في انثروبولوجيا ناطحات السحاب الحجرية

في انثوبولوجيا ناطحات السحاب الحجرية

في أنثروبولوجياناطحات السحاب الحجرية

د. قاسم المحبشي – اليمن

 

“يبدأ الفن لا من اللحم والدم بل من المنزل لذا فإن الهندسة المعمارية هو أول الفنون، ذلك لأن الفن هو لغة الأحاسيس التي ينقلها بين الكلمات والألوان والأصوات والأحجار.

والزائر ليافع أول ما يدهشه نمط الفن المعماري الفريد والمتميز بخصائصه المحلية اليافعية، ثمة تناسق عجيب وجميل في شكل وأسلوب وأدوات ووظائف البيت اليافعي، وتروي الباحثة العراقية البريطانية الجنسية التي أجرت عدد من الدراسات العلمية منذ 1995 على نمط العمارة اليافعية والتي نشرت في صحيفة “الحياة اللندنية” على ثلاث حلقات انطباعاتها في آخر زيارة لها إلى يافه قبل شهر ونصف، تروي أن يافع هي المكان الوحيد في العالم الذي يتميز بتفرده الأصيل في فنون العمارة الحجرية الخالصة، فهنا فقط يمكن رؤية ناطحات السحاب الحجرية.

ونحن هنا سنبذل الجهد لوضع بعض المقاربات الأولية التي من شأنها وضع الملامح العامة للتعرف على هذا النمط الفني الثقافي الذي ينطوي على منظومة متواشجة من الأنساق والوظائف والدلالات. فلماذا تميزت يافع بفرادة عمارتها؟ وكيف تطور فن الهندسة المعمارية اليافعية؟ وما هي خصائص هذا الفن؟ وما علاقة كل ذلك بالمكان والإنسان والقيم الثقافية المحلية؟

في البدء تجدر الإشارة بأننا لا نزعم الإحاطة بفن الهندسة العمرانية ونلتمس العذر من ذوي الاختصاص بهذا الشأن، وكل ما يهمنا هو أن نسلط بعض الضوء من زاوية النظر الثقافية على هذا النمط الفني اليافعي، وذلك من واقع المعطيات المباشرة والخبرة الشخصية.

ارتبط هذا النمط الفني الهندسي بخصائص المكان ومعطياته الجغرافية الطبيعية، ففي بيئة جبلية وقليلة التربة وضنينة الماء وباردة المناخ، ليس من الغريب أن ينشأ أسلوب من أعمال العمارة من جنس الطبيعة ذاتها، ومن ثم فالبيت اليافعي هو شبيه إلى حد كبير بالجبل اليافعي سواء من حيث الرسوخ في الأرض ومن حيث الارتفاع في السماء أو من حيث مواد البناء التي تعد قداً من صلب الصخور أو الخلب من خالص تراب الأرض النقي والماء والخشب من أشجار السرو. أو من حيث جودة البناء ومتانته الفائقة، بحيث يعتبر البيت اليافعي أشبه بقلعة حرب لا منزل للسكن. هذا كان في الماضي، أما الآن فقد اختلف الأمر بعض الشيء.

لقد تطور هذا اللون من العمارة اليافعية منذ أقدم العصور، وربما منذ استوطن الناس فوق قمم الجبال المتباعدة، وإذا كانت الكهوف في بعض الحضارات الجبلية هي السكن الأول للإنسان. ففي يافع قلما نجد آثاراً كهفية وإن وجدت بعض الكهوف الجبلية الصغيرة فمن الصعب التكهن بأنها كانت منازل للساكنين. ومن المرجح أن البناء فوق قمم الجبال العالية كان النمط المفضل لسكان يافع القدماء. ومازالت الآثار شاهداً حتى الآن فوق قمة جبل ثمر أعلى قمة في يافع أو في أي قمة أخرى. كل قمم الجبال اليافعية تروي قصة الأسلاف بما تحويه من بقايا وأطلال هندسية تم تشييدها في الماضي السحيق، كالنوب والسدود الصغيرة ومعالم حصون بائدة ومنازل مهدمة، وربما يعود تفضيل العيش في أوكار النسور إلى عوامل وشروط أمنية في بيئة قبلية وطبيعية موحشة ومخيفة سيما حينما يحل الظلام.ولعل ما يعزز هذا الافتراض ما نلاحظه اليوم من تفضيل الناس السكن في الأماكن الأكثر رحابة والقريبة من خطوط المواصلات “الطرق” وفي مسطحات الهضاب وبطون الوديان. وقلما تجد اليوم منزل يشيد فوق قمة جبل نائي عن الطريق. بكلمة لقد هجر أبناء يافع أوكار النسور وفضلوا السكن بقرب العصافير وهذا يعود إلى حالة استتباب الأمن في المنطقة التي شهدتها منذ استقلال جنوب اليمن في 1967م.

