كتاب أنثروبولوجيا الجسد والحداثة

لتحميل الكتاب أنقر فوق صورة الغلاف أو أنقر هنا

إذا واجهت مشكلة في تحميل الكتاب أنقر هنا

 

الكتاب: أنثروبولوجيا الجسد والحداثة

المؤلفدافيد لوبروتون

المترجممحمد عرب صاصيلا

الناشر: المؤسسة الجامعية – بيروت

عام النشر :1997

عدد الصفحات: 256

عرض: محمود أمين العالم

هذا الكتاب هو امتداد للقضية التي طرحتها ثورات الطلبة عام 1968 ضد السلطة وبيروقراطيتها. ومازالت القضية قائمة حتى بعد سقوط الأنظمة الشمولية لأنها تفضح أساليب قمع السلطة ضد الجسد الإنساني بمختلف الوسائل .

إن الإنثروبولوجيا أو علم ” الاناسة ” كما يقال يكاد يستوعب اليوم دراسة كل ما يتعلق بالإنسان فكرا وأدبا وفنا واجتماعا واقتصادا وسياسة… يكاد يكون هو علم علوم الإنسان. ولعل دراسة الجسد الإنساني أصبحت من أبرز دراساته. فوجود الإنسان كما يقول لوبروتون مؤلف الكتاب هو وجود جسد، والجسد موجود في قلب العمل الفردي والاجتماعي وهو ليس مجرد بنية مادية، بل هو قلب الرمزية الاجتماعية. وهذا الكتاب في جوهره يعبر عن انتقال الموقف من الجسد تاريخيا واجتماعيا من المجتمعات البدائية والتقليدية التي لم تكن تميز بين الجسد والشخص ، إلى المجتمع الحديث الذي أصبح يقيم ثنائية بينهما. بل يذهب لوبروتون إلى القول بأن الجسد أصبح يمثل ثلاثة انقطاعات هي:

– انقطاع بين الشخص والآخرين.

– انقطاع بين الشخص والكون.

– انقطاع بينه وبين نفسه.

ويفسر لوبروتون هذا الانقطاع بصعود الفردية وبروزها ابتداء من عصر النهضة كبنية اجتماعية وسيادة فكر عقلاني وضعي وعلماني حول الطبيعة، وتراجع تدريجي عن التقاليد الشعبية . لقد أصبح الجسد على حد تعبيره نوعا من “الأنا الآخر” أصبح مجرد مكان أو صفة مكانية تتركز فيه الرفاهية والشهوة والمخاطرة .

ويكشف بروز هذه القطيعة بين الإنسان والجسد في مجال الطب خاصة . فالطب لم يعد يعالج المريض كإنسان، كابن وكأخ أو والد أو صديق أو مجرد إنسان وإنما أصبح يعالج الآلة البشرية أي الجسد كمجرد جسد. برزت هذه القطيعة بين الإنسان والجسد مع بروز الفردية كما يقول وخاصة في مستوى الثقافة العالمة. وذلك على خلاف الوضع في القبائل القديمة التي كان الجسد فيها يستعير خصائصه من البيئة التي يعيش فيها سواء كانت بيئة نباتية أو حيوانية. وكان الإنسان وجسده والبيئة المحيطة يشكلون وحدة واحدة حميمة.

وهذا هو الشأن في المجتمعات التقليدية السابقة على المجتمعات الحديثة عامة، كانت هناك علاقة بين الإنسان وجماعته والعالم ولا سبيل للتمييز بينها.

كانت المسيحية في البداية مثلا ترفض رسم الوجه وتصدر فتاوى أحيانا في ذلك مثلما فعل مجمع نور الديني من منعه الأطباء الرهبان من إرساله الدماء في إجراء العمليات الجراحية.

ولقد ضاعف الانعتاق من الشأن الديني إلى بروز المسئولية الشخصية والفردية فضلا عن الديمقراطية ومع بروز الثنائية والديمقراطية برزت أهمية العين، وأهمية ” النظرة” على حساب الحواس الأخرى اللمسية والشمية والسمعية والذوقية .

وبين القرنين 17 و 18 ولد إنسان الحداثة، وأصبح الجسد مقطوعا عن الكون، وعن الآخرين وعن نفسه، بل أصبح مقرونا بالملكية لا بالكينونة.

