قراءة في كتاب القرابة والزواج لروبن فوكس

قراءة في كتاب القرابة والزواج لروبن فوكس

قراءة في كتاب القرابة والزواج لروبن فوكس

عبدالله سامي أبولوز

 

التجمعات البشرية : تطورها وأشكالها

يقدم روبن فوكس في كتابه (القرابة والزواج: منظور أنثروبولوجي،Kinship and Marriage: An Anthropological Perspective) ما يعتبره مبادئًا أربعة في أي نظام قرابي :

المبدأ الأول : المرأة تحبل بالأطفال. (الحمل  – gestation).

المبدأ الثاني : الرجل يُحبّل المرأة. (التحبيل – impregnation).

المبدأ الثالث : الرجال يمارسون السيطرة عادةً. (السيطرة – domination).

المبدأ الرابع: الأقارب من الدرجة الأولى لا يتزوجون من بعضهم البعض. (اجتناب الجنس مع المحارم – incest avoidance).

يرى فوكس في هذه المبادئ خُلاصات يمكن تعميمها على تاريخ البشرية، مستخدمً يُنَظِّر لكيفية تكوّن التجمعات البشرية مستخدمًا في توصيفه أدوات تطورية، فهو يرى أن الإنسان ليس إلا حيوانًا آخر، ولكنه يناقض نفسه بتمييز الإنسان بدرجات مختلفة عن الثدييات والرئيسيات التي يضعه معها في زمرة واحدة، حيث يقول عن الإنسان : “الإنسان هو حيوان، ولكنه يسخر حقائق الحياة لنفسه بطريقة يعجز أي حيوان آخر عن فعلها”، ويقول في مقطع آخر : “لا يوجد أي نوع من الرئيسيات، عدا الإنسان يستطيع أن يتعقب أجداده إلى الجد الرابع والثالث عشر، أو أن يُمفهم اقراباءه من الدرجة الثانية والثالثة، حتى مع وجود الرابطة البيولوجية مع هؤلاء”. على الرغم من تأكيده على تميز الإنسان بصفات لا يمكن رصدها لدى الحيوانات الاجتماعية الأخرى، ولكنه يُصر على عدم وجود أسباب تجعلنا نرى الإنسان مختلفًا عن غيره.

يحاول روبن وصف تحول المجتمعات البشرية من مجتمعات بسيطة تعتمد على السكنى المكانية  إلى مجتمات انحدارية من خلال ابتداءه بسؤال استفهامي عن الكيفية التي تجعل مجتمعًا ما يختار الطريقة التي تتأسس بها نظم القرابة لديه، وهو يضع افتراضًا أن اختيارات الناس لا تكون على نحوِ عشوائي، ولكنها تنبع من خلال محاولات البشر لفرض سيطرتهم على البيئة المحيطة بهم، سواءً أكان ذلك محاولةً للسيطرة على مجموعات أخرى، أو محاولة نجاة وعدم خضوع للطبيعة أو فاعل بشري آخر. ولذلك هم يقومون بتكوين تجمعات أو تطوير وسائل لنقل الملكية بين الأجيال من خلال روابط القرابة لمجابهة هذه الظروف. إن سؤال روبن يحاول فهم ما الذي يجعل الممكن محتملًا، أي ما الأسباب التي تُمَيّل الكفة مرجحةً ممكنًا على آخر.

يرى روبن أن تشكيل التجمعات هي إحدى مهام القرابة، وليست هي المهمة الوحيدة، حيث أن تشكيل التجمعات يتقدم على أي مبادئ قرابية أيدلوجية مجردة. ومن هنا يحاول روبن توصيف المراحل التي تتشكل فيها التجمعات البشرية، فيبدأ بتوصيف مجتمعًا أموميًا يتكون من أم وأطفالها ويتطور فيصبح أخوات وأخوة، يتم تحبيل النساء فيه من خلال رجال من خارج القبيلة، تكون إقامتهم فيه غير لازمة، ومن ثم يقع عبئ رعاية الأطفال على عاتق أخ الأم Mother Brother (MB). يتلو ذلك الطور نشوء تجمع بشري كبير لا تتقبله البيئة المحيطة، مما يؤدي إلى انشطار المجموعة حيث تصبح المجموعات الصغيرة ضرورة نجاة. ويتحدث روبن عن ضرورة إشباع الرغبات الجنسية التي تحفظ من خلالها بقاء المجموعة وديمومتها، وما يثير الانتباه هو أن هذه المجتمعات لم تقبل تلبية هذه الرغبات من خلال جنس المحارم، والذي يخل بالمبدأ روبن فوكس الرابع، حيث امتنعت التجمعات البشرية منذ بداية تكونها عن اقترافه.

