في الانثروبولوجيا والمجتمع

كامل جاسم المراياتي

أ.د. كامل جاسم المراياتي

الجامعة المستنصرية

المقدمة:

للعلم والمعرفة وظائف وأهداف وآليات محددة، ويعد استخدام العلم أحد العاملات الأساسية التي تؤشر مدى رقي المجتمع ودرجة حضارة البلد وعنوان مجد المجتمع ومساراته.

فهو الركيزة الأساسية التي يستند عليها تقدم الأمم ورقيها، وقد وظف العلم منذ زمن بعيد من خلال جوانبه التطبيقية في فهم طبيعة الحياة ودراسة الظواهر الطبيعية والكشف عن أسرار الكون والحياة وتطويع البيئة وخدمة الإنسان وإذا كان منطق العلم يفترض عدم المفاضلة بين دور العلوم الصرفة والطبيعية ودور العلوم الاجتماعية والسلوكية في معرفة حقائق الكون والحياة وفي اكتشاف القوانين وآلية التتابعات الزمانية، فإن منطق الواقع – ولاسيما في ظروف الأزمات والتحولات الاجتماعية الكبرى- يتطلب تنشيط حركة البحث التطبيقي في دارسة الواقع الاجتماعي ورصد الظواهر الباثولوجية وتسليط الأضواء على الأدوار التي يؤديها العلم الاجتماعي في مثل تلك الظروف،  انطلاقاً من حقيقة أساسية تربط فهم حركة المجتمع بالبحث الميداني والتطبيقي ربطا تبادلياً من خلال دور الفعل التطبيقي في رصد الظاهرات وتحليلها والوقوف على المشكلات ومعالجتها ورسم السياسات وتخطيط النشاطات. ومثل هذا الجهد يتطلب –دون ريب- الدقة في متابعة الإحداث والموضوعية في إصدار الإحكام والعلمية في الالتزام بالنهج الدراسي السليم.

ونظراً لما لنتائج الدراسات التطبيقية من دور كبير في رسم صورة واضحة للواقع الاجتماعي وتحديد العوامل والمتغيرات التي تؤثر في إحداث الحدث الاجتماعي وفي تبدل وتعديل العلاقات والأدوار والمكانات الاجتماعية، فإن لنتائجها الرأي القاطع في التحكم بإيقاعات الحياة الاجتماعية والضبط الاجتماعي وتغير القيم والمعايير وفي رسم صيرورات الحراك الاجتماعي إضافة إلي دورها في رسم معالم الطريق وتحديد ملامح النشاطات الاجتماعية والسلوكية للإفراد والجماعات داخل المجتمع وفي التعرف على اتجاهات حركة المجتمع ومسار التاريخ لقد أضحت الحاجة ملحة في عصرنا الحضر لتوظيف معطيات العلوم الاجتماعية والسلوكية في خدمة السكان المحليين والاهتمام بالبحوث الميدانية والتطبيقية من أجل أنسنة الإنسان وترشيد حركة المجتمع، وذلك بعدما تسارعت حدة وتأثر الحراك الاجتماعي وتزايدت إرهاصات الأزمات المجتمعية وتعقدت ظواهر التحولات الاجتماعية وما نتج عنها من مشكلات مادية واجتماعية في ظروف العولمة وتحول العالم من قرى ومجتمعات متباينة متباعدة إلى قرية كونية صغيرة واحدة.

ودون شك فإن التطبيقات العملية زاخرة بالوقائع التي تؤكد أهمية البحوث الاجتماعية الميدانية في توفير البيانات والمعلومات اللازمة لنجاح مشروعات وخطط التنمية، بل إن كثيرا من المشروعات التي لم يكتب لها النجاح ولم تحقق أهدافها إنما يعود لعدم تعرف القائمين على تلك المشاريع على الظروف الاجتماعية المحيطة بتك المشروعات وعدم وقوفهم على الخصائص الاجتماعية للسكان وطبيعة المجتمعات أو عدم مراعاة الظروف البيئية في الأوساط المستهدفة. وربما عدم إدراك صيرورات عمليات الحراك والتغير الاجتماعي لا ريب إن التغير الاجتماعي إنما يعني حركة تحول تطال أسس التنظيم الاجتماعي للمجتمع، ويترتب على ذلك التحول تعديلات في إنساق البناء الاجتماعي وتبدلات في النظم والعلاقات والتفاعلات الاجتماعية، بيد أن هذا التحول أو التغير قد يأخذ شكلا واحدا من إشكال عديدة أو يتخذ مسار مختلف دون آخر، مما يترتب على اختلاف تلك الأشكال والصور نتائج متباينة. فقد يتخذ التغير شكل ثورة أو تغير عنيف جذري مفاجئً أو قد يكون تراجعاً، أو قد يتخذ صورة إصلاح اجتماعي بطئ، وربما يتخذ التغير مساراً أفقياً أو عمودياً. ولا شك إن هذا يتطلب فهما نظرياً بظروف المجتمع ونظريات التغير وعوامله ونتائجه والواقع فإن الفعل التطبيقي للبحوث الاجتماعية في المجتمعات والدول المختلفة اظهر تباينا في درجة الاعتماد على إدراك الإبعاد النظرية والميدانية للظاهرة المدروسة. واختلافاً في فهم طبيعة الظاهرة، وتبايناً في درجة الالتزام بالموضوعية والعلمية في الدراسة وكذلك في عملية اختطاط البحوث الميدانية، واختلاف درجة أهلية القائمين على تلك المشاريع نظرياً وميدانياً، مما ينعكس بشكل أو بآخر على نتائج البحث الميداني وعلى نتائج تطبيقات ما توصلت إليه تلك الدراسات في قطاعات وشرائح المجتمع لقد أدى الاهتمام بعمليات التغير والتنمية والتحديث في بلدان العالم إلى ظهور دراسات كثيرة في ميادين العلوم الاجتماعية مستثمرة آليات المعرفة الفكرية الاجتماعية في علوم الاقتصاد والاجتماع والانثروبولوجيا والعلوم السياسية. وقد لعبت تطبيقات العلوم الاجتماعية بمختلف تخصصاتها دوراً كبيراً ي فهم ودراسة التغيرات التي واجهتها مجتمعات العالم، بل وكان لبعض من تلك الدراسات فعلا مؤثرا في التحكم بالمتغيرات، وفي التحكم بمسارات العلميات الاجتماعية مما أدى إلى استخدام أدوات ومناهج تحليله معقده ومتطورة والجمع بين النظرية والتطبيق في الدراسات الميدانية، وكان لعلم الاجتماع التطبيقي دورا متميزاً وواضحا في تلك الجهود غير أن الوعي بأهمية البعد الميداني والحذاقة في امتلاك ناصية العلم النظري والتمكن من استخدام الأطر المنهجية والأدوات الميدانية في البحث إلى جانب الإحاطة بادراك خصوصية الواقع الاجتماعي في المجتمع المستهدف، لابد أن يتباين من باحث لآخر ومن حقل معرفي لآخر مما ينتج عنه تداخل في الرؤى المعرفية للحقول المتشابهة الاهتمام سيما بعد أن ظهر على الساحة الميدانية للعلوم الاجتماعية حقل جديد عرف باسم الانثروبولوجيا التطبيقية والذي كان عليه أن يضطلع بالأدوار التي كانت مناطة بالعلم الاجتماعي التطبيقي أو علم الاجتماع المقارن وهكذا أسهمت الانثروبولوجيا من خلال فرعها الجديد بدراسة البني الاجتماعية في المجتمعات التقليدية والحديثة على السواء، فتوجهت نحو الإسهام في برامج ومشاريع تنموية وتقرير الزعامات المحلية ومساعدة السكان في تحريك النشاطات التنموية الثقافية والتكيف مع عمليات التغير التكنولوجي إلى جانب إسهام بعض البرامج بتدعيم علاقات السيطرة والتبعية فيما يعرف باسم دراسات الإدارة الاستعمارية.

وكان على العلم الانثروبولوجي في العراق أن يواكب عمليات الترجمة الإبعاد النظرية للفكر الاجتماعي انثروبولوجيا من خلال تفعيل الاستخدامات التطبيقية والإسهام الجاد في دراسة الواقع الاجتماعي العراقي الزاخر بالمشكلات والتوترات والتغيرات الحادة، وهذا ما شكل هاجساً ودافعاً نحو تأسيس فرع دراسي جديد يهتم بالبعد التطبيقي لمشكلات المجتمع العراقي، ويعني بتنمية المجتمعات المحلية ومساعدة السكان المحليين في إدارة شؤونهم من خلال دراسة واقع تلك الجماعات وتقديم استراتيجيات ورؤى بديله وسم برامج وخطط تنموية وثقافية تعالج مشكلات البيئة المحلية والسكان بيد أن الفعل الأكاديمي لم يكن في مستوى الحد الأدنى من الطموح المعرفي، الأمر الذي شوه معالم التجربة الانثروبولوجيه العراقية، فكانت النتائج هزيلة سطحية أضافت لتردي أغلب النتاجات والبحوث الاجتماعية في العراق دفعة أخرى نحو الوراء لقد تعرض مجتمعنا العراقي في القرن المنصرم وبدايات القرن الحالي إلى هزات عنيفة وحروب إقليمية وصراعات داخلية وكوارث بيئية واختلالات ينيوية نتج عنها العديد من تحولات وتغيرات جوهرية في المفاهيم والقيم والمعتقدات والولاءات. وقد تزامنت تلك التبدلات مع نمو اتجاهات معرفية وحقول دراسية جديدة في العديد من دول العالم وأقطار الوطن العربي. غير أن ذلك التوافق الزمني لم يكن ليتوافق مع كفاءة الفعل الأكاديمي في العراق. الأمر الذي تسبب في تشوه الصورة المعرفية لبعض الحقول الدراسية وعجز الأداء التطبيقي عن مواكبة سرعة التحولات المجتمعية، بل وعجز بعضها عن فهم متغيرات الحركة الاجتماعية وحركة الأداء الأكاديمي، وكان أن أصبحنا نمتلك المعرفة شكلاً دون أن نستوعبها مضموناً. وهذا لعمري آفة الآفات.