– لم يعد جزءا من كينونة الإنسان، بل أصبح ملكا له.

– وتم بهذا الانشقاق بين الثقافة العالمية والثقافة الشعبية.

– ولعل ديكارت – كما يقول المؤلف – هو أبرز من عبر عن هذه الثنائية في تمييزه بين الفكر والمادة اللذين يلتقيان في الغدة الصنوبرية.

– فالفكر عند ديكارت مستقل ، منفصل وهو يتأسس على الله.

– أما الجسد فهو حالة ممتدة (الحيوانات، مثلا عنده مجرد آلات بلا روح وفي بعض عباراته يقول إنها تتحرك كأنما لها روح أو نفس) .

– أصبح الجسد غريبا عن الإنسان، ونزعت عنه – أصبح الجسد غريبا عن الإنسان ، ونزعت عنه قدسيته أو أصبح حقيقة مستقلة.

– أصبح الجسد الآلة النموذج الميكانيكي للعالم بل أصبح الجسد على حد تعبير المؤلف زائدة حية للآلة.. (أي امتدادا حيا للآلة)( لعلنا نذكر شارلي شابلن في فيلم “العصور الحديثة ” عند خروجه من المصنع وقد أصبحت حركته امتدادا للحركة التي كان يؤديها داخل المصنع لقد تحول إلى آلة حية).

ضد الجسد الإنساني

ولعل الطب في ممارساته اليوم أصبح نموذجا لهذه الأداتية الميكانيكية فلم يعد يعالج المريض بل يعالج المرض مستقلا تماما عن المريض. فلكي تتم معالجة المريض بشكل أفضل لا بد من نزع الصفة الإنسانية عن المرحلة. ولهذا كما يقول المؤلف لم يعد الطب يعنى إلا بالظواهر.

وهكذا فإن المعارف العقلانية العلمية عامة- كمال يرى المؤلف – قد سلبت من الجسد كل قيمة ذات طابع أخلاقي ، أو رمزي، وجعلته عاريا على غرار النموذج الميكانيكي. النظرة هي اليوم الشكل المهيمن على الحياة الاجتماعية مع المدينة .

– تخطيط المدن هندسيا أصبح تخطيطا لا يتم وفقا للتجربة والمصلحة الإنسانية، إنما يخضع لحركة السيارات، وهكذا بقية ظواهر ومظاهر المدينة.

– الجسد في المدينة أصبح جسدا وظيفيا عقلانيا خاليا من البعد الرمزي كجسد إنساني .

– بروز ظواهر جسدية أخرى غريبة: الضجيج، الروائح، الإعلانات الخاصة بالجسد تحميلا له، إعلانات الرجولة، والفحولة والشبابية والشبقية والقوة – الرقص، الرياضة، الأدوات الصحية للمرأة، في مختلف احتياجاتها والموقف الرافض للشيخوخة، .. إلخ

– أصبح الشعار إذا أردتم إن تتغيروا فابدأوا بأجسادكم، تغيير الجسد من أجل تغيير الحياة وأصبحت بشرية المدينة بشرية جالسة تتحقق في أنواع مختلفة من حالات الجلوس!

– إن نغمة نرجسية تخترق اليوم الحياة الاجتماعية الغربية كما يقول.. والنرجسية الحديثة هي أيديولوجية الجسد أو بتعبير آخر التبديل من (سيادة البدن) .

على أنه في مواجهة هذا التبدين أو أيديولوجية الجسد – تشيع العودة في الرؤية الشعبية للجسد فلا عزل بين الجسد والإنسان والكون، بل تمعضل في نسيج من الاتصالات والتواصلات العامة، ويتجلى ذلك في أشكال مختلفة من السلوك مثل العودة إلى الطب الشعبي والشك في الطب العلمي الإجرائي والعلاج بالإيمانية الروحية والرجوع إلى البعد الوجودي لا البعد العلمي العقلاني . وهكذا أصبحت هناك رؤيتان للجسد:

1 – رؤية حديثة علمانية، ميكانيكية نفعية ثنائية ، أصبح فيها الجسد مجرد سلعة للبيع والمتاجرة والاستمتاع ، أصبح مشكلا من الأنا والآخر، الذي يفكك ويتاجر في أعضائه المفككة مثل تجارة المني والبول والعرق، والجلد والدم والأجنة والجماجم والهياكل العظمية وأعضائه المختلفة ، ويمارس الإنجاب بالأنابيب، والإنجاب دون رباط جنسي، والاختزال التقني للموت في غرف الإنعاش إلى غير ذلك.

