قصة الأنثروبولوجيا : عرض و تحميل

 

قصة الأنثروبولوجيا
قصة الأنثروبولوجيا

قصة الأنثروبولوجيا

تأليف: حسين فهيم

سلسلة عالم المعرفة عدد 98 سنة 1990

المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت

عدد الصفحات:233

لتحميل الكتاب أنقر هنا

تلخيص: علي هاشم

I. مقدمة :
يتناول هذا الملخص المسار العام لقصة الأنثروبولوجيا (1) ، ويعرضه في إطار موجز ومبسط ، ومن بين الأهداف التي يحاول تحقيقها ، أن يوضح للقارئ كيف أن الأنثروبولوجيا [كفرع من فروع المعرفة] لم تنشأ مستقلة عن التطور العام للمعرفة ، وعن أحداث العصور المختلفة ومتطلباتها ، هذا من جهة . ومن جهة أخرى ، إن الميزة الأساسية للمعرفة التاريخية ، أنها تقودنا أكثر من غيرها إلى إضفاء صفة النسبية على الظواهر الإنسانية ، فتمهد بذلك إلى النظر إلى هذه الظواهر نظرة علمية .
II. الفصل الأول : في تعريف الأنثروبولوجيا وتاريخها :
لاحظ الإنسان الفروق القائمة بين شعوب الجنس البشري ، واهتم بمعرفة وتفسير الإختلافات في الملامح الجسمية ولون البشرة ، وغير ذلك من مظاهر الحياة ، وفي إطار هذا الإهتمام ، تطورت الدراسات وتبلورت بنشأة فرع جديد من فروع المعرفة ، أطلق عليه تسمية الأنثروبولوجيا .
لكن ما هي الأنثروبولوجيا ؟
هناك عدة تعريفات ، تعود إلى اختلاف المناهل والمشارب المعرفية والعلمية ؛ فالأمريكيون ، يستخدمون مصطلح الأنثروبولوجيا الجسمية الفيزيقية (أو البيولوجية) للإشارة إلى الجانب العضوي أو الحيوي للإنسان ، في حين يستخدمون مصطلح الأنثروبولوجيا الثقافية ، ليفي مجموع التخصصات التي تدرس النواحي الإجتماعية والثقافية لحياة الإنسان . أم الفرنسيون ، فيعتمدون مصطلح الإثنولوجيا للإشارة إلى مصطلح الأنثروبولوجيا الثقافية . لكن الإنجليز ، يستخدمون مصطلحاً مختلفاً وهو الأنثروبولوجيا الإجتماعية ، التي تدرس السلوك الإجتماعي الذي يتخذ في العادة شكل نظم إجتماعية كالعائلة ، ونسق القرابة ، التنظيم السياسي والإجراءات القانونية ، والعبادات الدينية وغيرها .. [من الملاحظ حالياً ، أن هناك طفرة في التخصصات الأنثروبولوجية ، فهناك الأنثروبولوجيا السياسية ، الدينية ، اللغوية ….] ويشيع في الإتحاد السوفياتي [السابق] استخدام مصطلح الإثنوغرافيا ، الذي يدرس التنظيم الإجتماعي للمجتمعات البدائية [وسنعني بالبدائية في هذا “الملخص” الشعوب المنعزلة غير الأوروبية] وخاصة فيما يتعلق بالتحولات التي تحدث في تلك المجتمعات عند تحولها إلى دول جديدة .
إن إحدى خصائص الأنثروبولوجيا المميزة هي النظرة الشمولية في دراسة الإنسان ، فهي تسعى إلى تجميع المعرفة به من كافة الجوانب ، وذلك بهدف تقديم فهم متكامل ومترابط عنه وعن حياته ونتاجه الحضاري عبر الماضي والحاضر ، ومن ثم يكون لديها القدرة أيضاً على استقراء أنماط الحياة المستقبلية . فالأنثروبولوجيون يتجهون في دراستهم لأسلوب حياة مجتمع معين إلى الربط بين الجانبين المادي والمعنوي لما يدور في الحياة اليومية للناس ، وإبراز الكيفية التي ينظم بها الأفراد والجماعات وسائل معيشتهم والمحافظة على بقائهم . لهذا لا تفحص الأنثروبولوجيا نظاماً أو نشاطاً معيناً ، إلا في إطار ترابطه وصلاته بالنظم الأخرى ، ولعل من سماتها أيضاً [أي الأنثروبولوجيا] هو الأخذ بمنهج المقارنة الموسعة ، فهي تسعى في تعميماتها إلى مقارنة النظم ، أو أوجه النشاط الإنساني عبر الأماكن ، والأزمنة .

