ليوتارد وفتجنشتين وقضية الترجمة – الجزء الأول

Translation

ليوتارد وفتجنشتين وقضية الترجمة

بقلم: آرام أ. يانغويان

ترجمة: هناء خليف غني*

الجزء الأول

لطالما قضت الترجمات والتوترات في عملية الترجمة مضاجع العاملين في الحقل الأنثروبولوجي – سواء بنسختهِ العلمية المعروفة أم بجانبهِ الإنساني- وأثارت تساؤلاتهم بشأن الطريقة الأمثل التي تكفل القيام بالترجمات الثقافية من دون تدمير الموضوعات نفسها التي يحاولون نقلها وترجمتها للآخرين. ومنذ أعمال فرانز بواس الترجمية فصاعداً، شهدت النظرية الأنثروبولوجية المعنية بالترجمة تطورات مفاهيمية قيمة كانت ثمرة لجهود العاملين في هذا الحقل في مجال دراسة المجتمعات والشعوب ومقارنتها، فضلاً عن جهودهم المبذولة للتعميم أو إرساء أسس الدراسة المنهجية للمجتمعات الإنسانية التي طالب بها الفرد ريجنالد راديكليف براون.

واللافت للانتباه عدم اهتمام العاملين في هذا الفرع المعرفي بمعاملة الترجمة الثقافية (وحتى الترجمة اللغوية) بوصفها قضية محورية. وبصرف النظر عن بعض مناحي التشابه، يختلف هذان النوعان من الترجمة أختلافاً بيناً في جملة من الجوانب . إذ تُنفذ الترجمات الثقافية عادةً على وفق اسلوبٍ معينٍ أما يُشدّد على الأختلافات القائمة أو يعمل بوصفهِ وسيلة يُقدم من خلالها الآخر بأساليب وتصورات مفهومة لدى الجمهور في المجتمعات الغربية. وعلى الرغم من كثرة استعمال المقولات والفئات الأنثروبولوجية التقليدية (امثال القرابة، والعائلة، والسلالة) بوصفها شروحات أضافية وتعليقات، تتميز الترجمة الثقافية بكونها أقل علمية والحاحاً لجهة متطلباتها من نظيرتها اللغوية. وفي هذا الجانب تحديداً، يلاحظ ان الترجمات اللغوية لا تكتفي بتوظيف لغة الباحث، بل تستعين بعلم اللسانيات الذي يعطي الجوانب المورفولوجية والنحوية والفونولوجية مقداراً أكبر من العناية؛ ولهذا، تكون التمايزات في ما بينها اكثر حدةً وصرامةً. وفضلاً عن ذلك، يُلاحظ أن ما يعنيه اللسانيون بعلم الدلالة بالكاد يجد ما يقابلهُ في الاستعمال الأنثروبولوجي. وليس ثمة حدٌ فاصلٌ واضحٌ بين الترجمتين الثقافية واللغوية، فالتداخل شديد بينهما. وعلى الرغم من ذلك، ثمة إطار أكثر شيوعاً حول كيفية القيام بعمليات الترجمة يمكن فرضهِ عن طريق الإستعانة بالمناهج اللسانية ووسائل الاستعلام والبحث الغائبة عموماً في مشاريع الترجمة الثقافية الأكثر غموضاً.

 

(1)

يخدم الجزء الأول من الفصل الحالي غرض تسليط الضوء على بعض الاشتغالات الفكرية التي، على الرغم من دورها في تطوير بعض أنواع الترجمة، تجاهلت بعض مضامين الترجمة المحتملة وآفاقها. ففي ظل زعامة فرانز بواس وطلابهِ من بعدهِ، مالت الأنثروبولوجيا التاريخية الأمريكية إلى تأكيد (الخصوصية) التي ترتبط أرتباطاً وثيقاً بنظريات النسبية. ويعتقد المؤمنون بالخصوصية الأمريكية بعدم إمكانية إجراء المقارنات والتعميمات بوصفها أهدافاً نهائية إلا بعد تحليل الخاص والمحلي وفهمهِ.