طقوس البناء

لكل فن طقوسه وأدواته ووظائفه، وفن العمارة اليافعية يمتلك سيرة طقوسية يطول شرحها، ولا يتسع المقام هنا لعرضها، وبوسعنا أن نشير إلى أهمها:

 

العرصة (المكان)

كل من يريد بناء منزل ينبغي عليه في البدء اختيار (العرصة) (البقعة) التي سوف يشاد فوقها الشكل الهندسي، غير أن الأمر لا ينتهي بمجرد اختيار العرصة، بل لابد من استشارات خبير متخصص في ذلك يسمى (المعرص)، شخص كبير في السن يعرف النجوم والطوالع، حيث يقوم بفحص العرصة فحصاً دقيقاً ليحدد بعد ذلك إن كانت صالحة للبناء أم لا، وقد تكون البقعة المختارة مناسبة جداً من الناحية الطبيعي، لكن هذا لا يكفي، فلابد أن تكون خالية من كل الشرور والمس والجن، وبعد أن يتم تحديد العرصة يتم ذبح (فدية) راس غنم، حينها يبدأ العمل في تسوية الأرض (؟؟؟ العرصة). وبسبب ضيق المساحات المستوية في يافع خاصة في ؟؟؟ ورصد والمفلجي واليزيدي وذي ناخب، كثيراً ما تكلف العرصة وبناءها بالكثير من تكاليف البناء. في العادة يختار الشخص الراغب في بناء منزل مكان قريب من أملاكه أو فيها وعليه شراء العرصة من جيرانه وأحياناً يتعاون الناس في ذلك. كانت تحدد مساحة العرصة في الماضي بالذراع، وغالباً ما تكون مربعة (30×30) ذراعأو (40×40) ذراع. لابد أن تكون مساحة البيت كلها فوق (الجيد الصلب) وأحياناً يتم حفر مكان (الساس) حتى يتم العثور على الجيد، وقد يستدعي ذلك بناء أكثر من مترين (أرام) أي بناء لا ينتفع منه، وحينما تتساوى الأربعة أركان في البناء الأساسي (الساس) يتم عمل (قطفة) عطفة، بحيث يقوم الباني بشد الخيط على أربعة أركان يتم إدخالها بمقدار الكف أو يزيد عن البناء (الأرام) بحيث تكون فاصل خارجي يفصل الطابق الأول عن البناء (الأرام)، بعد ذلك يستمر البناء وعادةً ما تكون المداميك الأرضية واسعة بحيث يكون سمك المدماك من ذراع إلى ثلاثة أو فوتين ونصف. وأن الاهتمام بأساسات البيت اليافعي هو عادة ثقافية متأصلة، ؟؟؟ الذي أصبحت فيه تجري مجرى الأمثال، وكثيراً ما يرددها الشعراء الشعبيون بقصائدهم. على هذا النحو ليس ثمة بيت حجري في يافع تم بناءه فوق أرض رخوة، بل أن المنزل هو لصيق دائماً بالجبل وامتداد له.