III. الفصل الثاني : بواكير الفكر الأنثروبولوجي :
لم تتبلور الأنثروبولوجيا ، كدراسة متخصصة وعلم مستقل عن الفلسفة الإجتماعية إلا في أواخر القرن التاسع عشر ، لكن كثيرين عبر التاريخ ، حاولوا تقديم ملاحظات حول الطبيعة الإنسانية والوجود البشري ، وافتراض تفسيرات للإختلافات القائمة بين الشعوب .
تعتبر الرحلة التي قام بها الفراعنة عام 1493 ق.م. ، من أقدم الرحلات التاريخية (2) ، إذ أبحروا في النيل باتجاه جنوب مصر بهدف تسويق بضائعهم ، ونتج عن هذه الرحلة اتصالهم بأقزام أفريقية ، وصورت النقوش في معبد الدير البحري ، استقبال ملك بلاد بونت لمبعوث مصري ، وأوضحت الإختلافات الجسمية بين الشعبين .
يعد المؤرخ اليوناني هيرودوتس (القرن الخامس ق.م.) أول باحث إثنوغرافي (3) ، إذ جمع معلومات وصفية دقيقة عن عدد كبير من الشعوب “البدائية” حيث تناول تقاليدهم ، وعاداتهم ، وملامحهم الجسمية ، وأصولهم السلالية . بعده جاء “كارلوس لوكريتوس” الروماني (98- 55 ق.م.) (4) الذي تحدث في أشعاره عن الإنسان الأول ، والعقد الإجتماعي ، ونشأة اللغة ، ونظامي الملكية والحكومة ، إلى جانب العادات والتقاليد ، والفنون والأزياء والموسيقى ، ويرى البعض في فكر “لوكريتوس” تطابقاً مع فكر “لويس مورجان” من حيث رؤية التقدم والإنتقال من مرحلة إلى أخرى ، فهو تصور مسار البشرية في مراحل ثلاث : حجرية ، برونزية ، وحديدية .
لكن فيما عدا ، أعمال “هيرودوتس” وأشعار “لوكريتوس”، من الصعب أن ننسب نشأة الأنثروبولوجيا إلى أي من الفكرين اليوناني أو الروماني . ومع نهاية القرن الخامس الميلادي ، دخلت أوروبة في فترة مظلمة تُعرف بالعصور الوسطى . أما خارجها ، فقد ازدهرت الحضارة الإسلامية ، وازدهر فيها أدب الرحلات ، واشتهرت كتابة الموسوعات والتراجم وغيرها … وسنشير في هذه العجالة إلى أربع علماء :
‌أ. المسعودي : (ت 957 م.) له كتاب ’’مروج الذهب ومعادن الجوهر‘‘ ، وهو مصنف تأريخي وإثنوغرافي هام جداً ، لما يحويه من أخبار وأساطير وجغرافيا وعمران …
‌ب. البيروني : (ت 1048 م.) له كتاب ’’تحرير ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة‘‘ ، وهو يحتوي مادة إثنوغرافية هامة ، إذ وصف “البيروني” المجتمع الهندي من ناحية نظمه الدينية والإجتماعية والثقافية ، إضافة إلى مقارنتها بمثيلاتها عند اليونان والعرب والفرس .
‌ج. ابن بطوطة : (1304- 1369م.) هو سيد رحالة عصره ، ولكتاباته خصائص ذات طابع إثنوغرافي ، برزت في اهتمامه بالناس ، ودقائق حياتهم ، وطبائع شخصياتهم وسلوكهم ، وقيمهم …
‌د. ابن خلدون : (1332- 1406م.) أرسى قواعد المنهج لدراسة المجتمع ، وطبيعة العمران البشري ، ودورة الحضارات ، وقد نال كتابه شهرة كبيرة ، وسجل في مقدمته الحياة الإجتماعية لشعوب شمال أفريقية ، بما لها من عادات وتقاليد ، وعلاقات إجتماعية . ومن ناحية الفكر النظري ، سبق “ابن خلدون” ، مفكري القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، في بلورة نظرية متكاملة عن مراحل تطور الحضارة الإنسانية ، والمسار الذي يحكمها ، والدراسات المقارنة المتصلة بها .
IV. الفصل الثالث : البدايات النظرية لعلم الإنسان :
إذا كانت الأنثروبولوجيا قد تبلورت في القرن التاسع عشر على وجه التحديد ، فقد كان لزاماً حينذاك ، أن تتوفر مادة وصفية عن ثقافات وحضارات أوروبا وغيرها ، حتى يتسنى عقد المقارنات ، وهنا يكمن الإسهام الأساسي لعصر النهضة في تكوين الأنثروبولوجيا ونشأتها . ففي هذا العصر ، ظهرت كتابات في أدب الرحلات ، التي زخرت بمعلومات عن حياة الشعرب “البدائية” .
من أهم هذه الرحلات ، هي رحلة “كريستوفر كولومبوس” إلى الأمريكيتين ، إذ زخرت مذكراته بالبيانات والتفصيلات الإثنوغرافية . وأوضحت رحلته (مع غيرها من الإستكشافات الجغرافية) حقيقة وجود تنوع بين الجنس البشري ، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات والقضايا النظرية والأخلاقية (هل يملك الهنود الحمر أرواح ؟ هل دمهم بنفس لون دم الأبيض ؟ هل لديهم نظم أخلاقية أم أنهم متوحشون ؟ وغيرها …) .
فيما يلي سنقدم بعض الأمثلة المتصلة بمجال الأنثروبولوجيا ، والتي كان لها تأثير على تشكيل بداياته النظرية :
ففي مجال الأنثروبولوجيا الطبيعية ، نجد أعمال الإيطالي “ليوناردو دا فنشي” الذي أظهرت لوحاته تفاصيلاً دقيقة للجسم ، الأمر الذي أسهم في مجال دراسات التشريح المقارن .
وفي مجال الإثنوغرافيا ، هناك أعمال الرحالة الإسباني “خوسيه آكوستا” (القرن 16) ، الذي حاول ربط ملاحظاته الشخصية عن السكان الأصليين في العالم الجديد ببعض الأفكار النظرية . وهناك أيضاً الفرنسي “ميشيل دي مونتاني” الذي أجرى مقابلات مع مجموعات من السكان الأصليين الذين أحضرهم بعض المستكشفين إلى أوروبا .
وفي مجال الأنثروبولوجيا الإجتماعية ، هناك فيلسوفان من فلاسفة القرن الثامن عشر ، وهما “مونتكسييه” و”جان جاك روسو” . إذ أبرز الأول فكرة الترابط الوظيفي بين القوانين والعادات والتقاليد والبيئة ، أي كافة النواحي الطبيعية والثقافية . أما الثاني ، فقد حاول أن يخرج ببعض الأفكار النظرية في فهم مسار التاريخ الإنساني ككل من خلال مقارنته الشعوب الأوروبية مع الشعوب المستكشفة حديثاً ، باعتماده على المواد الإثنوغرافية المجمعة .