ذلك أن الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع ليس مجرد دراسات وصفية وقراءات استعراضية، بل وصف وربط وتحليل مما تساعدنا قراءة التاريخ على استخلاص النتائج والعبر وفهم الأسباب الدوافع وأدارك دقة التحليل، ففي كتاب انثروبولوجيا الصراع المسلح والعدوان الذي اشرف على تحريره مورتون فرايد (M. Fried) وزملاؤه سنجد قرارات عن انثروبولوجيا الحروب تفسر لنا بعضا من حوادث الحروب في ضوء الفهم الانثروبولوجي لقد تعرضت روما خلال تاريخها الحضاري في عهد الامبراطورية الرومانية للعديد من الغزوات والحروب والنكبات، ولكن الملاحظ من قراءة سجل تلك الحوادث والصراعات أن هزيمة عام 391 ق.م قد أدت إلى بعث الحياة في أوصال الامبراطورية الرومانية وإلى تنمية هائلة في المجتمع، بينما ترتب على خراب المدينة وهزيمتها على يد القبائل القوطية عام (410) أن المدينة أصبحت غير قادرة على تجاوز نكبنها والنهوض ثانية.

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال أساسي:

لماذا نجحت روما في طرد البرابرة بعد هزيمة عام 391 ق.م واستعادت مجدها. ولماذا عجزت عن النهوض بعد كبوتها عام 410..؟

يبدو أن المشكلة تكمن في مبدأ الولاء. ذلك أن الحكومة في عام 410 لم تعط الجماهير سببا مقنعا يدفعهم للولاء للمدينة، بينما أدرك الشعب الروماني بعد هزيمة عام 391 ق.م أنه صاحب الأمر في الامبراطورية وعماد محاربيها. لقد أدرك القديس أوغسطين حينها هذا السبب فحاول أن يقدم المسيحية كأساس لولاء جديد من خلال مدينة الله.

لقد استهدفنا في دراساتنا هذه التعرف على واقع المعرفة الانثروبولوجيه وفتح سجل النشاط الانثروبولوجي ومراجعة بعض الاهتمامات الانثروبولوجيه فضلا عن محاولة الاجتهاد في تقديم رؤية معرفية نظرية عسى أن تكون قابلة للاختبار الميداني والتقويم والتصويب. وقد اعتمدنا في الدراسة على بعض المراجع المكتبية وعلى المعلومات والانطباعات النظرية المستقاة من البعد الميداني للتطبيق الانثروبولوجي وعلى الملاحظات المتكررة المكتسبة من التماس المباشر بالحقل الطلابي والتعليمي الانثروبولوجي وكذلك من تدريس بعض المواد الانثروبولوجيه والسوسيولوجيه ومراجعة بعض ما أنجز من نشاطات وجهود تطبيقية ميدانية في الحقل الانثروبولوجي العراقي، ولاسيما تلك الجهود والنشاطات التي صاحبت تأسيس أول قسم متخصص بالدراسات الانثروبولوجيه والذي عكس صورة بائسة لمستقبل التصورات المعرفية والجهود الأكاديمية في هذا التخصص الدراسي البالغ الأهمية في مجتمع متعطش لتقويم المسار وعلى وفق هيكلة هذه الدراسة فإنها ستكون على جزأين أساسين يتناول كل منها جانبا من جوانب الفهم الانثروبولوجي، فضلا عن مباحث فرعية تضمنها كل قسم من أقسامها الأساسية، فقد استهدف الجزء الأول من الدراسة التعريف بالعلم الانثروبولوجي من حيث تخصصاته وفروعه واهتماماته واختلاف وجهات نظر الرواد والمتخصصين حول جوانب التركيز في الدراسة النظرية والتطبيقية. إلى جانب محاولة اجتهادية أوليه لفك الارتباط بين حقلي علم الاجتماع والانثروبولوجيا –على ما في تلك المحاولة من احتمالات الخطأ وعدم الصواب- ومن ثم التطرق نحو موضوع عسكرة الانثروبولوجيا باعتباره موضوعاً يمثل واحداً من أهم التطبيقات الميدانية في هذا الحقل المعرفي لاسيما بعد تزايد مظاهر الصراعات الدولية وتفكك ثنائية النظام الدولي بانهيار الاتحاد السوفيتي وتزايد الحاجة إلى توظيف المعرفة الانثروبولوجية في الحروب والصراعات المحلية والخارجية.

وفي الجزء الثاني كان لابد من التطرق إلى موضوع علاقة هذا الحقل بمواضيع التنمية والتحديث والتغيرات الاجتماعية المخططة تمهيداً للتحول نحو الغاية الأساسية للدراسة والتي تتمثل في طرح مشروع برنامج عن شبكة العلاقات الاجتماعية بغية إعادة ترتيب نسج مفرداتها على نحو يحقق الغاية الإنسانية ويمتن أواصر الألفة والتعاون بين السكان والجماعات المحلية في مجتمع تعرض لمحاولات التفكيك والتجزئة. وذلك من خلال طرح تصور لبعد تطبيقي وبرنامج تنموي يستهدف تعديل انماط الاتجاهات والسلوك، أو إعادة البناء القيمي والسلوكي لدى شرائح مجتمع مستهدفة القسم الأول: الانثروبولوجيا وعسكرة الفعل الانثروبولوجي الانثروبولوجياanthropology مصطلح علمي مركب مرتكز على لفظة (Ethoc) الإغريقية والتي تعني شعب أو قوم. ويشير هذا المصطلح إلى العلم الذي يهتم بدراسة بني البشر الإنسان من حيث كونهم كائنات عضوية واجتماعية وثقافية. ويقال لهذا العلم أحيانا علم الاناسة أو علم الانسنه لأنه لا يهتم بدراسة الإنسان الفرد كما هو الحال في علم النفس أو الفزيولوجيا، بل يهتم بدراسة الأجناس البشرية التي تعيش في جماعات وتجمعات ويتناول تنظيماتهم وأعرافهم وإحداثهم وأفعالهم الحياتية. لذا يرى البعض تسمية هذا الحقل بعلم السلالات أو علم الأجناس، أول ربما علم الأعراف (1) وكان عالم الطبيعة الألماني جوهان بلومينباخ (j. Blumenbach) المؤسس الأول للأنثروبولوجيا الطبيعية أول من أدخل كلمة الانثروبولوجيا في منهج تدريس التاريخ الطبيعي قبل أن تصبح مفردة من مفردات الخطاب السوسيولوجي(2).

والانثروبولوجيا كحقل متخصص يعد تطوراً حديثاً في تاريخ الفكر الإنساني لاهتماماته المتداخلة والمتعددة والزوايا المختلفة التي يتعامل بها مع قضايا الإنسان والثقافة والمجتمع. ولم يتبلور هذا العلم كدراسة متخصصة إلا في أواخر القرن التاسع عشر حيث أصبح حقلاً مستقلا عن الفلسفة الاجتماعية فمن الزاوية البايولوجيه تتعامل الانثروبولوجيا (الجسدية) أو الفيزيقية physical anthropology مع الإنسان كنتاج لعمليات والتطور البايولوجيه وتهتم بطبيعة تركيب جسم الإنسان الفسلجي والتشريحي. وتحليل مقاييس الجسم البشري والسمات الفريقية للكائنات البشرية بمناهج كمية.

وتتبع مراتب الحياة العضوية مع التركيز على دراسة أصول الأجناس البشرية وتطوراتها البايولوجيه وتصنيفاتها عبر العصور الجيولوجية المختلفة التي مر بها الجنس البشري واختلاف التراكيب العضوية والجسدية والتنوع السلالي للأقوام البشرية، وأسباب تباين تلك السلالات عضويا وفيزيقيا ومقارنة سمات الجماعات العرقية المختلفة ببعضها. مع دراسة أثر الظروف والمؤثرات البيئية والايكولوجية في اختلاف أو تشابه التراكيب الجسدية للعناصر البشرية ومدى قدرة تلك المجاميع البشرية على التكيف مع الظروف البيئية والايكولوجيه. مستعيناً بذلك بدراسة المتحجرات والشواهد الدالة على تلك التطورات والتكيفات. كالآثار المادية وبقايا العظام والأسنان وغير ذلك من أدلة(3).

