متصورات وممارسات عنيفة – الجزء 2 من 3

askara

فصل من  كتاب “أنثروبولوجيا العنف والصراع”

تأليف : بتينا أي. شميدت و أنغو دبليو شرودر

ترجمة : د. هناء خليف غني

مقارنة العنف:

لم يكن العنف قط ظاهرةً محددةً ومُقيدة ثقافياً بحيث لا يمكن مقارنتها. وهناك تقليد عريق في الأدبيات الانثروبولوجية دأب في ربط أنواع العنف بأنواع المجتمعات، وبالتالي ترتيبها على وفق مقياس تطوري (ينظر اوتربين 1994؛ رينا 1994). إذ يلاحظ إمكانية إجراء مقارنات لا حضر لها، في المستوى الوظيفي ، ضمن تعريف رجز للعنف الذي يمثل شكلاً من أشكال الفعل الاجتماعي الذي يقع في ظل ظروفٍ عيانية ملموسة ويستهدف ضحايا فعليين ويخلق أوضاعاً فعلية ويسفر عن نتائج واقعية ملموسة. ويبدو واضحاً إمكانية إخضاع هذه الأبعاد جميعها للتحليل المقارن . وبعبارة أدق، بالإمكان مثلاً مقارنة العنف بمسبباته، وبالحدث العنيف ذاته فضلاً عن مقارنته بنتائجه.

مسببات العنف:

مثلما بينّا في اعلاه ، تُعدّ المواجهات التي تقع بفعل التنافس على الموارد الاجتماعية و / أو المادية المسبب الرئيس للعنف؛ وجزء من هذه العلاقة العدائية بالإمكان تفسيرها تاريخياً. غير أن استمرار هذه العلاقة حتى الوقت الحاضر يستلزم توافر محفزات وظروف متجددة لإدامة العداء أو الصراع. وعموماً بالإمكان اخضاع مسببات العنف لآليات البحث التاريخي والاثنوغرافي.

الأحداث العنيفة:

بفعل وقوعها في ميدانٍ عامٍ، تمتاز الحوادث العنيفة بكونها مرئية تماماً. وهذا الأمر يجعل عملية توثيقها أو إعادة بناء جوانبها العملياتية سهلة نسبياً. ويلاحظ في هذا السياق أن المواجهات طويلة الأمد تندلع عادة في هيأة صدامات عنيفة بالإمكان وصفها وتحليلها بوصفها أحداثاً وشكلاً من أشكال الفعل الاجتماعي المختلف زمنياً ومكانياً عن الممارسات اليومية المألوفة. وبقولٍ مختلفٍ، بالإمكان الحديث عن هذه الصدامات بوصفها سلسلةً متشعبةً من الحوادث يُقر من عاصرها بتفردها وتسفر عادة عن تحولٍ دائمٍ في البنى (سيول 1996: 844)([i]). وتقع الحوادث العنيفة في مواقعٍ محددةٍ للغاية وضمن مدة زمنية بالإمكان تحديدها. وهذه الخصائص تُسهم في تسهيل عملية تخزين هذه الحوادث وكل ما يتعلق بها في أنواع الأرشفة الثقافية المختلفة، وبالتالي ، إمكانية استرجاعها وإعادة خلقها وتقديمها من جديد. وخلافاً للممارسة اليومية المعتادة التي يتوسطها الإرث الثقافي ، يعود السبب في بروز هذه الحوادث إلى خاصيتيّ التفرد والقدرة على التغيير التاريخيتين. وهذا يجعل الحوادث العنيفة مناسبة على نحو فريد لأغراض المقارنة عبر الحدود الزمنية والثقافية .

