقد خلّف امرؤ القيس جملة من الأشعار، جُمعت فيما بعدُ بين دفتيْ ديوان، طُبع مراتٍ كثيرةً. ويعد دو سلان (De slane) أول من طبع هذا الديوان، بباريس، عام 1837م، تحت عنوان “نزهة ذوي الكيس، وتحفة الأدباء في قصائد امرئ القيس”. ونشر محمد أبو الفضل إبراهيم ديوان امرئ القيس، عام 1958م، نشْرة علمية محققة، بدار المعارف بالقاهرة، اعتماداً على عددٍ من المخطوطات المحصَّل عليها من مكتبات عربية وغير عربية معروفة. ولا بد من التنبيه إلى أن شعر امرئ القيس قد طاله نَـحْلٌ وتزيُّد ووضْع، وأثيرت حول عديد من نصوصه شكوكٌ، ومردّ ذلك إلى عوامل بيّنها ابن سلام في طبقاته قديماً، وطه حسين في كتابه المشهور عن الشعر الجاهلي حديثاً. وتُقسَّم مسيرة امرئ القيس الشعرية إلى طورين؛ أولهما يشمل الشعر الذي قاله الشاعر قبل مقتل أبيه حجر بن الحارث، وكان ينصرف، بالأساس، إلى الوقوف على الأطلال الدارسة، والتغزُّل بالنساء، والإقبال على الحياة ومُتعها، ووصْف الطبيعة الصامتة والحيّة معاً. ولا يعدو شعرُه هذا المعلقةَ، ومطوّلتَه التي استهلّها بقوله: “ألاَ عِمْ صباحاً أيُّها الطَّلَل البالي…”. والطور الثاني يحوي الأشعارَ التي جادت بها قريحته بعد حادث مقتل أبيه الذي شكل مُنْعَرَجاً حاسماً في حياته؛ بحيث تحوّل من شاعر يجري وراء ملذات الحياة، ويعاقر كؤوس الخمرة، ولا يبالي بأي مسؤولية، إلى شاعرٍ آخرَ، ران عليه الحزن لذلك الحادث، وأحسّ بثقل الدَّيْن المُلقى على كاهله؛ والمتمثل في الثأر لمقتل أبيه. بحيث يُروى أن امرأ القيس كان يعيش حياة التشرّد والصّعلكة والإقبال على الحياة مع ثلة من رفاقه، بعدما طرده أبوه؛ لتماديه في قرْض الشعر، وكانت العرب في جاهليتها تأنف من ظهور شاعر في أسرة مالكة، وقيل: لتشبيبه بأمه فاطمة. بينما هو يعيش تلك الحالة، أتاه نبأ مقتل أبيه على يد بني أسد، وكان إبّانئذٍ بدمّون من أرض اليمن، فقال، بعد الفراغ من شرب الخمر وملاعبة رفاقه النرْد، قولته الشهيرة: “ضيّعني أبي صغيراً، وحمّلني دمه كبيراً. لا صحو اليوم، ولا سُكر غداً. اليومَ خمر، وغداً أمْر. اليوم قِحاف، وغداً نِقاف”. وآلى أنْ لا يأكل لحماً، ولا يشرب خمراً، ولا يدّهن بدهن، ولا يلهو بلهو، ولا يغسل من جنابةٍ رأسه، حتى يثأر لمقتل أبيه.
وقد تناول النقاد شعر امرئ القيس، ودرَسوه من زوايا ومستويات مختلفة، وعالجوه انطلاقاً من رؤى ومقاربات عديدة، وطبّقوا عليه مناهج قرائية كثيرة منذ القِدم. فقد تعرض إليه، بالدراسة والتحليل، أبو زيد القرشي، وأبو عبد الله الزوزني، وحازم القرطاجنّي، وطه حسين، ومصطفى ناصف، وكمال أبو ديب، وغيرهم كثير. ولئن كانت مناهجُهم، في التناول، متباينة ومترجِّحة بين مناهج سياقية تربط أشعار امرئ القيس بعصرها ومجتمعها وناصِّها وغير ذلك من الظروف الحافّة بها، وأخرى داخلية تركز على دراستها في حد ذاتها بوصفها لغةً تقبع وراءها دلالات، إلاّ أنّا لا نجد أيّاً من أولئك الدارسين، على كثرتهم، عَمَدَ إلى معالجتها أنثروبولوجياً، باستثناء الناقد الجزائري الكبير د. عبد الملك مرتاض، الذي أفرد دراسةً نفيسة جدّاً لتحليل نصوص المعلقات السبع، وضمنها المعلقة المرقسية، تحليلاً أنثروبولوجياً مطعَّماً ببعض مفاهيم المقاربة السيميائية وإوالياتها الإجرائية، وعنوانها “السبع معلقات: مقاربة سيمائية/ أنتروبولوجية لنصوصها” (367 صفحة من القِطع المتوسط). وهذه الدراسة، كما يقول ناشرُها، “سعيٌ جادّ لإعادة قراءة الشعر الجاهلي بعامّة، وقصائد المعلقات السبع بخاصّة، قراءة جديدة تنهض على منهج مركّب من الأنتروبولوجيا والسيمائية… إن هذا الكتاب قراءة جديدة استطاعت أن تضيء كثيراً من الزوايا التي تثار لأول مرة مِنْ حول نصوص المعلقات العجيبات. كما يتميز الكتاب نفسُه بمناقشة كثير من الآراء التي كٌتبت من قبلُ عن الشعر الجاهلي مناقشة مستفيضة”8.
