عالم بدون إسلام

A World Without Islam

By Graham E. Fuller

Foreign Policy January/February 2008

ترجمها إلى العربية: سليمان عبدالعظيم

الإسلام وُجد ليبقى؛ فالتوجهات العدوانية ضد الإسلام لن تؤدي إلى زواله من العالم. وكما لا يستطيع أحد أن يزيل اليهودية أو المسيحية أوغيرهما من الديانات الأرضية الأخرى، فبالمثل لن يستطيع أحد أن يزيل ديانة بحجم وقامة الإسلام من الوجود. فعلى مستوى الأتباع تصل أعداد المسلمين في العالم إلى ما يتجاوز المليارين. وعلى مستوى التأثير الإنساني والحضاري فقد لعب الإسلام دورا هائلا في إعادة تشكيل الجغرافيا العالمية، وأسهم بدرجة كبيرة في جملة المنجزات الإنسانية والحضارية المختلفة. من هنا فإن تلك الكتابات، الغربية بالأساس مع بعض الذيول والأذناب العربية متمثلة في الليبرالية الجديدة وبعض المنتمين للأقليات، التي تهيج المشاعر ضد الإسلام وتحط من شأن المسلمين، لن تزيل الإسلام من الوجود بقدر ما تضر إمكانية إقامة حوار عقلاني ومتزن بين الإسلام والغرب المسيحي.

والمقالة الراهنة، المنشورة في العدد الأخير من دورية فورين بوليسي الأمريكية ذائعة الصيت، تحاول أن تتصور العالم بدون إسلام. بمعنى آخر أنها دراسة تصورية قائمة على معطيات التاريخ الماضي والحالي. ويصعب موضعة هذه المقالة ضمن فروع العلم المختلفة، فلا هي تنتمي إلى المستقبليات أو إلى الحاضر. فهي مقالة تخيلية تحاول أن تبني صورة العالم بدون إسلام. ويمكن القول بأن تساؤلاتها الكثيرة بخصوص هذه التصورات ترتكز على تساؤل جوهري رئيس: هل كان العالم سوف ييدو أفضل بدون إسلام أم لا؟

ولا تعني كلمة تخيلية هنا أن المقالة محض خيال أوأوهام، فكاتب المقالة هو جراهام فولر النائب السابق لرئيس مجلس المخابرات القومي التابع لوكالة المخابرات الأمريكية المسئول عن التنبؤات الإستراتيجية بعيدة المدى. ويعمل جراهام الآن أستاذا زائرا في قسم التاريخ في جامعة سيمون فريزر بفانكوفر، وهو مؤلف للعديد من الكتب حول الشرق الأوسط منها كتاب “مستقبل الإسلام السياسي” الصادر عن بالجريف ماكميلان، نيويورك 2003. ولهذا السبب تكتسب المقالة الراهنة أهميتها من حيث أنها مقالة تصورية مبنية على الرؤى الاستراتيجية من ناحية وعلى حقائق التاريخ من ناحية أخرى.

عالم بدون إسلام (الترجمة)

ماذا لو لم يوجد الإسلام نهائيا؟ بالنسبة للبعض فإن هذا الوضع سيكون مريحا؛ فلن يوجد صراع حضارات، ولا حروب مقدسة، ولا إرهابيين. وهل كانت المسيحية سوف تهيمن على العالم؟ وهل سوف يكون الشرق الأوسط واحة آمنة للديمقراطية؟ وهل كان من الممكن وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر؟ في الواقع، فإن محو الإسلام من مسار التاريخ والعالم لن يؤدي إلى حدوث ذلك، فالعالم كان سوف ينتهي إلى ما آل إليه اليوم. لنتخيل معا، إذا ما استطعنا ذلك، عالما بدون إسلام، مع صعوبة التسليم بإمكانية تخيل العالم بدون تلك الأخبار التي تحتل الصدارة يوميا والمتعلقة بالإسلام. فالإسلام يبدو أنه القوة المحركة خلف العديد من الاضطرابات العالمية مثل: الهجوم الانتحاري، السيارات المفخخة، الاحتلال العسكري، الصراعات، الاضطرابات، الفتاوي، الجهاد، حروب العصابات، رسائل الفيديو المتوعدة، وحتى أحداث سبتمبر ذاتها. لماذا تحدث كل هذه الأشياء؟ يمنحنا الإسلام هنا فهما تحليليا فوريا وبسيطا يساعدنا على استيعاب تلك الأشياء المصاحبة لعالمنا المعاصر. وبالنسبة لبعض المحافظين الجدد فإن “الفاشية الإسلامية” هي عدونا الأكيد المؤدي لإشعال “حرب عالمية ثالثة”.