إن التركيز على الحوادث بوصفها أنماطاً تحليليةً يعكس رغبتنا في تفادي الالتزام بالتحول ما بعد الحداثي في أبحاث العنف الانثروبولوجية . إذ يلاحظ ميل العديد من الدراسات الحديثة (ينظر دانييل 1996؛ دي سلفا 1995، فلدمان؛ 1991؛ بوول 1994؛ نوردستروم 1997؛ نوردستروم وروبن 1995)، إلى تفضيل ’الخبرة‘ بوصفها شكل المعرفة الأكثر مصداقية، والى التخلي عن المقاربة التحليلية لصالح التركيز الذاتوي على التأثير الذي يمارسه العنف في حياة الأفراد اليومية (وبالطبع ، هذا يشمل الباحثين أنفسهم). وفي حين ليس ثمة شك في أهمية الخبرة وتشكيلها أحد الجوانب المهمة التي ينطوي عليها العنف بوصفه ظاهرة اجتماعية بحسب العديد من المسهمين في هذا المجلد، ما زلنا غير مقتنعين بوجهة النظر القائلة بعدم إمكانية فهم الأفعال العنيفة فهماً صحيحاً إلا عن طريق تجربتها والتعرض لها على نحوٍ مباشرٍ أو غير مباشر عبر روايات ضحاياها مثلاً. ونعتقد من جانبنا، أن المقاربة الذاتوية المتشددة ستقف، في نهاية المطاف، حائلاً أمام الجهود المبذولة لدراسة أي من المواجهات العنيفة من منظورٍ تاريخي أو مقارن. كما نعتقد انه لا سبيل إلى فهم الفعل العنيف فهماً متكاملاً ما لم ننظر إليه بوصفه حلقةً واحدةً في سلسلةٍ طويلةٍ من الأحداث التي يشير كل واحد منها إلى نسقٍ أو بنيةٍ ثقافيةٍ وماديةٍ محددة قابلة للمقارنة مع ظروفٍ بنائية مماثلة في أنحاء العالم الأخرى.

النتائج:

يتمخض العنف عن خبرات فريدة تتوسطها الثقافة وتُخزن في الذاكرة الجمعية لأفراد المجتمع. ويشكلّ تمثيل هذه الخبرات مصدراً مهماً لإضفاء الشرعية على العنف في المستقبل وإدراكه وتصوره حسياً. وهناك، إلى جانب ذلك نتائج فعلية ملموسة يسفر عنها العنف تتراوح من تكدس جثث القتلى إلى إعادة توزيع الحيز المكاني ، واحتلال منطقة جديدة ، وتغيير مجموعة سكانية ما محل إقامتها. وهذه النتائج بمجملها تشكل حقائق تجريبية بالإمكان ملاحظتها مادياً أو إعادة تشكيل جوانبها المختلفة من السجلات والوثائق التاريخية. غير أن هذه الحقائق ذاتها تخضع لآليات فهم واستعمال خاصة في الخطاب الثقافي . إذ ليس ثمة مصدر أكثر أهمية لايديولوجيا العنف من تمثيل  صور العنف المرتكب في الماضي وصور القتلى والخسائر والدمار والمعاناة وإعادة تقديمها([ii]). هذا من جانب ، ومن جانبٍ آخر، تُعد المكاسب والمزايا المادية التي يحصل عليها الفرد جراء الاستعمال الناجح والمثمر للعنف حافزاً على درجة عالية من الأهمية لجهة دوره في تشجيع الأفراد وإقناعهم بالمشاركة الفاعلة في الصراعات العنيفة.

يبدو واضحاً ، أذن، إمكانية استعمال العنف وتفسيره بوصفه استراتيجية عقلانية ادواتياً للمساومة على السلطة . وينبغي الإشارة في هذه المرحلة إلى الدور الذي يضطلع به التركيز على خصائص العنف الإجرائية/العملياتية المستعملة في حل الصراع في الحيلولة دون التوصل إلى فهمٍ متكاملٍ لطبيعته الجدلية. فالعنف يمثل، إلى جانب ما ذكرنا في أعلاه، شكلاً من أشكال الفعل الرمزي الذي يوصل معانٍ ثقافية عدة يقف على رأسها معاني المشروعية. وبالاستناد إلى تعريف عالم الاجتماع ماكس فيبر الكلاسيكي، يعني مفهوم المشروعية وجود نظام اجتماعي مقبول ومتفق عليه بصفته نظاماً مناسباً وصالحاً أما بسبب تاريخيته وقيمته العاطفية وأما بسبب منطقه الأدواتي (1972 : 19). وثمة جوانب ثلاثة يمكن التأسيس لمشروعية العنف بالاستناد إلى أحداها (أو جميعها عادة). وهذه الجوانب هي:

تقديم مشروعية العنف لذاتها بوصفها عاملاً مسهماً رئيساً في إعادة خلق الأفكار والنماذج السلوكية وبعثها من الماضي .

مخاطبتها مشاعر التلاحم الاجتماعية القوية المستندة أما إلى خبرة التفوق وأما إلى المعاناة الناجمة عن المواجهات السابقة .

