مارغريت ميد – الجزء الأول

مرغريت ميد تتوسط فتاتين من جزيرة ساموا

مارغريت ميد عالمة الإنسان الأمريكية التي قضت حياتها في دراسة الشعوب الذين يعيشون على الجزر البعيدة في المحيط الهادئ,ذهبت إلى ساموا وإلى غينيا الجديدة مرات عدة, حيث درست خمسة شعوب منفصلة هم : المانوس والأرابيش والمندوجومر والتشامبولي والإتامول.وذهبت كذلك إلى بالي لدراسة سكانها وقد قامت بذلك لأنها أرادت دراسة حياة الشعوب الأخرى وعلى وجه الخصوص أولئك الذين كان اتصالهم بالحضارة الغربية لا يزال ضعيفا.وهي لم تذهب إليهم لتملي عليهم ما ينبغي أن يقوموا به, بل لترى كيف يمكن لمجتمعها أن يتعلم منهم .
ولدت مارغريت ميد في السادس عشر من شهر كانون الأول عام 1901م في فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا. كان والدها ويدعى إدوارد ميد يعمل أستاذا للعلوم الاقتصادية في كلية الأعمال بجامعة بنسلفانيا.وكانت والدتها مارغريت إيميلي فوج ميد خريجة علم اجتماع.
كان التأثير الأعظم في حياة مارغريت ميد الطفلة هو وجود جدتها مارثا رامسي ميد التي كانت تعيش مع العائلة,وهي خريجة معهد وقد عملت مدرسة ومديرة مدرسة.شجعت الجدة مارغريت على حفظ الشعر وكانت تعلمها الرياضيات وعلم النبات وكانت مارغريت شديدة الإعجاب بها حيث قالت إن جدتي هي التي منحتني السكون والطمأنينة لكوني امرأة.
تعلمت مارغريت صناعة السلال والرسم والأعمال الخشبية, إلى جانب تعلمها المواد التقليدية الأكاديمية من خلال دروس أخذتها في البيت مع جدتها. تشربت مارغريت من والدها حب الحقائق والاعتقاد أن أهم شيء يكمن أن يفعله المرء هو أن يضيف شيئا إلى مخزن العالم المعرفي وقد أخذت عن والدتها الاهتمام بالآخرين, وعلى الرغم من ذلك فقد أقسمت على ألا تشبه أيا منهما.فقد كان والدها عنيدا وديكتاتوريا ولم يكن يهتم بمشاعر أولاده حيال مختلف الأشياء,وأمها كانت تفتقر لحس المرح والفكاهة وكانت عملية إلى حد بعيد ولم تكن تحب الجمال. وبعد تخرجها من المرحلة الثانوية كانت ميد متشوقة للذهاب إلى الجامعة ولم يكن هناك إلا جامعة في دي باو التي صدمت عند التحاقها بها.وقد نشدت التحرر الغربي والخروج عن الرسميات ورغبت في الحرية ولكنها وجدت بدلا من ذلك كله خضوعا مضللا للعقل.وقد أحست بالتفرقة تمارس ضدها,ولكنها انخرطت في نشاطات الجامعة وراحت تكتب مسرحيات فكاهية للطالبات الجدد, وألفت وأخرجت المهرجان المسرحي الذي تقدمه الطالبات كل سنة, وقد قامت بتصميم عربات للطلاب الجدد في المهرجان المسرحي,ثم انتقلت إلى جامعة بارنارد في مدينة نيويورك وهذا ما كان يناسب مارغريت التي تعشق فيها الحياة الفنية والعقلية التي ازدهرت بها نيويورك,وكذلك أرادت دخول المسارح والجلوس على المقاهي وقراءة المجلات الصغيرة التي تنشر الشعر والنقد الفني والأدب التجريبي,أحبت الحياة في نيويورك وأصبحت عضوا فاعلا في مجموعتها في الجامعة توبخ بعضهن وتستمع لمشاكل بعضهن الآخر وتساعدهن على ترتيب مواعيدهن.وكانت مذاك قريبة من خطيبها لوثر كريسمان الذي تعرفت عليه قبل انتقالها للجامعة الذي يدرس فيها في نيويورك,اختارت مارغريت علم النفس حتى بداية السنة الثانية عندما التقت بالمرأة التي وجهتها إلى علم الإنسان,والتي أصبحت صديقة عمرها رث بندكت التي كانت تكبر ميد بخمس عشرة سنة,وكانت مارغريت تنظر إلى ما هو أبعد من علم النفس, فأخذت دروسا في علم الاجتماع. وفي السنة الثانية سجلت في مادة علم الإنسان التي كان يدرسها الأستاذ فرانز بواز مع الأستاذة المساعدة رث بندكت, وكان يعد من أبرز علماء الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية,تزوجت مارغريت من لوثر كريسمان في الثاني من سبتمبر عام 1923م في باكينجهام في بنسلفانيا,أرادت مارغريت أن يكون لها شعبا خاصا بها وحدها تجري عليه دراسة ميدانية مثل ما فعل الكثير من علماء الإنسان قبلها,أرادت أن تذهب إلى حيث لم يذهب أحد قبلها, أناسا بعيدين تكتشف هي كيف يعيشون في الوقت الحاضر,واستقر رأيها على زيارة جزيرة ساموا الأمريكية في الجنوب الهادئ لدراسة البنات المراهقات بعد توصلها لاتفاق مع أستاذها بواز,وعندما غادرت مارغريت بالقطار إلى سان فرانسيسكو حيث تأخذ من هناك قاربا إلى هاواي ثم إلى ساموا قال والدها معجبا بشجاعتها إنها لم تنظر قط خلفها,
حلت ميد في ساموا الأمريكية في الواحد والثلاثين من شهر أغسطس لعام 1925م وكانت عبارة عن مجموعة جزر يبلغ عددها أربع عشرة جزيرة موجودة في المحيط الهادئ,عكفت ميد على دراسة اللغة الساموية برفقة ممرضة ساموية, أخذت ميد في التعرف على دورة حياة العائلة بأكملها فأخذت على مراقبة الأطفال الرضع والفتيات الصغار والنساء الناضجات كما سجلت المراسم والعادات التي يقومون بها عند الولادة والزواج لتتمكن من دراسة المراهقات,
بعد أن حصلت ميد على كل المواد التي أرادتها وقد كانت راضية عن الكميات الكبيرة من المعلومات التي جمعتها والتي تسمح لها بتأليف كتاب حسب اعتقادها,قررت الرجوع إلى وطنها وأن تجد شريكا لها عندما تذهب مرة أخرى فقد أحست بالوحدة وافتقدت صداقتها الحميمية والتحفيز العقلي من أصدقائها, وفي خلال عودتها من استراليا إلى موطنها قابلت ميد ريو فورتيون عالم النفس النيوزلندي الوسيم ذا القامة الطويلة, ومن خلال الحديث معه انبهرت بقراءات فورتيون الواسعة حتى إنهما أخذا في الحديث دون توقف لستة أسابيع,بعد عودتها إلى بلدها طلبت من زوجها كريسمان الطلاق لتتزوج من فورتيون. في نيويورك عينت ميد في الموقع الذي كان ينتظرها كأمين مساعد لعلم الأعراق البشرية في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي,وكانت وظيفتها تقتضي منها أن تبذل جهدها لأن تجعل من علم الأعراق البشرية أو علم الإنسان الثقافي علما شائعا ومعروفا بين عامة الشعب..وبعد أن قدمت بحثها لأستاذها بواز لإبداء رأيه..كانت قلقة جدا ولكن عندما اجتمعت معه بين أن انتقاده الوحيد هو أن لم تفرّق بشكل واضح بين الحب الرومانسي والشهواني..وقال عن عملها بأنه صورة واضحة وشفافة لأفراح وأتراح الشباب الناشئ في ثقافة مختلفة عن ثقافتنا..وفي عام 1928م نشرت ميد كتابها سن الرشد في ساموا وأضافت فصلين آخرين استجابة لإلحاح الناشر توضح فيهما كيف يمكن للأمريكيين الاستفادة من السامويين ولماذا تمر تشكل فترة المراهقة عندهم عبورا هادئا إلى مرحلة الشباب بينما هي فترة توتر لدى الشباب الأمريكي..ورأت ميد أن الانفتاح في المجتمع الساموي ومرونة البيوت الساموية والانفتاح حول موضوع الجنس وتكامل واستمرارية الأعمال التي تؤديها اليافعة والمهمات التي ستقوم بها عندما تصبح بالغة كل ذلك ساعد على جعل فترة المراهقة عند الفتاة الساموية فترة هادئة..أشارت ميد إلى أن الأمريكيين يعيشون في مجتمع معقد ومتناقض ومتغير بشكل سريع..اقترحت ميد أن يتعلم الأطفال الأمريكيون كيفية الاختيار ..اقترحت أنه يجب أن يتعلموا كيف يفكرون لا بماذا يفكرون..وأن يتعلموا التسامح وأن يحثهم المجتمع على أن يكونوا منفتحين..بعد انتهائها من كتابها عن ساموا بدأت تخطط لعملها الميداني القادم..فاختارت غينيا الجديدة حيث كان يعمل ريو فورتيون .
