كتاب مقالات في الفردانية

مقالات في الفردانية
منظور أنثروبولوجي للأيدويولوجية الحديثة

لتحميل الكتاب اضغط على الصورة

عنوان الكتاب: مقالات في الفردانيّة/منظور أنثروبولوجي للأيديولوجيا الحديثة.
المؤلف: لويس دومون.

المترجم: د. بدر الدين عردوكي.

الناشر: المنظمة العربية للترجمة.

توزيع: مركز دراسات الوحدة العربية.

تاريخ النشر: 2006

عدد الصفحات: 390صفحة.

الحجم:  8,5 ميجا
أين الفرد العربي؟ سؤال يضع يده على عمق مشكلة العالم العربي اليوم. غياب الفرد وذوبانه في القوالب المحيطة به. مما يؤدي إلى خسارته كفرد يمكن أن يقدم للجماعة، إن تحققت فرديته، الشيء الكثير. ولكن ماذا تعني الفردية؟ أو بصيغة أعمق ما لفرد ؟. إذا كان كاتّانيو Cattaneo، كما في موسوعة لالاند ص 657، يرى أن “الفرد من الناحية الفيزيزلوجية هو كل كائن يعيش بذاته ويتسم بمثل هذا التمركز والتناسق الوظائفي بحيث لا يمكن تقسيمه دون تحطيمه”. فهل يمكننا القول إن الفرد، بشمولية، نفسيا واجتماعيا وسياسيا، هو كل كائن إنساني يتحقق وجوده بذاته المفردة دون شرط ارتباطه بشيء آخر. بمعنى أن يتحقق وجوده من ذاته فقط. نلاحظ هنا أننا بدأنا نتقابل مع الجماعة. ولذا فالفردانيّة كما يعرفها مؤلف كتابنا اليوم لويس دومون هي “الأيديولوجية التي تفضل الفرد و تهمل أو تخضع الكلية الاجتماعية”. الفردانية بهذا التعرف تقابل الجماعية، أو الفيضية كما يفضل المترجم، التي هي “الأيديولوجية التي تبرز الكلية الاجتماعية وتهمل أو تخضع الفرد الإنساني”.

مصطلح الأيديولوجيا هنا يثير الكثير من اللبس بسبب ما يحمله، كما هو متداول بكثرة اليوم، من دلالة على النسق الفكري المنغلق على ذاته الذي يهدف قبل أي شيء إلى الحفاظ على وجوده مهما أدى ذلك إلى تزييف الوعي أو التحايل المعرفي وغيرها. إذن وصف الفردانية بكونها أيديولوجيا، هكذا بشكل عام، يحتاج إلى تدقيق. ولن نبحث كثيرا حتى نعثر على ما يعني لويس دومون بالأيديولوجيا. يقول ص 22: “أسمي أيديولوجية نسق أفكار وقيم متبعا في وسط اجتماعي معطى. وأسمي أيديولوجية حديثة نسق الأفكار والقيم المميز للمجتمعات الحديثة”. هنا تبرز خلفية لويس دومون ( 1911- 1998) كعالم اجتماع وانثروبولوجي. فهو منشغل بنسق القيم واشتغاله في مجتمع ما بغض النظر عن مدى منطقية هذا النسق أو إخلاصه لمفهوم “الحق” و “العدل”.

دومون عالم أنثروبولوجي شهير قضى وقتا طويلا في دراسة انثروبولوجية في الهند ثم بدأ في إجراء مقارنات عميقة مع الأيديولوجيات “الأنساق الفكرية” السائدة في المجتمعات الحديثة، المجتمعات الفردانية. كما أنه وبعدة اجتماعية و انثروبولوجية يقدم، وهذا إسهام مهم جدا، طريقا سارت فيه فكرة الفردية منذ القدم حتى اليوم في الحضارة الغربية على وجه التحديد مع وجود خط مقارنة باستمرار. يقول “لقد أرجعنا أصل (النزعة الفردانية) إلى القديم نسبيا حسب الفكرة، ولا شك، التي كنّا نكونها لأنفسنا عنها والتعريف الذي كنّا نعطيه لها. ويتوجب علينا، لو أمعنا النظر في ذلك جيدا، أن نتمكن ضمن منظور تاريخي أن نظهر إلى النور تكوين الوضع موضوع الحديث في تمفصلاته الرئيسة”.

