ليوتارد وفتجنشتين وقضية الترجمة – الجزء الثاني

vitenshtein

ليوتارد وفتجنشتين وقضية الترجمة

بقلم: آرام أ. يانغويان

ترجمة: هناء خليف غني*

الجزء الثاني

 

بصرف النظر عن الانتقادات والملاحظات التحذيرية التي طرحها كل من فتجنشتين، وليوتارد، وبيكر في ما يتصل بالترجمة، نعتقد بصعوبة التغلب على المشكلات التي تعترض سبيل الحصول على ترجمة ((كفوءة وتقريبية)). وبهذا الصدد، لاحظ بيكر (1995) تمثيل النحو عاملاً مقيداً لجهة ما يمكن وما لا يمكن قولهِ؛ وان كل أسلوب حياة خاص بالحديث يعج بالوقفات ولحظات الصمت التي يصعب ترجمتها. ولدعم قولهِ هذا، أستشهد بيكر بما قالهُ اورتيغاي غاسيت (Ortegay Gasset) (1957، 1959) عن وجود ((قانونين متناقضين ظاهرياً متضمنين في مجمل ما يُلفظ)). وبينما يفيد أحد القانونين ان (كل لفظ هو لفظ ناقص)) لجهة ان ما يقولهُ هو أقل مما يود قولهِ، يؤكد القانون الثاني المناقض لهُ ((ثراء اللفظ وانطوائهِ على معانٍ عدةٍ))- بمعنى أنهُ ينقل أموراً أكثر مما كان مخططاً لها، ويصرح بالعديد من الاشياء التي نود التكتم عليها. وهذهِ الوفرة في المضامين والمعاني أو النواقص التي يتضمنها اللفظ تسهم أما في التصريح بأكثر مما نعرفهُ أو أقل مما ننوي قولهِ.

في واقع الأمر، تواجه الترجمات جميعا هذهِ المشكلة. ولكن، في مقابل ذلك، بمقدور المعنيين بالترجمة تعلم الكثير عن أسسها الإجرائية. وفضلاً عن حضور الحالتين كلتيهما (النقص في المعاني والمضامين ووفرتها) في اللغة التي يستعملها المترجم، يلاحظ وجودهما كذلك في الميتا لغة (العناصر ما وراء اللغوية) المستعملة في عملية الترجمة، وعمليات التعريف وكتابة الشروحات والتعليقات الأضافية. وهذهِ ليست المشكلة الوحيدة التي يواجهها المترجم؛ الأهم منها هو تحديد مناحي النقص والوفرة: في لغة المترجم المحلية، فضلاً عن ملاحظة علاقة النص القريب أو البعيد، سواء أكان منطوقاً أم مكتوباً، بمعلَماتْ النقص والوفرة تلك. ومرةً أخرى ثمة سؤالٌ يطل برأسهِ لدى مقارنة لغة المترجم بلغة المتحدث البعيد هو (هل سيجد الباحث في اثناء مقارنتهِ بينهما مظاهر محددة تندرج في إحدى هاتين الفئتين؟)، فالترجمة ليست عملية حيادية، هذا أمرٌ مؤكد، ولكننا نتوقع ان جوانباً معينة من اللغة أو استعمالها تنطوي على أساس عبر ثقافي ينبثق منهُ عادةُ أحد جوانب الاستعمال اللغوي الذي يندرج في خانة إحدى الفئتين (النقص) في مقابل جانب آخر يندرج في الخانة الأخرى (الوفرة).