أرادت هذه المرة أن تقوم بدراسة الأطفال الصغار وكيف هي أوضاع الأطفال البدائيين , غادرت في خريف 1928م معها منحة صغيرة من القسم في المتحف عبر سان فرانسيسكو وهونولولو إلى جزر الأدميرالية في جنوب الهادئ , قابلت في طريقها فورتيون في أوكلاند بنيوزلندا حيث تزوجا في الثامن من أكتوبر قبل الإبحار إلى سيدني في استراليا والذي اقترح جزيرة مانوس في جزر الأدميرالية لتكون ميدان عملها , واختار لهما المترجم الذي يصحبهما قريته بيري .
أدركت ميد أن ثقافة سكان مانوس مادية ومحكومة بقوانين , فبينما كانوا في السابق يصبّون كل طاقاتهم وعنفهم على أعدائهم في الحروب فهم الآن قد حولوها إلى النشاطات الاقتصادية والتبادلات المعقدة , فكل حدث أو علاقة كانوا يصفونها يمقياس من أعطى أو من يجب أن يعطي من . بينما كان الشبان الصغار مثقلون بالديون للرجال الأكبر سنّاً الذين يشترون لهم زوجات مقابل أن يقضوا سنوات في العمل للإيفاء بالديون مما نتج عنه شعور هؤلاء الشبّان بالعدوانية تجاه زوجاتهم اللواتي كلفنهم هذا العناء .
أخذت ميد في دراسة تفكير الأطفال فقد كان متاع ميد يشتمل على ألف صفحة من ورق الرسم للامتحانات النفسية للأطفال , جمعت ميد خلال خمسة أشهر في مانوس آلاف الرسومات مدوّن عليها اسم الطفل وتاريخ الرسم وتفسير الطفل لرسوماته على كل رسمة . أرادت أن تتوصل إلى معرفة ما إذا كان تفكير الأطفال في مانوس غير عقلاني وفقاً للمقاييس الغربية وهل إذا كانوا حقّا يعتقدون في ( الأرواحية ) وهو الاعتقاد بوجود الأشباح أو الأرواح التي تعيش في الطبيعة وتسكن الأشجار والجبال وأشياء معينة مثل جمجة أو أداة ؟ فوجدت أنهم لم يفعلوا ذلك .
استنتجت ميد أنّ الأطفال كانوا أقل إيمانا بالأرواح من الكبار وأكثر ميلاً ليكونوا عقلانيين في تفكيرهم من الكبار . وهو ما رأته ميد مناقضاً تماماً للمجتمع الغربي وأنّ التفكير اللاعقلاني والإيمان بالأرواح لا يمكن أن يعتبر مرحلة عالمية يمر بها كل طفل قبل أن يكبر كما كان يرى بعض علماء النفس .