وتُعنى الدراسة الشعرية، وَفق المنهج الأنثروبولوجي، بإبراز ملامح حياة الإنسان البدائية في الأشعار، والوقوف على ما فيها من آثار قديمة، وفولكلور، وأساطير، وطقوس، ونحْو ذلك ممّا يُمتّ بصلة إلى حياة الإنسان البدائي، وعلاقاته بشتى الأطراف والجهات. ويزعم مرتاض أنه السّبّاق إلى تناول الشعر العربي القديم أنثروبولوجياً، مع تطعيم مقاربته هذه ببعض آليات التحليل السيميائي؛ مثلما فعل كلود ليفي شتراوس، في كثير من دراساته، حين عمد إلى المزاوجة بين الأنثروبولوجيا والبنيوية. يقول مرتاض: “نحن لم نَجئ ذلك (أي الجمع بين الأنثروبولوجيا والسيميائيات) لمجرد الرغبة العارمة في هذه المزاوَجة التي قد يرى بعضُهم أنها تمّت، أو تتم، على كُرْه، وربما على غير طُهْر!… ولكننا جئناه اعتقاداً منا أن الانطلاق، في تأويل الظاهرة الشعرية القديمة، من الموقف الأنتروبولوجي هو تأصيل لمَنابت هذا الشعر، وهو قدرة على الكشف عن منابعه… وعلى الرغم من أن كتاباتٍ ظهرت، في العقدين الأخيرين من هذا القرن، حول بعض هذا الموضوع، وذلك كالحديث عن الأسطورة في الشعر الجاهلي مثلاً، فإن التركيب بين الأنتروبولوجيا والسيمائية، في حدود ما بلغْناه من العلم على الأقلّ، لم ينهض به أحدٌ من قبلنا”9. ويبدأ الناقد دراسته بتوظيف المقاربة الأنثروبولوجية (يُؤْثِر مرتاض ترجمة مفهوم الأنثروبولوجيا (Anthropologie) باصطلاح “الأنَاسِـية”)، ليُتبِعها باستثمار الإجراء السيميائي، وذلك لاعتبارات معينة أوْرَدها في قوله: “نحن إنما نُرْدِف الأنتروبولوجيا السيمائية لاعتقادنا أن الأولى كشفٌ عن المنابت، وبحثٌ في الجذور، وأن الأخراة تأويلٌ لمَرامز تلك الجذور، وتحليلٌ لمَكامن الجمال الفني والدلالات الخفيّة فيها. فلو اجتزأنا بالقراءة الأنتروبولوجية وحدَها لوقعْنا في الفَجاجة والنُّضوب. كما أننا لو اقتصرْنا على القراءة السيميائياتية وحدَها لَمَا أمِنّا أن يُُفضيَ ذلك إلى مجرد تأويل للسطوح، وتفسير للأشكال، ووصْف للمظاهر، دون التولُّج في أعماق المَوالج، والتدرُّج إلى أواخيّ المَنابت”10.
إن مقالتنا هذه تروم استجْلاء معالم الحياة البدائية في شعر امرئ القيس بوصفه وثيقة تاريخية وحضارية تعكس كثيراً من ملامح حياة العربي في العصر الجاهلي، من خلال التركيز، أساساً، على معلقته الشهيرة. وسيكون سبيلنا إلى ذلك قراءة نص هذه الأخيرة بتأنٍّ وتعمُّق، والنفاذ إلى المعاني القابعة خلف ألفاظها، والإفادة من الجهد القيّم الذي بذله عبد الملك مرتاض في هذا المُتَّجَه، والذي ضمّنه كتابه “السبع معلقات”، الواقع في عشر مقالات.
لقد افتتح امرؤ القيس معلقته بمقدمة طللية خاطب فيها صاحباً له في العُمق، وإنْ كان ظاهر لفظها يوحي بمخاطبته اثنين من صِحابه، وذلك جَرْياً على عادة العرب في إجراء خطاب الاثنين على الواحد والجمع كذلك. ومضمون خطاب الشاعر هو الدعوة إلى الوقوف على رُسوم منزل الحبيبة التي ظعنت عنها، لتتركها قفْراً تذروها ريح الشمال والجنوب، وتلعب في أفنائها الظباء والأرآم، بعدما كانت مأهولة بقاطنيها، وعاجّة بالحياة والحركية والإمْراع حين كانت تقطنها حبيبته. وقد أثارت هذه الرسومُ شاعرَنا، فأجهش بالبكاء، واستبْكى صاحبه، وراحت ذاكرته تستحضر الأيام الجميلة التي سلفت بين أرجاء منزلها الواقع بمُنعرج رَمْلي (سِقط اللِّوى) بين أربعة مواضعَ حددها امرؤ القيس؛ هي الدَّخول وحَوْمَل وتُوضِح والمِقراة، وهي أماكن تقع، جغرافياً، بين إمَّرة وأسود العين. فأما إمّرة الحمى فهي مجال رحب ومعشوْشب وخصيب، كان لغنى وأسد عموماً، ولم يكن مملوكاً لشخص بعينه، ولذلك نُلفي عثمان بن عفّان رضي الله عنه، فيما بعدُ، يُحْميه لإبل الصدقة تسرح فيه. وأما أسود العين فهو جبلٌ بنَجْد يشرف على طريق البصرة إلى مكة11. ويذهب آخرون إلى أن تلك مواضعُ معروفة بحوران، من أرض الشام، وذكر غيرُهم أنها واقعة بأرض اليمامة. على أي حال، فالإجماعُ لم ينعقد بين العلماء والجَغارفة على تحديد المكان الذي كانت تقطنه أنثى امرئ القيس. ولما كان الأمر كذلك، فقد خلَص مرتاض إلى أن “سقط اللوى كان بين أماكن تتسم بشيء من الخصب، وأن تلك المواضع مواقعُ مياهٍ كان العربُ يتقصّدونها”12.
وليست الغاية من الوقوف على أطلال الحبيبة الدارسة تذكُّر مَن كان يسكنها فحسبُ، بل له بعدٌ آخرُ ذو أهمية كبيرة في الكشف عن بعض مظاهر حياة الإنسان العربي قديماً؛ كما تؤكد الدراسات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية لشعر تلك المرحلة. يقول مرتاض إن “ظاهرة الطلل في الشعر العربي قبل الإسلام الذي اتخذها له دأباً لم يأتِ عبثاً، ولا لمجرد البكاء على عهود ماضية، وأزْمُن خالية، ولا لمجرد الحنين والتعلق بالمكان؛ فتلك جوانبُ عاطفية، وقد تناولها الناس قديماً وحديثاً من ابن قتيبة إلى نقاد عهدنا هذا، وإنما الذي يجب التوقف لديه هو أن هذه الطلليات، أو المَطالع الطللية، أو المقدمات الطللية… كانت جزءاً من تلك الحياة البدوية الرّعوية الشَّظِفة الضَّنْكة التي كان نظامُها ينهض على إجبارية التنقل من مرعىً إلى مرعى، ومن وادٍ إلى واد، ومن غدير إلى غدير”13. فطللياتُ الشعر الجاهلي، إذاً، تعكس، في العمق، جانباً من حياة العربيّ على عهد الجاهلية؛ حياةٍ تقوم على الانتجاع والانتقال المستمرَيْن بحثاً عن مساقط الماء، ومواطن الكلإ. وكانوا يَنْصِبون في أي مكان حَـلُّوا به خيامهم وأخبيتهم، ويسكنونها، مؤقتاً، إلى حين نفاد مصدر الحياة هناك، ليرحلوا عنه إلى مراعٍ وغدران أخرى، تاركين وراءَهم رُسوماً، تسرح فيها الغزلان وغيرها من وَحيش الصحراء.