تقديمها لذاتها بوصفها الطريق الأنسب والأكثر مباشريةً لتعزيز مصالح الجماعات البشرية التي نشأت بفعل الآليتين المذكورتين أعلاه.

ومثلما هو واضح ، ينطوي هذا الوصف على درجة عالية من التجريد. ولذا، ينبغي الحذر من تأصيل مفاهيم مشروعية العنف، الذي يمكن الحديث عنه-أي عن مشروعية العنف- بوصفه الاستعمال المشروع للقوة في سياقٍ معينٍ. بيد أن السؤال المحير الذي يطرح نفسه هو ’ما الطريقة الأنسب التي يمكن بوساطتها تحديد هذا السياق، أن كان يمكن تحديده أصلاً؟‘ بناءً على ذلك، لا يبدو مستغرباً بقاء مفهوم مشروعية العنف من المفاهيم المثيرة للجدل التي لم يتفق عليها قط حتى بين أفراد المجتمع الواحد([iii]). وفضلاً عن ذلك ، ما زالت العلاقة الوثيقة بين الدين والعنف (ينظر جيرارد 1977) وسلسلة الممارسات الممتدة من ختان الإناث إلى تقديم القرابين البشرية تشكل تحدياً دائماً أمام تعايشنا النسبي وفهمنا الحديث للعنف بوصفه فعلاً ذا معنى. ولا شك في أن مفاهيم المشروعية وأفكار الفعل المثمر المنطوي على معنىً ما هي مفاهيم وأفكار مُقيدة ثقافياً وأكثر قدرة على المراوغة من مسببات الصراع ذاتها، وبالتالي، فهي أقل ملائمةً لأغراض المقارنة. وبرغم ذلك، ينبغي لعالم الانثروبولوجيا الاهتمام بالبعد الثقافي للعنف ودراسته بوصفه جزءاً من الاستعلام الجاد والكلي لهذا الحقل .

تصورات عنيفة:

بغية أداء الأفعال العنيفة ، ينبغي للناس تخيلها. فالجماعات لا تهاجم المتفرجين (من دون أن يشاركوا في الحدث) العرضيين المجاورين لها عشوائياً، بل أنها تفعل ذلك على وفق نماذج الفعل المناسب الثقافية. والحرب تؤطر عادةً على وفق قانون المشروعية الذي يقول بالارتباط الوثيق بين تعزيز المصالح والاملاءات الأخلاقية. وتُعَّد “تاريخية الحرب” العنصر الأهم في قانون المشروعية حيث يُعاد تجسيد المعنى الرمزي للحروب السابقة وتفسيرها في الحاضر . ثم يعمد العنف الحاضر ذاته إلى إنتاج القيمة الرمزية الخاصة به التي ستُوظف ، بدورها، في المواجهات المستقبلية. وهنا تحديداً يبرز عنصر الذاكرة الذي يضطلع بدورٍ مهمٍ في الصراعات. فالحروب تُخاض وتتشكل في رحم الذاكرة، ولأجل الاستئثار بها- بمعنى اكتساب مجموعة ما القدرة على تأكيد وجهة نظرها بشأن الماضي وفرضها باعتبارها وجهة النظر المشروعة الوحيدة. وعلى وفق هذا المنظور، فإن العنف لا يُعدّ وسيلةً أو أداةً لحسم الصراع على الموارد المادية فحسب، بل عاملاً في صنع التاريخ وتأكيد ادعاءات الجماعة بحيازة الحقيقة والتاريخ بإزاء ادعاءات الجماعات الأخرى المضادة مع ما يترتب على ذلك من نتائج اجتماعية واقتصادية مهمة. والسؤالان اللذان ينبغي طرحهما في ما يتصل بهذا الحديث هما “كيف تعمل حلقة الوصل المنطقية التي تربط عنف الماضي بعنف الحاضر؟ وما السبيل الأمثل لغرس مشروعية العنف في أذهان المتوجهين إلى ساحات القتال وأولئك الذين يساندونهم؟” وفي حقيقة الأمر، ليس بمقدور حتى الدول الحديثة مع ما تحوز عليه من وسائل إعلام حديثةٍ ومتطورةٍ أن تختلق المواجهات من العدم. وبينما تمثل الحرب في مجتمعات “اللادولة” مشروعاً يُتفق عليه بالإجماع ، تشهد حتى الدول الحديثة نشوء اتفاق عام بين أفراد المجتمع يُبرر بموجبه مسار الفعل العنيف الذي يسلكه أفراد النخبة .