ولكنني سوف أطلق العنان لنفسي الآن، وأطرح التساؤلات التالية: ماذا لو لم يوجد مثل هذا الشيء الذي يسمى إسلام؟ وماذا لو لم يوجد النبي محمد، ولو لم توجد تلك الروايات الطويلة المتتابعة عن انتشار الإسلام عبر أجزاء واسعة في الشرق الأوسط، وآسيا، وأفريقيا؟ وبالنظر لتركيزنا البالغ الآن على الإرهاب، والحرب، والعداء المتصاعد ضد أمريكا، وهى بعض المسائل الانفعالية العالمية اليوم، فإنه من الضروري أن نفهم المنابع الحقيقية لمثل هذه الأزمات. هل يعتبر الإسلام فعلا مصدر هذه المشكلات أم أن هناك عوامل أخرى أقل وضوحا وأعمق تأثيرا بالنظر لهذه المشكلات؟ ولكي نجيب على هذا التساؤل، فإننا ومن خلال الخيال التاريخي سوف نحاول أن نتصور الشرق الأوسط بدون إسلام. فهل يمكننا عندئذ أن نجيب على العديد من التحديات الراهنة التي تواجهنا؟ وهل سيكون الشرق الأوسط أكثر سلاما؟ وما هو مدي التغيير الذي سوف يلحق العلاقات بين الشرق والغرب؟ وهل يمكن القول بأنه بدون إسلام من المؤكد أن يقدم النظام العالمي صورة مختلفة جدا عما عليه الحال الآن؟. إذا لم يكن هناك إسلام، فماذا إذا؟

منذ الفترات المبكرة لمنطقة الشرق الأوسط الكبير، فإن الإسلام قد شكل المعايير الثقافية، وحتى الخيارات السياسية لأتباعه. من هنا فإنه يصعب علينا أن نفصل الإسلام عن الشرق الأوسط، ورغم ذلك فإنه ليس من الصعوبة تخيل ذلك.

دعونا نبدأ أولاً بالمسألة العرقية. فبدون الإسلام فإن شكل المنطقة سوف يبقى معقدا وصراعيا. فالجماعات العرقية المهيمنة في الشرق الأوسط مثل العرب، الفرس، الأتراك، الأكراد، اليهود، وحتى البربر والبشتون، كانت سوف تهيمن على الشؤون السياسية في المنطقة. فقبل الإسلام، بفترة بعيدة، اندفعت الامبراطوريات الفارسية الهائلة المتعاقبة نحو حدود أثينا، كما أنها كانت المنافس الدائم لكل من يقطن آسيا الصغرى. كما أن الشعوب السامية المتصارعة قد حاربت الفرس أيضا عبر منطقة الهلال الخصيب وفي العراق. وبعد ذلك هناك القوى المتنفذة من القبائل العربية المختلفة والتجار الذين توسعوا وهاجروا نحو المناطق السامية في الشرق الأوسط قبل الإسلام. كما أن المغول ربما قد استمروا في سحق وتدمير حضارات آسيا الوسطى والكثير من مناطق الشرق الأوسط في القرن الثالث عشر الميلادي. كما أن الأتراك ربما قد استمروا أيضا في غزو آسيا الصغرى، ومنطقة البلقان حتى فيينا، ومعظم منطقة الشرق الأوسط. لقد وُجدت كل هذه الصراعات على القوة والحدود والنفوذ والتجارة قبل ظهور الإسلام بوقت طويل.

ومع ذلك، فإنه لأمر تعسفي أن نقوم باستبعاد الدين تماما من المعادلة. ففي الواقع إذا لم يظهر الإسلام إلى حيز الوجود فإن معظم منطقة الشرق الأوسط سوف تبقى تحت الهيمنة المسيحية في مناطق عديدة مثلما كان عليه الحال فجر الإسلام. فبخلاف بعض الزرادشتيين وأعداد قليلة من اليهود لم يكن هناك وجود لأية ديانات رئيسة أخرى.