وكانت الإبلُ وسيلةَ تنقلهم من مكان إلى آخر بالدرجة الأولى؛ لقدرتها على تحمُّل المشاقّ، واصطبارها على الظمإ وهي تقطع الفيافي مترامية الأطراف وسط شبه الجزيرة العربية وعلى أطرافها. ولم تكن الإبل تُتَّخذ مجرد مطايا للسفر والتنقل وتنقيل الناس وأغراضهم، بل كان يُنتفَع بها، وتُسخَّر لأمور أخرى كثيرة؛ إذ كان العربيّ، في الجاهلية وبعدها أيضاً، يتخذ من لحمها غذاءً لذيذاً؛ وهنا نستحضر حادثة نحْر امرئ القيس ناقتَه للعذارى على ضفاف غدير يوم دارة جُلجُل، وانكبابهم على طهْي لحمها وشيِّه. وكان، كذلك، ينتفع بوَبَرها، فينسج منه الملابس والأخبية والبُجُد والخيام، ويستخدمها في وَدْي القتلى؛ أي تقديمها ديّة لأهالي القتيل اتقاءَ إقدامهم على الأخذ بثأره، ونشوب حروب ضارية لأجل ذلك بين أهل المقتول وعشيرة القاتل. وكانوا يقدمون الإبل، كذلك، مُهوراً للنساء حينَ طَلَبِ أيديهن للزواج، قبل ظهور المسكوكات والنقود والتعامُل بها في المجتمع العربي. علاوة على اتخاذها مطايا في الحروب والنزهات؛ يركبون أسْنِمَتها، وينقلون على متونها أشياءهم وأدواتهم في حالي السلم والحرب (كالهوادج مثلا). على حين أن عرب الجاهلية كانوا يُؤْثرون الخيل، ويتغنّون بها، ويسهرون على خدمتها. وكان الفارس منهم يمتطي صهوة فرسه يومَ الزينة، ويقاتل عليه يومَ الكريهة، ويتظاهر به أمام أصاحيبه، ويتفاخر به في السباق. وقد برع امرؤ القيس في نعْت الفرس الذي خلع عليه أوصافاً جعلته أقربَ إلى الفرس الأسطوري في عَدْوه؛ كما يتضح ذلك في القسم الأخير من نص معلقته.
إن للماء دوراً أساسياً في حياة الجاهلي؛ لذا كان السببَ الأكبر الذي من أجله يرتحل، ويجدّ في البحث عن مآقطه ومساقطه، وخِيضتْ حروب بين قبائل العرب، يومئذٍ، للسيطرة على نُقطه وما يحيط بها من مراعٍ معشوشبة. ويبدو أن معلقة امرئ القيس من أكثر المعلقات حُفولاً بذكر الماء والمطر؛ لأهميته المصيرية في حياة القبائل العربية، وشُحّ مناطقها منذ القدم بالماء، وسيادة الجَدب والمَحْل فيها، وإكثار هذا المعلقاتي من التنقل بين أحياء العرب جنوباً وشمالا، وشرقاً وغرباً، وكان لا يعْدم، في أثناء ذلك، مطراً يتهاطل عليه، فيثير شاعريته الرهيفة، لتفيض على لسانه شعراً معبِّراً وواصفاً لذلك المطر. وقد اقترن الماء في المجتمع العربي الجاهلي، وفي غيره من التجمُّعات البشرية البدائية، بطقوس فولكلورية، وبمعتقدات وثنية عديدة.
وكان العرب يرحلون جماعاتٍ مُكوِّنين أحياء تتألف من عدة أفراد، من الجنسين معاً، تربط بينهم صلة دم وقرْبى، ولم يكونوا متساوين في كنفه، بل كان فيه سادة وعبيد، بعضُهم خَدَمٌ لبعض. ولم يكن سكان الحي يصطنعون الشموع ولا القنادل للاستضاءة بنورها ليلاً، وإنما كانت وَقفاً على الأحبار والرهابنة في معابدهم، وعلى السّراة وكبار القوم في القرى والحواضر، وكانوا يدأبون على إيقاد نار في ساحة الحي صَدْراً من الليل قبل الإخلاد إلى النوم، وأحياناً كانوا يوقدونها في أماكن عالية ليستنير بها عابرو السبيل. والدليلُ على ما ذكرناه قولُ امرئ القيس واصفاً جمالَ امرأةٍ، ونضارة وجهها المُنير، وبياضها المُفرط:
تَضيءُ الظّلامَ بالعِشاءِ كأنها        منـارةُ مُمْـسى راهــبٍ مُتبَـتِّلِ
وقوله كذلك:
يُضيءُ سَناهُ أو مصابيحُ راهبٍ       أمالَ السّلـــيطَ بالذُّبــال المُفَــتَّلِ
وتبوّأت المرأة، ضمن نسيج الحيّ أو المجتمع الجاهلي بعامّة، مكانة بارزة في كثير من الأحايين؛ لذا شُبِّهت، في أشعار متعددة، بالشمس، والمَها، والدمية المعبودة، والعسل، ونحوها من المشبَّهات بها التي تقوم دليلاً خرّيتاً على عِظم مكانتها في المجتمع العربي قبل الإسلام. وكانت هذه المرأة، كما يقول أحد النقاد المعاصرين، هي “عالم الشعر الجاهلي”14، و”مستودَع الجمال وصورته وتمثاله”15. وقد عمد شعراء الجاهلية إلى وصف وجه المرأة، وأسنانها، وفمها، وريقها، وكلامها، وعينيْها، وجِيدها، ونحْرها، وصدرها، ونهديْها، وبطنها، وخصْرها، وقدميها، وساقيها، وردفها، وذراعيها، وأطرافها، وقِوامها، وحركتها. ويعد امرؤ القيس أوْصفَ المعلقاتيين للمرأة؛ لطول عشرته للنساء، ولمقدُرته العجيبة على تصوير الأحاسيس الرقيقة المتبادَلة بينه وبين مَن يتغزّل بهن تغزُّلا حسياً مادياً في الغالب الأعمّ، ولاسيما في مرحلة