V. الفصل الرابع : مرحلة النشأة الأكاديمية والتخصص المهني :
إن مولد الأنثروبولوجيا كتخصص حدث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، في جو فكري سادت فيه الفروض والنظريات التطورية في مجالي التاريخ الطبيعي والإجتماعي على حد سواء ، وخصوصاً نظرية “تشارلز داروين” ، الذي استلهمها “هربرت سبنسر” وطبقها على المجتمعات الإنسانية بما عرف بالداروينية الإجتماعية أو المدرسة التطورية ، التي تفسر التباين بين المجتمعات على أساس التقدم والتحضر الغربيين ، إذ لا يمكن فهم العقل الإنساني ( بحسب هذه النظرية ) إلا بربطه بالتاريخ [ وهو ظني بمعظمه ] ، ومن خلال هذا فقط ، يمكن فهم الحياة الإنسانية والوصول إلى القوانين التي تحكم مسارها . يقوم جوهر المدرسة التطورية إذن ، على الإفتراض بأن تاريخ الجنس البشري قد عرف شكلاً موحداً في نشأته ، وفي تجربته ، وفي تقدمه ، وأن اختلاف درجات هذا الشكل هي ، في حقيقة الأمر ، درجات للتطور ذاته ، بحيث تكون كل درجة وليدة سابقتها ، ومساهمة في تشكيل تاريخ لاحقتها ، أي المستقبل .
أدت هذه الجهود إلى أن يتبلور موضوع الأنثروبولوجيا كعلم ذي منهج محدد ، وأهداف مميزة ، مما جعله يخرج عن نطاق الفلسفات النظرية التي سادت في عصر التنوير ، إذ أضحى الهدف القيام بالدراسات الميدانية لتحقيق الفهم المتكامل للإنسان .