واستنتجت ميد استنتاجان بعيدا المدى من خلال تجربتها في مراقبة الأطفال , وهذان الاستنتاجان يناقضان ماكان يقوله المعلمون الحاليون في الولايات المتحدة في كتابها غينيا الجديدة . كتبت ميد أنّه من الخطأ الاعتقاد أن كل الأطفال مبدعون بالطبيعة أو أنهم ذوو خيال خصب بالوراثة , وأنهم يحتاجون أن يمنحوا الحرية ليطوروا طرقاً غنية ورائعة للحياة بأنفسهم , اقترحت ميد أن الأطفال يحتاجون إلى التوجيه والقوانين والقواعد من الكبار . وهذا ما جعلها تتساءل عن صحة الفكرة المتداولة بين المعلمين التقدميين في الولايات المتحدة وفي أماكن أخرى إن تغيير التعليم يمكن أن يغير المجتمع . بينما رأت أنّ أساليب السلوك والقيم التي يراها الأطفال أو يتعلمونها لا تدوم إذا لم يكن لهذا الأنماط والقيم مكان في الثقافة الأوسع والأكثر شمولاً .
عادت إلى نيويورك خريف عام 1929 م لتزاول عملها في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي واستأنفت حياتها كشخصية مشهورة وبدأت في إعطاء المحاضرات عامة وحوارات مرتين إلى ثلاثة مرات أسبوعياً وأصبحت متحدثة بارعة وقادرة على إدماج الحضور معها مستمعة جيدة لأسئلتهم ومشاركة أحياناً في نقاشات حادة .
كتبت ميد كتابا عن الأأطفال في مانوس بعنوان ” النمو في غينيا الجديدة ” وعملاً آخراً أكثر تقنية عن القرابة في جزر الأدميرالية .

 

انطلقت ميد مع فورتيون إلى غينيا الجديدة مرة أخرى في عام 1931 م , أرادت ميد هذه المرة دراسة الاختلافات في الجنس والطريقة التي تحكم وتنظم قوانين الزواج في ثقافات مختلفة وذلك بمقارنة الأساليب المختلفة للسلوك المنتظر من الرجل والمرأة في الثقافات المختلفة . وكذلك السؤال الذي أرادت الإجابة عليه هو ما إذا كانت التفرقة الحادة بين ما ينبغي أن يفعله كل من الرجل تعود إلى طبيعتها أم إلى التربية بمعنى أنه هل هذه نتيجة اختلافات فطرية بيولوجية بين الرجل والمرأة أم أنها ببساطة نتيجة للتوقعات الثقافية والممارسات المتبعة في تنشئة الأطفال , لقد أرادت أن ترى كيف تصيغ المجتمعات الأخرى أدوار الذكر والأنثى .
اضطرا لدراسة الناس الموجودين في قرية جبلية داخل غينيا الجديدة سموهم الأرابيش , عانت ميد القلقة والضجرة في قرية الأرابيش في جبال غينيا الجديدة من حالة إحباط شديد أصابتها ولم تتكرر في حياتها حيث بدا لها كأن الأرابيش لا يفعلون شيئاً .
ذهبا إلى أعالي نهر يوات وهو رافد من روافد نهر السيبيك وأقاما عند المندوغومر الذين كانوا يختلفون تماماً عن الأرابيش ولكنهم كانوا محبطين أيضاً لميد , في أواخر ديسمبر عام 1932 وبعد سنة متعبة من البحث حزموا أمتعتهم واتجهوا إلى أعلى نهر السيبيك إلى أمبنتي المحطة الحكومية الرئيسية في المنطقة , دعاهما غريغوري بيتسن الذي كان عالم أحياء وكان له إلمام بعلم الإنسان إلى بيته المؤقت , انخرط الجميع في نقاشات طويلة عن أعمالهم .
قام بيتسن بأخذ ميد وفورتيون إلى أماكن عدة حتى استقرا عند مجموعة تدعى تشامبولي وهم شعب كان يعيش عند بحيرة إيمبوم , أثبت هذا المكان لميد أنه موقع مثالي , ووجدت ضالتها عند هذا الشعب , فقد وجدت الثقافة التي شكلت أدوار الذكر والأنثى في طرق مختلفة وما وجدته فيها بدا النقيض الكامل لأدوار الجنسين في مجتمعها . وكان مجتمع التشامبولي هو الوحيد الذي رأت فيه ميد الفتيات هنّ الأكثر تلهّفاً وفضولية ونضجاً فكرياً بدلاً من الفتية .

……. يتبع

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.