وفي حال عدّنا إلى أسلوب تفكيرنا العام بعلوم النحو التقليدية، يمكننا عندها إعادة صياغة المشكلة وتقديمها بأسلوبٍ آخر، إذ تتعامل أغلبية علوم النحو والصرف مع القواعد النحوية، بيد أنها لا تخبرنا كيفية قول الأشياء. وطبقاً لبولي (Pawley) (1991) يندر ان تعمل علوم النحو والصرف من النوع الذي اطلعنا عليهِ على وفق النمط الاصطلاحي المفيد لكل من الناطقين باللغة والمترجمين. ويؤكد بولي (1991: 434) وجهة النظر القائلة بتمثيل الترجمة ((فعلاُ يؤديه مستعملو اللغة بوساطة أفكار محددة تعبر عنها نصوص محددة)). وبالإمكان تعريف الوظيفة التي يؤديها المترجم بالقول أنهُ يأخذ الرسالة أو الفكرة التي عبرَ عنها شخصٌ ما في اللغة(أ) لينقلها إلى اللغة (ب) بطريقة تجعل الناطقين باللغة (ب) يفهمون مضمونها بسهولة. وأستناداً إلى عملهِ مع الناطقين بلغة الكالام (Kalam) الشائعة في مناطق المرتفعات الوسطى في بابوا غينيا الجديدة، لاحظ بولي ان مشكلة الترجمة الرئيسة المتمثلة في إيجاد مكافئات مناسبة بين الأنكليزية ولغة الكالام تسلط الضوء على أمر مهم هو احتمال إفتقار المتحدثين باللغتين إلى فئات وأسس مفاهيمية مشتركة فضلاً عن أختلافهما في اساليب تفكيرهما بالعالم من حولهم ورؤيتهم لهُ. ففي سبيل المثال لا الحصر، قد يجد المترجم صعوبة في العثور على مكافىء مناسب في اللغتين كلتيهما لمفردة “بسيطة” مثل (صيد، يصطاد)، وهذا يعني ان المتحدثين بهاتين اللغتين يعيشون في عوالم مفاهيمية مختلفة نسبياً (بولي 1991: 442). وهناك احتمال ان لا يتمكن المتحدثون باللغة الهدف (المستقبلة) من فهم المقولات والفئات التي يرسلها النص المصدر في حالة الترجمة الحرفية التي تحافظ على المخطط المفاهيمي للغة المصدر. وحاول بولي، متأثراً بما قام بهِ بولمر، تقديم ترجمة سائبة قد تخسر بعض من رصانة المعلومات على الرغم من نجاحها في نقل المعنى المتضمن في النص الأصلي. وعلى الرغم من مطالبتهِ الالتزام بالترجمة البراغماتية، مازالت تقنية تزويد النص الهدف بالشروحات والتعليقات تُعدّ من الجوانب المهمة في عملية الترجمة على الرغم من نجاح المترجمين في الحد من تأثير الانتقادات والقيود التي تجعل عملية إضافة الشروحات والمسَردات بالكلمات الصعبة مهمة مستحيلة. وعلى الرغم من الأختلاف الواضح بين معنى مفردة (صيد) في لغة الكالام ومعناها في اللغة الأنكليزية، يلاحظ إمكانية فهم المراد من الكلمة في لغة الكالام. وبهذا المعنى، تتضمن عملية الترجمة شرح مخطط اللغة المفاهيمي وتوضيحهِ حتى لو لم “يتوافق” هذا المخطط تماماً مع لغتنا. وإضافة الشروحات والمسرَداتْ من هذا النوع ستكون أسهل (وربما أكثر أمناً) بين اللغات المترابطة. غير ان إضافة الشروحات والمسرَداتْ بين اللغات المتباعدة شكلّت ومازالت تشكل مشكلة بالنسبة للعاملين في مجال الترجمة. وقد واجه بواس هذهِ المشكلة في عملهِ مع النصوص الكواكيوتيلية واللغة الأنكليزية، وبرزت المشكلة نفسها عند الانتقال من استعمال اللغة الالمانية إلى الآراندية (Aranda) ؛ مشكلة سنناقشها بالتفصيل في ما تبقى من مباحث الفصل. وإذا تمكنا من إيجاد موضوع يتوافق إلى حدٍ ما مع تطلعات المتحدثين بلغتين مختلفتين، سيكون من السهل وضع بعض نماذج التفكير والتمفصل شبه التقليدية بين هاتين اللغتين والناطقين بهما.