VI. الفصل الخامس : الأنثروبولوجيا وعالم القرن العشرين :
تبلورت وسادت خلال العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين ، ثلاثة اتجاهات رئيسية ، هي ؛ الإتجاه التاريخي – التجزيئي ، الإتجاه البنائي – الوظيفي ، الإتجاه التاريخي – النفسي . وذلك كرد فعل على نواقص النظرية التطورية ، وبتأثير المناخ الفكري العام ، والأوضاع السياسية والإجتماعية السائدة – خاصة في الغرب – وكذلك التطورات التي حدثت أيضاً في موضوعات ومناهج العلوم ، بصفة عامة ، والعلوم الإجتماعية بصفة خاصة ، وخصوصاً من حيث الإنتقال إلى اعتماد الباحث على تجميع المادة الأولية بنفسه [ أي العمل الميداني ] .
1. الإتجاه التاريخي – التجزيئي : شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، سيطرة كبيرة للفكر التطوري في إطار الدراسة النظرية للتاريخ الحضاري للإنسانية ، ومع ذلك ، فقد برز الإتجاه الإنتشاري كمحاولة أخرى مناهضة للتطور ، لتفسير عمليات التغير الحضاري لتاريخ الإنسان . لكن سواء كان الفكر تطورياً أو انتشارياً ، فقد استمر الإهتمام باستخدام التاريخ الظني لتفسير ظاهرة التباين الثقافي للمجتمعات الإنسانية . وافترض المناهضون للمدرسة التطورية أن الإتصال بين الشعوب المختلفة ، قد نتج عنه احتكاك ثقافي ، وعملية انتشار لبعض أو كل السمات الحضارية ، الأمر الذي يمكن أن يفسر في ضوئه ، التباين الحضاري للشعوب ، وليس في إطار عملية تطورية .
ظهرت في أميركا ، حركة ناقدة للمدرسة التطورية ، ويعتبر “فرانز بواس” رائدها الأول ، حيث عارض الفكرة القائلة بوجود طبيعة واحدة وثابتة للتطور الثقافي ، ورأى أن أية ثقافة من الثقافات ما هي إلا حصيلة نمو تاريخي معين . وكنتيجة لذلك ، فعلى الباحث الأنثروبولوجي أن يوجه اهتمامه نحو دراسة تاريخ الجزيئات المختلفة والعناصر المكونة لثقافة ما كل على حدة ، للوصول في النهاية إلى نظرية تتوفر فيها عناصر الصدق ، لتفسير تغير المجتمعات الإنسانية وتطور النظم الإجتماعية والسمات الثقافية . كما أصر “بواس” ، أنه لكي تصبح الأنثروبولوجيا علماً ، فلا بد أن تعتمد في تكوين نظرياتها على الحقائق الملموسة والمشاهدات ، لا على التخمينات أو الفروض الحدسية .
وقد نتج عن هذا الإتجاه ، أن بدأ الأنثروبولوجيون ، ينظرون إلى الثقافات الإنسانية ، باعتبار أن لها كيانات مستقلة من حيث المنشأ والتطور والملامح الرئيسية التي تميزها عن غيرها . وبهذا يرجع الفضل إلى هذه المدرسة ، في طرح فكرة تعدد وتنوع الثقافات ، والنسبية الثقافية التي أصبحت منذ ذلك الحين ، من المفاهيم الرئيسية في الفكر الأنثروبولوجي ، فلكل ثقافة معنى وقيمة يتناسبان مع المكان والزمان والخبرة الإنسانية ، في مواءمتهما مع البيئة وفي إطار ظروفهما التاريخية ، فالثقافة ظاهرة نسبية ، والأنثروبولوجيون لا يفضلون ثقافة على أخرى ، وإنما يجدون في كل الثقافات ، مظهراً أو وسيلة عملية لحل مشكلات الإنسان في بيئة معينة وزمن محدد .