وثمة استراتيجيات ثلاث يمكن بوساطتها تمثيل المتخيلات العنيفة وترسيخ تاريخية المواجهات في الزمن الحاضر. وهذه الاستراتيجيات هي: الروايات السردية والعروض الادائية والمنتجات البصرية/المرئية. وفضلاً عن تشظيها وتشعبها العاليين في السياق الاجتماعي الأكبر، يلاحظ سهولة التحكم بكل واحدة من هذه الاستراتيجيات. كما يلاحظ كثرة النسخ الجديدة التي تفرزها “التمثيلات السلطوية” في الحرب، واعتماد ذلك على موقع المسؤولين عن إعداد هذه النسخ وطبيعة مصالحهم الإستراتيجية. وفي السياق ذاته، تكتسب مسألة التمييز بين سرديات “الملاحظين– المشاركين” الصغرى المتمثلين بالفواعل السياسيين وسرديات “المفسرين– الملاحظين” الكبرى المتمثلين بالباحثين الأكاديميين الخارجيين ووسائل الاعلام أهمية متزايدة بحسب ما صرح به كامبل (1998 : 43). ومن نافلة القول وجود تباينات واسعة بين الأطراف المتصارعة لجهة انخراط أفرادها الجسدي والعاطفي في الصراع ودرجة تقبلهم للرسالة السلطوية المهيمنة. ولذا، ليس من الضروري لمتخيلات الجماعة العنيفة ومصالحها الشخصية أن تتكشف عن وحدة متراصة وتناغم كلي، فهذه المتخيلات والمصالح تتطابق بعضها مع بعضاً في المستوى العام رغم تألف كل طرف من اطراف الصراع من مجموعات فرعية متعددة تحرص على تنفيذ اجندتها –برامجها- الخاصة.

السرديات:

تخدم السرديات غرض الحفاظ على عنف الماضي وذكريات الصراعات والمواجهات السابقة حيةً في الروايات والقصص، وهي تفعل ذلك على نحوٍ رئيسٍ أما عن طريق تعظيم منجزات المجموعة ومكاسبها (ينظر ميكر 1979؛ روزالدو، 1980) وأما عن طريق التأكيد على المعاناة والمظالم المتخيلة والخسائر التي تعرضت لها المجموعة(قارن مع مالكي 1995؛سودنبرغ 1995). وبمقدور النخب الحاكمة استغلال هذا النوع من الذاكرة الاجتماعية بسهولة وتحويله الى ايديولوجية عنف مهيمنة (ينظر  جولوفك 1995).

العروض الإدائية: تؤلف التمثيلات الأدائية الخاصة بالمواجهات العنيفة شعائراً وطقوساً عامة يتم في أثنائها مسرحة العلاقات العدائية وإعادة تقديم صور العنف الأصلية. وعلى الرغم من أهمية الدور الذي تضطلع به الأنواع المختلفة من “احتفالات الحروب المراسمية”، في الإعداد للحملات الحربية والاستعداد لتحمل نتائجها المحتملة، يلاحظ أن استعمالها لا يقتصر على مجتمعات “اللادولة” في ضوء حرص المجموعات المختلفة في المجتمعات الحديثة على الحفاظ على هذه الطقوس وتوظيفها، بل وحتى إعادة تشكيلها (ينظر بارمان 1997؛ زوليكا 1988). وبناءً على ذلك ، بالإمكان القول أن الخاصية الأدائية تُشكل جزءاً لا يتجزأ من المظهر العام للقادة في أوقات الحروب. وليس أدل على ذلك من الاستثارة الدرامية الطابع لمشاعر الجماهير وحماسها الحربي في ايطاليا الفاشية وألمانيا النازية.

المنتجات البصرية:

ثمة وسائل لا حصر لها لترسيخ المتخيلات العنيفة في المشهد الثقافي العام منها الصور والكتابات المدونة في الروايات وعلى الجدران (بارمان 1997؛ بتيت 1996). وفي ظل التأثير الهائل الذي تمارسه وسائل الاعلام المرئية في الوقت الحاضر، كان من المحتم توظيف الصور التلفزيونية لخدمة هذا الغرض. ومما يؤسف له عدم تكريس علماء الانثروبولوجي ما يكفي من الاهتمام بالدور الذي تضطلع به هذه المنتجات البصرية في تأجيج حدة الصراعات مقارنة مثلاً بالتمثيلات النصية. وثمة خصائص جوهرية عدة تنطوي عليها رمزية المتخيلات العنيفة (زوليكا 1988: 32-34) منها :

هيمنة بنية ثنائية صارمة مؤلفة من “نحن، هم” ليس بمقدور أحد الخلاص منها، كما أنها لا تترك مجالاً للشك أو الغموض.