وقد أتخذ البواسيون (طلاب بواس وأتباعهِ) عدة مواقف متباينة حيال هذهِ القضايا. إذ تبنى كل من بواس ولاوي في (المجتمع البدائي) (1920)، ورادن (1923، 1933)، وحتى كروبر بطريقتهِ الخاصة، الموقف اللاإسماني(أ)، الذي رفضوا على وفقهِ مقولات التحليل، وأكدوا ان قوانين التطوريين ومؤسسي الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية (أمثال مالينوفسكي ورادكلف- براون) ومقارناتهم وتعميماتهم كانت “أشباه قوانين” فحسب بالنظر إلى الطريقة التي عُرفت بوساطتها الظواهر ونوقشت بمعزلٍ عن الوجود التجريبي. مثال على ذلك، بالإمكان قراءة فصول كتاب (المجتمع البدائي)(1920) الذي ألفهُ لاوي بوصفها هجوماً على وضع المسميات واستعمالها أمثال الاقتصاد، والسياسة، والقرابة، والتنظيم الاجتماعي. وهكذا، يخلق هذا الكتاب أنطباعاً لدى القارىء مفادهُ أن القرابة ونظام الحكم في المجتمعات المختلفة تضم سلسلة من المؤسسات والسلوكيات الشديدة التنوع التي لا تربطها سوى علاقة محدودة – أو لا علاقة على الأطلاق – بأي شيء خارجها.

والسبب في تسميتها بـ(القرابة) يعود ببساطة إلى تعريفنا للقرابة بوصفها فئة. غير ان التنوع الشديد الذي يتميز بهِ المضمون التجريبي لهذهِ الفئة يجعل التسمية نفسها تفقد معناها. ومما تجدر الإشارة إليه إتخاذ كروبر (1952: 175-181) موقفاً مختلفاً نسبياً عن الموقف اللاإسماني البواسي. إذ أقترح كروبر في 1909 فئات لتحليل القرابة أضحت في ما بعد فئات تحليلية وُظفت في عمليات التحليل المكوناتي في ستينيات القرن العشرين وسبعينياتهِ. وقد أصر كروبر، على وجه الخصوص، على تمثيل مفردات القرابة مفردات لغوية أكثر منها اجتماعية.

وقد مضى رادن (1923) في دراستهِ الاثنوغرافية لجماعة الونباغو (Winnebago) بعيداً حد إنكار الفئات والتعميمات جميعا. وإذا كان رادن يعمل بوصفهِ المدون المنفعل للقبيلة لجهة تدوينهِ مفاهيمها وتصوراتها الثقافية كما وصفها لهُ أفرادها، سينتهي بنا الأمر إلى قراءة كتابهِ المؤلف من خمسمائة صفحة من دون التوصل إلى نتائج حقيقية. وقد ترجم رادن، الذي كان موقفهِ النظري الوحيد تاريخياً في جوهرهِ، السيرة الاثنوغرافية لقبيلة الونباغو، مستعملاً أسلوباً بسيطاً هو عرض (الحقائق)- التي أخبرهُ عنها أفراد القبيلة- على القارىء كما هي من دون تغيير. وطبقاً لقرائتي لهذا النص الاثنوغرافي، توصلت إلى نتيجة مفادها ان نص رادن هو النص الأفضل والوحيد الذي نمتلكه عن بحث ما بعد حداثي تمكن من الافلات من قبضة الوصف ما بعد الحداثي المعاصر.

إن (المنهج والنظرية في علم السلالات) الذي ألفهُ رادن في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين (1933 تحديداً) لا يمثل هجوماً على الأنثروبولوجيا البريطانية فحسب، بل نقداً مدمراً لإصرار بواس، وكروبر، وبيندكت على ضرورة جعل التعميمات، وحتى المقارنات الضعيفة، والتصويرات الثقافية (عن طريق بيندكت) أحد أهداف علم الأنثروبولوجي ، حتى لو حظيّت بمكانة ثانوية فيهِ. وهناك من يعتقد ان التزام رادن الفكري والأخلاقي الشديد بالمحلانية، والخصوصية، والنسبية قد يشكّل مصدر إحراج لبواس وبعض مريديه. ومما تجدر الإشارة لهُ في هذا السياق التشابه بين أفكار رادن وزميلهُ لاوي فضلاً عن بعض من كتابات سابير غير اللغوية.