الكتاب

البدايات المسيحية للفردانية:

متى ظهرت الفردانية؟ يستعرض دومون في مدخل هذا الفصل جملة من الآراء التي تحاول أن تجيب على هذا التساؤل. تبدو الفردانية الحديثة عند البعض على أنها ظاهرة استثنائية في تاريخ الحضارات. ولكن من أين أتت أصول هذه الفردانية؟ هل كانت أصولها في كل مكان ولكن تفعيلها تحقق في العصر الحديث فقط أم أنها ظهرت في عصر النهضة كما يرى البعض أو مع صعود البرجوازية في نظر البعض الآخر. أم أن جذور هذه الأفكار الفردانية موجودة التراث الكلاسيكي واليهودي المسيحي. أيضا البعض يرى أن لحظة اليونان المدهشة هي البداية بالمعنى الحقيقي للكلمة. يرى دومون أن العبارة الأخيرة لها نصيب من الحقيقة ولكنه يراها شديدة الضيق ولذا يطالب بتعديلها. كيف؟ يرى أن علم الاجتماع يمكن أن يميل في هذه المجال إلى تفضيل الدين بدلا من الفلسفة، بدعوى أن الدين يؤثر في المجتمع برمته ولأنه على علاقة وثيقة بالفعل. متفقا هنا مع ماكس فيبر.

دعونا الآن نستمع لأطروحة لويس دومون كما يصيغها بشكل مكثّف، يقول : “هاهي أطروحتي بمفردات تقريبية: شيء من الفردانية الحديثة حاضر لدى أوائل المسيحيين وفي العالم المحيط بهم، لكنها ليست الفردانية المألوفة لنا تماما. الواقع أن الشكل القديم والجديد مفصولان بتحوّل هو من الجذرية والتعقيد بحيث أنه توجّب ما لا يقل عن سبعة عشر قرنا من التاريخ المسيحي لإكماله، بل ربما لا يزال يستمر في الاكتمال في أيامنا هذه. كان الدين الخميرة الأساسية أولا في تعلم الصيغة، ثم في تطورها. إن أصل الفردانية الحديثة، ضمن حدودنا التاريخية، مزدوج إن جاز القول: أصل أو بلوغ نوع ما، وتحوّل بطيء إلى نوع آخر . يتوجب علي ضمن حدود هذه المقالة، يعني الفصل الأول من هذا الكتاب، أن أكتفي بتمييز الأصل وطبع عدد من مراحل التحول الأولى”.

قلنا أن دومون قضى وقتا طويلا في دراسات أنثروبولوجية لمجتمعات مختلفة، أبرزها دراسته عن الهند، ولذا فهو مقتنع جدا بمبدأ المقارنة التي هي قادرة على “وعي ما هو بديهي” أي الأساس المألوف والضمني لخطابنا العادي. يحدد دومون مصطلحاته، فالفردانية سمة المجتمع الذي يكون الفرد فيه هو القيمة العليا. أما الفيضية فهي سمة المجتمعات التي توجد فيها القيمة بوصفها كلا. لا يبدو أن هناك خلافاً على أن السمة الفيضية للمجتمعات هي السمة الأولى ولذا يبدو السؤال لدى دومون “في معرفة كيف أمكن، اعتبارا من نمط عام من المجتمعات الفيضية أن يتطور نمط جديد يناقض بصورة أساسية المفهوم المشترك. كيف لهذا الانتقال أن يكون ممكنا، وكيف يسعنا أن نتصور انتقالا بين هذين العالمين المتناقضين، بين هاتين الأيديولوجيتين المتنافرتين ؟”.

نعود للهند حيث من المعلوم أن المجتمع يفرض على كل واحد ارتباطا وثيقا بالجماعة. إلا من يختار طريق الزهد، فهو يتحرر من قيود المجتمع. يشبه فكر الزاهد الهندي فكر الفرد الحديث فهو يكفي نفسه بنفسه ولا ينشغل إلا بنفسه. إلا أن الفرق الجوهري هو أنه يعد، كما يسميه دومون “فردا خارج العالم” فيما الفرد الحديث “فرد داخل العالم”. الأول منقطع عن العالم والثاني منغمس فيه.