تطبيق مبدأ الشمولية على مجمل جوانب هذا التقسيم الثنائي. وطبقاً لهذا المبدأ، ينظر أحد طرفي العلاقة العدائية إلى أي من أفعال الطرف الأخر أو تصريحاته بوصفها تهديداً أو فعلاً عدائياً يستدعي سرعة الرد والقيام بفعل دفاعي ما.

تماهينا “نحن” وكل ما يتعلق بنا مع بقاء كل فرد من أفراد المجموعة ورفاهيته . وهنا ، تحديداً تكمن أهمية الصراع لحفظ حياة المجموعة وحياة أفرادها كافة.

نتائج الصراع لا تؤثر في السمو الأخلاقي لقضيتنا “نحن”؛ فالهزيمة لا يمكنها تغيير قناعتنا بعدالة موقفنا وصحته .

يوصف مجتمع ما بعد الحرب بصيغٍ محددةٍ وصارمةٍ، فليس هناك سوى النصر المؤزر أو الهزيمة النكراء . وبالطبع ، سيفعل الطرف المنتصر ما بوسعه للفتك بالطرف الخاسر جسدياً وسياسياً.

وانسجاماً مع ما ذُكر أعلاه ، يعمل كل طرف من أطراف الصراع على تجريد عناصر التاريخ من سياقها وإعادة تفسيرها لتكون جزءاً من أسطورة المواجهة المجتمعية، ولتُسهم بذلك في انشاء متخيلة التلاحم الداخلي والعداوة الخارجية . وهذا بمجمله يعني أن الخطابات العدائية لا تُخترع أو تنشأ من فراغٍ. وفضلاً عن ذلك، فإنها – أي الخطابات – غير منقطعة مع التاريخ. إلا أن ما يحدث واقعاً هو نقل أجزاء من الذاكرة وتعديلها بغية وضع تعاريف جديدة للهوية الجمعية توافق توجهات المجموعة وتلبي احتياجاتها.

وتعد القومية و/أو العرقية (الاثنية) الشكل الأكثر شيوعاً للمتخيلات العنيفة في الأزمان الحديثة (ينظر ابادوراي 1998؛ كابفيرير 1988). وبالنظر لطبيعة هذه المسميات الغامضة وغير المستقرة، يبدو غريباً ومثيراً للفضول اكتسابها هذه الأهمية الاستثنائية في عصر العولمة حيث الهويات المرتبطة ، تقليدياً، بالمكان والتاريخ آخذة في التشظي على نحوٍ متواصلٍ في ظل الهجوم الكاسح الذي ما فتئت تشنه المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية اليومية. وبهذا الصدد، بين (ابادوراي) احتمالات وجود منطق ما خلف الجهود المبذولة لخلق هذا “الشكل المروع من اليقين” (1998 : 229) في ظل الظروف القائمة من خلال التأكيد القسري والعنيف على الهوية المحلية الملتبسة والمتملصة على الدوام بإزاء “الهويات الأخرى”. ولتوضيح ذلك، بالإمكان الاستعانة بالسيناريو ما بعد الشيوعي. فبعد انهيار السرديات الكبرى وبُنى السلطة المهيمنة، برزت الحاجة إلى أواصر ولاء جديدة حتى لو عنى ذلك محاولة المجموعة إعادة تعريف المجموعة المجاورة لها بوصفها عدواً عرقياً. أن حقيقة احتمال اندلاع أعمال قتل عرقية عنيفة على نحوٍ مفاجئ في مناطق كانت تشهد تعايشاً سلمياً طويل الأمد في الماضي تبين على نحو لا لبس فيه أن هذه الأفعال لا تمثل نتاجاً للكره الأعمى، بل أفعالاً يتولى فواعل يعوّن تماماً ما يفعلون تنفيذها “والتخطيط لها”، وهؤلاء الفواعل مصممون على تحقيق مصالحهم الحالية الخاصة. وعلى الرغم من أن التطهير العرقي قد لا يمثل استراتيجية مناسبة لتحقيق الأهداف المرجوة منه، فإنه ، وهذا هو الأهم، يمثل نتاجاً لفعل مُخطط له نُفذ عن عمد وله غايات محددة. أن المتخيلات العنيفة لا تتحول إلى ممارساتٍ عنيفةٍ من تلقاء نفسها، بل أن هناك أطرافاً وجهات بشرية معينة تتولى غالباً القيام بها.