ومن هنا يعد موضوع التكيف على اختلاف صوره واحداً من شؤون الدراسة الانثروبولوجيه وحلقة وصل بين المعرفة البايولوجيه والمعرفة الاجتماعية ولذا كان على الباحث في الانثروبولوجيا الفيزيقية أن يستعين في دراساته بعدد من العلوم المختلفة كعلم التشريح وعلم الآثار وعلم الاحياء والجيولوجيا والكيمياء البايولوجيه والانثروبومتري (Anthropometry) والساموتولوجيا (Somatology).

وإذا كانت الانثروبولوجيا الثقافية (Cultural Anthropology) حقلاً يختلف عن ميادين الانثروبولوجيا الفيريقية بكونها تولي مفهوم الثقافة أهمية مركزية وتتجه نحو الدراسات المقارنة لثقافات المجتمعات البشرية ودراسة السلوك اللغوي فيها واختلاف إدراك المفاهيم الرمزية بين جيل أو جماعة أو عصر وآخر. فإنها لا شك أكثر التصاقاً بعلم اللغة الانثروبولوجي (اللسانيات) وعلم آثار ما قبل التاريخ. وهذا ما تراه المدرسة الانثروبولوجيه الأمريكية التي لا ترى في الحقل الانثروبولوجي إلا فرعين فقط هما الانثروبولوجيا الطبيعية والانثروبولوجيا الثقافية التي تضم بدورها حقول معرفية عديدة مثل (الاثنوغرافيا Ethnography الانثولوجيا Ethnology علم آثار ما قبل التاريخ Archeology اللسانيات linguistics الفولكلور Folklore والانثروبولوجيا الاجتماعية Social Anthropology وهذا ما ذهب إليه رالف بندجتون (R. Piddington) عام 1960 في كتابه (مقدمة في الانثروبولوجيا الاجتماعية) إذ قسم حقل الانثروبولوجيا إلى حقلين متمايزين هما الانثروبولوجيا العضوية والانثروبولوجيا الثقافية. وما يراه أيضا فلكس كسينج (F.Keesing) مع الاختلاف النسبي بينهما. غير إن ما يدرجه الأمريكان تحت عبارة الانثروبولوجيا الثقافية يشير الفرنسيون إليه بالاثنولوجيا والاثنوغرافيا في بعض الأحيان ويدرسون تلك المواضيع تحت مظلة علم الاجتماع. أما الانجليز فقد اختاروا تسمية الانثروبولوجيا الاجتماعية لذلك الحقل منذ أن حاز السير جميس فريزر (Sir james frazer) أستاذية كرسي ذلك العلم وأطلق عليه تلك التسمي عام 1908، فتعامل الانجليز مع هذا الحقل كعلم قائم بذاته لا يندرج تحت مظلته حقل الاركيولوجيا ولا علم اللغويات(4).

ويستخدم الأمريكان اصطلاح الاثنولوجيا فيما يرادف ما يسمي في بريطانيا بالانثروبولوجيا الاجتماعية. ومن الجدير بالذكر أن الاثنوغرافيا تتميز بأنها دراسة وصفية أفقيه مقارنة لظاهرة من الظواهر في ثقافات أو مجتمعات متغايرة. بينما تعد الاثنولوجيا دراسة عمودية مقارنة لظاهرة اجتماعية أو لمظاهر ثقافية ببعديها المادي واللامادي. من خلال التعرف على ماضي تلك السمات وتاريخ الظاهرة. وبعبارة أخرى فإذا كانت الدراسة الاثنوغرافية دراسة وصفية مقارنة للظاهرة باختلاف المكان (Space)، فإن الدراسة الاثنولوجيه هي لدراسة مقارنة باختلاف الزمان (Time). وهذا يستتبع اختلاف النهج الدراسي وأدوات البحث(5).

هذا وقد حدد مورسيل موس (M.Mauss) موضوع الاثنوغرافيا في كتاب دليل الاثنوغرافيا بأنه يهتم بدراسة منتجات الإنسان المادية وغير المادية والعوامل التي تحدد عمليات استعارتها وانتشارها بين الشعوب. أما علم الاجتماع فإنه يدرس ظواهر المجتمع الإنساني في إطار التنظيمات الاجتماعية وما تؤديه من وظائف وتشكله من اتجاهات. ورغم تلك الاختلافات. ورغم الاختلاف بين أنصار المذهب الوظيفي في فهم النهج الانثروبولوجي وحقوله عموما. فإن علماء الانثروبولوجيا البريطانيون –لاسيما أنصار المدرسة البنائية الوظيفية- يرون إن حقل (الانثروبولوجيا الاجتماعية) حقل يهتم بدراسة البناء الاجتماعي والحياة الاجتماعية في إطار التفاعل الاجتماعي. بينما تهتم الانثروبولوجيا الثقافية بنفس الخصائص ولكن من زاوية مغايرة فترى في العادات والمعتقدات جزءاً من النظام الاجتماعي الكبير.

إن فكرة البناء الوظيفي في النظرية الانثروبولوجيه تستند على مبدأ التساند والتضايف بين المراكز والأدوار من خلال مفهومي البناء والوظيفة، فلكل مركز اجتماعي دوره أو وظيفته. والنسق البنائي نسق يربط بين المراكز التي يحتلها الأشخاص في المجتمع بينما يربط النسق الوظيفي بين الأدوار التي يلعبها هؤلاء الأشخاص في النشاطات الاجتماعية المتنوعة.

وينظر الاتجاه البنائي التكاملي إلى المجتمع باعتباره نسقا يتألف من أشخاص يحتلون مراكز محددة في البناء الاجتماعي. ويرتبطون فيما بينهم بعلاقات تحكمها معايير وجزاءات محددة. أما العلاقة الاجتماعية فهي حجر الأساس في البناء الاجتماعي وهي مفهوم يدل على أية صلة أو تفاعل بين فردين أو جماعتين فأكثر. وسواء أكانت صلة مباشرة أو غير مباشرة تعاونية أو غير تعاونية. لقد عرف (راد كليف براون R.Brown) – وهو من ابرز رواد المدرسة الوظيفية البنائية – الانثروبولوجيه الاجتماعية بأنها (دراسة طبيعة المجتمع الإنساني دراسة منهجيه منظمة تعتمد على مقارنة الأشكال المختلفة للمجتمعات البشرية بالتركيز على الإشكال الأولية للمجتمع البدائي).

ويرتكز التصور البنائي للمجتمع في منظور براون على مفهوم (الجماعة البنائية) الذي يشكل القاعدة الأساسية للتصور البنائي لشبكة العلاقات الاجتماعية، والذي يستند بدوره على مفهوم المركز، غير أن تعريف براون للبناء الاجتماعي وتحديده لنوع العلاقة الاجتماعية التي تعد أساس البناء الاجتماعي قد أثار مشكلات منهجية عديدة بين العلماء مما اضطره أخيراً إلى التميز بين نوعين من البناء الاجتماعي (البناء الواقعي والصورة البنائية) وذلك لغرض تجاوز تلك الإشكالية وإدخال كل العلاقات الاجتماعية التي تقوم بين الأشخاص في المجتمع ضمن منظومة البناء الاجتماعي على اختلاف مدى ما تتمتع به تلك العلاقات من خصائص الاستمرار والثبات وبغض النظر عما إذا كانت تلك العلاقات تربط بين أفراد أو بين جماعات. الأمر الذي دفع (ايفا نزبريتشارد) إلى إن يقصر دراسته للبناء الاجتماعي على تلك العلاقات التي تقوم بين الجماعات التي تتمتع بدرجة عالية من الثبات والاستمرار في المجتمع كالقبائل والبدنات والأفخاذ.

ورغم الاختلاف بين وجهتي نظر (براون وبريتشارد) في تحديد مفهوم البناء الاجتماعي فإنهما متفقان على اعتبار البناء الاجتماعي شبكة من العلاقات التي تتمتع بدرجات متفاوتة من الثبات أو الاستقرار والاستمرار. كما يتفاوت مدى استقرار واستمرار الأشخاص والجماعات التي تربط بينهما تلك العلاقات. فالعلاقات الثنائية التي يجعل منها (راد كليف براون) الذرات التي يتكون منها البناء الاجتماعي تبدو على درجة من البساطة النسبية بمقارنتها بالعلاقات بين الوحدات القبلية في المجتمع التي يركز عليها بريتشارد اما (روبرت ريدفيلد R.Redfield) فإنه يتفق مع (بريتشارد E.pritchard) على ضرورة الاقتصار على دراسة العلاقات التي تتمتع بدرجة عالية من الثبات والاستمرار مستبعدا العلاقات المؤقتة أو التي تفتقر للثبات والاستمرار كالصداقات القصيرة والعابرة. بيد أنه يختلف معه في إدخال مثل تلك العلاقات القصير إذا وجد أنها ذات أهمية في المجتمع ومقبولة بصورة عامة بين الأصدقاء وكذلك في إدخاله العلاقات التي يسفر التغاضي عنها تغير جوهري في المجتمع(6).

