قراءة سوسيولوجية لرواية “ذكرأة”

قراءة سوسيولوجية لرواية “ذكرأة”

للروائي العراقي “علي الحديثي”

د. سوسان جرجس

 

“ذكرأة” عنوان غريب، يشدّني لأقف عنده مستبطنة هواجسي الأنتربولوجية في المقاربة الجندرية.. “ذكرأة” كلمة مركبة من ذكر وأنثى مع ترجيج الأصل الأنثوي بفعل إضافة التاء المربوطة.. تساؤلات يثيرها العنوان حول موضوع الرواية دون الوصول إلى جواب حتمي سوى ترجيج أنه قد يتكلم عن “الخنثى”/ المخنثين أولئك الذين خرجوا عن دائرة التصنيف الجندري التقليدي المعتاد عليه.

 

ثيمة الرواية:

في كلامه عن ذكرأة يقول الكاتب في الصفحة الأولى “منذ سنوات سبقت عمري جاءني في المنام يرتدي جسدًا عارياً طويلاً، كنت حينها أرقد في كهف مظلم، اندفع نحوي بقوة ليعمّدني بمائه اللزج، سرت فيّ الروح…”. لوهلة يتأطر تفكيرك في العلاقة الجنسية، في تلك الرغبة الصارخة في كل من الرجل والمرأة، صرخة تتجلّى كائناً فيه من الذكورة قدر ما فيه من الأنوثة، وكأنّ الكاتب بذلك يعلن تأييده لنظرية “الأنيموس” عند “كارل يونغ” الذي يرى بأن الإنسان في اللاشعور مزدوج الجنسية.

وأنت تتقدم في الرواية تشعر باضطراب حروف الروائي وأفكاره، تماماً كما هي ثيمة الرواية التي تكشف عن نفسها أكثر فأكثر، لتتضح لنا “ذكرأة” فكرة مجردة، رمزاً يمثل صرخة الناس الداخلية، تساؤلاتهم، صراعاتهم النفسية التي تتأجج وتخمد بفعل الأحداث المجتمعية التي يعيشونها.

ففي الصفحة 34 نقرأ “ليس لذكرأة من مشروع سوى أن تقود أصواتنا في المظاهرات ضده”  وفي الصفحة 69 يعلن الروائي/ الشخصية الأساسية في الرواية أنّ الكتب هي من ترينا وجه ذكرأة وأنّ النوم مهربنا من وجهها ليأتي التصريح عن حقيقة ذكرأة في الصفحة 85 وذلك على لسان الخال بأن قال “هل تظن عندما سميت الصرخة بذكرأة أنك ستغير شيئاً، كل هذه الكتب هي صرخات تهرّأت فوق أرصفة الزمن”.

وإذا كانت “ذكرأة”/ صرخة الذات وتمردها تعلو حسب ما يكشف لنا الحديثي حين الخوف والحرب والفقر والجوع والسجن والصمت، فإن الملاحظة الأكثر أهمية هي إن ذكرأة التي تخمد بفعل الجهل والتسليم السلبي، تتأجج بالمقابل بفعل الوعي والنباهة والرفض التي قال فيها عالم الاجتماع الإيراني “علي شريعتي” في كتابه “النباهة والاستحمار” ” إنّ أكبر قيم الإنسان، تلك التي بدأ منها، وهي الرفض وعدم التسليم وما يلخص بكلمة (لا) حيث منها بدأ آدم أبو البشر”.

ومما يلاحظ في الرواية التي بين أيدينا إمكانية تجزئتها إلى قسمين استناداً إلى حدة “ذكرأة” وصرخاتها في نفس الكاتب:

القسم الأول: من بداية الرواية حتى الفصل المعنون بـ”أريد أن أنام” الذي ينتهي في الصفحة 86.

القسم الثاني: من بداية الفصل المعنون بـ”عد إلى المقهى” حتى نهاية الرواية.