ويبدو موقف كروبر حيال الخصوصية والنسبية أكثر غموضاً. ففي كتاباتهِ التاريخية عن الحضارة الغربية المتضمنة في (أشكال النمو الثقافي)(1944) ودراساتهِ ومقالاتهِ الأخرى منذ ثلاثينيات القرن العشرين صعوداً، يُلاحظ انتقالهِ نحو شكلٍ من التعميم، والمقارنة، والتفسير بلغ ذروتهِ في كتابه (علم الأنثروبولوجي) (1948). في ثلاثينيات القرن العشرين، شنّ بواس هجوماً طال أغلبية هذهِ التطورات. وفعل رادن الشيء نفسه في كتاباتهِ التي وجه فيها انتقاداً لاذعاً للنتائج التي أسفرت عنها التطورات التي شهدها الحقل. وخلافاً لهما، يُلاحظ اعلان كروبر الحذر عن قبولهِ الفكرة الخاصة بالتعميم والنظرية المبسطة. في السياق نفسه، ناقش كروبر في كتابهِ (علم الأنثروبولوجي)(1948) ما يُعرف بـ(التقاليد) البالية أمثال الحمل الكاذب، وراجع النظريات التي قد تُسهم في تفسير هذهِ الممارسة. ويمثل نقد كروبر لهذهِ الممارسة، في واقع الأمر، هجوماً لاذعاً على فرضيات مالينوفسكي التي تحاول تفسير الحمل الكاذب والسلوكيات الغريبة الأخرى. وتحدث كروبر عن عدم جدية هذهِ التفسيرات، وحتى تفاهتها؛ وبينَّ ان أفضل ما يمكن القيام بهِ فيما يتصل ببعض الممارسات والتقاليد هو الاكتفاء بوصفها. وفي محاولة منهُ لدعم موقفهِ، أكد كروبر ضرورة الاهتمام بمسألة الانتهاكات المحتملة لطبيعة الموضوع [الأنثروبولوجي] الذي قد يُخضع إلى تفسيرات متعجلة تفتقر الجدية، وحذر في الوقت نفسهِ من الدور الذي قد تلعبه عملية التحليل في تحويل الظاهرة إلى شيء ما يفتقر الواقعية. وكان هناك عددٌ قليلٌ- ان وجدوا أصلاً- من الكتّاب السابقين والمعاصرين الذين أتخذوا موقفاً كهذا- ولم يحدث ذلك إلا في ذروة تأجج السجالات والمناكفات النظرية.

وفضلاً عن ذلك، لاحظت النصوص المنهجية ان ما ينقلهُ علم الأنثروبولوجي يتألف أساساً من جملة من الاختلافات ومناحي التشابه الاجتماعية- الثقافية المتضمنة في البيئة البشرية المتنوعة. وبينما أعتاد الامريكان تأكيد مناحي الاختلاف على حساب التشابه؛ عمل علماء الأنثروبولوجيا البريطانيون بالضد من ذلك . إذ يعتقد مالينوفسكي أنهُ ليس هناك سوى أختلافات سطحية في الثقافة غايتها تأكيد عالمية التركيبة البشرية البايولوجية فضلاُ عن جوهر الطبيعة الإنسانية. وأكد رادكليف- براون، من جانبهُ، على إمكانية ربط الاختلافات المجتمعية بعددٍ محدود من الأنواع  البنائية الاجتماعية و/أو الأنواع الثانوية. وتمثل موقف كروبر، ببساطة، في التشديد على ضرورة إخضاع سلطة عالم الأنثروبولوجي و(يده الزلقة الثقيلة) فيما يتصل بالتفسير والتأويل إلى المراجعة والتدقيق بالنظر إلى احتمالات انتهاكها الموضوع نفسه الذي تراجعهُ.

