متصورات وممارسات عنيفة – الجزء 1 من 3

 

Copie de Dr. Hnaa khleif(1)

فصل من  كتاب “أنثروبولوجيا العنف والصراع”

تأليف : بتينا أي. شميدت و أنغو دبليو شرودر

ترجمة : د. هناء خليف غني

قبل مائة عام تقريباً، نشر عالم الاجتماع جورج سيمل دراسته المهمة عن القتال (سيمل 1908). وبصدور دراسته هذه ، يكون سيمل من بين طلائع المفكرين الذين تجاوزوا حدود التفكير التطوري التقليدي حول العنف الذي اعتاد النظر إلى الصراع بين المجموعات بوصفه أداةً للاصطفاء التطوري . وكان من المعتاد ، على وفق وجهة النظر التطورية، النظر إلى الحرب بوصفها تمثل شيئاً ما قد تطور، بموازاة عناصر المخزون الثقافي الأخرى، من عدوانية بدائية غير منتظمة (في اعماق الجنس البشري)([i]) إلى الحرب الممكننة الحديثة كما وصفها المنظر العسكري كارل فيليب فون كلاوسيفيتز(أ). أما العنف فيمثل، طبقاً لسيمل، حدثاً تزامنياً ونوعاً من العلاقات الاجتماعية القائمة بين الأفراد والجماعات. وهذا العنف يخدم أغراضاً بعينها في المستويين الواقعين بين الجماعة وضمنها. وهذه المقاربة الوظيفية التي أعتمدها سيمل قد أسهمت، بلا أدنى شك، في فسح المجال امام الباحثين لدراسة المواجهات العنيفة على وفق مناهج انثروبولوجية حديثة تنظر إلى هذه المواجهات بوصفها أفعالاً اجتماعية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمصالح الأفراد الواعين وقناعاتهم. وفي حين ما زالت هذه الفرضية التقليدية تتمتع بجاذبية كبيرة في أوساط علماء الاجتماع المهتمين بدراسة موضوعات الحرب والعنف والصراع([ii])، شهد هذا الحقل ذاته تطورات عدة أسهمت، لاسيما في ثمانينيات القرن العشرين، في تحديث آلياته وتنويع مناهجه. وإجمالاً، بالإمكان الحديث اليوم عن ثلاث مقاربات رئيسة في دراسة هذه الموضوعات، هي:

1-      المقاربة الاجرائية التي تركز على وجهة النظر الخارجية للعداء بعامة، وعلى مسببات الصراع السياسية القابلة للقياس بخاصة.

2-      المقاربة المعرفية المعنية بدراسة وجهة النظر الداخلية لبنية الحرب الثقافية في مجتمعٍ ما؛

3-   المقاربة التجريبية التي تنظر إلى العنف بوصفه حدثاً لا يقتصر بالضرورة، على مواقف الصراع بين المجموعات، بل بوصفه شيئاً ما يتصل بذاتية الفرد، ويُسهم في تشكيل حياة الناس اليومية حتى في ظل غياب مواقف الحرب الفعلية.

وغني عن البيان تمثيل المقاربات الثلاث أعلاه تقسيمات مثالية لا يلتزم بها أحدٌ على ارض الواقع. إذ لا تكاد تخلو دراسة من خاصية الجمع بين عناصر بعينها من هذه المقاربات الثلاث، مع ملاحظة نزوع كل واحدة منها إلى السير في اتجاهٍ معينٍ يختلف اختلافاً بيناً عن خط الإجماع العام حول الطبيعة الاجتماعية للعنف.

والمقدمة الحالية تخدم غرضين أساسيين يتصل أولهما بمناقشة ثنائية الممارسة والتصور الضرورية ، حسبما نعتقد ، لفهم العنف بوصفه حقيقة اجتماعية شاملة وبؤرة تجتمع فيها محاور الكتاب المتعددة. اما ثانيهما فيتصل برغبتنا إلقاء مزيد من الضوء على أوجه العنف الثلاثة المذكورة أعلاه بالنظر إلى اعتقادنا أن كل واحدٍ من هذه الأوجه لا يشير إلى منظور بحثي مختلف فحسب، بل أنها مجتمعة تشكل طيف العنف بأكمله مثلما عرض لذاته على طاولة التحليل الانثروبولوجي.