لكن هل كان التناغم والانسجام سوف يكون سيد الموقف في العلاقة مع الغرب إذا ما ظل الشرق الأوسط مسيحيا؟ وهو أمر يصعب تصوره؛ فنحن لا نفترض أن العالم الأوروبي القروسطي المضطرب والمتوسع لن يقوم بتسليط قوته وهيمنته على جيرانه في الشرق من أجل البحث عن موطئ قدم اقتصادي وجيوسياسي. وبعد كل هذا، ما هي طبيعة الحملات الصليبية إذا لم تكن مغامرة غربية محكومة بشكل أساسي بالرغبة في تلبية الاحتياجات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. لقد كان رفع راية المسيحية أكبر من كونه رمزا فعالا، بقدر ما كان شعارا حماسيا من أجل مباركة تلك النوازع الدنيوية للأوروبيين الأقوياء. فلم يكن دين السكان المحليين في ذهن التوسع الامبريالي الغربي عبر الكرة الأرضية. ربما تحدث الأوروبيون بشكل أخلاقي عن نقل “القيم المسيحية إلى السكان المحليين” لكن الهدف الواضح لهم تمثل في تأسيس قواعد استعمارية كمصادر للثروة للعواصم الغربية، وكقواعد ارتكاز لتوسيع القوة الغربية.

ووفقا لذلك، فإنه من غير المرجح أن يرحب المواطنون المحليون المسيحيون بموجات الأساطيل الأوروبية وتجارهم المدججين بالمدافع الغربية. فالإمبريالية كانت سوف تزدهر في ظل تلك التركيبة الفسيفسائية الخاصة بالإقليم، حيث القاعدة الذهبية المعروفة فرق تسد. وحتى الآن فمازال الأوروبيون يعينون القادة المحليين الذين يسهلون لهم الحصول على احتياجاتهم المختلفة.

وحتى إذا ما انتقلنا إلى الحقبة النفطية فهل من الممكن أن ترحب دول الشرق الأوسط، حتى لو كانت مسيحية، بتأسيس وصاية أوروبية على المنطقة؟ من الصعوبة بمكان تصور حدوث ذلك. فالغرب مازال يرغب في بناء خطوط ضخ للنفط والسيطرة عليها مثل قناة السويس. فلم يكن الإسلام هو الذي جعل دول الشرق الأوسط تقاوم بقوة المشروع الاستعماري وتأثيراته البالغة الناجمة عن إعادة ترسيم حدود المنطقة وفقا لمصالح وأولويات الغرب. كما أن مسيحيي الشرق الأوسط لن يرحبوا بقدوم شركات النفط الغربية الإمبريالية المحمية بالأوصياء الأوروبيين، والدبلوماسيين، وعملاء المخابرات، والجيوش، مثلهم في ذلك مثل المسلمين. ويمكن هنا النظر للتاريخ الطويل لأمريكا اللاتينية المناهض للهيمنة الأمريكية على النفط، والاقتصاد، والسياسة. وبالمثل فإن شعوب الشرق الأوسط سوف تكون راغبة في تأسيس حركات قومية مناهضة للاستعمار من أجل فرض السيطرة على أوطانهم، وعلى أسواقهم، وتحقيق السيادة، والإنفصال عن القبضة الأجنبية، مثل الحركات الأخرى المقاومة للاستعمار: الهندوسية في الهند، والكونفوشوسية في الصين، والبوذية في فيتنام، والمسيحية والديانات الأخرى في أفريقيا.

ويمكن القول نفسه عن الفرنسيين بالنسبة للجزائر والإيطاليين بالنسبة لأثيوبيا. فالفرنسيون سوف يتوسعون في الجزائر المسيحية لاستغلال ثرواتها وأراضيها الخصبة، كما أن الإيطاليين لن يجعلوا مسيحية أثيوبيا تمنعهم من احتلالها، وتحويلها إلى مستعمرة تدار بمعرفتهم وبطريقة قاسية. وخلاصة القول، فإنه لا يوجد سبب حقيقي وراء الادعاء بأن رد الفعل الشرق أوسطي تجاه المحنة الاستعمارية الأوروبية سوف يختلف بشكل حاسم عما يحدث فعليا تحت راية الإسلام.