 

(4)

لأجل وضع منهج خاص بالترجمة الثقافية، أقترح التمييز بين الثقافة بوصفها حزمة كامنة من فئات التفكير والثقافة بوصفها وعياً. إذ يحيل النوع الأول من الثقافة إلى القدرة الذهنية على التصنيف والتجريد لا في تعاملات العقل مع الواقع في أي موقف محدد، بل في قدرتهِ الشاملة على التجريد، وعلى العمل في مواقف غير متضمنة في سياق ثقافي محدد. ويعني الوعي الثقافي ذلك الجزء من القدرة الذهنية الكاملة التي تتحقق أو تُدرك في ثقافة معينة أو بوساطتها. وتقع اشكال التفكير العالمية لا بصيغ فئات التفكير فحسب، بل بوصفها بُنى متقاطعة مؤلفة من الفئات. وفي الحالتين كلتيهما، يُشير العالمي إلى قدرة العقل وإمكاناتهِ الكامنة على التجريد، والتصور المفاهيمي، والتصنيف على وفق تشكيلات التفكير التي لا يُسهم محتواه- أي محتوى التفكير- في تحديدها. والأهم في حديثنا هذا الافتراض القائل ان حزمة التفكير العالمية هذهِ هي عملية ذهنية تتميز بها وتشترك  كافة الثقافات البشرية.

ويتطلب البحث عن العالميات (Universlas) تمايز تحليلي بين العالميات المتأصلة [الفطرية أو الناشئة بالسليقة] والعالميات التجريبية. ويُرجح أن تكون العالميات المتأصلة مُبرمجة وراثياً، وهناك من يعتقد بإنطوائها على خصائص محددة أمثال المظاهر الشكلية الدالة، كأن يكون الشيء مسطحاً، أو مدوراً، أو طويلاً، إلى آخره. وتتميز هذهِ العالميات بكونها مكافئة تقريبياً لعالميات تشومسكي أو فئات التفكير/الفئات البنائية بالمعنى الشتراوسي للكلمة (نسبة إلى كلود ليفي شتراوس). أما الكليات التجريبية فهي تلك الكليات التي تُكتسب بالتجربة، والأهم من هذا كونها (تجريبية) و(استقرائية). وعندما ذكر فرودور تيرنر (Freudor Turner)(1967: 88) ان الأحمر يرمز للدم، كان القصد تمثيل قولهِ هذا تعميماً استقرائياً كلياً من تجربة إنسانية عالمية.

وبالاستناد الى هذا الطيف الواسع من الأشكال المحتملة، يكتسب كل مجتمع محدد جزءاً من ثقافتهِ (قارن مع ليفي شتراوس 1963). ان ما يفصل ثقافة عن ثقافة أخرى، وما تؤكد عليهِ كل ثقافة، سواء بطريقة واعية أم غير واعية، هو مجموعة من الفئات أو البنى المتحققة. والثقافة مؤلفة من هذهِ الفئات، الفعلية منها والواعية، التي تزود مجتمع ما بأساليب الحياة والمعاني. ومما تجدر الإشارة لهُ وجود علاقات محددة بين التعارض القائم بين الفئات المتحققة والفئات غير الواعية والتمييز البواسي (نسبة إلى فرانز بواس) والشتراوسي بين البنى السطحية والبُنى العميقة. ولكني أود هنا طرح وجهة نظر عن ما ذهب إليهِ التعارض المبينّ اعلاه. إذ أعتقد ان الفئات المتحققة ليست بحاجة إلى أن تكون في المستوى غير الواعي على نحوٍ كلي، بالنظر إلى كونها لا تنشط إلا عندما يتسع الوعي، وتبرز فئات وتشكيلات مختلفة (وربما جديدة) لتفسير نموه. ولا يصل إلى المشاركين من هذهِ الفئات المتحققة سوى جزء صغير منها ولاسيما ما يدخل منها في عالم الوعي. وعلى الرغم من ان فئات ، وتصورات مفاهيمية، وتجريدات فضلاً عن سيرورات معينة لا يمكن وصفها لغوياً أو التعبير عنها في إطار لفظي ما ستكون غير واعية، فإن ذلك لا يعني عدم وجود عمليات عقلية كهذهِ. وفي واقع الأمر، يلاحظ ان قدرة العقل على الخلق والإبتداع تقع تحديداً في مناطق التفكير والأفكار تلك التي لا يمكن بسهولة نقلها عن طريق الخطاب اللفظي. وهذهِ النقطة مهمة للغاية بالنظر إلى اعتقادي ان عدد الأفكار والتصورات المفاهيمية الموجودة أكثر بكثير من الاشكال اللغوية أو الكلمات التي تعبر عنها.