وتأسيساً على ما تقدم –وبعيداً عن نقاط الاختلاف- نستطيع القول بان العلاقة الاجتماعية (Social Relationship) والتي تعد أصغر وحده من وحدات البناء الاجتماعي. هي التي تتشكل العمود الفقري في الدراسات الانثروبولوجيه الاجتماعية لأن العلاقة الاجتماعية تقوم بين أشخاص في مراكز متمايزة وإنها تنتظم في نظم اجتماعية (Social Institution) وانساق متنوعة كنظام الزواج أو نظام الملكية. حيث يلعب النظام الواحد دوراً محدداً في تحديد أنماط السلوك الاجتماعي المرغوبة في ذلك النظام بمعني إن النظام الاجتماعي هو ذلك السلوك المتقنن السائد في المجتمع. وليس أي سلوك فردي يصدر عن الفرد من حيث هو فرد والذي يختلف بالتأكيد من فرد لآخر، ولذلك لا يمكن اعتبار السلوك الفردي سلوكاً اجتماعياً ينتج نظاماً اجتماعياً، لأن النظام الاجتماعي يخضع لقواعد معينة وتحكمه ضوابط وجزاءات وأحكام ثابتة لا يمكن الخروج عنها. كما إن تلك الأحكام والقواعد والجزاءات لا تنعقد إلا في ظل نماذج ثقافية تمثلها الأعراف والتقاليد والمعتقدات السائدة في المجتمع والتي تكون وظيفتاها تمتين أواصر الترابط بين أعضاء الجماعة وإلا تعرضت علاقات الجماعة للتصدع وتعرض المجتمع لحالة اختلال القيم والمعايير السلوكية، تلك التي اسمها دوركايم (A.Durkheim) بالحالة اللامعياريه (الانومي(7)Anomie).

وهكذا يجوز لنا أن نتصور إن العلاقات الاجتماعية تشكل البني الفوقية للمجتمع لكونها تمثل أنماط الإنتاج السلوكي في المجتمع (علاقات الإنتاج)، فيما تمثل القيم والأعراف والمعتقدات البناء التحتي للمجتمع (أدوات الإنتاج). وهنا يكمن الفرق في توجهات كل من الاتجاهين الانثروبولوجيين (الاجتماعي والثقافي) (البناء الفوقي والبناء التحتي).

غير أن ما يجب أن لا يغيب عن بالنا ونحن في سياق الاستطراد. إن الفعل السلوكي لا يتحول إلى معنى اجتماعي إلا عندما يتصرف الفاعل بطريقة تؤثر في تصرف الآخرين بحيث يشكل قاعدة سليمة للتفاعل الاجتماعي (وهذا تصور يتطابق إلى حد ما مع أفكار تالكوت بارسونز T.Parsons) وهو ما يسمح لنا أيضا بتقرير وجود بناءات وسطى تتحكم بصيرورات الفعل الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية تتمثل بالإبعاد السايكولوجيه والنفسية. والتي تتوافق مع ما عبر عنها مالينوفسكي بالحاجات الأساسية والحاجات المشتقة والتي تتحكم بصيرورات العلاقة بين البناءين التحتي والفوقي. كما تجب الإشارة إلى إن البناء الفوقي للمجتمع إنما يتمثل بالأنساق الثقافية والأنساق الايكولوجيه. وهذا رأي يجب ان يخضع لكثير من التداول والحوار ومع ذلك فإن العلاقة بين تلك البناءات ليست علاقة سببيه بالضرورة بحيث أن التغير في أحد البناءات يؤدي إلى حدوث تغير في البناء الآخر. وكلنها قد تكون علاقة تزامنية أو علاقة احتمالية في الغالب. لأن حصول التغير في طرف منها قد لا يؤدي بالضرورة إلى تغير في طرف الآخر.

ويبدو أن توجه الانثروبولوجيون البريطانيون نحو دراسة البناء الاجتماعي والوظيفة قد جاء متأثراً بالاتجاه التجريبي عامة وبأفكار المدرسة الفرنسية لعلم الاجتماع. وهكذا توجهت المدرسة الانثروبولوجيه البريطانية نحو دراسة الأنساق الاجتماعية Social Systems والبناءات الاجتماعية Social Structures مما جعل من مفهوم الانثروبولوجيا الثقافية عندهم يتطابق مع مفهوم الانثروبولوجيا الاجتماعية Social Anthropology على خلاف المدرسة الأمريكية التي اتخذت موقفا متطرفا حيال التميز بين الانثروبولوجيا الثقافية والانثروبولوجيا الاجتماعية كما يبدو ذلك جلياً من تركيزهم على دراسات الثقافة وإهمال دراسة السلوك الاجتماعي وكما في إعمال رالف لنتون وكلاكهون وبواس(8). وفيما يرى (ايفانز بريتشارد E.Pritchard) أن مهمة الانثروبولوجي تنحصر بدراسة السلوك الاجتماعي الذي يتخذ غالباً شكل نظم وانساق اجتماعية كنظام العائلة ونسق القرابة والنظام السياسي والإجراءات القانونية والعبادات الدينية وغيرها من النظم والإجراءات إلى جانب دراسة العلاقة بين تلك النظم والأنساق. ترى (ماركريت ميد M.Mead) العالمة الانثروبولوجيه الأمريكية أن الاهتمام الانثروبولوجي عامة يجب أن ينصب نحو دراسة الخصائص البايولوجيه والثقافية للنوع الإنساني عبر الأزمان وفي سائر الأماكن، مع تحليل الصفات البايولوجيه والثقافية المحلية كأنساق مترابطة متساندة ومتغيرة وذلك عن طريق نماذج ومقاييس ومناهج متطورة، إضافة إلى وصف وتحليل النظم الاجتماعية والتكنولوجية في المجتمع المحلي ودراسة الإدراك العقلي للإنسان وانفعالاته ومعتقداته ووسائل اتصالاته(9) ولعل موضوعة الإدراك (Perception Perceiving) ولاسيما في بعدها الانثروبولوجي النفسي (psychological anthropology) تشير إلى أن إفراد عالم معين لا يستطيعون أن يفهمهوا عالما آخر إن كان مختلفا تماما عن عالمهم. وقد أشارت (هلري بتمان) إلى هذه المسألة عندما تحدثت عن مبدأ التعاطف… فوفقاً لمبدأ التعاطف فإن البشر جميع يشتركون في عدد كبير من المفاهيم. لكنهم يتمايزون في الإدارك، ذلك أن للمفاهيم سمة وراثية غير إن طريقة إدراكها تتوافق والإدراكات المحددة المتمايزة التي تبرز في كل حصاره أو عند كل فرد لمفهوم معين بشكل مغاير. وهكذا فإن الادركات المختلفة لمفهوم معين لا تظهر فقط بين الأشخاص المنعزلين بع بعضهم حضارياً.

بل يمكننا تعميم ذلك بالقول إن المفاهيم المتشابه يتباين إدراكها عبر العصور المختلفة أيضاً(10).

وهنا لابد أن نلمح إلى أهمية توجيه جهود الباحثين نحو دراسة النسق المعرفي وشبكة العلاقات الاجتماعية في ظل تطورات ظاهرة العولمة وثورة الاتصالات وما ترتب على تطور شبكات الانترنيت والهاتف المحمول من آثار سلبية وإيجابية على الإنسان والثقافة والمجتمع. وجملة القول فإن إشكالية (الثقافة والمجتمع) هي سبب التداخل والالتباس في فهم معني الانثروبولوجيا بين علماء الانثروبولوجيا الانجليز وعلماء الانثروبولوجيا الأمريكان. ففي الوقت الذي يسيطر فيه مفهوم (الثقافة) على أذهان العلماء الأمريكان وينعكس على اهتماماتهم وتصوراتهم الدراسية حيث يذهبون إلى إن الانثروبولوجيا الاجتماعية هي ذلك الحقل الذي يهتم بالدراسة المقارنة للمجتمعات والثقافات، مقابل ميدان آخر أوسع منه وهو ميدان الانثروبولوجيا الثقافية الذي يضم إلى جانب ذلك فروعاً معرفية أخرى كعلم الآثار والانثروبولوجيا اللغوية والانثروبولوجيه الفيزيقية، فإنهم يحاولون عدم التميز بين الانثروبولوجيا الثقافية والانثروبولوجيا الاجتماعية بتركيزهم على دراسة الثقافة وإهمالهم دراسة السلوك والاجتماعي اعتقادا منهم بأن الثقافة وليست المجتمع هي التي تعطي الإنسان الطابع المميز له أما (مالينوفسكي) فقد رأى أن الاتجاه الوظيفي يهتم بفهم طبيعة الظواهر الثقافية للمؤسسات البشرية كالزواج والقرابة والسحر أو النظام السياسي أو الاقتصادي، انطلاقاً من دور تلك الظواهر في إشباع الحاجات البشرية (سواء الحاجات الفسيولوجية والعاطفية الأولية أو الحاجات الاجتماعية الثانوية) ..بينما لا يميز العالم (نادل) بين حقلي الانثروبولوجيا الثقافية والانثروبولوجيا الاجتماعية معتقد بأن الدراسات الانثروبولوجيه بطبيعتها لابد أن تهتم بجانبين أساسيين. هما الجانب الثقافي والجانب الاجتماعي.