ولكن، ألا يمكن القول هنا بأن الشرق الأوسط كان من الممكن أن يكون أكثر ديمقراطية بدون إسلام؟ إن تاريخ الديكتاتورية في أوروبا نفسها لا يبعث هنا على الاطمئنان. فأسبانيا والبرتغال قد أنهيتا حقبة الديكتاتورية القاسية فقط في منتصف السبعينيات. واليونان قد تخلصت من ديكتاتوريتها المرتبطة بالكنيسة منذ عدة عقود فقط. كما أن روسيا المسيحية لم تصل بعد إلى بر الأمان. وحتى وقت قريب جدا، كانت أمريكا اللاتينية مثقلة بالحكام الديكتاتوريين الذين يحكمون بمباركة أمريكية وبالمشاركة مع الكنيسة الكاثوليكية. كما أن أحوال معظم الدول الأفريقية المسيحية لم تكن بأفضل من ذلك. فلماذا نتصور أن الشرق الأوسط المسيحي سوف يبدو مختلفا؟

وبعد ذلك، هناك فلسطين. فبالتأكيد، كان المسيحيون هم من قاموا بقمع اليهود بشراسة لما يزيد على الألف سنة، مكللين ذلك بالإبادة. وهذه الأمثلة المرعبة ضد السامية كانت متجذرة بشكل قوي بين الشعوب والثقافة الغربية. كما أن اليهود سوف يبحثون لهم عن وطن خارج أوروبا، كما أن الحركة الصهيونية سوف تظهر وتسعى لتأسيس قاعدة لها في فلسطين. كما أن الدولة اليهودية الجديدة سوف تزيح الـ 750000 نسمة من العرب المحليين في فلسطين من أرضهم، حتى ولوكانوا مسيحيين، وفي الواقع فإن البعض منهم كان مسيحيا فعلا. ألا يمكن القول هنا بأن هؤلاء العرب الفلسطينيين سوف يحاربون من أجل الدفاع عن أرضهم أو استعادتها؟ فالمشكلة الإسرائيلية الفلسطينية سوف تظل في الجوهر صراع قومي، وعرقي، وحدودي، وحديثا فقط فإنها قد اكتست بالشعارات الدينية. ودعونا ألا ننسي هنا أن العرب المسيحيين أنفسهم قد لعبوا دورا هاما في الظهور المبكر للحركة القومية العربية ككل في الشرق الأوسط؛ وفي الواقع فإن المؤسس الأيديولوجي لأول حزب بعثي جامع للعرب كان السوري المسيحي خريج جامعة السوربون ميشيل عفلق.

لكن الشيئ المؤكد هنا هو أن المسيحيين في الشرق الأوسط كانوا على الأقل مياليين دينيا نحو الغرب. ألا نستطيع هنا تجنب كل هذا الشقاق الديني؟ في الواقع، فإن العالم المسيحي ذاته قد تمزق بسبب الهرطقات منذ القرون المبكرة لعصر القوة المسيحية، تلك الهرطقات التي أصبحت المحرك نفسه للمواجهات السياسية مع القوة الرومانية أو البيزنطية. وبعيدا عن الاتحاد تحت راية الدين، فإن حروب الغرب الدينية قد حجبت بشكل دائم الصراعات العرقية والاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والثقافية العميقة من أجل الهيمنة.