إن التشظي الذي تفرضه الطبيعة على التجمعات البشرية الكبيرة، يساهم أيضًا في نشوء العائلة النووية nuclear family، وهي تجمع يعتمد في وجوده مبادئ تقتضي تقسيم العمل على الجنسين (cognatic principles)، فيُدفع الصغار عند نضوجهم إلى الخروج والاعتماد على أنفسهم. إن العزلة التي تحيط بهذه الكيانات الناشئة، الصغار الجدد الذين خرجوا وحيدين بدافع الضغط البشري السكاني، يجعل من تكوين رابطة دائمة بين ذكر وأنثى الحل الوحيد لتلبية احتياجاتهم الجنسية. بطبيعة الحال، ليست هذه الطريقة الوحيدة التي تتشكل بها العائلة النووية، لكنها إحدى السيناريوهات التي تشرح كيفية تأثير الضغط السكاني على الرابطة بين الذكر والأنثى ونسلهم.

قد يقتضي الحال، وجوب وجود الأب في المكان، وهو ما يحدث في المجتمعات الزراعية التي يتطلب بقاءها جهدًا تعليميًا وعمالة ماهرة قادرة على زراعة الأرض، ولذلك يبقى الأب ليُعلم الأطفال وتكون صلته بأولاده الذكور قوية، بينما تذهب الإناث لمجموعات أخرى ويتم جلب إناث اُخريات كزوجات، ويسمى هذا النوع من التجمعات البشرية بالنظام الأبوي/البطرياركي patrilineal. في وضع آخر قد تحتاج فيه النساء لمساعدة الرجال في تكوين تجمعها، فتعيش النساء في مستوطنات متفرقة، حيث يتم استبعاد الأخ إلى مستوطنات أخرى في حين يتم جلب الرجال من جماعات أخرى كأزواج.

أخر الأشكال التجمعات البشرية، هي المجتمعات التي تتمركز حول مفهوم كفاية الأيدي العاملة، وهي ناتجة عن حقيقة غريزة التعاون بين البشر، يكون فيها الرجال أبناءً أو إخوة فعليين، أو عن طريق المصاهرة، إن هذه التجمعات اقتصادية هجينة، وتعتبر المجتمعات الزراعية أحد الأمثلة الشائعة عليها، فيكون الهدف الوحيد هو وجود ما يكفي من الرجال أو النساء في المجموعة فيصبح دخول النساء وخروجهم، والأمر سيان بالنسبة للرجال، معتمدًا على الكفاية. حيث يُمكن تبادل الأيدي العاملة بين المجموعات نظرًا لتوفر شرط المهارة فيها جميعًا.

أمثلة واقعية

يضرب روبن فوكس مثالًا بأحد القبائل الأمريكية الأًصلية، وتعرف باسم هنود شوشوني Shoshone Indians، والذين عاشوا مبدأيًا بيوتاه ونيفادا وانقسموا فيما بعد إلى كولارادو الغربية، واوسترن الشرقية، وشمال كاليفورنيا. وقد تقسموا إلى ثلاث مجموعات اُوتي Ute، وبايوتي Paiute، وشوشوني والذي تفرقوا إلى عدة مجموعات أصغر. لقد عاشوا في هضبة صحراوية مرتفعة ذات طبيعة صعبة للغاية، ولذلك كان التجمعات السكانية الكبيرة مستحيلة، لقد حتمت هذه الطبيعة الصحراوية المقحلة على ساكنيها التكيف وتشكيل العائلة النووية، حيث تطلب تأمين الغذاء لعدد صغير جدًا من الأفراد الانتشار وتغطية مساحات شاسعة، فشح الموارد واتساع المحيط جعلت تكوين التجمعات البشرية الكبيرة أمرًا غير ملائم لطبيعة البيئة المحيطة.