وعموماً فإن الانثروبولوجيون بشكل عام يرون إن أي ثقافة ما هي إلا نظام مترابط الأجزاء كترابط أجزاء الكيان العضوي. غير إن مالينوفسكي يختلف عن راد كليف براون في تركيز الأول على مفهوم الثقافة وتركيز الثاني علي مفهوم المجتمع (11).

إن الانثروبولوجيا الاجتماعية – وكما أسلفنا- تعني بدراسة البناء الاجتماعي كما يرى ذلك علماء الانثروبولوجيا البريطانيون أمثال (راد كليف براون، برونسيلاو مالينوفسكي، ايفانز بريتشارد، ومايرفورتس). ولذلك فإنها تهتم بدراسة التنظيم الاجتماعي والقيم والأدوار والسلوك الاجتماعي في مختلف المجتمعات البشرية وتقوم بتحليل النظم الاجتماعية إلي وحداتها الأولية وعناصرها البنائية كما تبدو عليه في إطار التفاعل الاجتماعي إلى جانب اهتمامها بدراسة انساق القرابة والدين ونظام السحر والطقوس وعمليات التنشئة الاجتماعية (12).

وفي الواقع فإن المدرسة الوظيفية البنائية تستمد أسسها من آراء هربرت سبنسر واميل دوركهايم وفكر المنهج الوظيفي الذي يفسر النظم الاجتماعية والثقافية والعلاقات والسلوك في ضوء الوظائف التي تؤديها في الأنساق الاجتماعية والثقافية. لذلك حاول ((بيلز)) تحديد معنى الوظيفة في الميادين الانثروبولوجيه فرأى أن في ذلك ما يدلل على أكثر من معنى، ففي حين يقصد بها البعض الصلة العضوية التي تربط عنصر ثقافي معين ببقية العناصر الثقافية التي تؤلف البناء الكلي للمجتمع، يرى البعض الآخر أنها تعني الدور الذي يقوم به الجزء ويسهم به في إدامة حياة الكل الذي ينتمي إليه.

وإذا كان الأسلوب الوظيفي المستند على مفهوم البناء الاجتماعي يحاول دراسة طريقة حياة الجماعة والكشف عن ارتباطات الجوانب المختلفة للحياة الاجتماعية ببعضها وصولاً نحو فهم تساند النظام الاجتماعي وتكامل المؤسسات الاجتماعية في المجتمعات المستقرة نسبيا. هو الدافع نحو التركيز على دراسة المجتمعات الصغيرة والمنعزلة. والسبب في اعتماد (الانثروبولوجيا) على المنهج الكلي المتكاملي والتعامل بنظرة كلية شاملة (Holistic Method) في الدراسة (13). فإن تسارع وثائر التغير الاجتماعي وعمليات التطور في العالم وظهور تيارات انثروبولوجيه حديثة كالانثروبولوجيا الماركسية والانثروبولوجيا النقدية والانثروبولوجيا الفلسفية، تسبب في اتساع مجالات الدراسات الانثروبولوجيه والاعتماد على منهج الديناميكية الحضارية في فهم التجمعات البشرية ولاسيما التجمعات المدنية والمعقدة، الأمر الذي أدى إلى إفراز رؤية جديدة للعالم ونموذجا معرفياً حديثاً لعلم الإنسان، فتوسع الاهتمام بدراسة الأنظمة الاجتماعية في المجتمعات الكبيرة والمتحضرة بحثا عن مظاهر عدم الانسجام أو التناقض بين جوانب الحياة الحضرية وما يترتب على ذلك من مشكلات اجتماعية وثقافية مختلفة.

ودون خوض فيما نتج عن هذا التوجه من تشظي المعرفة الانثروبولوجيه وتداخل في الجهود الميدانية، فإن الشئ المهم حقا قبل تقرير منهج الدراسة. هو معرفة الفرق بين طبيعة المجتمعات الصغيرة والمنغلقة، وطبيعة المجتمعات الكبيرة والقلقة. والتي ابرز ما يميزها من فروق يكمن في سرعة الحراك الاجتماعي ونوع تقسيم العمل. وما يترتب على ذلك من فروق في اختيار المنهج والأدوات.

فالمجتمعات الصغيرة وشبه المنعزلة (Community) تتسم بأنها مجتمعات ينعدم فيها تقريبا دور الطبقات الاقتصادية (Economic class) في الفعل الاجتماعي، ولا تتميز بخصائص وسمات أنظمة الاقتصادات المعقدة والمتنوعة. ولا تبدو فيها ظواهر تقسيم العمل (labor division of) ولا مظاهر أو علاقات الإنتاج الواسع (Mass Protection) جلية واضحة، بل تسود فيها سمات ونظم وعلاقات الطوائف الاجتماعية (Caste) وخصائص النظم الرعوية أو الزراعية والريفية، كما تتوارث فيها منزلات الإفراد ومراكزهم الاجتماعية (State)، وتتميز الحياة فيها بالبساطة وبطء الحراك الاجتماعي وبالانعزال وعدم تباين الأدوار (Role). وهذا يستدعي دون شك اختلاف المناهج والأدوات البحثية واختلاف الأسلوب الدراسي بيد إن وقفة تفحص للساحة الفكرية وقراءة متأنية لخطابات المعرفة الاجتماعية والانثروبولوجيه خلال العقود المنصرمة تبين لنا تداخل الفهم المعرفي وظهور إشكالية يصدم بها الحقل الانثروبولوجي تنطلق من تشابك خطوط التعامل بين ميدان الانثروبولوجيا الاجتماعية وميادين علم الاجتماع، الأمر الذي يتطلب استجلاء الآراء ومعرفة المواقف. ففي حين يري البعض إن التميز الصارم بين حقلي علم الاجتماع والانثروبولوجيا الاجتماعية لم يعد هناك ما يبرره بسبب تقلص الفروق بين المجتمعات التقليدية والمجتمعات الحديثة.

ينطلق (راد كليف براون R.Brown) من الحكم بان الانثروبولوجيا الاجتماعية ما هي إلا (علم اجتماع مقارن)، فيما يقرر (ريموند فيرث R.Firth) أن الانثروبولوجيا الاجتماعية حقل يهتم بالدراسات الميكروسوسيولوجيه. أو هي الحقل السوسيولوجي الذي يدرس الحقول الاجتماعية الضيقة، وهي بهذا تتطابق مع موضوع علم اجتماع الجماعات الصغيرة وبذلك فليس هناك فرق بين الانثروبولوجيا الاجتماعية وعلم الاجتماع لأن الانثروبولوجيا الاجتماعية قد انطلقت أصلا من دراسة الجماعات الصغيرة والمنعزلة نسبيا واهتمت منذ البداية بدراسة شبكة العلاقات الاجتماعية وعمليات التفاعل الاجتماعي وانساق القرابة واثر العادات والتقاليد في البناء الاجتماعي للجماعات والتجمعات البشرية الصغيرة. ولعلي شخصيا اتفق مع هذا الرأي وأظن أن ثمة فروق أخرى بين علم الاجتماع والانثروبولوجيا الاجتماعية. وإن تلك الفروق إنما تكمن في اختلاف توجهات كل من الحقلين في البحث والدراسة وفي التحليل. ففي حين يستهدف علم الاجتماع رؤية بانورامية للتاريخ ودراسة مسيرة المجتمعات البشرية عامة (Societies) دراسة خارجية فوقية (من الخارج) سعياً لمعرفة القوانين التي تتحكم بصيرورة المجتمع البشري (ككل) وظاهراته، وصياغة نظريات فلسفية لحركة التاريخ والمجتمع، كما في إسهامات عبد الرحمن بن خلدون واوكست كومت وكارل ماركس أو تالكوت بارسونز. تتجه الانثروبولوجيا الاجتماعية نحو رسم صورة للمجتمعات والتجمعات البشرية الصغيرة (Communities, Groups) من الداخل سعياً نحو فهم آليات وصيرورات الاختلاف بين مختلف المجتمعات والشرائح البشرية في ضوء حقيقة وحدة النفس البشرية (Psychic unity of mankind). ولاشك أن ذلك يستتبع ويتطلب اختلاف أدوات البحث الميداني ووسائل جمع المعلومات الحقلية وسبل التعامل مع المعلومات وطرق تحليل البيانات، فضلاً عن اختلاف مناهج البحث في كلا الحقلين –مما سيكون موضوعنا لجهد فكري لاحق-.

ومن هنا جاءت انطلاقة الانثروبولوجيا الاجتماعية وتركيزها على دراسة المجتمعات الصغيرة والمستقرة نسبياً قياساً باهتمامات الدراسة في حقول علم الاجتماع التي تتميز بالبعد الماكرو سوسيولوجي.