وهناك عامل آخر يسهم في تعقيد العلاقة بين متخيلات العنف وممارساته هو حقيقة تموقع هذه الممارسات الدائم في الوسط الاجتماعي. ولذا ، يلاحظ افتقار المنظورات الموظفة في دراسة الاحداث العنيفة عادة إلى صفتيّ “الحياد” و”الموضوعية”. وغني عن البيان اشتمال “مثلث العنف” الأساسي عادة على عناصرٍ ثلاثة هم المعتدون والضحايا والملاحظون – المشاهدون المأسورون جميعهم في داخل أطرهم التأويلية واجنداتهم الخاصة (رجز 1986: 8-10). وفي السياق ذاته ، يذكرنا كريستيان كرون – هانسن بحقيقة ميل دراسات العنف إلى التركيز على وجهات نظر الضحايا على حساب وجهات نظر المعتدين الذين يتم تجاهلهم بالكامل. وأعتقد انه “إذا أردنا فهم العنف بوصفه أداءً على نحوٍ مناسبٍ، ينبغي لنا دراسة دوافعه وقيم استعمالاته” (1994: 367). ولذا ينبغي لأية عملية تفسير كلية للأحداث العنيفة أن تستند إلى توظيف هذه المنظورات الثلاثة نظرياً على الأقل . أما عملياً، فعلى هذه الدراسات الاعتماد على واحد أو اثنين من هذه المنظورات التي يمكن للباحث الإفادة منها. ويُرجح أن يكون منظور الضحية أو منظور المعتدين فضلاً عن الملاحظين هو المنظور المعتمد. ومما تجدر الإشارة إليه ميل الملاحظين- وهم الفئة الأكثر موضوعيةً من الناحية النظرية– لدى الإدلاء بشهادته إلى الوقوف اما إلى جانب الضحايا وأما المعتدين. كما يلاحظ أن الأدوار التي تؤديها هذه الأطرف الثلاثة – أي مرتكب الاعتداء والضحية والملاحظ – على الرغم من أهميتها وفائدتها في تسليط الضوء على الأحداث العنيفة تفتقر خاصية الثبات عبر الزمن. فمع تفاقم حدة الصراعات وتجدد المواجهات بفعل العداوات القديمة ، ثمة احتمال أن يتحول الضحايا أنفسهم إلى معتدين والعكس صحيح. ويزاد على ذلك أن الملاحظين أنفسهم قد يصبحون مشاركين فاعلين .

وبغية تطوير هذا النقاش والمضي به خطوة أخرى، ثمة مسألة أخرى ينبغي أخذها بنظر الاعتبار. وهذه المسألة تتصل باستحكام الخلاف بشأن آليات تصنيف الفعل بوصفه عنفاً، وهذا، بحسب رجز، يُشكل إحدى خصائص العنف الجوهرية. وليس أدل على ذلك من تباين الآراء بين المجتمعات الغربية وأفراد الثقافات الأخرى (وربما حتى الضحايا أنفسهم كما يقول بذلك بعض علماء الانثروبولوجي) بشأن بعض العروض الأدائية الثقافية مثل تقديم القرابين البشرية. فبينما ترى المجتمعات الغربية الى هذه العروض بوصفها عروضاً صادمةً وعنيفةً للغاية، تعدّها الثقافات الأخرى مشروعةً وممارسةً مألوفةً للغاية. وعلى غرار ذلك، تتباين الآراء بشأن عقوبة الإعدام بوصفها أداةً مناسبةً لتحقيق العدالة من تكساس في الولايات المتحدة إلى المانيا. ولهذا، ينبغي أخذ مسألة تباين الآراء وتنوعها حول العنف الناجمة عن وفرة المنظورات الداخلية وتنوعها بنظر الاعتبار حتى في عملية إعادة بناء خصائص الصراع الإجرائية .