مراهقته وإقباله الكلي على ملذات الحياة قبل أن يُغتالَ أبوه؛ بحيث نُلفيه قد وصف المرأة، في معلقته، بخمسة عشر وصفاً؛ مما بوَّأه المنزلة الأولى، ضمن مجموع شعراء المعلقات، في هذا المضمار16. ويبدو أن ثمة صنفين من النساء في المعلقة المرقسية؛ صنفٍ غير محدد الأسماء، يشير إلى نساء أحبّهنّ الشاعر، ونظر إليهن بوصفهنّ إناثاً يلهو معهنّ، ويطفئ فيهن نار شهوته الجنسية، وبوصفهن مصدرَ اللذاذة والمضاجعة لا غيرُ، ولم يكن مقصدُه من علاقته بهن إنشاء أسرة، وإنجاب ذرية، والتمتع بحياة الاستقرار والتساكن. وكان يرى في هذا الصنف ما هو حسي فقط؛ كما في قوله واصفاً مفاتنَ حبيبته التي يبدو من أوصافها أنها كانت أنثى غامرة الأنوثة والجمال المظهري:
مُهَفْهَـفَة بَيْضاءُ غَيْرُ مُفاضَةٍ         ترائِـبُها مَصْـقولةٌ كالسَّجَـنْـجَلِ
ولعل إفحاشه في التشبيب، ومبالغته في تصوير مفاتن المرأة، إلى جانب مجاهرته بشرب الخمر، وإتيانه بكثير من أفعال الفُحش، هي الأسباب التي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يقول، حين ذكِر له امرؤ القيس في مجلسٍ، إنه “رجل مذكور في الدنيا شريف فيها، مَنسي في الآخرة خامل فيها، يجيء يومَ القيامة معه لواءُ الشعراء إلى النار”17.
والصنف الثاني من نساء امرئ القيس يَمْثل في نسوة ذكرهنّ بأسمائهن في معلقته؛ كعُنيزة ابنة عمه شُرَحْبيل، التي كانت له معها قصة معروفة يوم دارة جلجل، أشار إليها في معلقته. فهذه المرأة أحبَّها، واقتحم عليها خِدْرَها، وسعى إلى الاستمتاع بجسدها؛ كما كان يفعل مع سَوائها من النساء.
وإذا كان الغالبُ على سيرة امرئ القيس وشعره النظر إلى المرأة بوصفها مجردَ أنثى تتلخص مهمتها الوجودية في خدمة الرجل، وإشباع نَهَمه الحيواني، فإنّا وجدْناه، في مواقف قليلة، يَظهر أمامها كعاشق ولْهان، متيّم بجمالها، ذي عاطفة رقيقة تجاهها؛ كما في قوله:
وما ذرَفَـت عيْناكِ إلاّ لِتَـضْربي        بسَهْمَـيْكِ في أعْـشارِ قلبٍ مُقــتَّلِ
ويشير عَجُزُ البيت إلى عادة القمار التي سادت المجتمع الجاهلي؛ هذا إذا فسّرنا كلمة “السهمين” بالمعلى والرقيب؛ وهما سهمان من سهام المَيْسر؛ بحيث إن للمعلى سبعة أجزاء، في مقابل ثلاثة للرقيب. وكان، آنذاك، الفائز بهذين القدْحين يفوز بجميع الأجزاء، ويظفر بالجزور18.
ويقدم امرؤ القيس، حيناً، للمرأة الجاهلية صورة تعِجّ بالعطاء الإنساني الثرّ؛ صورةً مثالية، أو أقرب إلى المثال؛ بحيث تتشكل من حولها هالة من النور الوهّاج، والجمال العبقري؛ إذ يقول عنها: “تضيء الظلام بالعشاء كأنها…”. فهذه المرأة يبدو مُحيّاها مُنيراً عبر الديْجور الحالك، إنْ خرجت ليلاً، حتى إنها تظهر كمنارة راهب أسْرَج قنديله عشاءً، فبدَتْ من بعيد للناظـرين.
ويصوّرها، حيناً آخر،
امرأة عزيزة الجانب، مَصُونة الشرف، موسرة الحال، مخدومة من غيرها؛ كما في قوله واصفاً عشيقته:
وتُضْحي فَتيتُ المِسْكِ فوقَ فِراشِها      نَـؤومُ الضّحى لم تَنْـتَطِقْ عن تفـضُّلِ
وإذا كانت العرب، في جاهليتها، تعظّم الأمّ، وتضعها في مكان أسْنى، وتفخر بها جنباً إلى جنب مع افتخار شعرائها بالأب؛ كما لدى الشاعر الصُّعلوك الشنفرى، بل إن من الجاهليين مَن قدَّم الفخر بالأمومة على الافتخار بالأب؛ كما فعل السموْأل في إحدى قصائده، فإن منهم فئة قليلة امتهنت الأمومة، وعبثت بنُبْلها؛ مثلما نلحظ لدى شاعرنا القائل:
فمِثـلُكِ حُبْلى طَرَقتُ وَمُـرْضِعٍ       فألْهَيْـتُها عن ذي تَمائمَ مُحْـــوِلِ
وربما يُعزى هذا السلوك إلى افتقاده حنانَ الأم، ودفء الأمومة، لاسيما وأنه قد عاش بين زوجات أبيه، فكان هذا التصرف الصادر عنه حِيال المرأة الحُبْلى المُرضع ردّة فعل على ذلك الحرمان، وانتقاماً غيرَ مباشر للأمومة والطفولة اللتين حُرمَ منهما في صباه.
وحاصلُ القول أن نظرة امرئ القيس إلى المرأة كانت، غالباً، حسية، ترى فيها مفاتنها الظاهرة، وأنها مجردُ أنثى طافحة الجَمال، خُلقت ليستمتع بها الرجل في الحلال أو في الحرام. هذا بخلاف ما نجده لدى آخرين غيرِه؛ كالمعلقاتي عمرو بن كلثوم التغلَبي الذي تعامل مع المرأة تعامُلا إيجابياً، وعدّها عضواً فاعلة في مجتمعها، لا تقل مكانتها عن مكانة الرجل؛ فهي تُسْهم، كما نستشفّ من معلقته، في الحروب بقَـوْت الخيول، وتمـريض الجرحى.