وربما كان التعامل النوعي أو الكمي مع المعلومات المستحصله من العمل الميداني واحد من أهم الفروق التي تميز علم الاجتماع عن الانثروبولوجيا الاجتماعية، فالانثروبولوجيا بطبيعتها نوعية التوجه (Qualitative) لا كمية الطابع Qualitative)) كما هو الحال في علم الاجتماع. لأنها تسعى لفهم طريقة حياة الجماعة أو المجتمع المحلي ورسم صورة كلية شاملة لجميع مظاهر الحياة الاجتماعية في مجتمعات صغيرة الحجم بالاستعانة بالملاحظة المباشرة والمتكررة والمشاركة الحقلية والاعتماد على المخبرين وكبار السن. فيما يستند علم الاجتماع على وسائل مغايرة لعل أهمها كشوف الاستبيان والإحصاءات الرسمية ولعلي استطيع هنا الاستعانة بقول لمالينوفسكي يؤكد فيه ما ذهبت إليه، وأن الدراسات الانثروبولوجيه دراسات وصفية تحليليه نوعية مركزة وليست دراسات كمية ((I wan to feel facts not to)).

غير أن المزواجة بين الحقائق الوصفية الكيفية والحقائق الوصفية الكمية في الدراسات الانثروبولوجيه الحديثة لاسيما في المجتمعات الكبيرة المعقدة والمجتمعات حديثة التحضر والذي صار أمراً لا مفر منه. أدى إلى ظهور ما يسمى بالاتجاه السوسيو انثروبولوجي، والذي ترعرع في الأوساط النفطية الخليجية نتيجة الفجوة والقفزة في الانتقال من أنماط تجمعات الصيد والرعي ومرحلة اقتصاد ما قبل النفط إلى المرحلة الانفجارية النفطية وما ترتب على ذلك الانتقال من تغيرات في التراكيب الديموغرافية وتحولات في البني الاقتصادية والاجتماعية. أضف لذلك أن الاتجاه الكمي قد وجد سنداً له في النهج الدوركايمي في دراسة المجتمع والذي كان يزواج بين النهجين التاريخي والإحصائي.

إن العلوم الاجتماعية والسلوكية تختلف عن العلوم الطبيعية في كونها تستمد طابعها العلمي من حصة العمل التجريبي والمختبري في دراساتها، والذي يتضاءل كلما توجهنا نحو الفلسفة والإنسانيات، لذلك فأن العمل المختبري في الحقول الطبيعية هو السمة الغالبة في نتائج البحث، غير إن حصة العمل التجريبي والميداني في فروع المعرفة الاجتماعية –وان قلت نسبتها- فإنها تختلف بين حقل وآخر. فالانثروبولوجيا مقارنة بعلم الاجتماع ينبغي أن تتصاعد فيها حصة العمل المختبري، أي الجهد الحقلي المستند على المشاهدة العيانية لتصل إلى ما يزيد على النصف بكثير من مجموع الجهد الدراسي. بينما تتراجع حصة العمل (المختبري / الميداني) في دراسات علم الاجتماع إلى ما دون النصف كثيرا (14).

وقد يكون من المناسب أن أضيف هنا رأي قابل للمساجلة والدحض، أو للمناقشة والإثبات. أقرر فيه توافق الجهود الانثروبولوجيه مع مستويات التحليل الفكري (Analysis) في سلم التصنيف المعرفي وفقا لما أشار له المختص التربوي (بلوم B.Blom) في تصنيفه لمجالات التعلم على المستوى العقلي من مستويات التعلم. في حين يتطابق علم الاجتماع مع المستوى التركيبي Synthesis في المهارات والقدرات العقلية (15). ودون إن أعني بذلك أي شكل من إشكال الفصل التعسفي بيم مجالات التعلم. ذلك إن امتداد النشاط الانثروبولوجي نحو البني الفوقية واختراق الحدود التقليدية لعلم الاجتماع من ناحية، واقتحام السوسيولوجيين لما هو انثر وبولوجي من ناحية ثانية، وتداخل الجهود الميدانية بين ما هو تحليلي وتركيبي، خلط الأوراق بين المكروسوسيولوجي والماكروسوسيولوجي، حتى غدت  الحدود الفاصلة أقل صرامة وأكثر مرونة.

ويبدو ذلك الاختلاط والتداخل جلياً لو تفحصنا أغلب النشاطات الميدانية والنظرية في حقل المعرفة السوسيولوجيه والانثروبولوجيه ولاسيما في الفترات الأخيرة، خصوصاً بعد أن ظهر وتطور حقل عملي جديد يدعي بالانثروبولوجيا التطبيقية أو العملية وبصرف النظر عن تقييم تلك الجهود والتي اتسمت غالبيتها بالضعف في منهجيتها ونتائجها، مقابل رصانة البعض منها إلى مستوى رفيع جدا فإن اهتماماتها قد توزعت بين أكثر من حقل معرفي الأمر الذي أبعدها عن الالتزام بالشروط المنهجية للبحث العلمي.

وإذا كانت الانثروبولوجيا الفيزيقية قد شكلت همزة وصل بين المعرفة البايولوجيه (العضوية) والمعرفة السوسيولوجيه (الاجتماعية) في حينها، فإن الانثروبولوجيا الثقافية هي المنعطف الفكري والجسر الرابط بين حقل الانثروبولوجيه الاجتماعية (علم الاجتماع المقارن) وبين المعرفة الفكرية والنظرية ممثلة بالانثروبولوجيا المعرفية و (علم اجتماع المعرفة) ويظل علم النفس في بعده الاجتماعي والانثروبولوجي ممثلاً بعلم النفس الانثروبولوجي، قنطرة لا يجوز تجاوزها لفهم الحقيقة بأبعادها السلوكية والاجتماعية والمعرفية، وهكذا تبدو لي خطوط الجهد العملي والتواصل الفكري انثروبولوجياً متتابعة على النحو التالي: (دارون، لومبروزو، براون) (مالينوفسكي، فرويد، مانهايم). ودون إنكار لجهود الآخرين وأفكارهم.

ولعلنا بحاجة أكيدة لتفحص إسهامات المفكرين العرب، واستنباط ما يشكل منها أضاءت تسلط الأضواء على مثل هذا التوجه التنظيري، كإسهامات (ابن بطوطة، عبد الرحمن بن خلدون، ابن حزن الأندلسي، الغزالي، الفارابي، وغيرهم). وذلك شأن لاشك أننا بحاجة إلى كثير من الحوارات والمناقشات الجادة في محاوره.

ولو اعتمدنا وجهة نظر منظمة اليونسكو حول أصناف النشاطات والجهود البحثية لوجدنا أنها تنطلق من تصنيف البحوث في حقلين أساسين (بحث أساسي وبحث تطبيقي) والفرق بينهما يكمن في الأهداف الموضوعة والمتوخاة من نتائج البحث ولاشك إن إطلالة أولية على الحقل التطبيقي للجهود البحثية في العلوم الاجتماعية، ستبين لنا سبل التوظيف الإيديولوجي لحقول المعرفة الاجتماعية في معالجة مشكلات الإنسان والمجتمع.

إن حقل الانثروبولوجيا التطبيقية Applied Anthropology هو الجهد الميداني الذي أنطلق منه البعض لتوظيف المعرفة الانثروبولوجيه في الإغراض العملية، وقد أسهم هذا الحقل في دراسة الأوساط الحضرية ومن زاويا متعددة كالطب والإدارة والصناعة والسياسة والعمل، كما استخدم هذا الحقل أيضا في أوساط أخرى لخلق روابط اجتماعية أكثر إيجابية، وتم استخدام الفعل الاجتماعي في إعادة إنتاج معرف ثقافية جديدة أو انسنة الإنسان أو لتفكيك تلك الروابط بما يخدم غايات إيديولوجيه محددة، فدور الباحث الانثروبولوجي هنا يتمحور بتحويل الملاحظات الحقلية التي جمعها عن السلوك من الحقل الميداني إلى تطبيقات وإحكام وصفية يستعين بها لدراسة وفهم البناء الاجتماعي لميدان الدراسة ومن ثم تفكيك أو تمنين العلاقات الاجتماعية في المجتمع. الأمر الذي يسمح لنا بتقرير طبيعة البعد الامبريقي للانثروبولوجيا التطبيقية بما يجعلها أكثر التصاقا بموضوعات التخطيط والتطور والتحكم بالتغيير الاجتماعي وبما يتيح للباحث الحقلي خيارات توسيع الأدوات المنهجية وتجاوز حدود المنهج الانثروبولوجي التقليدي في الملاحظة بالمشاركة.