وهذا يقودنا في نهاية المطاف إلى موضوع جمع البيانات الخاصة بظاهرة العنف . وبهذا الصدد، تحدث نوردستروم وروبن في كتابهما القيم (الدراسة الميدانية في مرمى النيران)، عن ميل ظروف العنف إلى مواجهتنا نحن الانثروبولوجيون بطبيعتنا الانسانية. وفي السياق ذاته ، لاحظت هيك بهرند (1993: 22) في دراساتها المتعددة عن الحرب في اوغندا عدم توفر الكلمات المناسبة لوصف خبراتها على نحوٍ دقيقٍ. ولهذا، طالبت بإعادة النظر في مناهج الدراسة الميدانية الانثروبولوجية؛ فالأبحاث الاثنوغرافية حول الحرب تدفع المرء إلى التفكير والفعل على نحو يتناقض مع تفكير الآخرين وأفعالهم. وهذا يعني أن الباحث لن يكون بعد الآن باحثاً أكاديمياً خارجياً (993: 18). ويُسهم العنف عادة في دفع الباحث “المحايد” إلى الوقوف إلى جانب أحد أطراف الصراع. وهذا يؤدي إلى فقدان الملاحظة بالمشاركة خاصية الموضوعية ويجعلها تنطوي على إشكالية كبيرة. وفي السياق ذاته وصف فلب بورغوا في دراساته الميدانية عن تجار المخدرات العاملين في شوارع منطقة شرق هارلم في الولايات المتحدة- وهي من أشد المناطق الخاصة بسكان الأقليات خطراً- الصعوبات الشخصية التي عاناها في ملاحظة خبرات العنف اليومية التي شهدها، وتحدث كذلك عن تغير مواقفه حيال ما كان يلاحظه في أثناء دراسته التي بلغ أمدها ثلاث سنوات ونصف . وعلى غرار بهرند، شككّ بورغوا في أهمية مبدأ النسبية الثقافية الذي يجعل عالم الاثنوغرافيا ، “لا يرغب قط في أن تظهر المجموعة التي يدرسها بمظهرٍ سيء أو قبيحٍ” (1997: 15)([iv]). وهذا المبدأ يقول أن الثقافات ليست جيدة أو سيئة قط، بل أنها، ببساطة، تمتلك منطقاً داخلياً خاصاً بها.

غير أن الانثروبولوجيين لا يكونون بموقعٍ يسمح لهم بملاحظة الفعل العنيف على نحو مباشر في أغلب الحالات . وهذا يستلزم إعادة النظر بـ”مثلث العنف” واقتراح بديل له هو رباعي العنف الذي يشتمل على منظوراتٍ أربعةٍ هي منظورات مرتكب الاعتداء والضحية والملاحظ والمفسر– الباحث. ولافتقاره خاصية تزامنية الملاحظ بالمشاركة – بمعنى غيابه عن موقع الحدث في اثناء حدوثه – يضطر الملاحظ الاكاديمي إلى استخلاص بياناته وتجميعها من روايات المشاركين بعد وقوع الحدث ربما بعقودٍ أو حتى قرون. وبالنظر لتمثيله مراقباً خارجيا “غير منتمٍ” مقارنةً بالجماعات المنخرطة فعلياً في المواجهة العنيفة ، يندر أن يغامر الباحث بالتحول أما إلى ضحيةٍ وأما معتدٍ في المراحل اللاحقة على الحدث. غير أن ذلك لا يعني حصانته ضد التقلبات التي تشهدها دلالات العنف المتعددة. ولهذا، يعجز هذا الباحث غالباً عن بلوغ الحقيقة كاملةً، ويكتفي بإضافة منظورٍ آخرٍ فحسب. وهذا المنظور مقارنةً بالمنظورات الأخرى، يتميز بكونه أكثر موضوعية، الأمر الذي يضع الباحث في موقعٍ أفضل، لجهة قدرته على إزالة اللبس عن سرديات الصراع السابقة، من الذين اشتركوا به فعلياً أو على الأقل عانوا منها جسدياً. ومرة أخرى، لا يعني ذلك امتناع المعتدين عن توظيف النتائج التي توصل لها الباحث أدواتياً لإشعال فتيل مواجهات أخرى في المستقبل.

الهوامش

([i]) تنظر دراسة سيول للاستزادة حول موضوع التحليل الاجتماعي والتاريخي للأحداث . وينظر كذلك ساهلنز 1991.

([ii]) لقد برهنت الأحداث والصراعات الأخيرة في مناطق يوغسلافيا على ذلك على نحوٍ جلي (ينظر بومان 1994، باكس 1997؛ هيدن 1996، فيردري 1999).