2 – ورؤية أخرى شعبية توحد بين النفس والجسد وتعطي للجسد قيمته الرمزية والأخلاقية ، ولكن الرؤية السائدة هي الرؤية الثنائية الميكانيكية النفعية.

الجسد في الثقافة الغربية

هذه هي بعض الملامح الأساسية لهذا الكتاب الذي يقدم بالفعل صورة دقيقة تفصيلية لمفهوم الجسد والتعامل معه في الثقافة الغربية السائدة بل في العابر المعاصر عامة، لقد تحول الجسد بالفعل إلى قوة إنتاج، وأداة عاملة، وسلعة للمتاجرة ورأسمال للاستثمار والربح، فقد قيمته الرمزية الأخلاقية وتحولت الثورة من أجل تحريره في تجارة رائجة للجنس في شكل بوروتوجرافيا، بل أصبح الجنس يمارس شفاهة خلال أجهزة المعلوماتية أو ما يشبه التلفزيون، ينقل إليك ويحاورك في كل ما تطلبه بما في ذلك إثارة أحاسيسك الشبقية وإرواؤها شفهيا، بل إن الرياضة بمهرجاناتها وثقافاتها وجوائزها أصبحت تجارة دولية بألعابها وما يرتبط بألعابها من ملابس وأدوات وأدوية وعلاجات، بل أصبحت مجالا لتنمية الكراهية بين الناس ونمطا إنتاجيا لصناعة الموت في كثير من الأحيان، فضلا عن التغييب عن القضايا الإنسانية شأنها أحيانا شأن المخدرات والمسلسلات التلفزيونية: على أن هناك بضع ملاحظات على الكتاب:

1 – الملاحظ أولا أن الكتاب يرد كل هذه المظاهر من التبخيس والاستغلال الجسدي إلى ما يسميه العقلانية الإنتاجية أو باختصار إلى الحداثة، بمعنى العقلانية والفردية والبروموثيوسية الإنتاجية، فهي المسئولة عن كل هذه المربقات والجرائم، وفي تقديري أن المسكوت عنه في هذا الكتاب سكوتا ايديولوجيا هو البنية الرأسمالية للمجتمع الأوربي والأمريكي التي هي وراء كل هذه الظواهر، ولا توجد في الكتاب أي إشارة إلى هذه الرأسمالية اللهم إلا فقرة سريعة يقول فيها: “إن هذا النموذج (يقصد الميكانيكى) يتضمن تطبيقات اجتماعية جديدة دشنتها البورجوازية والرأسمالية الحديثة وتعطشهما للغزو. فإرادة السيطرة على العالم لم يكن بالإمكان التفكير بها إلا بشرط تعميم النموذج الميكانيكي”. وهو قول أقرب إلى التبرير ، وليست العقلانية والفردية والحداثة عامة هي المسئولة عن هذا الاتجاه الميكانيكي اللاإنساني، كما يذهب الكتاب، فيكون الخروج عند المؤلف، من الحداثة ورفض العقلانية والفردية هو السبيل لرفض هذه الرؤية الميكانيكية للإنسان، أن المسئولية، في الحقيقة ، هي مسئولية النظام الرأسمالي، فالعقلانية والحداثة سلاح ذو حدين، سلاح للتحرر وسلاح للقمع، وسلاح للتصحيح والتطوير والبناء وسلاح للقتل والإبادة. فللعقلانية والحداثة مكتشفات ومنجزات إنسانية باهرة في مختلف مجالات الإعمار والبناء والصحة والتقدم الإنساني عامة. ولكن تستخدم من قبل النظام الرأسمالي لتحقيق أهدافها الاستغلالية والتوسعية والريحية عامة..

وليست إدانة الكتاب للحداثة والعقلانية إلا دعوة ضمنية – في اعتقادي – إلى التخلي عنهما ربما باسم ما بعد الحداثة أو ربما باسم الرجعة إلى المبادئ والرؤى التقليدية القديمة (دينية كانت أوقبلية)، والملاحظ أن فلسفة ما بعد الحداثة تجد في الاتجاهات الدينية السلفية اللاعقلانية بعض تجلياتها..