ويزاد على ذلك أن المقدمة تضع نصب عينيها تبيان أهمية المقاربات النظرية المتنوعة التي وظفها الكتاب المسهمون في هذا المجلد في معرض دراستهم موضوعيّ العنف والصراع. ومثلما أن توظيف وجهات نظر متنوعة في تناول ظاهرة العنف قد خدم غرض تطوير مفهوم التعقيد الظاهراتي الذي تتميز به هذه الظاهرة، تؤكد المقاربات النظرية المعتمدة في دراسات هذا المجلد إمكانية – وربما وجوب– تناول هذه الظاهرة من زوايا مختلفة عدة. وفي حين يبدو هدف توحيد الجوانب المتعددة في حقل أبحاث العنف بعيد المنال وفوق قدرات المجلد الحالي في ظل التطورات المتلاحقة التي يشهدها هذا الحقل، نؤمن بأهمية التركيز على جدلية التصور – الممارسة التي عرضت لها صفحات المقدمة، والتي تمثل، حسبما نعتقد، مقاربةً مهمةً ومثمرةً للعنف بوصفه ظاهرة متعددة الأوجه ومنتشرة على نطاقٍ واسعٍ وفي الوقت نفسه قابلة للمقارنة.

ومن الجدير بالملاحظة ضرورة قراءة هذه المقدمة بالتزامن مع الدراسة التي كتبها غلن بومان  (الفصل الثاني) التي تقارب الموضوع من زاوية مختلفة نسبياً، وذلك بتركيزها على خصائص العنف المبنية اجتماعياً .

الممارسة العنيفة:

شكل مفهوم التنافس البايولوجي، منذ زمن سيمل حتى الوقت الحاضر ، الأساس الذي استندت إليه دراسات فكرة الصراع الانثروبولوجية. والتنافس ، بأبسط أشكاله وأكثرها إيجازاً، يقع حينما يستعمل شخصان أو مجموعتان سكانيتان أو نوعان أو أكثر مورداً محدوداً على نحو فعلي أو محتمل (سبيلمان ، 1991: 17)([iii]). إلا أن العنف الناجم عن التنافس لا يقع آلياً أو على نحو حتمي بالنظر إلى توافر العديد من وسائل حل الصراع غير العنيفة التي تحدثت عنها أدبيات الانثروبولوجيا البايولوجية أمثال التبادل والانتقال للسكن في مناطق أخرى وتوافر البدائل الإقليمية. وفي واقع الأمر، يلاحظ عادة ميل الأطراف المعنية إلى اعتماد استراتيجيات وقائية أو تعويضية أكثر منها الانخراط في مواجهات عنيفةٍ في حسم غالبية الصراعات. وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجيات قد لا تكون بالفاعلية ذاتها مقارنة بالعنف لجهة النتائج الناجمة عنها، فإنها ، في حقيقة الأمر ، تتميز بكونها أقل تكلفةً وتنطوي على معدلات مخاطرة أقل في مجاليّ خسارة الأرواح والممتلكات (ينظر البيرز 1993؛ يوخم 1981). ولكن يحدث أحياناً أن لا يكون أي احد من هذه الخيارات (غير العنيفة) عملية أو قابلة للتطبيق على أرض الواقع. ويلاحظ حدوث ذلك في حالات معينة، وعلى وجه الخصوص حينما تدرك مجموعة ما أن اللجوء إلى العنف من شأنه التأثير في محصلة الصراع النهائية وتحويلها لصالحها. وهذا، بكلمات أخرى، يعني أن اللجوء إلى ممارسة العنف قد يسهم في منح الطرف المنتصر مزايا تكيّفية واضحة، سواء أكانت هذه المزايا قصيرة الأمد مثل تجديد الموارد وزيادة كمياتها أم طويلة الأمد مثل الحفاظ على موقع المجموعة ومكانتها عبر الزمن. وفي السياق ذاته يعتقد البعض (ينظر آبنك، الفصل السادس في المجلد الحالي) أن المزايا  والمنافع المستحصلة جراء استعمال العنف بوصفه استراتيجية طويلة الأمد لحل الصراع قد أثبتت فاعليتها وأهميتها في صياغة ميل المجموعة النفسي إلى استعمال القوة في العملية التطورية. ويؤدي الربط بين الأفعال العنيفة ومواقف الصراع الرئيسة إلى إفراز مقولات ضمنية وفي الان عينه جوهرية ثلاث حول تداعيات العنف الاجتماعية . وهذه المقولات هي :