 

(2)

أثر التركيز على الخاص وتعزيز فكرة الاختلاف وترسيخها، التي شكلّت على الدوام جزءاً من تراثنا الفكري، تأثيراً واضحاً وجوهرياً في موقفنا من قضية الترجمة واهتمامنا بها. وبينما تُعدّ الترجمة أحدى القضايا المهمة (ان لم تكن مشكلة) في علم الأنثروبولوجي، بالإمكان إثراء النقاشات الخاصة بهذهِ القضية عن طريق البحث في الآليات التي وظفها كل من فتجنشتين وليوتارد للتعامل مع مشكلات الترجمة وفهمها. وعلى الرغم من الأختلاف النسبي في مقاربتهما لهذهِ المشكلات، أتخذ كلاهما من الخصوصية والنسبية نقطة انطلاق لهما في دراساتهما.

في كتابهِ القيم (دراسات فلسفية)(1958)، أوضحَ فتجنشتين أن ((الالتزام بالقاعدة))، التي تمثل احدى العلامات المميزة للتحليل النحوي، لا تبينّ سوى واحداً فحسب من جوانب اداء اللعبة اللغوية. وعلى وفق ذلك، لا يمكن سوى لشخصٍ واحدٍ فقط، ولمرةٍ واحدةٍ فحسب، الالتزام بقاعدة ما بالنظر إلى تغير السياق الذي تُلتزم بهِ هذهِ القاعدة. وهذهِ التغيرات تؤثر في تحديد ماهية القاعدة وفي كيفية التعبير عنها، والقواعد متضمنة في التقاليد التي تعني، بالنسبة لفتجنشتين، الاستعمالات والمؤسسات، وكذلك السياق الذي يبينّ كيفية توظيف هذهِ القواعد. وعلى شاكلة لاعب الشطرنج المتحمس، يعرف فتجنشتين قواعد هذهِ اللعبة معرفة تامة . بيد أنهُ لاحظ كذلك احتمال تشكيل الضرب بالأقدام والصراخ في اثناء اللعبة جزءاً من سياقها. والسؤال الذي ينبغي طرحه هو (هل تقصي قواعد لعبة الشطرنج هكذا سلوكيات أو تقاليد؟).

وإنطلاقاً من هذهِ الفرضية، يقول فتجنشتين (1958: فقرة 199) ان ((فهم جملة ما يعني فهم لغة. وفهم لغة ما يعني البراعة في استعمال تقنية ما)). وهذهِ التقنية تتجاوز نطاق القواعد في نفسها وتنطوي على سياق اللغة بأكملهِ، أو ما أسماه بيكر (1995) بـ(الاستعمال اللغوي). وهذا النوع من التحديد لن يكون مقتصراً قط على قاعدة وضُعت على نحوٍ خاص بما ان الجانب الخاص من اللغة سيتلاشى وهويتضمن عادةً فعل التفكير بالقاعدة بوصفهِ متشاكلاً مع الإلتزام بها. وعلى الرغم من موقف فتجنشتين السلبي نسبياً حيال خصخصة اللغة، يتمثل تحديه الرئيس في ما يتصل بمسألة استعمال اللغة في محاولتهِ معرفة الآلية التي تُسهم بها الذاكرة ورد فعل- الذاكرة في عملية الاستدعاء اللغوي. وعلى الرغم من استنتاج بعض الكتاب خطئاً تمثيل الجوانب المتعددة في أفكار فتجنشتين بشأن اللغة شكلاً من أشكال السلوكية، يبدو واضحاً أنه حينما ذكر فتجنشتين كلمة (ألم)، كان المقصود بها، أولاً وأخيراً، مفردة ذهنية غير قابلة للاختزال على الرغم من تعبيرها عن طيفٍ واسعٍ من المعلمات السلوكية.

وفي معرض مناقشته للغة وإمكانية الترجمة، أرتبط موقف فتجنشتين غالباً بالتعارض بين الفكرة والفكرة المضادة، أو طبقاً للفكر المعاصر، بالتعارض بين الواقعي والواقعي المضاد. وأعتقد، من جانبي، ان مجموعتيّ التعارضات كلتيهما متوازيتان. وقد أسهمت مضامين هذهِ التعارضات في تطوير تصورات فتجنشتين عن اللغة وألعابها. بيد ان الأهم، حسبما أعتقد هو ان فكرة الاختلاف قد أضحت المقياس لقبول المقولات التي نسميها بـ(الحقيقة). وطالما أصبحت الأختلافات النقطة الجوهرية أو النتيجة الأخيرة، التي لا يمكن قط تأملها بالكامل أو حتى التوصل إليها، يغدو من المستحيل، عملياً، القيام بأي شكل من أشكال الترجمة.