عندما ينضج صغار الشوشوني يبحثون عن شركاء من عائلات أخرى ليكونوا عائلتهم النووية المنفصلة، هذه التشظي لا يعني القطيعة بين العائلات المتعددة، فالشباب الجدد المتزوجين يبقون على اتصال مع عائلاتهم، حيث تحتم الضرورات التجمع للصيد، أو الحماية، أو ممارسة الطقوس والشعائر الدينية. كان الشكل المثالي للزواج هو تبادل الأخوات sister exchange، حيث يتبادل أولاد عائلتين أخواتهم. لم يكن الوضع مثاليًا دائمًا، فالضغط السكاني جعل من زواج الذكر من عدة إناث polygyny، والعكس أيضًا زواج الأنثى من عدة رجال polyandry، حلولًا مناسبة. لم تكن هذه الأشكال من الزواج أمرًا دائمًا بل كانت ذات طبيعة مؤقتة، فالعائلة النووية في شكلها الطبيعي كانت الشكل الأفضل للبقاء.

في بعض الحالات يبقى بعض الأخوة في نفس المنطقة، لأغراض مثل : الصيد، والحروب، والطقوس، مما يوحي بطبيعة أبوية سكنية. بينما في حالات أخرى، وتحديدًا لدى بعض الشوشونيين الذين استقروا في مناطق صحراوية صالحة لبعض الأعمال الزراعية، فكان هنالك بعض الماء الذي يسمح بالري، وبعض الأحجار المتحدرة من الجبال تسمح ببناء المنازل. على الرغم من وجود بعض الأعمال الزراعية إلا أنها لم تكن ذات وفرة، مما ألزم الرجال الخروج للصيد لتأمين ما تبقى من الطعام. هذه الوضعية المثالية لتشكل مجتمع ذات طبيعة سكن أمومية matrilocal residential groups، حيث تأسس تفريقًا مهنيًا مبني على الجندر، فالنساء تحصد المحاصيل والرجال يذهبون للصيد.

هذه القبائل الشوشونية التي تأقلمت وأعادة تشكيل نفسها، تحركت باتجاه الشمال بسبب ظروف غير موثوقة. منشأةً ما يُعرف بقبائل الانديان هوبيThe Hopi Indian ، واحدة من أشهر القبائل في الآداب الانثروبولوجية. شكلت هذه القبائل تجمعات قروية وحافظت على الطابع الأمومي في السُكنى، مع تحسن حالة الاتصال بين رجال العشيرة الذين يخرجون لتلبية الحاجات الطبيعية كالغذاء والجنس، فأصبح التجمعات القروية نظرًا لثبات السُكنى تقبل الاتصال المتكرر والدائم. سمح ذلك بامتلاك الأرض لأهداف اقتصادية كالزراعة –نشوء الملكية-، ولكن هنا امتلكت النساء الأراضي والمحصول، بينما عمل الرجال في الحقول.

نرى من خلال ما تقدم كيفية تشكل نظام العشيرة كامتداد عن نظام السُكنى الأمومي matrilocal system، ما يجب التأكيد عليه هو أن ما تقدم هو أحد المسارات الشائعة التي تعمل وتتشكل من خلالها هذه المنظومة الأمومية من الأفخاذ والعشائر، وليست هي الوحيدة، وبالتالي هناك العديد من المسارات التي قد لا يسمح المقام بشرحها.

تشكل الطوطمية

هذه التجمعات القروية أنتجت تنظيمات انحدارية أمومية. بالإضافة إلى ذلك، مارست طقوسًا دينية، حيث كان لهم أوثانًا    fetishes  وأدوات خاصة، كل منزل كان لديه وثن معين، حمايته والاعتناء به كانت من نصيب النساء، في حين إقامة الطقوس الدينية من نصيب الرجال –المبدأ الثالث–. كل بيت ارتبط أو تسمّى بإسم من ظواهر الطبيعة أو مخلوقاتها : أسد، شمس، أفعى، … إلخ. هذه التسميات أصبحت هي الأساس الذي تشكلت بناءً عليه العشيرة clan.