ولم تخْلُ معلقة امرئ القيس من إشارات، واضحة أو خفية، إلى بعض مظاهر الاعتقاد لدى عرب الجاهلية؛ من ذلك مسألة تعليق التمائم في أعناق الصبيان التي أوْمأ إليها الشاعرُ في البيت السابق، وذلك ابتغاءَ حفظهم من العين ومن الجنّ؛ وهي عادة ما تزال منتشرة في كثير من البوادي العربية الآن، وإنْ كان الإسلام قد أبْطل هذا المعتقد الوَثني، ونهى عنه. وفي المعلقة كذلك إشارة إلى الرهبان؛ كما رأينا في بيتين سابقين.
ويحسُن بنا أن نشير، في هذا المقام، إلى أن الحنيفية كانت هي السائدة لدى عرب الجاهلية إلى أن جاء عمرو بن لُحيّ الذي يعد أولَ مَن غيّر دين إسماعيل عليه السلام، وأنشأ صنم اللات لعبادته. واللات صخرة عظيمة كان ابن لُحيّ يَلُتّ عليها الطعام؛ أي يبلّه بالماء، ويخلطه بشيء من السمن، ثم يقدّمه طعاماً لقومه؛ ومن هنا سُميت هذه الصخرة بـ”اللات”. وقد رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأكثم بن الجَوْن الخُزاعي: “يا أكثم، رأيتُ عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجرّ قُصْبَه في النار، فما رأيتُ رجلاً أشبهَ برجل منك به، ولا بك منه، فقال أكثم: عسى أن يضرّني شبَهُه يا رسول الله، قال: لا، إنك مؤمن، وهو كافر. إنه كان أول من غيّر دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وبَحَرَ البَحيرة، وسيّب السائبة، ووَصَل الوَصيلة، وحمى الحامي”19. وتذكر كتب التاريخ والأبحاث الأنثروبولوجبة أن عرب الجاهلية عبدوا كثيراً من المعبودات، وقدّسوا جملة من عناصر الطبيعة؛ كالشمس، لذا تسمّوا، وسموا صبيانهم بـ”عبد شمس” تبرّكا في اليَمن وفي غير اليمن، واعتقدوا بمعتقدات كثيرة.
وبخُصوص مُعتقد امرئ القيس فقد اختلفت آراء الدارسين على ثلاثة أقوال20، يؤيّد كل قول حجج ودلائل تتفاوت في قوة الإثبات. بحيث يقول بعضُهم إن امرأ القيس كان وثنياً يعبد الأصنام والأوثان؛ كما كان يفعل أكثر الجاهليين. ومن أدلتهم في ذلك لقبُ الشاعر الأشْهر عينُه؛ إذ إن قيساً اسمُ صنم من أصنام الجاهليين، وبذلك يكون معنى هذا اللقب: “مَوْلى صنم”. ولكن هذه الحجة مُنتقَدَة من قِبل بعض الدارسين الذين ذكروا أن لـ”قيس” معنىً آخر؛ هو معنى البأس والشدة؛ وعليه يكون معنى لقبه هذا هو: “رجل الشدة”، لاسيما وأنه قد لاقى، فعلاً، خلالَ حياته المتقلبة إحَناً وشدائدَ كثيرة. ومن هنا، تغدو تسمية “امرؤ القيس” فُروسية بدلاً من أن تكون دينية. واستدلّ أولو هذا الرأي، كذلك، بأن الرجل كان يقسم مراراً بالقداح، على عادة الجاهليين الوثنيين؛ كما فعل حين خُروجه لقتال بني أسد، وقسَمه بقداح الصنم ذي الخِلْصَة.
ويزعم آخرون أن امرأ القيس كان مُزْدَكياً. والمزدكية، كما نعلم، مذهبٌ دعا إليه مُزْدَك، أيامَ الملِك الفارسي قُباذ، ويقوم على نزْع الخلاف بين الناس بجعْل الحق في الأموال والنساء مُشاعاً بينهم، وتَحِلّة المُحرّمات، ولم يمنعهم إلا من القتل؛ بما في ذلك قتل الحيوانات. ويَسُوق أصحابُ هذا المزعم جملة من الأدلة لتأييد رأيهم؛ من ذلك ما يُلاحَظ على سيرة امرئ القيس من إقبال كبير على الحياة، ومُتعها ولذّاتها، والفحش قولا وفعلاً. ورجّحوا أن يكون الرجل قد تأثر بمعتقد أبيه وجدّه اللذين كانا قد اتصلا بقباذ؛ عظيم الفرس، الذي كان يَدين بالمزدكية، وطلبا دعْمه لهما لتحقيق مآرب سياسية، واطلعا على تعاليم هذا المذهب، وأتياها في حياتهما، وإنْ نفاقاً لقضاء حوائجهما منه! والواقعُ أن رأي هذا الفريق مردودٌ لأمور موضوعية؛ أبرزها أن المزدكية تحرّم قتل الإنسان والحيوان معاً، على حين أن شاعرَنا نذر حياته، كما يروي الرواة، لقتل مائة من الأسديين جزاءً لهم على طعْنهم أباه غدْراً، ثم إنه لم يكن يجد لذة تعادل لذة الصيد والقنص، وغير خافٍ عنا قيامه بنحْر ناقته للعَذارى يوم دارة جلجل، وأكْل لحمها مطهُواً في القِدر أو مَشوياً فوق النار. ويقوم هذا دليلا واضحاً كذلك على تفنيد ما زعمه أحد باحثينا