وهذا الاعتقاد مشابه، في جوهرهِ، لما أصطلح الفيلسوف مايكل بولاني (Michael Polanyi) (1966) على تسميتهِ بـ(المعرفة الضمنية)، وهكذا يسهم وجود الاستعارة والبلاغة وتوظيفهما المتباين في الثقافات المختلفة في تسليط الضوء على القدرة البشرية الفريدة على خلق الأفكار ونقلها عن طريق التحكم باستعمال اللغة.

وعلى الرغم من كون بعض جوانب الثقافة غير واعية بالنسبة للأفراد، يتميز الجزء الاكبر من الثقافة بكونهِ واعياً وواضحاً للعيان في السلوك، والأحكام، والأنماط اللفظية المستعملة لتفسير معنى السلوك وسبب وجودهِ. فالتعبير عن الأحكام المتعلقة بالزواج، والسلوكيات الشعائرية، والأسطورية والرؤية الكونية تكون واعية للمشاركين الأفراد. وبالمثل، يُلاحظ امتلاك كل فرد، على أرض الواقع، الوعي اللازم بسياقهِ الثقافي، ولهذا، يتلخص ما نحتاج إليهِ في تحديد الآلية المناسبة التي يمكن بوساطتها إستثارة الوعي المعني بمناطق التفكير الأخرى التي تتميز بكونها أما لاواعية في العقل الباطن و/أو غير واعية.

ويتم مغايرة المجموعات العالمية لتصنيف التفكير وبُناه مع تمظهرات محددة تحدث بوصفها (ثقافة). والجانبان- المجموعات والتمظهرات- مختلفان للغاية بالنظر إلى التحريفات والتشوهات التي تعتريهما عبر سيرورتيّ التاريخ والتغيير. فالبُنى تتغير عبر الزمن، والتاريخ هو حلقة الوصل المؤثرة بين العالمي وثقافة ما. وتسهم السيرورات الـ drachronit تدريجياً في تعديل العالمي وتوجيههِ نحو مسارٍ معينٍ، ويلاحظ في العديد من الحالات، أن التعبير الصريح عن الأشكال الثقافية لا يمكن ربطه بظروف سالفة. وبرغم ذلك، ليس من المناسب الافتراض ان التاريخ والتغير قد دمرا وجود العالمي بالنظر إلى احتمال عدم ظهوره بوصفهِ مفهوماً في أي حالة، أو احتمال تعديل ظهورهِ هذا. وتستقر الثقافة في الفئات الفعلية والواعية، وهذا تحديداً هو المستوى الذي يعمل فيهِ التاريخ على التحكم بالبنية ، واحياناً، تشويهها.

ومما تجدر الإشارة له الدور الذي يضطلع بهِ الإستعلام الأنثروبولوجي في تحريف التمايز بين فئات الثقافة الضمنية وفئات ثقافة ما الواعية. وعموماً، يفترض علماء الأنثروبولوجي ان ما يعيه الناس موازٍ للذخيرة الكلية للمعارف الكامنة. ولا يسهم الإستعلام الأنثروبولوجي في إلغاء الوعي بالفئات الفعلية والكامنة وتحويلها إلى مستوىً واحدٍ من التحليل فحسب، بل أنهُ يسهم في تعقيد المشكلة عندما يعمد عالم الأنثروبولوجي إلى فرض وعيهِ أو نماذجهِ على الثقافة المبحوثة. وهذا النوع من النشاط لا ينتهك طبيعة الظواهر المبحوثة فحسب، بل يسهم، شيئاً فشيئاً، في جعل الإستعلام الأنثروبولوجي يبتعد عن دائرة المعارف الخاصة به. ويؤدي فرض وحي الباحث ونماذجهِ على وعي الناس [المبحوثين] إلى الحصول على استنتاجات ونظرية بعيدة كل البعد عن ما تتضمنه الثقافة أو عن الذخيرة الكامنة الكلية التي يستطيع العقل فهمها واستيعابها. ولهذا، لابد لنا، لتحقيق الأهداف التحليلية والنظرية، من التمييز بين كل شكل من أشكال الوعي، وهذا يعني ان الوعي لا يتعامل سوى مع جزء صغير من الأنظمة الثقافية، ويدرك، فضلاً عن ذلك، جزءاً من الذخيرة الكامنة الكلية. ولهذا، ليس بمقدورنا قط افتراض ان ما يقولهُ الناس أو يفعلونهُ يمثل كل ما يعرفونهُ ويدركونه.