تكونت العائلة household من نوعين من الذكور: 1- الأزواج : وجودهم غير مهم نسبيًا. 2- الإخوة : المولودين في هذه العائلة والذين يكون وجودهم دائم أو يبقون مرتبطين بشكل دائم مع العائلة. هذه الجماعة الأمومية والتي تتكون من النساء والذكور المولودين تتضخم بحيث تصبح غير قابلة للاستمرار، مما يدفع الإناث للخروج وتكوين جماعة أمومية أو عائلة أخرى. تُبقِي النساء المنفصلات على أسماء الجماعة التي خرجت منها، ويبقى الاتصال مع نفس الطقوس الدينية والأوثان. مع توسع وكبر حجم العوائل يُنسى اسم العائلة الأصلي، ولكن يبقى الاتصال بالمسمى الأولي والنسب الأمومي قائمًا، فيعرف الناس أنهم أفاعي، أو أرانب، … إلخ.

يمكن اعتبار العشيرة مجموعة من الاشخاص من الجنسين تتعين عضوية الفرد فيها على أساس النسب وحيد الخط الحقيقي أو المتخيل (unilineal decent)، وهي تفترق عن الفخذ lineage في كون أفرادها لا يستطيعون تحديد ارتباطهم ببعضهم البعض بشكل دقيق، فهي تضم الكثير من الغرباء الذين انضموا إلى عضويتها خلال تاريخها الطويل لاسباب كثيرة منها الغزو أو طلب الحماية أو الرغبة في تدعيم العشيرة عدديًا. وهذا ما حدث مع قبيلة الهوبي والتي دفعتها قبائل الأباتشي للرحيل جنوبًا. إن مجموعة العشائر التي تتحد لتحقيق غاية معينة، والتي تمنع الزواج الداخلي exogamous –أي أنثى تنتسب لنفس السلف ancestor- تسمى بالبطن أو الفصيلة  phratry(1). على كل حال، فالعشيرة توصف بأنها مجموعة من الأفخاذ عاشت لفترة زمنية طويلة، وتوجد لديهم أساطير تصف تحدرهم بطريقة إعجازية من الحيوان الذين يحملون اسمه، الإسم الذي ينتسبون في انحدارهم إليه، يصطلح على تسميته بـ(طوطم) العشيرة.

مسارات تشكل النظام الأمومي

يحدد مورغان أربعة مسارات يتشكل فيها أعضاء الفخذ في الواقع، عارضًا مزايا وآفات كل مسار، وممثلًا لكل مسار بأمثلة واقعية، على النحو التالي :

  • الحفاظ على جميع أعضاء الفخذ: ويضرب له عدة أمثلة مع بعض الفروق الهامشية فيما بينهم، ولكنهم يتشاركون في الحل الذي يؤكد على سكن مواليد المجموعة وارتباطهم الدائم بها The Natolocal Solution، هذا المسار يحمل في جذوره النظام الأمومي في السكنى :
  1. نايار الماليبار Nayar of Malabar في جنوب غرب الهند، والذي يعتبر أحد أفضل حلول النظام الأمومي وأكملها.
  2. مينابوكو المالايا Menangkabau of Malaya.
  3. أشانتي غانا Ashanti of Ghana.

 