المُحْدثين حين أكد أن للحيوان، في الشعر العربي القديم، أصولا أسطورية، تعكس قدسيته، وكونها من معتقدات العرب البدائية21. فلوْ كان هذا الحيوانُ (الثور – الحمار الوحشي – الناقة…) مقدَّساً، كما يرى علي البطل، فلِمَ اصطاده العرب، واتخذوا لحمَه غذاءً، وامتطوا صهوته في تَظْعانهم؟! وفي المعلقة المرقسية بيتان يصفان معركة دارت رحاها بين فرس الشاعر وبين ثور وبقرته، ولم تجد فرسُه تلك عناءً يُذكر في معاداتهما واللَّحاق بهما بيُسر، وتمكين الفارس من رمْيهما، واصطيادهما للاستمتاع بالتهام لحميْهما. يقول عن فرسه:
فـعَادَى عِـداءً بينَ ثَـوْرٍ ونَعْـجَةٍ       دراكاً، ولم يَنْـضَحْ بماءٍ فَيُغْـسَلِ
فظلَّ طُهاةُ اللَّحْم من بين مُنْضِجٍ       صَفيـفَ شِواءٍ، أو قَديرَ مُعَجـَّلِ
ويذهب فريقٌ ثالث من الدارسين إلى القول بنصرانية امرئ القيس، ويتزعّمهم الأب لويس شيخو الذي عدّه من شعراء النصرانية، متّكئاً، في ذلك، على جملة من الأدلة المقبوسة من قصيد الرجل أو من سيرته الحياتية ومحيطه. فأشعارُ امرئ القيس، كما يؤكد شيخو، تخلو من الشرك، وتنطوي على مصطلحات تتمحّض للنصرانية (كـ”الراهب” على سبيل المثال)، وكانت أمه فاطمة نصرانية المِلة، وشهدت قبيلته “كندة” انتشاراً واسعاً لهذا الدين. ويضيف آخرون إلى هذه الحجج أخرى يؤكدون بها نصرانية امرئ القيس؛ منها ذكره “الله” في شعره، كما في قوله:
فقــالتْ: يَمـينَ اللهِ ما لكَ حيـلَةٌ       وما إنْ أرى عنـكَ الغَـوايَة تنْجَلي
ومنها، كذلك، ذكره “الإران”؛ وهو تابوت النصارى، في قصيدة تائيةٍ له، وذلك في قوله:
وَعَنْـسٍ كألواحِ الإرانِ نَسَـأتُها        على لاحِـبٍ كالبُرْدِ ذي الحَـبَراتِ
ومن الأشياء الأخرى التي تتصل بحياة العربي، في الجاهلية، وكان شعر تلك الفترة حريصاً على تسجيلها وتصويرها، اللباس، ولاسيما ذاك الذي كانت ترتديه المرأة. وفي المعلقة المرقسية إشاراتٌ كثيرة إلى ذلك. وقد أخبرنا القرآن الكريم بأن المرأة الجاهلية كانت تتبرّج ولا تتعفّف، وكان تبرُّجها مصحوباً بمظاهرَ إغرائية أخرى؛ كرقة الملابس، وشَفافة القناع، ووسْوَسة الحُلي، ورنين الخلاخل، وخَشاش الأساور، واهتزاز الأقراط، وإرْسال الشعر22. ونهى الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ونساء المسلمين عامة، عن التشبُّه بنسوة الجاهلية في تبرُّجهنّ، فقال: “وقَرْنَ في بيُوتكُنّ، ولا تبرَّجْنَ تبرُّجَ الجاهلية الأولى”23. وقد فسّر الإمام أبو عبد الله القرطبي هذا النصّ بقوله: “المقصود من الآية مخالفة مَن قبلهنّ مِن المِشية على تغنيج وتكسير وإظهار المحاسن للرجال، إلى غير ذلك مما لا يجوز شرعاً. وذلك يشمل الأقوال كلها ويعمّها فيلزمنَ البيوت، فإن مست الحاجة إلى الخُروج فليكنّ على تبذل وتستر تامّ”24.
لقد نقل لنا امرؤ القيس جانباً من ذلك التبرج والتبخـتر في عدد من أبيات معلقته؛ من ذلك قوله:
فَعَـنَّ لنا ســرْبٌ كأنّ نِعـاجَه      عَـذارى دَوارٍ في مُلاءٍ مُــذيَّلِ
إذ شبّه نعاج القطيع وبقر الوحش الذي عنّ لهم بإناث عذراوات يطفنَ حول حجر كانت العرب تُقيمه، حين تنتقل، وتطوف به، تشبُّهاً بالطائفين حول الكعبة المشرفة، وكنّ يرتدين لباساً مذيلا طويلا يتجرجر خلفهن، فيمسح الأرض؛ شأن فستان العروس الذي نعرفه الآن، مع ما يصحب ذلك من تحَلٍّ بالحلي، وتعطُّر بالعطور، وتزيُّن بصنوف الزينة الأخرى. وكان هذا اللباسُ، لشفافته ورقته، يبعث على الإغواء وإفتان الناظرين من الرجال. ويدل على طول لباس الجاهليات كذلك قول شاعرنا متحدثاً عن إحدى مغامراته مع النساء:
خرَجْتُ بها أمشي تجُـرُّ وراءَنا       على أثرَيْـنا ذيْلَ مِــرْطٍ مُـرَحَّلِ
فالشاعرُ خرج بمحبوبته من خِدرها، خفيةً، تحت جنح الظلام، وهي لابسة لباسَ نومها الطويل الذي تجره وراءها، أو وراءهما، بالأحرى؛ لأنهما كانا متعانقين، لتُعْفيَ به آثارَ أقدامهما؛ اتقاءَ افتضاح أمرهما في الصباح.