1-   ان العنف لم يكن قط حدثاً خاصاً أو استثنائياً. بل أنه يمثل في الأعم الأغلب، نوعاً معيناً من أنواع العلاقات مع طرفٍ أو مجموعةٍ أخرى. ويزاد على ذلك أن الأفعال العنيفة لا تستهدف الأشخاص على نحو عشوائي على الرغم من احتمالات استهدافها ضحايا/أفراداً بعينهم بوصفهم ممثلين عن شريحة اجتماعية أوسع .

2-   لا يمثل العنف قط فعلاً عبثياً أو مجرداً من المعنى بالنسبة لمن يرتكبه. وقد يبدو، أحياناً، بلا معنى، ولكنه، قطعاً، ينطوي على معانٍ عدة لمن يقع ضحيةً له أو للمشاهد. وبوصفه فعلاً اجتماعياً، يلاحظ استحالة فصل العنف عن العقلانية الأدواتية المميزة له على نحو كاملٍ.

3-   لا يُمثل العنف قط فعلاً منعزلاً، بل أنه يرتبط – على نحو غير مباشر- بعلاقة تنافسية من نوعٍ ما. وبناءً على ذلك، بالإمكان عدَّ العنف نتاجاً لسيرورة تاريخية قد تمتد جذورها عميقاً في التاريخ. وبسبب هذه الخاصية تحديداً، تمر عملية تحليل المسارات المتصارعة بعددٍ كبيرٍ من التقلبات والانعطافات.

وفي ضوء ما توحي به التحذيرات المتضمنة في النقاط الثلاث أعلاه، يتضح لنا أن العنف لا يمثل قط محض سلوك أدواتي. فبوصفه سلوكاً متموقع تاريخياً، يلاحظ تأثر العنف بالتقييدات والمحفزات المادية والبنى التاريخية فضلاً عن سياق التمثيل الثقافي الحاضن لمجموعتّي الظروف هاتين .

وبعد كل ما قيل أعلاه ، يبقى السؤال الجوهري ’ما العنف؟‘، في حاجة إلى من يجيب عنه. هل العنف توكيد للقوة ؟ ام ’فعلاً غايته إلحاق الأذى الجسدي يعدّه مرتكبه فضلاً عن (بعض) الشهود فعلاً مشروعاً‘ بحسب ما صرح به ديفيد رجز في دراسته لهذا الموضوع (1986 : 8). وبما أن الفعل العنيف هو فعل بالإمكان ممارسته بسهولة نسبية ، ويتميز في الوقت نفسه بكونه فعلاً مرئياً وعيانياً يمكن للناس/المشاهدين مشاهدته وتلمس آثاره ، فإنه يُعدِّ وسيلةً على درجة عالية من الكفاءة والفاعلية لجهة قدرته على تحويل البيئة الاجتماعية وتقديم رسالة ايديولوجية مؤثرة إلى الجمهور العام (1986 : 11). أن الميزة الرئيسة التي ينطوي عليها تعريف رجز تكمن في طابعه التجريدي الذي يسمح بإجراء عملية مقارنة عبر ثقافية. وثمة ميزة أخرى أقل وضوحاً تتصل بمحاولته – أي التعريف- التصدي لمسألة التأرجح الجوهري الذي يتسم به العنف بوصفه فعلاً ادواتياً وتعبيرياً.