2. الإتجاه البنائي – الوظيفي : نشأ هذا الإتجاه كرد فعل إزاء النزعة التطورية ، واتصف بأنه لاتطوري وبالتالي لاتاريخي ، إذ ركز على دراسة الثقافات كل على حدة في واقعها وزمنها الحالي . فهو إذن ، ليس دراسة متزامنة وإنما آنية ، ولذلك اختلف كلية عن الدراسات التاريخية ، التي اعتمد عليها كل من التطوريين والإنتشاريين . تبلور هذا الإتجاه ، عن طريق الكتابات التي طرحها كل من العالمين “مالينوفسكي” و “رادكليف براون” .
يرى “مالينوفسكي” ، أن ثقافة أي مجتمع ، تنشأ وتتطور في إطار إشباع الحاجات البيولوجية للأفراد ، والتي حصرها في : التغذية ، الإنجاب ، الراحة البدنية ، الأمان ، الإسترخاء ، الحركة ، النمو . وتنشأ النظم الإجتماعية عادة ، لتحقيق تلك الرغبات . فالثقافة في رأيه ، عبارة عن كيان كلي وظيفي متكامل ، ودراسة الوظيفة التي يؤديها كل عنصر ثقافي ، تمكن الباحث الأنثروبولوجي من اكتشاف ماهيته وضرورته ، فالعنصر الثقافي لا يمكن فهمه إلا من خلال دراسة وظيفته الفعلية ، في إطار علاقته مع العناصر الأخرى .
قام “براون” بدور رئيسي في بلورة وتدعيم الفكر البنائي في الدراسات الأنثروبولوجية منذ بداية القرن العشرين ، وفي توجيهها نحو الدراسات المتزامنة والإبتعاد عن الفكر التطوري بافتراضاته التاريخية . إلا أنه يختلف مع “مالينوفسكي” في تفسيره للثقافة في إطار بيولوجي ، فقد اتجه نحو دراسة المجتمع متأثراً بكتابات “إميل دوركهايم” الذي طرح فكرة أن الوظيفة التي تطبق على المجتمعات الإنسانية ، تقوم على المماثلة بين الحياة الإجتماعية والحياة العضوية ، وانطلاقاً من هذا المفهوم ، تصور “براون” أنه كما للجسم الإنساني بناء أو تركيب متكامل ، فإن للمجتمع أيضاً ، تركيب أو بناء إجتماعي يتكون من الأفراد ، الذين يرتبطون بعضهم ببعض ، وكل واحد منهم متماسك مع الآخر عن طريق علاقات اجتماعية مقررة ، ويرتبط استمرار هذا البناء بعملية الحياة الإجتماعية ذاتها .
ومن بين الإسهامات التي أتت بها هذه المدرسة ، هو تأكيد خاصية النسبية الثقافية للمجتمعات ، الأمر الذي ساعد على تقويض دعائم فكرة العنصرية والمركزية الأنوية الغربية ، حيث أوضح التحليل الوظيفي للمجتمعات “البدائية” ، أن الثقافة أسلوب حياة ، له مقوماته العقلانية ، كما يعكس مواءمة مقبولة بين الناس والبيئة والإحتياجات الفردية .
3. الإتجاه التاريخي – النفسي : بدأ الإتجاه الذي دعا إليه “بواس” يتعدل ويتجه في مسارات جديدة ، وذلك على يد عدد من تلامذته ، ومنهم “روث بندكت” ، التي وجدت أن التاريخ وحده لا يكفي لتفسير الثقافة ، وأنها مسألة معقدة ، تجمع بين التجربة التي اكتسبت عبر الزمن ، والتجربة السيكولوجية ، وأن أية سمة ثقافية تضم بذلك مزيجاً من النشاط السيكولوجي والثقافي بالنسبة لبيئة معينة . وأوضحت في دراستها “أنماط الثقافة” ، ضرورة النظر إلى الثقافات في صورتها أو تشكيلها الإجمالي ، فكل ثقافة ترتكز حول مبدأ أساسي أو محور رئيسي ، يعطيها نمطاً أو تشكيلاً خاصاً بها ومميزاً لها عن غيرها من الثقافات . كما قامت بإجراء دراسة مقارنة لعدة ثقافات “بدائية” ، حيث أوضحت العلاقات القائمة بين الصيغة الثقافية العامة ، ومظاهر الشخصية كما تنعكس لدى الأفراد في تلك المجتمعات .