ونستشفّ من منطوق نص المعلقة، أيضاً، أن المرأة، أو صنفاً من النساء المُوسرات خصوصاً، كانت ترتدي لباساً للنوم يختلف عن ذاك الذي تلبسه نهاراً، أو في أوقات العمل. إذ كان لباسُ نومها خفيفاً شفافاً ناعماً فضفاضاً مُريحاً للاَبِسَته، ومثيراً لناظرها. يقول الشاعر:
فجئْـتُ وقدْ نَضَّـتْ لنَوْمٍ ثِيابَها      لدى السِّـتْر إلا لِبْـسَةَ المُتَفَــضِّلِ
فالمقصود بهذه اللبسة ما نريده نحن الآن بـ”قميص النوم”، أو المنامة (Pyjama). كما أنها لم تكن تحتزم على هذا القميص، بل كانت تُرْسله إرْسالاً على جسدها حتى يغدوَ أفَتنَ للرائي. وقد يدل على بعض ذلك قوله:
وتُضْحي فَـتيتُ المِسْكِ فوقَ فِراشِها       نَـؤومُ الضُّحى لمْ تَنتَـطِقْ عنْ تفّـضُّلِ
والواقعُ أن هذه الملبوسات لم تكن في متناوَل نساء العصر الجاهلي كلهنّ، بل كانت وَقفاً على نساء بعض القرى والحواضر؛ كمكة ويثرب والحيرة، ممّنْ كُنّ يَرْفُلْن في النعيم، ويعشْنَ حياة الترف والدعة واليَسار. على خلاف حال أغلب نسوة ذلك العصر اللائي كُنّ يرتدين لباساً عادياً منسوجاً من الشعَر أو الوَبَر أو الصوف أو الجلد لا من الحرير أو القطن، ولم يعْهَدْن التبدُّل في كسوتهن بين ما يختصّ بالعمل والنهار وما يختص بالنوم والليل. وفي ذلك إشارة واضحة إلى طبيعة المجتمع الجاهلي الذي اتسم بالطبقية والفروق الصارخة بين فئاته سواء بين صفوف إناثه أو رجاله؛ إذ كان في شقّ هرمه العلوي طبقة من النساء موسرات منعّمات مَخدومات، على حين استوى في شق هرمه السفلي طبقة أخرى عريضة منهن يعشْن على إيقاع الشظف والفاقة والكدْح المستمرّ.
علاوة على لباسها الأنيق والمثير معاً، كانت المرأة الجاهلية، حسبما ورد في المعلقة المدروسة، تتعطّر بضروب من العطور في بيتها وخارجها. وفي المعلقة المرقسية إشارتان اثنتان إلى ذلك؛ أولاهما في قوله واصفاً عطْرَ أم الحُويرث وأم الرباب:
إذا قامَـتا تَضَوَّعَ المِسْكُ منهُما      نَسيمَ الصَّبا جاءت برَيّا القَرَنْـفُلِ
فالمرأتان، حين تقومان، يفوح منهما مسْك زكيّ، وينتشر في الفضاء حتى يَغتـبق، وكأنه نسيم هبّت مصحوبةً بعَرْفِ القرنفل الطيب. وتَمْثل الإشارة الثانية في قوله: “وتضحي فتيت المسك فوق فراشها…”؛ بحيث قدم لعشيقته، هنا، صورة مزدوجة؛ نصفُها مرئي، يظهر في فتات المسك الذي ينتشر فوق فراشها حين تستيقظ ضُحىً، ونصفُها الآخرُ شميّ، يتجلى في ذلك الشذى الذي يَفوح من فراشها بعد أن تقوم منه المرأة المنعَّمَة التي كانت نائمة فيه. والإشارتان معاً تُحيلان على امرأة موسرة مخدومة، ولا تنسحبان على جميع نساء العرب في الجاهلية! وذكر امرؤ القيس، في معلقته، أنه كان للمرأة الجاهلية حجر خاصّ تسحق عليه، أو به، الطيب، ولاسيما مَن كانت عروساً؛ لِلُزوم العطر لها عند زفافها، وذلك في قوله في أحد أعجاز معلقته: “مَدَاك عَروسٍ أو صَلايَة حَنْظَلِ”.
ولئن كان شاعرُنا “مؤسِّساً لجمالية الوصف المتمحِّض للمرأة في الشعر العربي على سبيل الإطلاق”25، إلا أن وصْفه ذاك ركز على تصوير مفاتنها الحسية، وتضاريس جسدها المَرْئية. على حين أنه لم يُولِ العناية الكافية لوصف خُلُقها وعِطرها وما كانت تتزيّن به من حُليّ ومجوْهرات؛ بخلاف ما نُلفيه، مثلا، في معلقة طرفة بن العبد. ومثلما كان الشأن لتعطر المرأة الجاهلية، لم يذكر امرؤ القيس ما كانت تتحلى به من حلي إلا في موضعين اثنين من نصّ معلقته على سبيل التلميح لا التصريح. يقول في أحدهما واصفاً جيدَ حبيبته الناعمَ والصقيل والأبيض:
وجيدٍ كجيدِ الرِّئم ليس بفاحش       إذا هـي نَضَّـتْه ولا بمُعَـــطَّلِ
فهذا العنق، إلى جانب جماله ورشاقته حين ترفعه صاحبته، لم يكن عُطلاً عن الحلي، بل كان موشى بها. ورُغم أنه لم يحدد طبيعة هذا الحلي، إلا أن الذهن ينصرف إلى ضروبٍ من تلك المجوهرات التي كانت تتحلى بها نسوة الجاهلية الموسرات على مستوى أعناقهن؛ كالقلائد الفاخرة المصنوعة من المعادن النفيسة. ويقول، في الموضع الثاني، عن حبيبته الجميلة والمتغنِّجة:
هَصَـرْتُ بفَـوْدَيْ رأسِها فتَمايَلتْ      عليّ هَضـيمَ الكَـشْح ريّا المُخَــلْخَلِ
فالشاهدُ عندنا، ها هنا، قوله: “ريّا المخلخل”، ومعناه أن مخلخَل حبيبته؛ أي مكان وضْع الخلخال من ساقها، كان ريّان ملآن مُزداناً بخلاخيل أنيقة من الذهب أو من الفضة.
وتنطوي معلقة الشاعر على بعضٍ من أدوات الزينة وحاجياتها؛ كـ”الحنّاء” المذكور في قوله في معرض وصف فرسه الخارق:
كأنّ دِمـاءَ الهَـادِياتِ بنَحـْرهِ       عُصَارةُ حِــنّاءٍ بشــيْبٍ مُترَجَّلِ
وكـ”السجنجل” الوارد في قوله واصفاً حبيبتَه وصفاً حسياً:
مهفـهفة بيضاء غير مفاضة         ترائبــها مصقولة كالسجــنجل
و”السجنجل” لفظة دخيلة على لغة العرب، ويُقصد بها المِرْآة، وقيل: المرادُ بها قطع الذهب والفضة26.