ولهذا لعلنا نجد عند بعضا الكتاب والفلاسفة الكاثوليك ميلا إلى تيار ما بعد الحداثة بما تتسم به من دعوة مناقضة للعقلانية باسم رفض الإنساق المغلقة أو المجردة والنماذج الكلية والتخطيطية. وهو في الحقيقة رفض للعلم والموضوعية. إن وقائع الكتاب صحيحة ولكن تفسيره لها غير موضوعي .

2 – والملاحظ كذلك في هذا الإطار أن الكتاب لا يشير من قريب أو من بعيد إلى جرائم الأنظمة الرأسمالية الغربية ضد جسد الغير أي في استعمارها للشعوب الأخرى وإبادتها، لبعض الأجناس كالهنود الحمر، واستعبادها لأجساد الأفارقة والشعوب المختلقة، فضلا عن استغلالها للأطفال في مجتمعاتها نفسها في بداية نشأتها على الأقل فضلا عن تجارة الأطفال والدعارة اليوم التي يقصر القول عليها وينسبها إلى الحداثة .

إن الكتاب يوجه اتهامه أساسا إلى العقلانية والحداثة، ويخلو من رؤية البعد الاجتماعي والسياسي الذي يستغل هذه “العقلانية- الحداثة” لصالحة.

الفردية والإحساس بالذات

3 – والملاحظة الثالثة التي أحب أن أعرض لها باختصار هي مسألة الفردية، فلا شك أن نشأة البورجوازية كانت وراء بروز الفردية. خروجا من مرحلة الاستعباد الإقطاعي. ولا شك أن بروز الفردية قد عبر عن نفسه في النزعة الرومانسية في الأدب والفن وحركة “دعه يفعل دعه يمر” في الاقتصاد، وفي حساب اللذات في الأخلاق والمساواة في الفكر الاجتماعي والسياسي إلى غير ذلك. إلا أن الفردية هنا في تقديري لا تعني تجرد الفرد. وإنما المجتمع المقام أو المؤسس على العلاقات الفردية. أما الفردية من حيث إنها إحساس الإنسان لنفسه ووعيه بذاتيته وجسديته وإنسانيته، ففي تقديري أنها أعرق من هذه المرحلة البرجوازية. بل قد أزعم أنها موجودة حتى في المجتمعات القبلية – برغم طابعها العضوي المتداخل جماعيا – السابقة على المجتمعات الحديثة.

كان الفرد الإنساني موجودا بمستويات مختلفة طوال تاريخه، وإلا لما استطعنا أن نفسر التعابير والمكتشفات والمواقف الإنسانية المختلفة التي قام بها وعبر عنها أفراد في مجالات الأدب والفن والفلسفة والعلم والمواقف السياسية والدينية والاجتماعية قبل المرحلة الحديثة، بل لما استطعنا أن نفسر ظاهرة الرق والعبودية، والدعارة التي تعد أقدم تجارة في التاريخ.

فهذه الظواهر تعبر عن تمايز بين أفراد مبدعين وآخرين غير مبدعين، بين أحرار يملكون نسبيا ذواتهم وعبيد فقدوا ملكيتهم لذواتهم.

ولهذا فالثنائية كانت موجودة بمستوى أو بآخر طوال التاريخ بين النفس والجسد، بين الإنسان والجسد وإن أخذت دلالات مختلفة نتيجة لاختلاف الأوضاع الاجتماعية والحضارية.

4 – الملاحظة الرابعة أن الكتاب حرص على قصر دراسته على الجسد في الفكر العالمي أو الثقافة العالمة مكتفيا بالإشارة إلى الثقافة المضادة له سواء كانت الثقافة التقليدية أو الثقافة الشعبية المستمرة في مواجهة الثقافة العالمية.