يطرح دومون فرضيته التالية: “إذا توجب على الفردانية أن تظهر في مجتمع من نمط تقليدي، فيضي، فسيكون ظهورها في تعارض مع المجتمع وكضرب من إضافة بالنسبة إليه، أي في شكل الفرد خارج العالم”. سيحاول دومون أن يثبت أن هذا هو ما جرى في الغرب و بالتحديد في المسيحية. يجد دومون أن المسيحية ومنذ البداية أسست لمفهوم الفرد خارج العالم انطلاقا من مبدأ “الإنسان هو فرد في علاقة مع الله” كما في تعاليم المسيح.

قبل المسيحية ومع الفلسفة الإغريقية كانت الفردانية قد تحصلت على دفعة قوية للأمام كذلك على المستوى السياسي، كان التغير الذي أحدثته ولادة إمبراطورية الإسكندر الأكبر العمومية التي استثارت علاقات مكثفة على مدى اتساعها. إذن، عودة للمسيحية في البداية، كان أوائل المسيحيين أقرب إلى الزاهد الهندي. يرى دومون أن آباء المسيحية الأوائل دخلوا إلى العالم عن طريق ما يسميه ترولتش قانون الطبيعة المطلق الذي يحكم العالم وما على الفرد إلا أن يضبط إرادته. طبعا قانون الطبيعة هذا أو قانون الله بدأ يؤخذ بالحسبان ويسترعي الانتباه فهو يستحق الاحترام من هنا بدأ الدخول في العالم الواقعي عن طريق احترام قانونه السائد.

مع أوغسطين أدخلت الكنيسة كلها إلى الوجود في العالم من خلال إخضاع الدولة لها، يقول دومون “أعتقد أن بوسعنا أن نستبين في التفاصيل لدى أوغسطين تقدما ثاقبا للفردانية. الدولة هي مجموع من البشر المتحدين بالاتفاق على القيم والفائدة المشتركة… في مقطع يستشهد به أوغسطين في أول إحالة يقوم بها على المسألة في مدينة الله، وئام الكثرة في الدولة هو وئام مختلف نظم الناس، أعلى وأدنى ومتوسط، وهو يقارن بانسجام مختلف الأصوات في الموسيقى، لكن أوغسطين لا يحتفظ بهذه الإحالة على مجموع، ولدينا الانطباع أن الدولة بالنسبة إليه مؤلفة من أفراد، في حين أن الكنيسة وحدها يمكن أن تكون منظّمة”.

خطوة أخرى للأمام حدثت مع كالفن (1509-1564) فيما يسميها دومون ثورة كالفن، فمع هذه الثورة تنتهي الثنائية المرتبية التي ميزت حقل هذه الدراسة: فالعنصر الدنيوي المضاد الذي كان على الفردانية حتى ذلك الحين أن تفرد له مكانا يتلاشى كليا في ثيوقراطية كالفن. لقد توحد المجال بصورة مطلقة. والفرد هو الآن في العالم، والقيمة الفردانية تسود بلا قيود ولا حدود.

لحظة توما الأكويني:

مع توما الأكويني اجتمع الوحي المسيحي بالفلسفة الأرسطية وعلى الرغم من وثاقة العلاقة بينهما إلا أن دومون يميز العنصرين كالتالي: أن كل فرد على صعيد الدين والإيمان والنعمة هو كلّ حي، وفرد خاص في علاقة مباشرة مع خالقه ونموذجه. هذا هو العنصر الأول المستمد من الدين المسيحي أما العنصر الثاني المستمد من الفلسفة الأرسطية: على صعيد المؤسسات الأرضية فن الفرد، عضو طائفة، وجزء من الجسم الاجتماعي. من هنا تبدو الطائفة أو الجماعة الأرضية مشرعنة بمساعدة أرسطو، بوصفها قيمة ثانية كمؤسسة عقلانية، بالتناقض مع المذهب السابق الذي لم يكن يقبلها إلا بوصفها دواء صار ضروريا بفعل الخطيئة الأصلية. هنا أصبحت الدنيا معقلنة و مرغوبة لذتها.