وتحضر في المعلقة نفسِها جملة ألفاظٍ تحيل على بعض المرتفقات الحضارية، والحِرف اليدوية التي كانت معروفة في المجتمع العربي على عهد الجاهلية، ولاسيما في أرض اليمن؛ بلادِ شاعرنا؛ كـ”مداك العروس”، و”الذبال المفتل” الذي يشير إلى ما كان يستنير به عرب الجاهلية في خيامهم وبيوتهم، و”المِرْجَل”؛ وهو القِدْر من صفر أو حديد أو نحاس أو شِبْهه يُستخدم في الطهي، و”القِرْبة” الواردة ضمن أبيات أربعةٍ يزعم بعضُهم أنها مدسوسة في معلقة امرئ القيس، منحولة عليه، وأنها للشاعر الصعلوك تأبّط شرّاً، وهي ذات صلة بالسقاية. وكذلك لفظ “فلْكَة المِغْزَل” المستعمَلة في صناعة النسيج، وألفاظ “السِّرْج”، و”اللِّجام”، و”الزِّمام”، و”الجَديل” (وهو خِطام؛ أي حبل يوضَع في عنق البعير ويثنى في خَطمه/ أنفه ليُقاد به، ويتخذ من الأدَم، ويُجمع على جُدُل)، و”الغبيط”، “الخدر”، المتصلة بصناعة الدباغة وبمرتفقات السفر والفروسية.
تأسيساً على ما سبق كلِّه، نخلُص إلى أن المعلقة المرقسية قد نقلت، فعلاً، كثيراً من جوانب حياة الإنسان العربي في الجاهلية، ومن تصوّراته ومعتقداته، ومن مُنتَجات حِرَفه وصنائعه، ومن المرتفقات الحضارية التي كان يحتاجها ويستخدمها في حياته اليومية وفي بعض المناسبات. ومن هذا المنطلق، كان الشعر الجاهلي، ومنه المعلقة التي وقفنا عندها بالدراسة والتحليل، وثيقة أمينة وصادقة، إلى حدّ بعيد، في التعبير عن ملامحَ عدةٍ من حياة العربي البدائية، وفي نقل أوْجُه كثيرة من التطور الحضاري الذي بلغه عهدئذٍ. وما كان لنا أن نضع الإصبع على هذه الأمور جميعِها لوْ لم نتسلّح، مثلما فعل عبد الملك مرتاض، بمنهج فعّال في المقارَبة؛ وهو المنهج الأنثروبولوجي.
الإحالات الهامشية:
* باحث من المغرب.
1-     “العصر الجاهلي” لشوقي ضيف، سلسلة “تاريخ الأدب العربي”، رقم1، دار المعارف بمصر، ط.8، د.ت، ص265.
2-     “طبقات فحول الشعراء” لابن سلام الجمحي، تح: محمود محمد شاكر، القاهرة، د.ت، 1/ 47.
3-     “الشعر والشعراء” لابن قتيبة، تح: أحمد محمد شاكر، دار الحديث، القاهرة، ط2006، 1/ 128.
4-     الطبقات، 1/ 55.
5-     “المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء وكُناهم وألقابهم وأنسابهم وبعض شعرهم” للآمدي، صححه وعلق عليه: ف. كرانكو، دار الجيل، بيروت، ط.1، 1991، ص 9-13.
6-     “أنساب العرب” لابن حزم، تح: عبد السلام هارون، دار المعارف بمصر، ط1962، ص359.
7-     “السبع معلقات” لعبد الملك مرتاض، اتحاد الكتاب العرب بدمشق، ط1998، ص29.
8-     نفســـه، ص3 (من التقديم)، بتصرف.
9-     نفســـه، ص10.
10-نفســه، ص ص10-11.
11- “معجم البلدان” لياقوت الحموي، تح: محمد أمين الخانجي، القاهرة، ط1324هـ، 1/ 235-250.
12- السبع معلقات، ص84.
13- نفســه، ص20.
14- “عالم المرأة في الشعر الجاهلي” لحسني عبد الجليل يوسف، دار الثقافة، القاهرة، ط1989، ص8.
15- نفســه، ص16.
16- السبع معلقات، ص266.
17- الشعر والشعراء، 1/ 127.
18- “شرح المعلقات السبع” للزوزني، المكتبة الشعبية، بيروت، د.ت، ص21.
19- “السيرة النبوية” لابن هشام، تح: مصطفى السقا وآخرون، مكتبة التراث العربي، بيروت، ط.1، 2006، 1/ 100.
20- “امرؤ القيس شاعر المرأة والطبيعة” لإيليا حاوي، دار الثقافة، بيروت، د.ت، ص76.
21- “الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري: دراسة في أصولها وتطورها” لعلي البطل، دار الأندلس، بيروت، ط1983، ص10.
22- السبع معلقات، ص273.
23- سورة الأحزاب، من الآية 33، رواية الإمام ورش.
24- “الجامع لأحكام القرآن” للقرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط.1، 1988، 14/ 117.
25- السبع معلقات، ص283.
26- شرح المعلقات السبع، ص27.

فريد أمعضشو

بريدي الإلكتروني هو: 40، شارع سوريا – مدينة العروي – إقليم الناظور – المملكة المغربية

3 رأي حول “مقاربة معلقة امرئ القيس في ضوء المنهج الأنثروبولوجي”

  1. موضوع جميل مكتنز بالعطاء ، راقٍ جداً ، ومقاربة غاية في الأداء والحنكة الثقافية .
    شكراً جزيلاً … أ/ فريد
    تحياتي

  2. انا طالبة فى كلية الاداب اللغة العربية و ان شاء الله هدا العام اتخرج و موضوع مدكرتى هو كالاتى ..دراسة فى الشعر العربي القديم دراسة انتروبولوجية لمعلقة امرئ القيس فارجو من الاساتدة الكرام مساعدتى باعطئى منهجية اعتمد عليها و خطة استطيع بها التفوق هدا العام ان شاء الله طالبة فى السنة الرابعة ادب عربى

  3. تحيه لكم ‘
    لو تتاح مثل هذه المواقع بالمجان للمطالعين العرب للاستفادة من النخب المثقفة من العرب وغيرهم ‘ على أن يترك الباب مفتوحاً لمن يريد الدعم المالي ‘ لينتشر العلم وتعم الثقافة العالم العربي ‘ وتضاف مقاطع التسجيل الصوتي و (الفيديو) كمحاضرات او ندوات الخ…. وللعلم فإن أجيالكم القادمة هي في أشد الحاجة لعطائكم الفكري.
    – تقبلوا خالص الود والتقدير –

التعليقات مغلقة.