وفضلاً عن ذلك، يرى فتجنشتين ان مسألة الاختلاف والتحديد لا تمثل سوى وجه واحدٌ من أوجه الخصوصية، وينبغي التعامل معها بوصفها جوهر اللغة. وتمثل اللغة، من عهد فتجنشتين إلى أعمال بيكر الأخيرة، شكلاً من اشكال الحياة أو إطاراً يتضمن كل ما نعدّه قواعد نحوية. غير ان هذهِ القواعد في نفسها لا تعكس- ولن تعكس- جوهر العاب اللغة. إذ تخلق اللغة، بوصفها صورةً، مختلف المقولات والفرضيات التي نستعملها، ونذكرها، ونعبر عنها لأنفسنا خلال خبراتنا اللغوية. وهكذا، تعمل اللغة بوصفها منظماً للتجارب والخبرات فضلاً عن تأطير السياقات التي تؤثر في المتحدث وتستثير الذكريات التي يوظفها لتفسير التجربة. وبهذا الصدد، ذكر فتجنشتين (1958، فقرة 114)((هناك من يعتقد أنهُ يتعقب الخطوط الخارجية لما نسميه الطبيعة المرة تلو الأخرى ، غير أن جلَّ ما يفعله، في واقع الأمر، لا يتجاوز نطاق الدوران حول الإطار الذي ننظر من خلالهِ إلى هذهِ الطبيعة)).

وبالاستناد إلى مقاربة فتجنشتين، توصل بيكر (1995: 288) إلى استنتاج مفادهِ ان تحديدية اللغة هي تحديدية توجيهية في جوهرها (في مقابل القاموسية)؛ وبالتالي، تسهم اللغة، أو ما أسماه بيكر (أستعمال اللغة)، في توجيه المتحدثين وتعريفهم بالسياق، ثم تحديد آليات تأثير هذا السياق نفسه في المتحدثين. وفي مجال استعمال اللغات المختلفة أو اللغات التي لا ترتبط أرتباطاً وثيقاً فيما بينها، لا تتميز هذهِ المشكلات بالصعوبة فحسب، بل يعتقد البعض باستحالة التغلب عليها. ومما تجدر الإشارة إليهُ تشكل السياقات على نحوٍ مختلفٍ وجذري؛ وإستلزام عملية تشكّلها كل من استعادة الذاكرة وذكريات جديدة مصحوبة بنصوص سابقة أساسية قد يعجز اللامنتمي عن إتقانها أو حتى مقاربتها. وتستند مطالبة بيكر (1995) بالعودة إلى فقه اللغة، أو ما أصطلح على تسميتهِ بفقه اللغة الحديث، إلى مقاربة تقول ان المهمة الرئيسة التي ينبغي للنسخة الحديثة من علم فقه اللغة النهوض بها هي وصف هذهِ الأطر المختلفة وتفسيرها. وطبقاً لتحليل بيكر، تتضمن الأطر نطاقاً واسعاً من السياقات التي تضم العالم الطبيعي، والعوامل الاجتماعية، والنصوص السالفة، وعلاقة الأجزاء بالكل، وآليات تشكيل الصمت.

غير ان المشكلة الرئيسة التي تطرحها دراسات فتجنشتين وبيكر مازالت معنية بالإجابة عن السؤالين التاليين: ما الشيء الذي نترجمه؟ وفي حال معرفتنا هذا الشيء، هل يمكن إجراء أي من أشكال الترجمة بصورة مناسبة وكفوءة؟ والنتيجة التي توصلت إليها بعد قرائتي الدراستين هو صعوبة القيام بذلك. وأعتقد ان الترجمة تعني بالنسبة للأنثروبولوجيين كتابة (أو نقل) الصور الثقافية أو الصور اللغوية على شكل نصوص، ونصوص وأطر سالفة تسهم في خلق الفعل وتقديمهِ، أما بوصفهِ سلوكاً ثقافياً أو كلاماً. وينبغي فهم كل واحدة من هذهِ الصور واستيعابها بوصفها صوراً وقراءات غير قابلة للمقارنة أساساً، ويلاحظ في هذا السياق أمتداد جذور هذا الأرث عميقاً في الأنثروبولوجيا الثقافية، وتحديداً من زمن بيندكت إلى غيرتز.