لقد تطور نهج الانثروبولوجيا التطبيقية أو الانثروبولوجيا العملية Action anthropology في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية وظهور حاجة البلدان المتقدمة تقنياً إلى التدخل في سياسات الإدارة والتنمية في العالم الثالث، الأمر الذي ربط هذا الحقل بالتخطيط السياسي وعرض نهجه إلى انتقادات عديدة بوصفه امتدادا طبيعياً للاستعمار الجديد أو وكأنه نوعاً من ممارسة العلاقات العامة في تكريس التبعية والتخلف والتغاضي عن المشكلات الحقيقة للجماعات المحلية بما يخدم مصالح طبقة معينة أو الطبقة المسيطرة وتقليص الدور الحقيقي للسكان المحليين. وكانت التطبيقات الانثروبولوجيه المبكرة قد نمت في مجال الإدارة الاستعمارية أصلاً، الأمر الي أساء كثيراً إلى سمعة التدريب الانثروبولوجي وجهد الفعل التطبيقي لهذا الحقل. فقد استخدمت الانثروبولوجيا التطبيقية مبكراً في تحديد الزعامة المحلية وفي إدخال أنماط من الإدارة المحلية بما يقلص من التوترات بين الجماعات المختلفة في المجتمعات البدائية، ففي اندونيسيا على سبيل المثال تم تقنين القانون القبلي بحيث أصبحت القوانين تتلاءم مع الظروف المحلية وتختلف من قرية لأخرى (16).

وقد تعاظمت شدة الانتقادات للنهج الانثروبولوجي التطبيقي بعد تورط الانثروبولوجيا التطبيقية بمواقف سياسية شديدة الحساسية أو تدعيمها لعلاقات سيطرة وتبعية بدلا من مساعدة الشعوب في الوصول إلى أهدافها الوطنية. مثال ذلك مشروع (كاميلوت) الذي تبنته الحكومة الأمريكية في استخدامها للبحث العلمي في تقدير حجم الشعور المضاد للشيوعية في شيلي وكذلك التورط الانثروبولوجي التطبيقي في مشاريع مشابهة في كل من فيتنام وتايلاند وغيرها من البلدان.

ولا شك أن مشورع عسكرة الانثروبولوجيا (Anthropological Militarization) الذي اعتمده الجيش الأمريكي في حروب العراق وأفغانستان تحت اسم ما يسمي ببرنامج (إقحام علماء الانثروبولوجيا في ميدان الحروب) (HTS) يمثل أوضح صورة توظيف الانثروبولوجيا التطبيقية في ميدان الحروب والنزاعات. ويشرح العقيد الأمريكي (ستيفن فونداكارو) أهداف هذا المشروع بالقول ((إن مهمة العلماء تقوم على تقديم فهم واضح للمشكلات التي يواجها الجيش مع السكان المحليين. حيث يتلقي الضباط هذه المعلومات ويقررون بموجبها طبيعة الإجراءات العسكرية التي عليهم اتخاذها)). كما يتضمن هذا البرنامج تدريب علماء الانثروبولوجيا على حمل السلاح واستعماله لكي يخفف الجيش عن نفسه مشقة تأمين الحماية لهؤلاء خلال قيامهم بمهامهم الميدانية.

ويبدو أن هناك اليوم في كل من العراق وأفغانستان 6 فرق عاملة تتكون كل منها من علماء الانثروبولوجيا وعلماء لغة ومرشدين اجتماعيين وعملاء واستخبارات وضباط متقاعدين لمتابعة سير العمل ومساندة العقل العسكري، وتسعى قيادة المنطقة الوسطى في الجيش الأمريكي (Centcom) إلى زيادة عدد هذه الفرق من 6 فرق إلى 28 فرقة، كما أعرب عسكريون كبار في قيادة القوات الأمريكية في إفريقيا Africom ومنطقة المحيط الهادي Pacom عن نيتهم تعميم برنامج مماثل في مناطقهم.

وتشكو الدكتورة (مونتغومري ماك فايت) التي توصف بأنها المهندسة الاولى لبرنامج (HTS) من ضآلة مبلغ (40) مليون دولار الذي خصصه البنتاغون لتمويل هذا البرنامج، لأنها تسعى منذ فترة طويلة من اجل مشروع أكبر يقوم على وضع بنك معلومات دائم للمعطيات الثقافية والاجتماعية واستحداث مؤسسة اسمها ((وكالة مركزية للمعرفة الثقافية)) على غرار ((وكالة الاستخبارات المركزية)) عمادها علماء ومحللون انثروبولوجيون واجتماعيون يعملون لخدمة الحكومة وأغراضها بشكل دائم.

وفي أيلول 2007 أطلقت مجموعة من كبار علماء الانثروبولوجيا حملة كبيرة تحت شعار (شبكة انثروبولوجيون معنين network of concerned anthropologists) لرفض مشاركة علماء الانثروبولوجيا في الحروب الأمريكية ورفض استخدام الانثروبولوجيا لأهداف الحروب السياسية تحت عنوان ((لا للمرتزقة الانثروبولوجيون)) وترى هذه المجموعة أن اللجوء إلى العلماء في حربي العراق وأفغانستان شبيه بما فعلته الإمبراطورية البريطانية في مستعمراتها سابقاً، ومن الجدير بالذكر هنا إن حملة المعارضة لتسخير العلوم الاجتماعية في خدمة الحروب ليست جديدة فقد واكبها اليسار العالمي باكرا وخصوصاً على الصعيد الفكري والثقافي، فالمجلة الفرنسية الشهيرة (الأزمنة الحديثة Les temps modernes) التي أسسها في منتصف القرن الماضي جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار خصصت عددين خاصين للموضوع في عام 1970. كما وضعت مجموعة من الكتاب اليساريين تحت إشراف جان كوبانز مؤلفا شهيرا في عام 1975 تحت عنوان (الانثروبولوجيا والامبريالية).

ووفقا لما ذهب إليه بعض المنتقدين فإن مجرد تركيز الانثروبولوجيا التطبيقية على الاهتمام بالاختلافات الثقافية من شأنه أن يحجب حقيقة وجود ابنيه للسيطرة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هي المسئولة عن مشكلات التنمية إضافة إلى الانتقادات التي تمحورت عن عدم ربط البحوث التطبيقية بالمسؤولية الأخلاقية والعلمية لهذا الحقل وحظر تسخير العلم لغايات سياسية غير إن تلك الانتقادات لا تمنع من الإشارة إلى إمكانية استثمار البحث التطبيقي في تخفيف التوترات داخل وبين الجماعات المختلفة عرقياً واثنياً والإشارة إلى المحولات والمشاريع الناجحة التي استخدمت فيها آليات الانثروبولوجيا التطبيقية في المجتمعات النامية، كمشورع فيكوس الإصلاحي (Vicos) الذي تبنته جامعة كورنيل الأمريكية في بيرو عام 1952. والذي كان يستهدف دراسة مشكلات التغير الثقافي وتمكين العناصر المنتجة لشعب فيكوس من حيازة القوة في الضيعة الزراعية بمنطقة (هاسيندا). ومشروع (أس.أف.نادل) عن موضع التصرف بالأراضي في الهضبة الارتيريه، ومشروع أسلوب العمل الشعبي الجمعي والتوسع بالعمل الزراعي في كينيا الذي تقدم به (فاب ماير)، ثم طريقة التعامل مع مشكلة الكرسي الذهبي مع قبيلة الاشانتي هذا إلى جانب الجهود البحثية التي أشرفت عليها الجمعية الأمريكية لعلم الانثروبولوجيا ولا شك أن أي مشروع تنموي أو تحسيني لا يمكن أن ينفذ دون الحفاظ على ما هو محلي أصيل ودون إسناد من عناصر محلية، فقد لاحظ أحد الانثروبولوجيين الذي كان يقوم بهمة النصح والإرشاد لفرق صحية في اندونيسيا أن المجتمعات المحلية لها اتجاهات مختلفة في الخضوع لقادة الرأي العام الذين لابد من الحصول على تأييدهم لنجاح حملات التوعية الصحية وبرامجها، هذا مع احتمال وجود قادة متنافسين في الرأي في الوحدات القبلية وتقاطعات في المصالح أو وجود اتجاهات متباينة حول برامج مشاريع التنمية والإصلاح الأمر الذي يهدد تلك المشاريع بالفشل وعدم النجاح، ما لم تؤخذ تلك الملاحظات الميدانية بنظر الاعتبار.

ولعل الحديث عن حملة إغراء النساء في بيرو على غلي الماء قبل شربه أو ما سميت حينها بظاهرة طهي الماء عند النساء في بيرو تظهر كيف ولماذا اختلفت الاستجابة بين مجاميع النساء لتلك الحملة باختلاف المركز الاجتماعي للمرأة.

إن الانثروبولوجي التطبيقي لم يعد الشخص الذي يقدم مخططا أو رسما لبرنامج إصلاحي أو تنموي فقط، بل هو الشخص الذي يتوجب عليه أن يقدم تقريرا مفصلا عن معوقات العمل والمسارات الخطرة المحتمل أن تعترض سبل التنفيذ وتقف حائلا دون تحقيق أهداف البرنامج أو وحدة الجماعة، فهو الأقدر على حساب ردود الفعل الاجتماعية التي يحتمل أن يحدثها التغيير، وهو الأقدر على تخفيف مظاهر الصراع بما يخدم وحدة الجماعة. وهو الأقدر على رسم سيناريوهات التغير والتطوير.