نظرية الحق الطبيعي:

شهد القرن الخامس والسادس عشر صراع بين الملوك والباباوات مما مهد إلى نظرية سياسية تشرّع للإنسان انطلاقا من كونه إنسانا بغض النظر عن ديانته ومن هنا فهو يستحق جملة من الحقوق بوصفه إنسانا لا أكثر، أي استنادا لطبيعته الإنسانية فقط. هنا بالتأكيد سحب لبساط المشروعية من تحت أقدام رجال الكنيسة.

من هنا جاء الشعور بضرورة صياغة عقد جديد يبنى عليه المجتمع ويضع خطوطا واضحة للحقوق والواجبات. وطرحت أفكار المساواة والحرية في إطار سياسي لا ديني يقول دومون “لقد بسط المطلب المساواتي من الدين إلى السياسة في ما يمكننا أن نسميه بالثورة الإنجليزية ( 1640- 1660). هنا يرد مباشرة دور الفيلسوف الإنجليزي جون لوك ( 1632- 1704) الذي يفلت، كما يذكر مؤلفنا، من مشكلة الخضوع السياسي، ويحافظ على مجتمع من الأفراد المتساوين الذين يحكمون أنفسهم بالقبول المتبادل. وينقل لوك الملكية الفردية إلى حالة الطبيعة.

مع هوبز، الفيلسوف والمفكر السياسي الإنجليزي ( 1588- 1679). حدثت قطيعة كلية مع الدين والفلسفة التقليدية كما برزت نظرة آلية للحيوان البشري تقود إلى البرهنة القوية على ضرورة السيادة والخضوع. وفي مقارنة يجريها المؤلف بين هوبز وروسو يقول: “من وجهة نظر شكلية تقع سياسة روسو على النقيض من سياسة هوبز. فنظرية هوبز نظرية تمثيلية، استبدادية، وتلح على الخضوع. أما نظرية روسو فهي جماعية، ونوموقراطية (حكم القانون)، وتلح على الحرية. هذا الاختلاف الجلي لا ينبغي له مع ذلك أن يخفي تشابها أكثر عمقا يرى في نسيج النظريتين نفسه، فكلتاهما تطرح انقطاعا بين إنسان الطبيعة والإنسان السياسي، بحيث إن “العقد الاجتماعي” يسجل بالنسبة إليهما الولادة الحقيقية للإنسانية الحقة (ومن هنا التشابه الكثير في التفاصيل). وكلتاهما تنطلق من أوليات شديدة “الفردانية” في الظاهر، على وفاق مع مفاهيم البيئة المعاصرة، وتقود بمنطق صارم إلى نتائج “معادية للفردانية” (طبعا من منظورنا اليوم). كلتاهما مهمومة إلى أقصى حد بتأمين تفوّق الملك، هنا الحاكم، وهناك “الإرادة العامة”، بالعلاقة مع الرعايا، مع الإشارة إلى هويّة الملك والرعية. وبالإجمال: كلتاهما تريد صهر الناس الذين يعتبرون أنفسهم بوصفهم أفرادا في الجسم الاجتماعي أو السياسي. وهذا هو السبب في أن هاتين النظريتين تشتركان في سمة قصوى وغريبة. مثلما يمكن قول الشيء نفسه، على وجه التقريب، عن نظرية الدولة لهيجل، ها نحن في الفكر السياسي، في مواجهة استمرارية مذهلة جديرة بالانتباه.

كان روسو خطوة مهمة في الطريق للفردانية. الطريق الذي تعتبر الثورة الفرنسية إحدى أهم محطاته. كان إعلان حقوق الإنسان 1789الأول الذي اعتبر بوصفه أساس دستور أمة عظمى، فرض على ملك صامت بفعل المظاهرة الشعبية واقترح كمثل على أوروبا وكل العالم. ويمتد أثره مذ إعلانه إلى يومنا هذا.

@ ذهبت الفردية ضحية في فترات تاريخية لاحقة لأنظمة شمولية في أوروبا. كيف نفهم ذلك؟ يعرض دومون، في الكتاب ،نموذج ألمانيا الهتلرية لفهم ما حدث.