وهناك شريحة اجتماعية متخصصة بمهنة البناء في يافع منذ القدم وحتى الآن، هذه الفئة تدعى (أهل بن صلاح) بحيث ارتبطت هذه المهنة باسمهم (أبناء صلاحي) لأنهم أفضل من يجيد هذه المهنة المتوارثة عن أجدادهم، ورغم أن بعض الأشخاص الذين تعلموا مهنة البناء على أيدي (الصلاحيين) وأجادوها إلا أن (الصلاحي) هو علامة الجودة الأكثر ضماناً.

شكل البيت ووظائفه

هناك أشكال هندسية مختلفة للبناء اليافعي منها:

  • الاسطواني، والذي تمتاز به (السدود) والنوب العالية (النوبة).
  • الشكل المستطيل الذي تمتاز به الريام والمفارش المنفردة، أو ديوان منفرد.
  • الشكل المدرج وهو الأكثر انتشاراً.

يلحظ الزائر ليافع الآن وكأن ثمة اتفاق ملزم بين الناس على هذا النمط من البناء فتبدو البيوت متشابهة إلى حد كبير من حيث الشكل والتقسيم وألوان الحجارة المستخدمة وتقسيم الطوابق والنوافذ والتشاريف. وربما كان هناك شكل آخر للبناء هو المكعب، الأركان، إلا أنه نادر الآن، والبيت هو مصدر للفخر والاعتزاز بالنفس في يافع، لذا تجد الناس يتنافسون فيما بينهم في تشييد البيوت ذات الطوابق العالية وارتفاعها يصل إلى سبعة طوابق حجرية تقريباً متوجة بتاج الشرف أي (التشاريف) التي نراها أشبه بالقرون المدببة فوق سطح المنازل.

ميتافيزيقيا البيت اليافعي

في كل نمط من أماط العمارة يمكن اكتشاف ما وراء الأشكال والأساليب، فمن المؤكد أن ثمة ما ينبغي اكتشافه خلف هذه المظاهر المباشرة لفنون العمارة. هنا، لو أمعنا النظر يمكن أن نرى قيمات متخفية تتصل باللاشعور الجمعي، فشخصية الأفراد وأنماط تفكيرهم وتصوراتهم عن الحياة وعن أنفسهم وعن الآخرين، الانفتاح أو الانغلاق، الطموح والنكوص، الجمال والقبح، النرجسية والغيرية، وغير ذلك من الحيثيات الأخرى، يمكن أن تكتشفها في سياق تفكيك أشكال البناء إلى عناصرها الثقافية الأولية.

وكما يقول المفكر الفرنسي الشهير ميشيل فوكو: “إذا كانت الأساليب المعمارية مثلاً، رؤى، ومحط رؤية، فمرد ذلك أنها ليست مجرد أشكال بناء أقيمت من الحجر، ترتب فيها الأشياء وتنتظم الصفات على نحو معين، بل أنها بالعكس أشكال بصرية تتوزع فيها الأنوار والظلال والألوان الشفافة والداكنة، كما تتوزع فيها المرئيات وغير المرئيات وما شابه ذلك.