فإذا كانت الأحداث المجتمعية التي عاشها الكاتب من أَمْنيّة (سجن الكاتب لأيام في أربيل) وعاطفية (علاقة الحب المشوش بين الكاتب والمدرّسة إيناس، وكذلك بينه وبين أمنية)  واقتصادية (المرأة التي تستجدي بطفلها في الكيا) قد جعلت صراخ ذكرأة يعلو في القسم الأول، فإنّ علاقة الحب الشمولي التي جمعت بين الكاتب واللبنانية في بيئة مغايرة للعراق، فضلاً عن استرجاع العلاقة العاطفية بين والدة ليلى والخال صبيح جعلت صوت ذكرأة يخبو دون أن يموت، إذ بموت ذكرأة يموت الوعي والسؤال وإمكانية التغيير الإجتماعي المنشود، وهكذا نقرأ في الصفحة 121 “بحبك لم تمت ذكرأة، ولن تموت، لا قوة في الأرض يمكنها أن تلجم صوتاً يولد داخلنا، لكننا نحاول أن نجد صوتاً أعلى وأجمل يمكننا أن نلوذ به من زعيق ذكرأة الأبدي، فكان حبك ذلك الصوت الأجمل الذي لاذت به روحي”، وهنا لا بدّ من القول أن الحب الذي يستطيع في عصر العولمة التقنية ونسق تصوراتها المتسمة بتشييئ الأجساد، احتضان “ذكرأة” وتهدئة بركانها الصارخ هو تجربة عاطفية تلامس على حد تعبير الباحث الاجتماعي “عبدالله زارو” في كتابه “سلطان العشق” التجربة الدينية سيما في تجلياتها الصوفية والوجدانية القصيّة والوجودية المتوثبة.

 

البنية الدينية في رواية “ذكرأة”:

تكشف رواية ذكرأة عن بنية اجتماعية طائفية تسود في العراق، وهو ما نرى فيه متغيراً أساسياً لتأجيج صرخات ذكرأة خاصة لدى أولئك الواعين لخطر الطائفية وما يمكن أن تولده من فوضى اجتماعية إنْ في الواقع المعاش أو على مستوى المخيال السوسيولوجي، وهو ما يجعلنا ندرك الأسباب الاجتماعية الكامنة خلف انتشار الدعارة والقتل والهجرات القسرية والتقسيمات المناطقية الطائفية، ففي الصفحة 41 تخبرنا فريني عن قتل زوجها قائلة “وعندما بدأت الطائفية، حاول بعض الدخلاء أن يطردونا من المنطقة التي قضينا عمرنا بها…. أغلق الجميع أبوابهم على أنفسهم خوفاً على حياتهم فكنا نرتب أوضاعنا لنخرج، ولكن الكلاب سبقونا فخطفوه وقتلوه”…. وفي الصفحة 43 تخبرنا عن زواجها الثاني وأسباب امتهانها للدعارة قائلة “عرفت فيما بعد أنه يتزوج الأرامل والمطلقات ليتاجر بأجسادهن”.

وبأسلوب حواري ذكي في الفصل المعنون بـ”جينات” يبين لنا الحديثي بأنه إذا كانت قلة قليلة من الناس تبحث عن الله بما هو جوهر للمحبة والسلام والحرية، فإنّ الطوائف التي تحيا بالفتن والصراعات وإراقة الدماء ورفض الأخر إنما تأتمر بالعلماء وتعمل على قطع طريق الناس نحو الله، فنقرأ في الصفحة 80- 81 “لكن علماؤكم الذين من المفترض أن يكونوا طريق الناس إلى الله أصبحوا سداً منيعاً يقف بينهم وبين الله، تريدون من الناس أن يراجعوا أنفسهم في المعاصي، والناس تريد منكم أن تراجعوا أنفسكم في القتل”، إن حديث الكاتب مع ابن خالته عن العلماء (رجال الدين) والله لا يخلو من نفحة جبرانية كانت قد تركت بصمتها الواضحة في الناس من خلال قصتَي “يوحنا المجنون” و”خليل الكافر”، أوليس الروائي الحديثي هنا أيضاً يتكلم عن نزعة سادية لدى علماء الدين؟ ألا يكشف عن أبشع مظاهرها في عصيان رجال الدين لله الذي افتدى دم “اسماعيل” بدم كبش فإذا بالعلماء يؤججون نار الفتنة ويستحلون دم الآخر/ “الإنسان” كأضحية يتقربون بها تبعاً لأهوائهم نحو إله بشع مجرم سفاح يجعل صرخات ذكرأة وأسئلتها تدوي في نفس كل عاقل؟!!