VII. الفصل السادس : أنثروبولوجيا جديدة لعالم متغير :
في إطار نقد الإتجاه الوظيفي ، لتركيزه على المعالجة الإستاتيكية للثقافة ، برز مرة أخرى ، الإهتمام بالنظرة الديناميكية في دراسة الثقافة ، كما فعل الأنثروبولوجيون في إطار المدرسة التطورية . ومع ذلك ، فإن عودة الإهتمام بظاهرة التغير قد تبلورت في اتجاه أطلق عليه تسمية التطورية الجديدة . ويعد “ليزلي هوايت” من رواد هذا الإتجاه ، إذ أكد أنه من المهم ألا تقتصر ، النظرية التطورية ، على تعيين مراحل معينة لتسلسل النمو الثقافي ، وإنما لا بد من إبراز العامل أو العوامل التي تحدد هذا التطور . وفي رأيه يمثل عامل الطاقة المحك الرئيسي لتقدم الشعوب . فالثقافات تتطور إذن ، عندما تزداد كمية الطاقة التي تستخدمها ، بمعنى آخر ، إن المضمون التكنولوجي في ثقافة ما يحدد الكيان الإجتماعي والإتجاهات الإيديولوجية لها .
شهدت بدايات النصف الثاني من القرن العشرين ، ازدياداً في عدد الدول التي حصلت على استقلالها عن طريق حركات التحرير الشعبية . وفي إطار الصراع الإيديولوجي ، أثناء الحرب الباردة ، بدأت الأنثروبولوجيا تأخذ مساراً جديداً نحو تأكيد النسبية الثقافية ، والإتجاه الموضوعي أو العلمي في دراساتها وأبحاثها الميدانية . وسنعرض لتطورين رئيسيين منذ الخمسينيات حتى بداية الثمانينيات (من القرن العشرين) :
1. الأنثروبولوجيا التطبيقية : تعمد الأنثروبولوجيا التطبيقية إلى استخدام نتائج الدراسات الإنسانية ، لمساعدة الدول النامية على النهوض والتقدم ، من خلال عمليات التغير الموجه في إطار التنمية القومية . وبرز هذا الجانب العملي التطبيقي وارتبط بالفلسفة الجديدة المناهضة لفكرة النسبية الثقافية ، فهذا الإتجاه يرفض عملية تقويم الثقافات وفق معايير ثقافات أخرى ، فيحاول الباحث في هذا الإطار – النسبية الثقافية – أن يجد المبرر الذي يفسر الممارسات التي يراها غير مألوفة أو انسانية ، وذلك في إطار قيمه الثقافية ، وبالتالي يتعين عليه تركها وشأنها ، وبمعنى آخر ، أن يأخذ الباحث موقفاً سلبياً في عصر يحتاج إلى الإيجابية في الفكر والعمل .
وفي هذا نشير إلى فكرة الأنثروبولوجي الفرنسي “كلود ليفي ستروس” الذي ذكر في كتابه ’’نظرة عن بعد‘‘ كيف أن فكرة النسبية الثقافية التي أوجدها الأنثروبولوجيون لحماية الشعوب والحفاظ على ثقافتها ، قد رفضت من قبلهم تحديداً ، بعد أن اتهموا الأنثروبولوجيين بمحاولتهم الحفاظ على “التخلف” ومنعهم (أي الشعوب المستقلة حديثاً) من اللحاق بركب “الحضارة والتقدم” .
2. الإتجاه المعرفي في دراسة الثقافة : يبحث هذا الإتجاه ، في ما يتصوره الناس أنه طريقة تفكيرهم وأسلوب إدراكهم للأشياء ، والمبادئ التي تكمن خلف هذا التفكير والتصور ، والوسيلة التي يصلون بها إلى ذلك ، لأنهم هم أصحاب هذا المجتمع ، ومن العدل أن نتعرف على آرائهم فيه . وهكذا أعطى هذا الإتجاه تصوراً جديداً للثقافة ، باعتبار أنها تؤلف بما تحتويه من أفكار وأنماط سلوكية ، خريطة معرفية أو إدراكية . وقد تبلور هذا الإتجاه ، منذ أوائل الستينيات (من القرن العشرين) ، في مدرستين رئيسيتين : فرنسية بنائية (أو بنيوية) ، وأميركية إثنوجرافية .
أ‌. البنيوية : إن مفهوم البنية في نظر ” كلود ليفي ستروس ” ، يحمل طابع النسق أو النظام . فالبنية تتألف من عناصر يكون من شأن أي تحول يعرض للواحد منها ، أن يحدث تحولاً في باقي العناصر . ويشرح “ستروس” تعريفه فيقول ، إن العبرة في دراسة الظواهر أو النظم الإجتماعية هي الوصول إلى العلاقات القائمة بينها ، فحقيقة الظواهر لا تتمثل في ظاهرها على نحو ما تبدو عياناً للملاحظ ، بل هي كامنة على مستوى أعمق بكثير ، ألا وهو ، مستوى دلالتها . ويحدد “ستروس” هدف الأنثروبولوجيا بأنه الكشف عن العمليات العقلية والإدراكية للأفراد داخل المجتمعات الإنسانية ، بغية الوصول إلى تفسير بشأن تعدد الثقافات واختلافها .
ب‌. الإثنوجرافيا الجديدة : حاولت مجموعة من الأنثروبولوجيين الأمريكيين تأكيد علمية وموضوعية دراسة الثقافات الإنسانية ، وذلك عن طريق تقديم وصف وتحليل للثقافة ، في إطار المفاهيم والتصورات التي لدى الأفراد ذاتهم وكما تتمثل في لغتهم ، لا كما ينظر إليها أو يفسرها الباحث الإثنوجرافي ذاته ، وقد ارتأوا أن تحليل لغة الأهالي ، هي أفضل السبل لتحقيق هذا الهدف . وهي بذلك مشابهة لبنيوية “ستروس” باعتمادها على اللغة وتحليلها الفونولوجي ، وهم بذلك (أي المدرستين) متأثرتين بالألسني السويسري “دي سوسير” .