  • الحفاظ على إناث الفخذ، وتسريح الذكور: يضرب له عدة أمثلة مع ذكر الفروق بينها على النحو التالي :
  1. النافاهو Navaho، ويعتبر مثالًا مثاليًا حيث الرجال يبقون على ظهور احصنتهم في تنقل دائم، مما يسهل عليهم زيارة أبناء الأخت maternal nephews بشكل مستمر.
  2. قبائل الهوبي : نظام يجمع ما بين حل إقامة مواليد القبيلة في حياضها وعدم مغادرتهم أو بقاء ارتباطهم الدائم وإقامة الزوج في بيت عائلة الزوجة Matrilocal.
  3. ياو مالاوي The Yao of Malawi وهؤلاء من مجتمعات وسط إفريقيا، ويشكل النظام المتبع لديهم حلًا جزئيًا، فهم يتكونون من الأخوات وأبنائهم بقيادة الأخ الأكبر مشكلين قرية صغيرة، عند وفاة الأخ الأكبر يتولى ابن اخته الأكبر القيادة في القرية، ويدفع مهر زوجته منتزعًا إياها من قريتها، وهذا ما يحاول أن يفعله أخوته وأبناء اخواته الصغار.
  4. قبائل إفريقية أخرى يكون فيها مبدأ الإقامة في بيت عائلة أخ الأم avunculocal شديد التأثير، بسبب عوامل من قبيل ندرة الأرض.
  5. بيمبا زامبيا The Bemba of Zambia وتكون فيها سيطرة أخ الأم ضعيفة، ويكون للأب نفوذ على أبناءه بسبب خدمته الطويلة لدى عائلة الزوجة، ويستطيع أخذ زوجته غالبًا بعد هذه الفترة.
  6. كونغو كاساي The Kongo of Kasai، يستطيع فيها الزوج أخذ زوجته إلى قريته مباشرة بدفع المهر.

 

  • الحفاظ على ذكور الفخذ، وتسريح النساء: من الأمثلة على هذا المسار الوعر :
  1. كونغو كاساي والذين يستطيعون أخذ نسائهم من قبائلهم أو قراهم مباشرةً بدفع المهر، إلا أن حق أهل الزوجة في أبنائها يبقى مسيطرًا. وبذلك فور بلوغهم سن الرشد يطالب أهل الزوجة بأبناء ابنتهم ليتركوا أمهم ويعودا إلى قريتهم الأم.
  2. قبائل التروبرايند ذات نظام الإنحدار الأمومي matrilineal system تجمع بين منظومتين وهي بقاء الزوج مع أهل زوجته virilocal وتحديدًا في بيت أخ الأم avunculocal. لا يحمل الأب الحق في المطالبة بأبناءه، فوفقًا لتعاليم هذه القبائل، يعتبر الأب بمثابة فاتحًا لطريق وجودهم إلى الحياة، وليس صانعهم.

 

  • تسريح كافة أعضاء الفخذ : ومن الأمثلة على هذا المسار :
  1. قرية الكوتشيتي في نيومكسيكو.
  2. قبائل الكونغو.
  3. بعض قبائل وسط أفريقيا والتي تحولت فيها قوانين السُكني إلى الإقامة الأبوية، حيث يبقى الرجال مع بعضهم البعض – الأب، وأبناءه، وأخوته – ليمارسوا الزراعة ويرعوا الماشية، ويحضرون زوجاتهم ليعيشوا معهم. ويتم توريث الماشية كما تُوَرّث الأرض.

مما قد يتبع النقطة الأخيرة، وهي الإقامة الأبوية patrilocal residence، وعلى نحوِ منطقي، تشكل الانحدار الأبوي patrilineal descent، مما يعنى أن هذا الانحدار سينشأ تسمياته ووظائفه الخاصة. هذا الوضعية تُعرف عند الأنثروبولجيين، بالانحدار المزدوج double descent، وينتسب الفرد في هذا النمط من القرابة إلى مجموعتين قرابيتين، هما مجموعة أبيه، ومجموعة أمه. من الواجب التنبيه إلى إن النسب المزدوج لا ينتج دائمًا من ضعف الانحدار الأمومي، قد يحدث ذلك، ولكنه ليس شرطًا دائمًا.

 

الأنواع الأساسية الثلاثة في منظومة الإنحدار الأمومية

يلخص روبن الأنواع الأساسية في المنظومة الانحدارية الأمومية على النحو التالي:

  • المنظومة التي تتكون من الأم وبناتها وإخوتها، وتكون فيها السُكنى أمومية. يقع الحكم وضمان البقاء والاستمراية على عاتق النساء في هذه المنظومة، وفي المجتمعات التي تتشكل وفقًا لهذه المبادئ، تحصل النساء على الاحترام والتقدير بشكل أكبر من غيرهم.
  • المنظومة التي تتكون من الأخ وأخواته وأولاد الأخوات، ويفضل في هذه المنظومة سكن أزواج الأخوات في حياض عائلة الزوجة، فيفرض أخ الأم سيطرته على أولادها، وتكون حال المرأة أدنى فيما يخص الحكم والحفاظ على استمرارية وديمومة المجموعة.
  • تتكون هذه المنظومة من عدة روابط عصبية/دموية ذات انحدار أمومي : الأم وبناتها، الأخ وأخواته، أخوان الأم وأبناء الأخ. في هذه الحالة تكون السيطرة والحفاظ على البقاء والاستمرارية في يد الرجال، ولكن وضع المرأة لا ينخفض، ويمكن اعتبار هذه الحالة وسطًا بين الحالة الأولى والثانية.