ويمثل كتاب ليوتارد (المختلف: مقولات في النزاع)(1988) انتقالة أكثر حدةً وراديكالية صوب الخصوصية والأختلاف . وعلى الرغم من عنايته بالجوانب السياسية للمختلف ، كان ليوتارد مؤمناً ان الأختلاف والابتداع وحدهما لهما القدرة على الحد من الهيمنة السياسية المبنية على التجانس والنظرية العالميتين التي تكتسح وتقضي على كافة الأصوات المتجذرة في المحلي والخاص.

ومما تجدر الإشارة إليهِ التأثير الكبير الذي تمارسهُ الأجندة السياسية في اللغة وفي كافة إمكانات الترجمة كافة. وكان ليوتارد معنياً بالانتقال نحو (الشيء) الأصغر الذي يخلق الأختلاف ويحافظ عليهِ؛ وهذا الشيء هو العبارة. وتتلخص الفكرة بأكملها في عدم إمكانية أو ضرورة تفادي ذوبان المختلف في مختلف آخر. بمعنى ذوبان نظام عبارة أو شبه جملة في نظام عبارة آخر؛ أو ذوبان جانبيّ نظام العبارة كليهما في شيء ما آخر. وفي سلسلة الأمثلة التي أستشهد بها، طور ليوتارد الفكرة القائلة ان العبارة أو شبه الجملة هي وحدة التحليل الأصغر التي تتضمن السياق الذي تقع فيهِ اللغة أو تجمع خيوطهِ معاً. وقد أستقى ليوتارد العبارة من إحدى مقولات ستندال (كنْ بطلاً شعبياً مثل بونابرت) بوصفهِا دليلاً على القيمة الإرشادية لأسم بونابرت أو مقولتهِ. واستناداً إلى ذلك، ذكرَ ليوتارد (1988: 48) ان ((العبارة التي تضيف مثال حياتي على أسم رجل ما، والتي تحول ذلك الأسم إلى كلمة سر وشعار هي عبارة تنطوي على خزينٍ من الإرشادات والتعليمات والأخلاقيات فضلاً عن الاستراتيجيات. وهذا الأسم يُعدّ مثالاً ونموذجاً للمنطق العملي أو السياسي على وفق التحليل الكانطي)). وفي السياق نفسه، ذكر ليوتارد مؤكداً أن ((أنظمة مختلفة لا يمكن ترجمة احداها إلى الآخر تتحكم بالعبارات أو أشباه الجمل. وتفترض أي ترجمة من لغة إلى أخرى إمكانية إستعادة العبارة في اللغة المصدر عند ترجمتها إلى عبارة أخرى في اللغة الهدف. وتفترض الترجمات ان النظام [اللغوي] ونوعهِ المقابل يتميز بتماثلهِ مع لغة أخرى، أو بكلمات أخرى، ان مجموعة واحدة من الأنظمة / الأنواع في لغة (أ) لها ما يناظرها في لغة (ب). وفضلاً عن ذلك، تُعدّ الترجمات من لغة واحدة إلى اخرى أحد أنواع الترجمة؛ فهناك أشكال أخرى لا تُترجم من لغة (أ) إلى لغة (ب) وبالعكس؛ وهناك ما أطلق عليهِ ليوتارد (وثاقة الصلة بالموضوع [الهدف]) الذي يتميز بكونهِ مستعرضاً في عملية الترجمة. وهنا، ينظر ليوتارد إلى الترجمة بوصفها نظاماً ثلاثياً تتناغم فيهِ لغتان مع بعضهما بعضا عن طريق ميتا- ماوراء- بنية تعمل على توليد أو إنتاج تماثلات متشابهة. وهذا تحديداً ما فعلهُ اللغويون بإجراءات التعريب والتعليق والشرح التي حظيّت بقبول واسعٍ بوصفها منهجية عادية ومألوفة. وعلى الرغم من عدم مناقشتهِ مشكلات التعريب والشروحات، أختتم ليوتارد دراستهِ متسائلاً (كيف يمكن ترجمة العبارات أو أشباه الجمل التي تنتمي إلى أنظمة و/أو أنواع مختلفة (سواء ضمن اللغة نفسها أم فيما بين اللغات) من لغة إلى أخرى (1988: 49).