VIII. الفصل السابع : العالم الثالث والمسألة الأنثروبولوجية :
في أعقاب انحسار الإستعمار في كل من آسيا ، أفريقية ، وأميركا اللاتينية ، وبدء بسط النفوذ الغربي على البلاد الستقلة حديثاً عن طريق الإستعمار غير المباشر ، دعت الحاجة إلى دراسات وتوصيفات لأحوال شعوب العالم الثالث . إن هذا التحول من دراسة المجتمعات البسيطة إلى المجتمعات المركبة ، قد نتج عنه الحاجة إلى تغير في المفهومات النظرية ، ومناهج البحث . كما أن طبيعة المنطلقات النظرية والمنهجية ومسار الدراسة الأنثروبولوجية ، وربما نتائجها أيضاً ، تختلف تبعاً لكون الباحث أجنبياً أو مواطناً ( أصيلاً أو دخيلاً في المجتمع المبحوث) .
إن رفض الأنثروبولوجيا ، أو قبولها كما هي في منطلقاتها الغربية ، يشكل حالة من السلبية العلمية ، إذ يجب القيام بعملية نقاش وحوار وتبادل ، فيخضع بذلك أي منظور أو اتجاه – بغض النظر عن مصدره – إلى الإختبار والفحص وإعادة الصياغة والتعديل بما يتوافق مع الواقع المعاش وخصوصيات المنطقة وتراثها الفكري وذاكرتها المشتركة .