ونعتقد أنه حتى لو افترضنا إمكانية تعقب جذور العنف إلى مواقف الصراع، لا ينبغي استعمال الوسائل العنيفة في حل جميع حالات التنافس. أن مسألة اللجوء إلى العنف من عدمه لا تتصل بالطبيعة البشرية حصراً. وفضلاً عن ذلك ، فان العوامل البنائية لا تفرض خيار اللجوء إلى العنف إلا في حالات نادرة تنعدم فيها خيارات حل الصراع بوسائل اخرى غير عنيفة . واعتقد أن مسألة اللجوء إلى العنف برمتها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتصورات والمفاهيم الثقافية السائدة في مجتمع ما. إذ تضطلع هذه التصورات ، التي تضفي معنًى خاصاً على المواقف وتقيمها بالاستناد إلى خبرات المجتمع السابقة في ما يتصل بالصراعات، والمخزونة على شكل معارف متموضعة في الذاكرة الاجتماعية لأفراد المجتمع، بدورٍ بارزٍ في تشكيل رؤية هذا المجتمع ومواقفه حيال الصراعات. وبغية تسليط الضوء على الآليات التي تتحقق بوساطتها عملية إضفاء الشرعية الاجتماعية للعنف، سأستهل النقاش أدناه بالحديث عن موضوع القوة. إذ يحدث أحياناً توصل أطراف الخلاف إلى قناعة مفادها استحالة تجنب الصراعات أو ربما التفاوض بشأنها، فتتفاقم هذه الصراعات وتتحول إلى علاقات عداء وخصومة مستحكمة وطويلة الأمد أصطلح علماء الانثروبولوجي على تسميتها بـ’الحرب‘. ومفهوم “الحرب” يصف مواقف المواجهة التي تمتاز بجملة من الخصائص منها الحضور المتواصل لاحتمالات ارتكاب الأفعال العنيفة، وميل الطرف المعتدي إلى الإيمان بمشروعية العنف الذي يمارسه ، وحدوث المواجهات العنيفة بين الأطراف المتناحرة على أساسٍ منتظمٍ. وفضلاً عن ذلك ، تعني الحرب نشوء علاقات سياسية بين جماعات عدة فوق مستوى العائلة تتراوح من العلاقات بين أفراد العصب أو البدن(ب) الانقسامية المختلفة وصولاً إلى الدول (أو حتى التحالفات بين دولٍ عدةٍ). وتشترك هذه الجماعات في ميزة مهمة أخرى غير العلاقة التي تربط في ما بين أفرادها هي استحالة توصل هؤلاء الأفراد حتى في أكثر المجتمعات ’مساواتية‘ إلى قرار شن الحرب أو خوضها بالإجماع. أن من يتخذ قرار الحرب هو من يمسك بزمام السلطة في المجتمع. ومثلما بين ر. بريان فرغسون، فإن “الحروب تندلع حينما يعتقد أولئك الذين اتخذوا قرار إعلانها أو خوضها أن هذا القرار يصب في مصلحتهم ويحقق مصالحهم المادية” (فرغسون 1990: 30).

ومن المعتاد تشفير مصالح طبقة النخبة في لغة اصطلاحية أخلاقية تعمل على ربط المواجهة العنيفة الوشيكة بجوانب عدة تتراوح من الالتزام بمبدأ الانتقام إلى التعاليم الدينية، و’العداوة التقليدية‘ أو ’الصالح العام للأمة‘. وبالطبع، تتنوع الأساليب والوسائل المستعملة لغرس هذه اللغة الأخلاقية في أذهان الذين يتوجهون فعلياً إلى ساحات الحرب على وفق تنوع الجماعات والمجتمعات والدول ذاتها. وعلى الرغم من ذلك ، تبقى النقطة الجوهرية القائلة أنه بينما تنشب الصراعات بفعل ظروفٍ هيكلية معينة مثل التفاوت في القدرة على الحصول على الموارد على نحو متساوٍ والضغوط الخارجية والتغيرات الديمغرافية (السكانية)، يلاحظ أن هذه الصراعات ذاتها لا تسهم، آلياً، في اندلاع الحروب. ولذا، يُفترض بالمسؤولين عن اتخاذ قرار الحرب أنهم قد استندوا في قرارهم هذا إلى مقدارٍ معينٍ من التقييم العقلاني([iv]). وبكلمات أكثر وضوحاً، يُتخذ قرار الحرب من قبل أفراد أو جماعات أو طبقات اجتماعية تحوز السلطة والقوة اللازمتين لتقديم خيار العنف بوصفه مسار الفعل الأنسب في موقفٍ ما. غير أن الحرب بوصفها مرحلة طويلة الأمد من الايديولوجية والممارسة العدائية لا يمكن أن تدوم في حال لم يستفد منها سوى أفراد نخبة قليلو العدد . وفي واقع الأمر، هناك العديد من مرتكبي أعمال العنف المختلفي المشارب والتوجهات يرون في استعماله إستراتيجية ناجحة تحقق أهدافهم. فها هو الروائي الكرواتي دوبرافكا اوغرسيج يُشبه الحرب بـ”كعكة لذيذة المذاق يرغب الجميع بالحصول على قطعة منها، ومن هؤلاء: السياسيون والمجرمون والمضاربون في الأسواق والمنتفعون والقتلة والساديون والماسوخيون والمؤمنون والمحسنون والمؤرخون والفلاسفة والصحفيون (اوغرسيج 1995: 126؛ ترجمة IWS).