في بلد كالعراق لا يكتفي الروائي علي الحديثي بالكلام عن الحرب الطائفية بصبغتها المتداولة بين الناس (سني/ شيعي) وإنما يترك قلمه الجريء الحر ليعود بنا إلى ستينات القرن العشرين وما قبلها، فيخبرنا عن التعايش بين الناس من مختلف الأديان والطوائف مقدماً لنا في الصفحات 132- 141 حياة “سوزان” والدة ليلى كنموذج للتعايش السلمي والأهلي بين المسلمين واليهود، هذا وقد أشار الروائي بشكل مقتضب جدا إلى الظروف السياسية التي ساهمت في تصنيف الناس دينياً، فأشار إلى انتشار الفكر العروبي والاهتمام بالقضية الفلسطينية في ظل ما كانت تقوم به الصهيونية من جرائم وما تفتعله من تضييقات هدفها حثّ اليهود ودفعهم للهجرة نحو فلسطين، وهو بهذه المعالجة التجريدية لفكرته إنما يعيدنا إلى أعمال الراحل إحسان عبد القدوس حيث تناولت العديد من قصصه ورواياته واقع اليهود المعاش في مصر وكانت له قصة “الجاسوسة” المنشورة في مجموعته القصصية “شفتاه” سنة 1961 والتي تحكي قصة غرام بين فتاة يهودية وشاب عربي.

وفيما خصّ العم ساسون، الشخصية اليهودية في الرواية، فقد أحسن الروائي برأينا في توصيفها كشخصية تقدّم انتماءها الديني اليهودي على أيّ انتماء آخر، فعلى الرغم من الظروف السياسية والأحداث التي مرت باليهود في المجتمع العراقي، فقد فضّل العم “ساسون” أن يتخلى عن ابنته، ولو مؤقتا، ليتركها تعيش مع عائلة مسلمة، على أن يتخلى عن دينه ويدخل في دين آخر (الإسلام أو المسيحية) يتمكن من خلاله العيش بسلام في العراق… هذا وقد شكلت للتنشئة الاجتماعية التي تلقتها “سوزان” الفتاة اليهودية في عائلة مسلمة متغيراً أساسياً في تشكيل وعي وانتماء مختلف لديها عن أية شخصية يهودية أخرى، وليبقى السؤال الذي قد يطرحه الروائي على أيّ منا وهو يتوكأ كتف “ذكرأة”: “هل الإنتماء والشعور بالهوية همّاً وليد تنشئة ومعاش يومي أم إنهما إحدى الجينات التي تنتقل بالوراثة؟؟”

 

المرأة في رواية “ذكرأة”.

الرواية حياة، والحياة رجل وأمرأة، وصرخة الحياة نفسها كما سماها الحديثي: “ذكرأة” ذكر وأنثى، رجل وامرأة، معاً أطلقا صرخة الرغبة والحب والسكن النفسي وحتى الموت رمزياً كان أم واقعياً.

بين أوراق “ذكرأة” يروي لنا العراقي علي الحديثي كيف يكون جسد المرأة بوقاً تصرخ به “ذكرأة” أو قيثارة سحرية يخمد معها صوت الحرب وعويل الطائفية ونعيق “ذكرأة”.

على فراش “فريني” جسد أنثوي مباح يبيع اللذة دون أن يقوى على لجم صرخات “ذكرأة” المدركة لعمق الهاوية التي يسقط بها كل من البائع والشاري (المرأة الرجل)، فها نحن نقرأ في الصفحة 40 “تعال إلى فراشي وبعدما تقضي متعتك مني سأجيب على سؤالك إذا أردت”، وفي الصفحة 64 نقرأ:

“- كنت أعلم أنك لم تكن نائماً معي، لكن لا بد أن أتظاهر باللذة لأرضيك، لآخذ ثمن لذتك…. وثمن آلامي.