IX. خاتمة :
كما تسعى الأنثروبولوجيا إلى فهم الإنسان وثقافة العصر الذي يتواجد فيه ، فإن كل عصر قد حدد لها الطريقة التي تفهمه بها . إن التغير الحادث في العالم ، أضحى سريعاً ومكثفاً ، الأمر الذي يجعل من الصعب على الإنسان أن يلاحقه ، أو أن يتكيف معه ، وبهذا تتزايد الصعوبات وتتعقد ، فتتراكم الكوارث وتتضخم ، بحيث يأتي المستقبل بأمور ، قد نعجز عن رؤيتها في الوقت الحالي ، ولا يقتصر الأمر في الحقيقة على سرعة التغير وعمقه فحسب ، وإنما ينسحب أيضاً على مجاله وحدوده .
فماذا تستطيع الأنثروبولوجيا أن تقدم لنا في إطار علم المستقبل ؟
لعل من السـمات التي تؤهل الأنثروبولوجيين للإسهام الجاد ، هو أن منظورهم للإنسان وقضاياه ، يجمع بين مناهج العلم وأساسياته ، مع الإلتزام بالنـزعة الإنسانية ، واحترام الخصوصية الثقافية لكل فئة وجماعة . من المتوقع أن تمثل الأنثروبولوجيا تحدياً للناس ، وحافزاً لهم يشجعهم على البحث في إمكانات جديدة لتوجيه العلاقات القائمة بينهم وبين الآخرين والتحكم فيها . إن الأنثروبولوجيا سوف تكشف عن فارق ، لأن العلاقات تخلق هذا الفارق .

X. الهوامش :
(1) حسين فهيم ، (شباط 1986) ، قصة الأنثروبولوجيا (فصول في تاريخ علم الإنسان) ، الكويت ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، سلسلة عالم المعرفة عدد 98 .
(2) أي المؤرخة ، إذ لا بد أن كانت هناك رحلات وتبادلات قبل هذا التاريخ ، ولا بد أنها ترتبط ببدء وجود الإنسان على الأرض .
(3) لا بد أن المؤلف يقصد أنه “أول” من منهج عمله ، وهذه هي أسبقيته ، وليست ما تعنيه كلمة “أول” من انعدام البحاثة قبله .
(4) من الملاحظ أن المؤلف هنا يخطو سريعاً في الزمن ، إذ ليس من المعقول أن تكون هناك هوة بين الأول والثاني .