وقد يكون في هذا التمييز مع صحته تعميم وتجريد كبير يطمس حقيقة التنوعات الغنية في حياة البشر. فقد ذكرت في الملاحظة السابقة أنني أعتقد أنه قبل النظام البرجوازي كانت هناك فردية، وأن الفردية لم تخلقها خلقا المرحلة البرجوازية اللهم إلا باعتبارها نظاما اجتماعيا. وليس من حيث أنها تجربة وجودية وأن الثنائية كانت موجودة كذلك بشكل أو بآخر قبل هذه المرحلة البرجوازية. وأضيف هنا أن المسألة ليست مسألة ثقافة عالمة وأخرى غير عالمة؟ و شعبية، ففي الثقافة العالمة نفسها تيارات تختلف عن هذه الرؤية الميكانيكية للجسد، ففي مسألة الطب مثلا التي يتخذ المؤلف من منهج التشريح بالذات مدخلا لبداية تمزيق الرابطة بين الإنسان وجسده، يكفي أن أشير إلى العالم الفسيولوجي العظيم كلود برنار في كتابه “مدخل إلى الفسيولوجي” الذي يقول في عملية التشريح ما معناه (إن المشرح ينبغي أن يدرك أنه لا يشرح جثة ميتة ، بل كائنا حيا، أحب، وعاش، وكانت له همومة وأحلامه) .

وفضلا عن ذلك فهناك الطب السيكوسوماتي (الجسدي – النفسي)، وهناك غير مدرسة التحليل النفسي مدرسة العلاج الجماعي ومدرسة Ergo therapy أي العلاج بالعمل.. إلخ، والمسألة في تقديري ليست مسألة ثقافة عالمة وثقافة شعبية، بل هي ثقافة سلطة رأسمالية مستغلة وثقافة ديموقراطية رافضة.

على أن المسألة في جوهرها في تقديري تتعلق بمسألة الاغتراب الإنساني، فالاغتراب الإنساني قد يأخذ اتجاهين وليس اتجاها واحدا، فقد تكون السيطرة على الجسد وسيلة للسيطرة على النفس والفكر وذاتية الإنسان بل إلغاؤها ولعل هذا هو الطابع الغالب على المجتمعات القديمة ( يتمثل هذا في الرق والإقطاع ) وقد تكون السيطرة على فكر الإنسان وعقله ووعيه وحياته الاجتماعية هي السبيل للسيطرة على جسده وحركته وممارساته وهو ما نشاهده في عصرنا الراهن في ظل النظام الرأسمالي وفي ظل التطبيق البيروقراطي في النظام الاشتراكي.. أي أن جوهر الاغتراب الإنساني في النهاية سواء كان ببيع جسده أو ببيع روحه هو الاستغلال والاستعباد الذي يتحقق عبر التاريخ بمستويات وبدرجات مختلفة اجتماعية وثقافية واقتصادية وجنسية وجسدية سواء عبوديا أو إقطاعيا أو رأسماليا أو بيروقراطيا أو أيديولوجيا. ولهذا فالأمر لا يتوقف على الحداثة وإنما يتخلق، بالاستغلال تاريخيا على اختلاف تجلياته. ولهذا فلا خلاص لهذا إلا بتحرير الإنسان من السلطة المستغلة القامعة المغيبة لوعيه وذلك بإشاعة الوعي الصحيح والعلم والديمقراطية والحداثة والعقلانية وليس بطمسها والارتداد إلى مرحلة تاريخية لا عقلانية سابقة أو لاحقة باسم الشعبية أو ما بعد الحداثة، أو بالتسامى الفرويدى، أو الحرية الجسدية الشبقية المطلقة التي يقول بها ماركيوز والتي ستكتشف عقلانيتها غير القمعية بالممارسة !.

وفي تقديري، أن الجسد ليس امتدادا حيا للآلة الميكانيكية كما يقول الكتاب بل الآلة المكانيكية هي امتداد وظيفى للجسد الإنساني الحي.

ولهذا أكاد أقول إن الكتاب يخضع لأيديولوجية خاصة كما سبق أن ذكرنا أقرب إلى النزعة الدينية أو ما بعد الحداثة أو على الأقل الرومانسية الانثروبولوجية لو صح التعبير.

وقد أحب أن أشير أخيرا إشارة سريعة إلى مفهوم الجسد في فكرنا العربي ، لعلها تدفع إلى نقاش يعمقها ولكني ما توفرت في الحقيقة على دراستها. ولهذا فما أقوله هو أقرب إلى الانطباعات العامة.