وبمقدور العقل تصميم كافة أنواع الفئات والعلاقات وخلقها؛ وبإمكانهِ ان يجرد المفاهيم بطرائق لا يحصى عددها؛ غير ان اللغة لا تعبر سوى عن جزء صغير من تشكيلات التفكير الواسعة؛ تشكيلات لا يكون سوى جزء صغير منها (منطقياً) بالمعنى الذي تعرفهُ العلوم والإنسانويات الغربية. وهناك مثال يوضح هذا التنوع في الدراسة التي أجراها كل من آدمز وكونكلن (1973) لأنظمة التصنيف الرقمي في بعض اللغات الشائعة في جنوب شرق آسيا واللغات الاسترالية- الآسيوية الأخرى. إذ تستند أغلبية وسائط التصنيف، في عمليات تحليل المصنفات الرقمية على الشكل، والوظيفة، والحيوية [كونهِ حياً مفعم بالنشاط أو غير حي]. وهناك أكثر من صنف واحد للبشر في عملية التمييز بين البشري وغير البشري. إذ يُصنف البشر طبقاً للمرتبة الاجتماعية أو القرابة ولكن ليس طبقاً لكليهما ويحتل عامل العمر المرتبة الاولى بين عوامل التمييز في بعض اللغات، مثل الفيتنامية، يليه الوظيفة، ثم الجنس. وعلى وفق ذلك، تصنف المرأة على وفق الوظيفة التي تشغلها لا الجندر (كونها أنثى) . وبالطبع، لا يُصنف البشر في أغلبية اللغات على وفق عامل الجندر لوحدهِ. إذ يظهر معيار الجندر في كافة أنظمة التصنيف المبنية على القرابة، غير أنهُ يستخدم بوصفه عامل تمييز ثانوي فحسب في أوساط أفراد جيلٍ محددٍ. وعلى الرغم من اعتمادهِ في الأنظمة المستندة إلى المكانة (الاجتماعية وغيرها)، يلاحظ مرة أخرى احتلالهِ المرتبة الثانية أو الثالثة في سلسلة معايير التصنيف المعتمدة. وعلى الرغم من احتمال اعتماد العقل على الجندر فحسب في عملية التصنيف، لا ينبغي التسليم بحقيقة ان بعض اللغات الملاوية- البولينيزية لا تعبر عن هذا العامل بطريقة لفظية بوصفهِ مؤشراً على غياب القدرة الذهنية على التصنيف بالاستناد إلى الجندر.

واللافت للانتباه في عملية التصنيف الرقمي هو الاعتماد الكامل غالباً على المظاهر الصورية للشكل. وهناك عددٌ قليل من الاستعارات المبنية على الصوت، والشعور، أو حاسة التذوق، أو الشم. وتُعدَّ حاسة النظر من الحواس الملازمة لهذهِ الوظيفة اللغوية على حين تُهمل حاسة الشم. وبصرف النظر عن الناتج الذي تقدمهُ العيون أو حاسة الشم، تتميز قدرة العقل على التصنيف بأساليب عدة، غالبيتها غير لغوية، بسعتها وبلانهائية إمكاناتها. وهكذا، وبالعودة إلى فرضيتي الأصلية، أود التذكير ان قدرة العقل على التجريد، والتصور المفاهيمي، والتصنيف تتميز بكونها أكبر من اللغة، وبكونها سالفة على تبلور اللغة، والأهم من ذلك قدرة العقل على ان يكون أكثر شمولية واستيعاباً للتفكير في حين لا يُظهر سوى جزء صغير من إمكاناتهِ الكامنة في مستويات الخطاب السلوكية واللغوية.