ويندر ان تمثل عملية إضافة الشروحات والتعليقات من لغة إلى اخرى فعلاً حيادياً. فكما لاحظ بيكر (1995)، تمثل ادعاءات العالمية المتحققة عن طريق الترجمة تعبيراً سياسياً تكون فيهِ لغة الطرف القوي والمهيمن هي المقياس أو المعيار الذي تتشكل بوساطتهِ خاصية العالمية. ويُرجح ان يساند ليوتارد هذا الموقف على الرغم من اعتقادهِ ان إجراء أي من أشكال الترجمة أمر مستحيل عملياً لجملة من الأسباب يعود احداها إلى ما يتميز بهِ نظام العبارة أو شبه الجملة من خصوصية عالية ضمن كل لغة. وفضلاً عن ذلك، يُلاحظ أن نظام العبارة لا يمثل متغيراً نوعياً بين اللغات فحسب، بل يتوجب على كل لغة، عبر تاريخها الطويل ان تعمل انطلاقاً من أنظمة مختلفة تتميز بكونها محددة على نحوٍ مؤقتٍ. وبناءً على ذلك، ليس بالإمكان وصف اللغات إلا ضمن سياقاتها التاريخية، تماماً مثلما وظف ستندال صورة بونابرت المجازية.

في كتابهِ (حكايات ما بعد حداثية) (1997)، تحدث ليوتارد عن الترجمة بوصفها مسألة ثقافية في جزء منها. بيد أنه بدا أكثر إنفتاحاً أمام إمكانية الترجمة في مقالتهِ المعنونة (تعليمات إلى الخدم)- التي أستند فيها إلى مقالة الكاتب البريطاني الساخر جونثان سوفت التي قدم فيها إرشادات بشأن كيفية الحديث مع الخدم- على الرغم من تماثل موقفهِ بشأن المعوقات التي تعترض عملية الترجمة مع موقفهِ السابق الذي أعلنه في 1988. وطبقاً لليوتارد، (تتميز فكرة ما بكونها قابلة للترجمة بالقدر نفسهِ الذي يكون فيهِ كلام المتحدث قابلاً للترجمة)، والسبب في ذلك يعود إلى كون اللغات جميعا، وفي ضوء تعريفها، قابلة للترجمة (1997: 153). غير ان المشكلة الرئيسة تبقى قائمة؛ وهذهِ المشكلة تكمن في عدم تمكننا من معرفة كيف يعيش الفرد/ المتحدث في اللغة أو الثقافة، وبالتالي لا يشعر هذا الفرد/ المتحدث بالراحة ابداً في [لغة أو ثقافة] أخرى على الرغم من قدرتنا على ان نقدرِّ مكونات لغة أو حتى أنظمة عباراتها استقرائياً(ت).

إن الترجمة المناسبة والكفوءة ، بالنسبة لليوتارد، لا تعني احترام ملكة التفكير فحسب، بل ينبغي لها تقريب “أساليب” هذا التفكير. ومرةً أخرى نعود إلى المشكلة التي تحدث عنها فتجنشتين، وأطلق عليها بيكر (استعمال اللغة). إذ أدرك ليوتارد إمكانية الترجمة؛ وكان محقاً في قولهِ ان الترجمة لا تمثل محض مهمة متواصلة لا نهاية لها. غير أنهُ بدا واثقاً في قولهِ ان كل ترجمة يتمخض عنها ترجمة اخرى. وحتى في حالة محاولة جهة ما القيام بعملية ترجمة في لغة ما (وهو أمر لم يكن ليوتارد يقبلهُ، كما صرح بذلك في كتابهِ المختلف)، يعتقد ليوتارد بعدم إمكانية تجاوز الذخيرة الثقافية المؤلفة من النصوص الحديثة إلى النصوص البعيدة زمنياً ومكانياً. وفي أفضل الحالات، لا يسع المرء سوى إلقاء نظرات خاطفة على الماضي والبعيد بوصفهِ جزءاً من هذا الشيء أو ذاك. وبالإمكان تلخيص ما يحدث بعد ذلك في أما ان تُفرض هذهِ الاجزاء على تفكيرنا، وأما أن نفرض نحن تفكيرنا عليها، مرةً أخرى عن طريق شرح وتفسير الخاص والمتفرد في تفكيرنا في جوانب الهيمنة السياسية الخاصة بهِ التي يميل تفكيرنا إلى تبنيها.