بل أن الهندسة المعمارية هي الفن الأول للإطار، فهناك عدد من الأشكال للإطارية لا تدل على أي محتوى واقعي ولا على أي وظيفة للبناء، البناء الذي يعزل، النوافذ التي تنفتح على الخارج، الأرضية التي تبعد نتوء الأرض كي تنطلق المسارات الإنسانية بحرية، السطح الذي يغلف فرادة المكان كوضع البناء على قمة جبل. إن كانت هذه الأطر والمسطحات حينما تلتقي كمركبات حسية، أو حزمة من الإحساسات والمدركات الحسية، هي ما يسمى بالفن. فالفن هو لغة الأحاسيس التي تتجلى فيما يسمى بالسكن مع منظومة المكان لتتحول إلى وظائف عضوية كثيرة، كالإنجاب والعدوانية والتغذية والحرية والتسامح والعنف، الخوف والأمان. وهنا في المنزل ينبغي علينا اكتشاف كل الألحان، كل اللازمات الصغيرة المؤطِرة والمؤَطرة للطفولة، المنزل، اتساع فضاء اللعب، انفتاح الغرف من الداخل. كل هذه الأشياء مشحونة في اللازمة الكبرى أغنية الأرض النافذة ورقصة الحياة المستمرة بين الرغبة والحلم، بين الممكن والمستحيل، بين الخوف والأمن، بين الثقة العالية والانكفاء على الذات.وإذا ما كان علينا تحديد العلاقة بين فن البناء اليافعي وبين الروح العامة للثقافة في يافع، سوف نجد أن وشائج عديدة تربط بينهما، فحينما كان الناس في الماضي يفضلون السكن على قمم الجبال ببيوت قليلة الطوابق وخالية من النوافذ عدى بعض الكوى الصغيرة أي بيوت شبه مظلمة، كانت تتنازعهم رغبة الحرية والخوف من العدو الخارجي، كان البيت في الماضي وحتى عهد قريب ضيق النوافذ، وكان الطابق الأول من كل بيت تقريباً هو مكان لسكن الماشية، وكانت تغلق أعتاب البيوت مع مقدم الأصيل، وكانت سقوف البيوت واطئة وغرفها ضيقة، كل هذا يدل على ثقافة الحذر والاستعداد للحرب. والانغلاق على الذات كانت هي السائدة في نمط لعلاقات قبلية عنيفة.

أما اليوم، فالفروق كبيرة، فالبيت غدا أوسع مساحة وأكثر إضاءة، والنوافذ كبيرة والغرف واسعة والطوابق عالية والرغبة في العلو متزايدة. كل تلك الخصائص تدل على وجود نزوع طاغٍ للحرية والانفتاح والرغبة في الطيران والتحليق في فضاءات واسعة، وما انتشار أبناء يافع في كل بقاع الأرض إلا خير شاهد على تلك الرغبة المتعطشة للانطلاق في آفاق واسعة، وما سعة الفضاء الداخلي للسكن وإفساح نوافذ واسعة لدخول النور إلى جميع زوايا المنزل إلا تعبيراً عن شعور الناس بالأمان وتوقهم للانفتاح على الآخرين، وما ارتفاع طوابق البيت اليافعي في أعلي السماء إلا دلالة على ذلك الطموح الشديد والرغبة في معانقة النجوم.

ويؤسفنا هنا التذكر أن حالة الفتنة القبلية التي تعيشها منطقة الحد في يافع بين آل بني داود وآل الردامي كان من نتائجها المباشرة أنه تم تغيير ملامح البيت اليافعي الحديث، حيث أغلقت الأبواب والنوافذ في الطوابق الأولى وأعيد تجهيز المنزل بما يتلائم ونمط العلاقات الثقافية الحربية التي أخذت تظلل بغيومها السوداء آفاق حياة السكان في الحد.

بقي أن نشير إلى بعض الاختلافات التي حدثت بين فن الهندسة القديم والفن المعاصر. في الماضي كان كل شيء ف بالمنزل يؤدي وظائف حيوية بدءاً من (مردم العتبة) وانتهاءً (بالمنظرة)، وكانت الحجارة هي المادة الأساسية في البناء، سواء للجدران أو السقوف، فالسقف من الحجر الرهيف الصلب، والدرج يسقف (بالسحابيل) وهي حجارة طويلة يصل طولها إلى مترين، وكان كل طابق يحتوي على (مفرش) ديوان أو (مربعة) هي نصف الديوان في حين أن الدرج هو النصف الآخر، وكان يوجد وما يزال في كل ديوان (خلة) والعدة، خلة لخزن الأشياء الثمينة و(هدة) للنوم، وكانت العقود فوق النوافذ وفوق الأبواب، وأشكال الزينة الأخرى هي جزء من البناء، وكذا كان الخشب يشتمل منحوتات أثرية دقيقة وجميلة، أما اليوم فقد دخلت الكثير من الأشياء الجديدة في أنماط البناء المعاصرة بحيث لا يختلف المنزل في يافع عن أي منزل في أي مدينة عربية أخرى إلا بشكله الخارجي.

 

 

 

رأي واحد حول “في انثروبولوجيا ناطحات السحاب الحجرية”

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.