لم تكن لذة …. لم تكن لذة…

…….. ذكرأة تخنقني”.

إن من يقرأ حوارات البطل مع “فريني” سيلاحظ أن الروائي قد ركز على الأسباب السوسيو- اقتصادية لممارسة البغاء دون أيّ اعتبار للمستوى التعليمي والنمط التربوي، مع تأكيده على أنّ المرأة التي تمارس البغي تحقق انفصالاً تاماً عن جسدها، إن هذا الأخير على حدّ تعبير الباحثة المغربية “فاطمة الزهراء أزرويل” في كتابها “الجسد المستباح” هو “الجسد/ السلعة الذي يقدّم إلى الآخر في إطار من اللامبالاة تخفي معاناة بالغة القساوة، إن لم نقل بأنها تكتسي صبغة اللاإنسانية”.

أما عن علاقة البطل بليلى، الشابة اللبنانية التي ظهرت بشدة في القسم الثاني من الرواية فيبدو أن الحب الذي جمعه بها قد ألجم فم ذكرأة، فها هو في الصفحة 108 يقول “جئت إلى لبنان ليعلن الفمان والأفواه الأخرى التابعة لها الاستسلام لشفاه اللبنانية التي ضمدت برضابها كل جراح ذكرأة….”، وهنا يبدو لنا أن التثاقف (شاب عراقي وامرأة لبنانية) بما فيه من تلاقح فكري وديني واجتماعي قادر على تهدئة الصراع النفسي في ذات الإنسان ما يجعل من “ذكرأة” كائنا يستوعب ويفهم أكثر مما يسأل ويتخبط، وهنا لا بدّ أن يلاحظ القارئ الأثر الإيجابي لزيارة دير النورية في نفس الكاتب إذ يقول في الصفحة 123 “الآن فهمت معنى (ونفخت فيه من روحي)، عندما تشعر أنك تحمل روح الإله في داخلك، فستشعر بأن الأرض كلها وطنك”، ما يشير إلى إسهام التثاقف في إكساب الفرد سلوكيات وأفكار وقيم جديدة.

ويبدو لنا أن الحديث عن المرأة في الرواية العربية كمرآة لواقع اجتماعي تحكمه الذهنية التقليدية يستوجب منا الكلام بمقاربة جندرية حول مؤسسة الزواج، إذ يتضح لنا من خلال رواية “ذكرأة” لعلي الحديثي أن كلاًّ من الجنسين لم يصل بعد إلى المرحلة التي يعاش فيها الحب كحالة تصوفية وجدانية يتماهى فيها العاشق بالمعشوق.

إنّ المرأة ما زالت تنظر للرجل/ الشريك ولو جزئيا كأداة تتحرر بها من ضغوطات المجتمع الذكوري وسلّماً تتخذه لتحقيق مكانة اجتماعية ضمن مؤسسة الزواج التي يرى فيها الرجل بدوره سجناً يحدّ “حريته” وقبراً تُدفن فيه مشاعره الغرامية، وهذا النمط من التفكير هو الذي لاحظناه في علاقة الحب الأولى التي جمعت البطل بإيناس، وقد رأينا بوادره أيضاً في علاقة الحب الثانية التي جمعت البطل بليلى….. وليبقى السؤال: هل هذا النمط من التفكير عام لدى الإنسان العربي (رجل وامرأة)؟ أم إن هناك تمايزات فردية قد تؤسس وإن ببطء لتغير البنى الاجتماعية؟ ويبقى للقارئ النبيه حق التساؤل والتأويل عن الورقة الممزقة نصفين (من عمار بطلب من ليلى) وعن النتوءات المتبانية في كل منهما وعن الفكرة التي أرادت اللبنانية إيصالها للبطل العراقي في الفصلين الأخيرين.

 

 

 

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.