وترتبط المسألة النقدية الثانية بمشكلة المنهجية. ففي تحليل الثقافة، يهتم العاملون الميدانيون على نحوٍ رئيسٍ بالعلاقة بين نماذجهم المفاهيمية والنماذج المعروفة والمقبولة لدى المجموعة المبحوثة. وبناءً على ذلك، يتوقع الباحث وجود البدنة [جماعة إنحدار قرابي]، والفئات العمرية، والمجتمعات المتجزئة في مناطق افريقيا الشرقية بالنظر إلى ملاحظة الروايات السابقة وجودها على حين تشيع المجتمعات القرابية في مناطق جنوب شرق أسيا الجزرية. وبالاستناد إلى هذهِ المعلومات والمعارف، يتمكن الباحث الميداني من وضع نماذج اثنوغرافية محددة تتوافق والصورة الأشمل. ويُسهم العمل الميداني في ثقافة معينة عادةً على تمدية المخطط المفاهيمي، وقد يضيف مقداراً أكبر من (المصداقية) على المعارف المتوفرة عن منطقة أو نمط ثقافي محدد. وهذا الشكل من البحث الأنثروبولوجي القياسي مناسبٌ تماماً؛ غير ان إستعلام كهذا لا يستثير الوعي في أوساط المشاركين الثقافيين.

وفضلاً عن ذلك، يوفر البحث عن القواعد نمطاً واحداً من أنماط بلوغ التنظيم الاثنوغرافي. بيد ان ذلك يحدث على حساب التبصر الحقيقي في بُنى تفسيرات المبحوث وسلوكياتهِ الملازمة، والأهم هو اعتماد القواعد  بوصفها نقطة انطلاق، وتحديد إلى أي حد يمكن التحكم بهذه القواعد  والتنظيم بطرائق مختلفة ومسارات متنوعة، وفي الوقت نفسهِ المحافظة على المعنى بالنسبة للمشاركين الثقافيين. ويستهل عالم اللغة عملهِ من الترتيب في علم النحو والصرف، ثم يعيد، تدريجياً، تعديل الترتيب والمعنى بطرائق مختلفة بهدف معرفة هل مازالت الملفوظات المختلفة تحتفظ بالمعنى نفسه بالنسبة للمشاركين. والنتيجة التي يُسفر عنها ذلك، والتي تقول ان الصلة التي تربط شخص ما بهذا التنوع والتحكم بالترتيب المسؤول عن نقل المعنى عن طريق ملفوظ محدد، هي أبعد من أن تكون (صحيحة). وعلى الرغم من سعة القدرة على فهم الكلام، ثمة نقطة ما يصل إليها المشارك في نهاية المطاف تقول ان هذا اللفظ أو ذاك يفتقر المعنى؛ وبكلمات أخرى، ان هذا اللفظ هو، ببساطة، لفظٌ خاطىءٌ، وان المشارك أو المشاركة لا يدركون المقصود بهِ. وفي هذهِ المرحلة تحديداً، بالإمكان القول ان قدرة المستشار على قبول الإمكانية التعبيرية قد بلغت الحد الأخير بالنظر إلى غياب المعنى بالنسبة للوعي المعني بشكلٍ محددٍ.

وينبغي لعلماء الأنثروبولوجي العاملين في حقل الترجمة الثقافية توجيه دراساتهم نحو فهم آليات إستثارة الوعي في المستوى الثقافي الضمني. وبالاستناد إلى الفئات الثقافية وشفرات الوعي، نستطيع أن نحدد الآلية التي يعتمدها الإخباريون في إدراك الأنماط أو القواعد، وبالمثل، وعن طريق التحكم الواعي بالقواعد، قد نتمكن من معرفة الطريقة التي يرتبط بوساطتها الإخباريون بالتنويعات والتعديلات من دون خسارتهم المعنى بالكامل. ولسوء الحظ، لم تتمكن الترجمات الأنثروبولوجية التقليدية من معالجة المشكلة المتعلقة بـ(كيف يتم إستثارة الوعي؟) إذ تميل محاولات كهذهِ في الترجمة الثقافية إلى التركيز على تحديد الآليات الأمثل لجعل الأشكال الثقافية المختلفة نوعياً قابلة للترجمة في أنظمة ثقافية أخرى لا تنطوي، في المستوى العام، على مناحي تشابه مشتركة. ومما تجدر الإشارة لهُ امكانية تعقب العمليات الذهنية، وملاحظة آليات أرتباط هذهِ العمليات بالأنشطة الاخرى، وتحديد المدى الذي تسمح بهِ قدرات الفرد الواعية بفهم الأشكال الثقافية الاخرى في منطقة استثارة الوعي هذهِ تحديداً. غير ان الإستعلام الاجتماعي التقليدي قد ركز على الاتجاه المعاكس. وعلى الرغم من الموقع المحوري الذي تشغله القواعد والأحكام، فإن قبولنا هذا القول يضعنا في مواجهة معضلة التعامل مع الأختلافات الثقافية من جانب، ومن جانبٍ آخر مناحي التشابه البنائية. وتمثل البُنى التي تُسفر عنها عمليات الإستعلام هذه نتاجاً لمرجعية الباحث الأنثروبولوجي. وتُسهم ترجمة الثقافة عن طريق استثارة الوعي في الحد من تأثير تفسيرات الباحث بالنظر إلى تمثيل الناتج النهائي لعملية الترجمة تمريناً ذهنياً يُنفذ في عقول المشاركين الثقافيين، لا على وفق تفسيرات الباحث الأنثروبولوجي حصراً (ينغويان 1978، 1979). وفي هذا السيناريو، يشارك المستَشير [المبحوث] بهمة ونشاط في إنتاج الترجمة الثقافية.