في تقديري أن هناك رؤية ثنائية سائدة طاغية في فكرنا العربي، قد يطلق عليهـا البعض توفيقية أو وسطية. وهي ليست ثنائية بين الإنسان وجسده، بل بين النفس والجسد أو الفكر والجسد وهي علاقة تراتبية تفاضلية فالنفس أفضل من الجسد، وهو في تقديري فكر يعبر عن رؤية اجتماعية أو جذر إبستمولوجى للعلاقة التراتبية بين المالكين وغير المالك الأشراف والعبيد، بين الأخيار والأشرار، بين المقدس والمدنس – ولعلنا نجد هذه الدلالة في القرآن الكريم في الآيات التي جاء فيها ذكر الجسد أو البدن: مثل: واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار [ الأعراف – 184 ] ومثل وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين [ الأنبياء – 8 ] ومثل ولقد فتنا سليمان وألقينا علي كرسيه جسدا ثم أناب [ ص – 34] – قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم [ البقرة – 247 ] – وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم [ المنافقون – 4 ] إشارة إلى المنافقين. وهناك حديث نبوي يقول: الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم وقد نتبين أولوية النفس في قوله تعالى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ولعل قصيدة ابن سينا المشهورة، تعبر عن هذا أبلغ تعبير التي مطلعها:

هبطت إليك من المحل الأرفع

ورقاء ذات تعزز وتمنع

وفي القصيدة إشارة إلى الجسم بوصفة ( الخراب البلقع ) أو الطلول الخضع وستجد في “مقاصد الفلاسفة” للغزالي تعريفا للجسد وتمييزا له عن الفكر بما يكاد يكون ما سيقوله ديكارت بعد ذلك ، كما سبق أن أشرنا في تمييزه بين الفكر الروحي والامتداد الجسدي. على أن العلاقة بين النفس والجسد في الفكر العربي عامة تكاد أن تكون أقرب – إن لم تكن هي نفسها – العلاقة الأرسطية بين الهيولى والصورة ، المادة والصورة، فلاهيولى بلا صورة ولا صورة بلا هيولى. ولا شك أن الصورة أشرف من الهيولى ولكن لا وجود ولا تحقق لأحدهما بغير الآخر – وعند ابن رشد وبعض الفلاسفة نتبين القول بأنه لا يتم حشر الأجساد وبعثها فالجسم يفنى على خلاف الروح ، وخاصة كما يقول ابن رشد أن الجسد لا ينشا دفعة واحدة إنما تطور ، فأي جسد سوف يبعث بعد انعدامه؟ ولعلنا نتذكر الرحلة الفلسفية الرائعة لابن طفيل في حي بن يقظان الذي انتقل فيها من جسديته وتجربته الجسدية إلى روحانيته الصافية وهي رحلة معكوسة لرحلة الإنسان من مجتمعه التقليدي إلى مجتمعه المعاصر. وهناك مجالات بالغة الغنى لدراسة رؤية الجسد في الفكر العربي القديم، سواء في كتب تفسير الأحلام، وكتب السحر وفي بعض التجارب الشعرية والأدبية عامة وخاصة عند أبي نواس ويشار والجاحظ وعشرات غيرهم وخاصة المدرسة الأندلسية، بل وبعض كتب الفقه الإسلامي، وكذلك كتب ومواجيد المتصوفة عامة.

وفي أدبنا العربي الحديث أخذ يبرز الجسد متخذا معنى إرادة الرفض والتحرر والتمرد وخاصة للمرأة بل قد يأخذ معنى صوفيا، لعلى أتذكر قصيدة لمحمود حسن إسماعيل عن جسده الذي هو طريقه إلى الله.

فضلا عن العديد من الكتابات حول السجون وبخاصة التعذيب والقمع الجسدي والمعنوي عامة.

على أن خلاصة الأمر أن حرية الجسد في ثقافتنا العربية المعاصرة أصبحت معنى من معاني وأبعاد الحرية الاجتماعية والفكرية عامة. وهو موضوع غني جدير بأن يكون موضع دراسة ، وقصد تكون هناك دراسات في هذا الشأن لم أطلع عليهـا.

المصدر: مجلة  العربي – العدد  440 – 1995/7 – 

رأيان حول “كتاب أنثروبولوجيا الجسد والحداثة”

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.