([iii]) بدا ذلك واضحاً للعيان في حالة الجرائم العنيفة (وهو موضوع خارج نطاق الدراسة الحالية). وفي دراستها الموسومة “قتل بلا دافع” التي قدمتها في ورشة عمل فرانكفورت (لم تنشر في المجلد الحالي)، تحدت ادا هيدل مفاهيم “العنف المجرد من المعنى” ، الشائعة في مجتمعاتنا. ولتوضيح وجهة نظرها، اشارت ادا إلى حادثة قيام مجموعة من أفراد العصابات الإجرامية الالمان السكارى بضرب شرطي فرنسي ضرباً مبرحاً كاد معه أن يفقد حياته في صيف 1988. وتطرح هذه الحادثة التي تناقلتها وسائل الاعلام سؤالاً مهماً هو ، هل يغدو العنف غير المشروع مقبولاً في المجتمع الغربي إذا مارسه مرتكبه تحت تأثير الكحول؟

([iv]) يُعدّ هذا الموقف موقفاً بالغ الأهمية في دراسة العديد من الثقافات الفرعية العنيفة. فإذا نظرنا إلى العنف بوصفه مرضاً معدياً، مثلما لاحظ جيرارد في دراسته لقبيلة جوكجي ، ينبغي أذن ، مراقبة الانثروبولوجيين العائدين من دراساتهم الميدانية في المناطق التي ينتشر فيها العنف .

هوامش المترجمة

(أ) يُعدً كتاب (في الحرب) الذي ألفه كلاوسيفيتز أحدى الركائز الأساسية في الدراسات العسكرية العالمية. ويتناول هذا الكتاب الحرب من حيث أنها ليست فناً أو علماً، بل شيئاً أكثر من ذلك. أنها شكل من أشكال الوجود الاجتماعي؛ وهي نزاع بين المصالح الكبرى يسويه الدم. ويعتقد كلاوسيفيتز ان عوامل الشراسة والعنف والعدوانية هي عوامل جوهرية في الحرب؛ فالعنف هو القاسم المشترك لكل الحروب، وان غاب هذا العنصر يختل مفهوم الحرب. وعموماً، يتمثل الثالوث المتحكم بالحرب في العنف ولعبة الصدفة والاحتمالات والحرب بوصفها نتاجاً للسياسة وأداةً لها. ويرى كلاوسيفيتز ان السياسة هي الرحم الذي تنمو به الحرب، فالحرب هي السياسة بوسائل أخرى.     

(ب) البدنة : جماعة انحدار قرابي تُعرف عموماً بأنها مجموعة من الأشخاص ترجع انتسابها إلى جد مشترك معروف. وتكون البدنة أبوية إذا كان الانتساب إلى الجد في خط الذكور فقط، وتكون أمومية إذا كان الانتساب في خط الإناث فقط. وصيغة جمع البدنة هي (بدن) (المصدر: شارولت سيمور – سميث ، موسوعة علم الإنسان: المفاهيم والمصطلحات الانثروبولوجية: ترجمة مجموعة من أساتذة علم الاجتماع بإشراف محمد الجوهري. القاهرة : المركز القومي للترجمة الطبعة الثانية 2009، ص163).

(ت) قبيلة السوري (Suri) قبيلة (زنجية) تعيش في أقصى الجنوب الشرقي من (جمهورية السودان) (قبل انفصال الجنوب السوداني عنها – المترجمة) قرب حدودها مع اثيوبيا. يقوم اقتصادها على الزراعة ، وثلثه على تربية الحيوانات. كما كانت تزاول إلى حد محدود جداً صيد السمك والصيد البري (المصدر: شاكر مصطفى سليم، قاموس الانثروبولوجي . ط1، جامعة الكويت، 1981، ص935).

(ج) الآخرية مفهوماً هي أسم مشتق من ’الآخر‘؛ احد المفاهيم الاساسية في الفلسفة الاوروبية، والآخر مفهوماً يقف على الضد من الشخص ذاته او الشبه(the same). وقد شاع استعمال هذا المفهوم في العلوم الاجتماعية لفهم العمليات التي تتمكن المجتمعات بوساطتها من إقصاء الآخرين الذين يرغبون في إخضاعهم أو الذين لا يتناسبون وخصائص مجتمعاتهم. ويُعد عمانويل ليفانس من طلائع الذين ارسوا دعائم فكرة الآخر في كتاباته الفلسفية، تبعه في ذلك المفكر ادوارد سعيد في كتابة الاستشراق الذي أدخل المفردة حيز التداول العالمي.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.