ويضطلع هذا التمييز بين مجالات المعرفة المختلفة، أما بوصفها فئات وعي وأما بوصفها ذخيرة التفكير الكامنة، بدورٍ محوري في تطوير العلاقة بين العالمي والخاص. فعلى حين يمثل العالمي مفهوماً، يحتمل خلو بعض حالات التحليل الثقافي من تمظهرات العالمي الخاصة. وهذا يقودنا إلى الحديث عن ما يُعرف بـ(الإدراج أو التبطين)(Embededness) حيث يندرج حضور مظهرٍ ما تحت فئة أخرى أو مجموعة من المظاهر. ويُعد كينيث هيل (Kenneth Hale) (1975)، الذي برهن ببراعة على عالمية عملية العد على الرغم من عدم وجودها في أوساط جماعة الوالبيري (Walbiri) بوصفها جزءاً من السياق الثقافي، أول من ناقش قضية التمييز هذهِ. غير ان دخول النقود فضلاً عن نظام العد الأنكليزي حيز التداول في المنطقة التي تقيم فيها الجماعة، قد جعل فكرة العد وممارستها سهلة للغاية. ويرجح ان لأنواع الفجوات الموجودة في لغات وعلوم نحو وصرف معينة لها ما يقابلها في (الثقافات)، ومن غير المناسب أو المنطقي الزعم ان وجود الفجوات في أنظمة ثقافية معينة يُعدّ دليلاً على عدم وجود العالمي. وفي حالة الفئات الكمونية بوصفها حزمة عالمية من المفاهيم أو الأشكال ، يأخذ تمظهر الوعي الخاص أشكالاً عدة؛ إذ يلاحظ غياب هذا التمظهر في بعض الحالات على حين تتعرض تمظهرات/ ملامح عالمية محددة في بعض الفقرات إلى التشويه أو يتم تبطينها في أشكال أخرى، وبالتالي التعتيم على وجودها. وتتميز مشكلة إدراج أو تبطين شكل أو مفهومٍ واحدٍ في شكلٍ أو مفهومٍ آخر بأهميتها وأنتشارها على نطاقٍ واسعٍ؛ ولهذا، ينبغي للأنثروبولوجيين واللغويين إيجاد وسائل مناسبة لتحليل آلية عمل هذهِ الفعالية. وبينما يعي اللغويون أهمية الإدراج ومضامينهِ في مجال فهم الكليات، يتلخص الموقف الذي أتخذه الأنثروبولوجيون في أنهُ إذا لم يكن الشكل الثقافي ظاهراً، فإنهُ غير موجود، هذا بخلاف الموقف الذي يفترض وجود الكلي بوصفهِ مفهوماً، ويحاول معرفة الطريقة التي تعمل بها خاصية الإدراج أو التبطين ودورها في التعتيم على المظاهر أو تعديلها.

 

 

….. يتبع الجزء الثالث

 

* النص مقتطف من كتاب “ترجمة الثقافات: علم الأنثروبولوجيا والترجمة” ترجمة د. هناء خليف غني : أستاذة اللغة الإنجليزية بجامعة القادسية ومترجمة متخصصصة في الأنثروبولوجيا

 

 

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.