وفضلاً عن ذلك، يعي ليوتارد تماماً تأثير الضوضاء (وربما الصمت على الرغم من عدم مناقشتهِ هذا الموضوع على نحوٍ مباشرٍ) في التفكير. ويرى ليوتارد ان التفكير مرتبط بضوضاء اللغة أما عن طريق الخطاب وأما الكتابة التي تُعدّ شكلاً آخر من أشكال الخطاب. وليس بمقدور أحد مخاطبة تفكير شخص ما، وإنما الإصغاء إلى الضوضاء التي تنتج التفكير. وعلى الرغم من تحفظي على هذهِ الآراء، يحيلنا موقف ليوتارد هنا إلى تحذير فتجنشتين المتعلق بألعاب اللغة الخاصة. وتعمل الترجمة على جمع، وفي الوقت نفسهِ مبادلة التمثيل ومحو الذات. وفضلاً عن ذلك، تمثل الترجمة موقفاً يبرز فيهِ الأختلاف، ولا يمكن فيهِ سوى ملاحظة التناقضات لا حلها بالنظر إلى عدم وجود حلول مؤكدة في الترجمة. وعلى الرغم من ذلك ، مازالت الترجمة بين اللغات تتميز بكونها أكثر واقعية وعملية لجهة إمكانية تنفيذها مقارنةً بالترجمة بين أنظمة العبارة التي لا يمكن ترجمتها. وفي معرض الهجوم الذي شنه على النظرية الكبرى، أنتقتل ليوتارد في نقاشهِ من ميدان الخطاب إلى التسييق، والتحليل المواقفي، والالتزام الظاهراتي حيث تسود الصورة على الخطاب، وتتخذ من الإحالة اساساً لها وتتشكل في الاختلاف.

وبالعودة مرةً أخرى إلى اللغة، نتوصل إلى استنتاج مفادهُ أنهُ على شاكلة فتجنشتين، يشغل النمط النحوي للجملة في فلسفة ليوتارد موقعاً أساسياً، غير ان الجملة لا يمكن ان تستند إلى علم النحو في نفسه. إذ يمكن فهم المنطق النموذجي لكل جملة (أو عبارة) بوساطة الأنماط المنطقية المختلفة التي تؤثر في الجملة. وبينما يرى العديد من الكتاب في ليوتارد الصوت الأبرز والأكثر أهمية في حركة ما بعد الحداثة، دفعتني قرائتي لأعمالهِ إلى الاعتقاد ان توجهه ما بعد الحداثي لا يعدو كونهِ انجذاباً فكرياً وسياسياً للمواقفي والخاص. وتتضمن الأحداث والبيانات المواقفية والخاصة بالنسبة للعاملين في حقل الأنثروبولوجي جملة من الملاحظات التي نعتقد بعدم إمكانية مقارنتها. وعليهِ، تمثل الترجمة شكلاً من أشكال تنظيف المنازل الذي قد يكون متقناً وأنيقاً، غير ان الجمال الحقيقي لعملية التنظيف هذهِ بوصفها ترجمةً هو الإبقاء على بعض الفوضى واللانظام بوصفهما جزءاً من العملية.

 

….. يتبع الجزء الثاني

 

النص مقتطف من كتاب “ترجمة الثقافات: علم الأنثروبولوجيا والترجمة” ترجمة د. هناء خليف غني : أستاذة اللغة الإنجليزية بجامعة القادسية ومترجمة متخصصصة في الأنثروبولوجيا

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.