ولم تقتصر الجهود الانثروبولوجيه التطبيقية على دراسة المجتمعات المحلية أو السكان المحليين في المناطق الجغرافية، بل إن دراسات انثروبولوجيه تطبيقية أخرى تناولت العلاقات الصناعية وتنظيم العمل الإداري في المؤسسات كالمستشفيات والمعامل والمتاجر والسجون، كما في مجموعة الدراسات والبحوث التي تمت في مصانع شركة (ويسترن أليكتريك) والتي أطلق عليها (دراسات هاوثورن). والتي استهدفت دارسة العلاقات الإنسانية في المصنع كنسق محددة مغلق وأدت إلى تأسيس جمعية الانثروبولوجيه التطبيقية سنة 1941، وكذلك دراسة جامعة هارفارد الشهيرة في ميدان الانثروبولوجيا الصناعية والتي أشرف عليها الأستاذ التومايو وكانت تستهدف دراسة بعض المشاكل التي تتعلق بالإنتاج وقياس مدى كفاءة المصانع، تم تلك الدراسة الانثروبولوجيه التي تناولت تحليل البناء الاجتماعي لمحلات (سلفردج) التجارية في لندن. ولا شك إن المصنع أو المدرسة أو الدائرة إنما تمثل تنظيمات اجتماعية لها خصائص ومقومات تؤثر على نوعية المخرجات السلوكية أو على كمية الإنتاج المادي وترتبط بالعلاقات الاجتماعية داخل تلك المؤسسات والتنظيمات، والتي في ضوء دراستها نستطيع أن نقرر ماهية العلاقات الاجتماعية التي تربط بين أعضاء الجماعة داخل التنظيم ومدى تأثير تلك العلاقات على الأنشطة المستهدفة دراسياً في المؤسسة وفي الواقع فإن ما يقدمه الانثروبولوجي التطبيقي في رسم وتنفيذ البرامج الإصلاحية والتنموية لا يتعدى حدود المبادئ الأولية التي اكتسبها من العلم في التحليل الاجتماعي مصحوبة بحقائق أولية عما يمكن أن يحدث من نتائج وآثار جراء تطبيق المشروعات التنموية في المجتمعات المحلية المختلفة وما يمكن أن ينتج عنها من مشكلات اجتماعية وإنسانية كنتاج للتغيرات في السلوك والاتجاهات والعلاقات وفي النظم الاجتماعية.

لقد أوضحت بعض دراسات التثقيف أن إحداث تعديلات –ولو كانت طفيفة- (خاصة حينما يتم إحداثها عن طريق القوه أو تحت الضغوط) يؤدي إلى صراعات نفسية عميقة وظهور سلوك عصابي لدى بعض الإفراد. وفي بعض الحالات قد تنسحب تلك الإعراض على كل أو اغلب إفراد المجتمع فتظهر مظاهر اضطرابات اجتماعية ملحوظة أو كامنة، ما لم تساند تلك الجهود التثقيفية برامج عملية تتسم بالواقعية تأخذ بنظر الاعتبار العلاقات المتبادلة بين الجوانب –المختلفة للثقافة المحلية وضروب وأنماط التكيف المحتملة. ودون شك فإننا محليا في العراق نستطيع توظيف الفعل الانثروبولوجي والاستفادة من المعرفة الانثروبولوجيه في دراسة وتحليل ما تعرضت له الشخصية الوطنية من إرهاصات وتوترات نفسية واجتماعية نتيجة برامج التثقيف الإيديولوجي غير المبرمجة انثروبولوجيا، وما تمخض عن تلك البرامج والسياسات من آثار سلبية انعكست على الواقع الاجتماعي في العراق قبل وبعد سقوط النظام السابق وكما ظهر جلياً من ممارسات سلوكية أعقبت إحداث عام 2003 ولازالت بعض آثارها تتحكم بالفعل السلوكي والاجتماعي في المجتمع العراقي، لقد تتبع فان ويلجن (van willigen) في دراسة مسحية له تطور الانثروبولوجيا التطبيقية فوجد أنها تبدأ بمرحلة أطلق عليها مرحلة الانثولوجيا التطبيقية، ثم مرحلة المساعدة الفدرالية فمرحلة توسيع الدور ووضوح القيمة. وأخيراً مرحلة البحوث العملية والمساعدة في رسم السياسات (17).

وقد قام ويلجن بمراجعة بعض الفروع الجديدة في الانثروبولوجيا التطبيقية التي انبثقت عن مواقف نظرة وإيديولوجيه مختلفة فوجد أنها تتخذ مسارات مختلفة، منها مثلا مسار الانثروبولوجيا العملية التي اقترحها سول تاكس، مسار انثروبولوجيا البحث والتنمية التي ترمز لمشروع جامعة كورنيل في بيرو. واتجاه انثروبولوجيا تنمية المجتمع المحلي، والاتجاهات الأكثر حداثة فيما يعرف بانثروبولوجيا الدعوة والوساطة الثقافية وصولا نحو ما يعرف اليوم بالانثروبولوجيا النقدية والانثروبولوجيا الماركسية والانثروبولوجيا البصرية والانثروبولوجيا الايكولوجية ثم الانثروبولوجيا الدبلوماسية.

وفي البلدان النامية توجهت التطورات الحديثة في مجال الانثروبولوجيا نحو إزالة التقسيم الفكري بين الانثروبولوجيا النظرية والانثروبولوجيا التطبيقية في إقرار ضمني على إن الجهد التطبيقي والتدخل الانثروبولوجي في تحديث وتنمية المجتمعات المحلية لابد أن يعتمد صراحة على معايير وتوجهات ايديولوجية وسياسية.

ولعلي ادعوا لتنشيط الفعل الانثروبولوجي في العراق والتخطيط لبرنامج ونهج انثروبولوجي جديد تراعي فيه ظروف المجتمع العراقي، أطلق عليه اسم (انثروبولوجيا إعادة بناء المجتمع).

وستكون خطوطه الرئيسة العامة متضمنة في القسم الثاني اللاحق من هذه الدراسة.

وأخيرا ففي الفترة الأخيرة تبنت مجموعة من علماء الانثروبولوجيا المسلمين في الهند وباكستان الدعوة لتأسيس علم انثروبولوجيا إسلامي إيماناً بأن النهج الإسلامي والفلسفة الإسلامية لأبد أن تأخذ دورها وتكون فاعلة في تنظيم الحياة الاجتماعية وفي إعادة بناء العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع وجماعاته فهل استثمرنا –نحن في العراق- سبل المعرفة الانثروبولوجيه في الوقوف على أزمات المجتمع العراقي؟

سؤال لازال يراودني كثيراً، رغم معرفتي للجواب.

مراجع الدراسة وهوامشها

# هذه الورقة تمثل القسم الأول وقاعدة لبحث يتناول علاقة الانثروبولوجيا بتحديث المجتمع وإعادة البناء السلوكي.

1- شاكر مصطفي سليم، قاموس الانثروبولوجيا، جامعة الكويت 1981 ص56.

2- حسن فهيم، قصة الانثروبولوجيا، سلسة عالم المعرفة، الكويت ص29، 169.

3- تقي الدباغ وقيس النوري، علم الإنسان الطبيعي، جامعة بغداد، 1983، ص9- 10.

4- 2009 – 1- 26 www.annabaa.com .

5- قباري محمد إسماعيل، الانثروبولوجيا العامة دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1989، ص9- 26.

6- محمد عبده محجوب الاتجاه السوسيوانثروبولوجي في دراسة المجتمع وكالة المطبوعات الكويت، بدون سنة، ص25- 28.

7- أنظر للتفاصيل: R. T.Schaefer Sociology: A, brief introduction, sixth edition, the university of California press, N.W, 2006 pp64- 67 .

8- عيسي شماس، مدخل إلى علم الإنسان، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2004، ص16.

9- على جباوي، الانثروبولوجيا: علم الاناسه، جامعة دمشق، 1997، ص9.

10- كارمن غودن انيلو، الفلسفة والانثروبولوجيا واللسانيات في الترجمة، ترجمة مجيد المشاطة، مجلة دراسات الترجمة، بيت الحكمة، العدد الأول، السنة الثامنة، 2007، ص5- 12.

11- قيس النوري، طبيعة المجتمع البشري في ضوء الانثروبولوجيا الاجتماعية، جامعة بغداد، 1970، ج1+ ج2، صص 3- 23، 55- 67، 164- 165.

12- شارلوت سيمور سمث، موسوعة علم الإنسان، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1992، صص 125- 126، 132- 174.

13- محمد الخطيب، الانثروبولوجيا الثقافية، منشورات دار علاء الدين، دمشق، 2008، ص 11- 17.

14- متعب مناف، الانثروبولوجيا وأزمة العراق اليوم، مجلة دراسات اجتماعية، بيت الحكمة، بغداد، العدد 17، سنة 2005، صص 11- 16.

15- (راجع في هذا) عبد المجيد نشواني، علم النفس التربوي، دار الفرقان، عمان، 1985، صص 69- 96 .

16- رالف بيلز، وهاري هويجز، مقدمة في الانثروبولوجيا العامة، ترجمة محمد الجوهري وزملاؤه، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، 1977، ج2، ص810.

17- ارنست خوري، عملاء بلقب عملاء www.al-akbbar.com 26- 1- 2009.

 

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.