 

النظام الأبوي

تطورت التجمعات التي تقوم على أساس الانحدار الأبوي على نفس النحو الذي تطورت فيه المجتمعات الأمومية، فهي مجتمعات يتجمع في الرجال في مناطق معينة غالبًا تكون مناطق مؤلوفة لديهم، وذلك يساعدهم في الصيد نظرًا لمعرفتهم بالمنطقة، يجلب الرجال النساء من الخارج والنساء يذهبن إلى تجمعات أخرى بسبب الضغط السكاني. قد لخص روبن أطروحة ستيوارد Steward في دراسته ذات الأساس البيئي لتوصيف المجتمعات ذات الرابطة السكنية الأبوية في أربع نقاط : 1- تبلغ الكثافة السكانية نسبة شخص او أقل لكل ميل مربع في عمليات الالتقاط والصيد في المواقع ذات الطعام النادر. 2- الطعام الأساسي هو الطرائد. 3- وسائل التنقل محدودة لكل ما يحمل الإنسان. 4- توسع تابوهات نكاح المحارم من التابوهات البيولوجية إلى العائلة الممتدة أو كل من ينتسب إلى نفس الانحدار.

يحتفظ الرجال بحق السيطرة على أولادهم في النظام الأبوي ، وتكون فيه النساء من خارج المجموعة، حيث يجلبهم الرجال لغرض الإنجاب. لا يُولى للأخوات في هذا النظام أي اهتمام، فالرابطة الدموية التي تجمعهم بالرجال غير هامة، ولذلك القبائل الأبوية في منطقة أرنهيم الاسترالية يطلقون على أخواتهم اصطلاحًا دونيًا يُبَيّين مدى عدم أهميتهم وهو : “قمامة” rubbish؛ وانعدام الأهمية هنا يكمن في عدم قدرتهم على تكثير أعداد القبيلة. حيث لا تنبع أهمية المرأة في هذا النظام إلا من كونها زوجة أو أم أو حماة mother-in-law، فتبسط نفوذها على زوجات أولادها عند قدومهم للمنزل، فلا أهمية لها كأخت أو إبنة.

يعتبر الزواج غاية في الأهمية في المنظومة الأبوية، حيث هنا تلعب الأبوة دورًا مفصليًا، فالرجل مهموم دائمًا بالتأكيد على حقه الشرعي في أولاده وزوجته، فأيما يكون الأب البيولوجي، فمتى ما وُلد الطفل من الزوجة تكون شرعية الأبوة لزوجها. لا يحدث ذلك في النظام الأمومي، فالأبوة غير معبوء بها، ويكون حق الطفل تحت شرعية القبيلة أو الأم أو أخ الأم كما وضحنا في النماذج أعلاه.