وتساوقاً مع ذلك ، اقترح جورج الويرت في دراساته العديدة (1997 ، 1998 ، 1999) استعمال مصطلح ’أسواق العنف‘ المعني بوصف ميادين التفاعل طويلة الأمد التي لا يمكن للمعايير المهدئة وبنى السلطة الفاعلة التأثير فيها، وحيث يوظف بضعة مشاركين عقلانيين العنف فيها بوصفه استراتيجية مناسبة في عملية المساومة على بلوغ السلطة والحصول على المكاسب المادية([v]). وطبقاً لما أوردته هذه الدراسات ، تمثل الحرب لعبة يديرها قادة أو نخب لها القدرة على التخطيط لها استراتيجياً. أما الذين يشتركون فعلياً في الحرب ويرتكبون الأفعال العنيفة ، فليسوا سوى بيادق في هذه اللعبة؛ بيادق تمتنع، على الأقل مؤقتاً، عن التأمل الموضوعي لصالح الانخراط في سلسلة من الأفعال المشحونة عاطفياً. وبرغم ذلك، يلاحظ أن الدافع، في كلا المستويين، تتبع بنية ثقافية محددة. وهذه البنية فضلاً عن تحديدها قيمة المنافع المادية والاجتماعية (من قبيل الشرف والهيبة والمنزلة المكانة) وأهميتها النسبية، تسهم في إضفاء معنى أكثر ثباتاً على المواجهة العنيفة، وهي بالتالي تقدم إطاراً دافعياً إضافياً يسهم، بدوره، في تقديم جملة من الحوافز التي تضطلع بدورٍ بارزٍ في تعزيز مصالح الفاعل الفرد المباشرة. وفي ضوء هذه الاعتبارات العقلانية المتضمنة في قرار استعمال العنف، يميل العنف عادة، متى ما انطلقت شرارته، إلى تكوين الديناميات الخاصة به. فالمنطق الذي يتحكم بالمواجهات العسكرية، على سبيل المثال لا الحصر، هو منطق الاملاءات التكتيكية أو الإستراتيجية قصيرة الأمد. ويرجح اختلاف هذه الاملاءات وابتعادها التام عن مسببات الصراع الأصلية. ومما يؤسف له في هذا المجال عدم اهتمام دراسات الحرب الانثروبولوجية وتجاهلها موضوعات جوهرية عدة منها التحليل الوصفي المُفصل لآليات تبلور عمليات صنع القرار ومعرفة النماذج الثقافية المستعملة في تقييم المواقف التي تستلزم ارتكاب أفعال العنف فضلاً عن تحديد أنواع العلاقات الاجتماعية الكفيلة بجعل أفراد النخبة الذين يمسكون بمقاليد الأمور يتخذون قرار الحرب.