هناك ثلاث نماذج تعتمد النظام الأبوي : العالم الإسلامي، والروماني، والصيني. ويشرح روبن فوكس النظام الصيني بشكل مختصر، ضاربًا مثالًا بجنوب شرق الصين حيث التسو أو الفخذ الأبوي ذو الزواج الخارجي exogamous patrilineage، وهم مجموعة ذات طابع انحداري شديد القدم. تصل الأجيال في هذه المجموعة إلى خمسة وعشرون جيل معروفة منذ الجد المؤسس. كل فخذ كان منقسمًا لعدة أفخاذ أخرى، بعضها كان له قرية منفصلة، والبعض الآخر اشترك مع فخوذ أخر في قرية واحدة. تضخمت بعض الفخوذ ليصل عدد أعضاءها إلى ما يتجاوز الألف، نتيجة لحفاظها على نسبها لفترة زمنية طويلة. كل فخذ من هذه الفخوذ كان يقدس أسلافه ومؤسسيه، وكانت لهم قاعات خاصة مملوءة بالتماثيل والصور التمجيدية. أما الفخوذ ذات النفوذ والقوة فكانت لها قرى محاطة بالجدران، وكانت في حرب دائمة مع الإمبراطورية الحاكمة، التي لم تنجح في السيطرة عليها بشكل كلي أبدًا، ومع الفخوذ القوية الأخرى. تميزت الفخوذ الصينية بتنظيمها الاجتماعي العالي، فقد انتجت هذه المنظومة واحدة من أكثر الأنظمة الدقيقة المدروسة والمذهلة. من الأمور التي يتميز بها النظام الصيني عن العادة السارية في المنظومات الأبوية، هي في زواج زوجة الرجل الميت من أخوه levirate، فقاعدة وجوب الزواج الخارجي تشمل في هذه المنظومة الزوجة، فعند موت زوجها، يتوجب على الفخذ تزويجها من فخوذ أخرى.

الفروق بين النظام الأبوي والأمومي

لا يمكن اعتبار المجتمعات الأبوية بمثابة انعكاس مقابل للمجتمعات الأمومية، والسبب في ذلك يكمن في المبدأ الثالث. إن جوهر هذه الإشكالية يظهر من خلال ما لاحظناه من كون النسب المنحدر الأمومي matrilineal يحتم الاستعانة بالرجال من نفس العُصبة الدموية، بينما لا يقع هذا الشرط على النساء في النسب المنحدر الأبوي patrilineal. إن الإشكاليات التي تواجه المجتمعات ذات الإنحدار الأمومي في مقابل الإنحدار الأبوي ناشئة عن قاعدتين وهما : منع الزواج الداخلي وسيطرة الرجال. حاول المجتمعين حل إشكاليتهما من خلال تجنيد أطراف أخرى من خارج القبيلة، فالمجتمع الأمومي أبقى على الأطفال واعتمد على خصوبة نساءه ليضمن البقاء والاستمرارية من خلال جلب رجال من خارج الفخذ أو العشيرة –الأمر الذي يشكل تهديدًا دائمًا لاستقرار العشيرة، أو ما يصفه مورجان بحصان طروادة–، بينما في المجتمع الأبوي استعانوا بخدمات النساء من خارج الفخذ أو العشيرة ليحافظوا على استمراريتهم.

يمكن تلخيص المقارنة بين النظامين من خلال الجدول التالي :

جانب المقارنة النظام الأمومي النظام الأبوي
المبدأ الثالث : سيطرة الرجال يخضع النظام الأمومي للمبدأ الثالث، فتكون حكرًا على الأم-البنت-الأخ-الأخت. يخضع النظام الأمومي للمبدأ الثالث، فتكون حكرًا على الأب-الإبن- العم.
المرأة وتمسك رجال النظام بها يسعى النظام الأمومي للحفاظ على إناثه بشكل دائم، لضمان البقاء والاستمرارية من خلال الإنجاب. لا يهتم النظام الأبوي بالمرأة، حيث يكون ضمان البقاء والاستمرارية من خلال جلب النساء من الخارج (الزواج بإمرأة أو بأكثر).
مهمة الإنجاب الأخوات. الزوجات.
حقوق الرجل على المرأة قد يملك الرجل حق الجماع والسكنى، ولكنه لا يملك حق المطالبة بالأطفال بتاتًا، حيث الطفل يرجع إلى فخذ إمه. يملك الرجل حق الجماع والسكنى والمطالبة بأطفاله.
وضع المرأة أهميتها كأخت محورية في النظام الأمومي لا أهمية لها إلا في كونها زوجة أو أم أو حماة.
مكانة الزواج لا أهمية محورية للزواج أهمية الزواج محورية.

 

الهوامش

  1. يعتبر روبرت لويي Robert Lowie في كتابه “التنظيم الاجتماعي Social organization” الذي كتبه في عام 1948م، أن الرابطة التي تجمع الفصيلة هي الغاية المحددة أو المصالح المشتركة، بينما يعتبر جورج موردوك George Murdock أن الرابطة التي تجمع أبناء الفصيلة الواحدة، هي رابطة قرابية.

 

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.