وثمة خاصية أخرى يمتاز بها العنف ينبغي الإشارة لها هي “الأدائية”. فعلى الرغم من استمرار العنف، “بلا مشاهدين”، في إلحاق الأذى بالناس، وربما قتلهم ، يتصف هذا العنف بكونه “بلا معنى” من الناحية الاجتماعية . أن مرد السبب في قوة الأفعال العنيفة وقوة تأثيرها يعود أساساً إلى تقديمها مقومات السلطة والمشروعية بأسلوبٍ مسرحي مؤثرٍ. ويرجح أن هذا السبب بالذات أكثر منه الأضرار الجسدية الفعلية الناجمة عن العنف هو ما يمنح الفعل العنيف سطوته وفاعليته. وبكلمات اخرى، فإن الحرب بوصفها عملية طويلة الأمد لا تتُوج في أفعال عنف حقيقية على الدوام ، بل بين الحين والآخر فحسب. وبالطبع هناك العديد من الأفراد الذين ينتمون إلى كلا طرفي الصراع لا يواجهون عنفاً حقيقياً على الإطلاق. بيد أن العنف، بوصفه فعلاً ادائياً، يستعرض قواه وفاعليته عبر الزمان والمكان وينقل رسائله للغالبية العظمى من الناس غير المتأثرين به جسدياً. وفضلاً عن ذلك، تُسهم خاصية العنف الأدائية في جعل العنف تجربة يومية تنطوي على نتائج تؤثر في المجتمع على الرغم من أن الأفراد أنفسهم قد لا يعانون أذىً جسدياً يومياً فعلياً.

هذا من جانب ، ومن جانب أخر ، يحتمل ارتداد تأثير البعد الرمزي للعنف على مرتكبيه أنفسهم، الأمر الذي يجعل العنف ذاته لا بوصفه فعلاً جسدياً، بل أدائياً، محل جدلٍ وخلافٍ في المستوى العملي. ومثلما بينّ بتيت (1994) في دراسته عن الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني، يلاحظ توظيف الضحايا والمعتدين طرائق مختلفة في تأطير تجربة العنف والحديث عنها . إذ قد يستغل الضحايا الفرصة لإلحاق الضرر بنوايا المجموعة المهيمنة ومحاولتها ترويعهم بوساطة استعمال العنف وذلك عن طريق إضافة معناهم الثقافي الخاص على معاناتهم (التي تمثل في حالتهم هذه شعائر بلوغ). وهذا المعنى يسمح لهم باسترداد الوكالة والهوية السياسية. وهذا الحالة تنبهنا إلى حقيقة انه حتى في الحالات التي يكون فيها التفاوت في توزيع السلطة والإمكانات واضحاً، لا ينبغي، آلياً، عدّ العنف الإستراتيجية الأكثر كفاءةً لحل الصراع. وفي واقع الأمر، يمثل العنف ظاهرة اجتماعية معقدة، وقد لا يمثل في ظل ظروف معينة، خياراً استراتيجياً مناسباً على الإطلاق .

الهوامش

([i]) في أشارة إلى عنوان الكتاب ذائع الصيت الذي ألفه عالم الانثربولوجيا الألماني كارل وول “الحرب وأعماق الإنسانية،” (شتوتغارت ، 1916).

([ii]) على الرغم من الارتباط الوثيق بين هذه الظواهر الثلاث (الصراع والعنف والحرب)، لا يمكن بأي حال من الأحوال ، عدها متطابقة، وقد تكون ببعض التحفظ من جانبنا، ممثلة لأنواع المقاربات الثلاث المبينة في الفقرات التالية .

([iii]) للاطلاع على المزيد بشأن المقاربة الايكولوجية للصراع ، ينظر يوخم 1981، ويلاحظ حضور هذا المفهوم في تعاريف الصراع الاجتماعي المطروحة في علم الاجتماع أو العلوم السياسية (ينظر بلالوك 1989؛ روس 1993).

([iv]) حتى لو كانت هذه العقلانية متوسطة (Mediated) ثقافياً، وقد لا تكون متماثلة في محتواها لعقلانية الملاحظ.

([v]) تغدو عقلانية العنف شديدة الوضوح في تحليل تلي (1997) لعملية نشوء الدولة القومية الحديثة، وللاطلاع على أحدث مقاربات الخيار العقلاني ، ينظر كاليفاس 1999.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.