وحتى الإشارات نفسها إلى “الشرق الأوسط المسيحي” قد أخفت العداء القبيح. فبدون الإسلام فإن شعوب الشرق الأوسط سوف تظل مثلما كانت عند ظهور الإسلام؛ غالبا مناصرون للمسيحية الأرثوذكسية الشرقية. لكنه من السهل أن ننسى أن واحدا من أكثر خلافات التاريخ الدينية استمرار وعدائية وقسوة كان بين الكنيسة الكاثوليكية في روما والمسيحية الشرقية الأرثوذكسية في القسطنطينية، وهو العداء المستحكم حتى اليوم. فالمسيحيون الأرثوذكس الشرقيون لم ينسوا أبدا نهب القسطنطينية المسيحية بواسطة الصليبيين الغربيين عام 1204 كما لم يتسامحوا تجاه هذا العمل. وتقريبا بعد مرور 800 سنة، وفي عام 1999، فإن البابا جون بول الثاني قام ببعض الخطوات الصغيرة لكي يخفف من حدة الجفاء بين الطرفين من خلال الزيارة الأولى لبابا كاثوليكي إلى العالم الأرثوذكسي خلال ألف سنة. لقد كانت بداية، لكن الخلاف فيما بين الشرق والغرب في الشرق الأوسط المسيحي قد استمر مثلما عليه الحال اليوم. ولنأخذ اليونان كمثال: فالدافع الأرثوذكسي كان هو المحرك القوي خلف القومية ومشاعر العداء للغرب هناك. ويمكن القول هنا أن تأجج العواطف المضادة للغرب في اليونان منذ حوالي عقد من الزمان تكرر نفس الشكوك والرؤى العدائية للغرب التي يرددها العديد من القادة الإسلاميين اليوم.

وتختلف ثقافة الكنيسة الأرثوذكسية بشكل حاد عن المعتقدات والمثل العليا وأنماط التفكير الغربية لمرحلة ما بعد التنوير التي تؤكد على العلمانية، والرأسمالية، وأولية الفرد. كما أنها مازالت تحتفظ بخوف متبقي من الغرب والذي يوازي في وجوه عديدة ذلك القلق الإسلامي الحالي من الدور التبشيري الغربي، ورؤية الدين بوصفه العنصر الفاعل في حماية المجتمعات والثقافة الإسلامية والحفاظ عليها، والتوجس في الخصائص المنحلة والإمبريالية للغرب. وفي الواقع، فإن موسكو يمكن أن تلعب دورا مؤثرا في الشرق الأوسط المسيحي الأرثوذكسي، حتى اليوم، بوصفها المركز الرئيس الأخير في الأرثوذكسية الشرقية. فالعالم الأرثوذكسي سوف يبقى الساحة الجيوبوليتيكة الجوهرية للتنافس الغربي الشرقي في فترة الحرب الباردة. ولقد اشتمل تحليل صموئيل هنتنجتون على العالم المسيحي الأورثوذكسي ضمن حضارات عديدة كمتورط في الصراع الثقافي مع الغرب. واليوم، فإن الاحتلال الأمريكي للعراق لن يتم الاحتفاء به أكثر من قبل العراقيين إذا ماكانوا مسيحيين. فالولايات المتحدة لم تطيح بصدام حسين، القائد القومي العلماني بدرجة كبيرة، لأنه مسلم. كما أن بعض الشعوب العربية الأخرى قد ساعدت العرب العراقيين في تجربة الاحتلال المؤلمة. فلا يوجد مكان في العالم ترحب فيه الشعوب بقدوم قوات الاحتلال الأجنبية وقتل مواطنيها على يد هذه القوات. وفي الواقع فإن الجماعات البشرية المهددة من قبل القوات الغازية تبحث دائما عن الأيديولوجيات المناسبة لتبرير وتعظيم مقاومتها للمحتل الأجنبي.

هذه إذا صورة مزعومة “للعالم بدون إسلام”. فهنا تهيمن الكنيسة المسيحية الأرثوذكسية الشرقية على الشرق الأوسط، تلك الكنيسة المعروفة تاريخيا وسيكولوجيا بشكها في الغرب، بل عدائها له. كما أن الشرق الأوسط مازال ممزقا بالاختلافات العرقية المؤثرة، بل وحتى الاختلافات الطائفية. كما أنه قد تم غزوه بشكل متعاقب من قبل الجيوش الامبريالية الغربية؛ حيث تم اغتصاب ثرواته، وإعادة ترسيم حدوده وفقا للمشيئة الغربية وبما يتفق مع مصالحها، وفرض أنظمة حاكمة مذعنة للإرادة الغربية. كما أن المسألة الفلسطينية مازالت مشتعلة، وايران مازالت مرتبطة بقوميتها بشكل كبير. ومازلنا نرى الفلسطينيون يقاومون اليهود، والشيشان يقاومون الروس، والإيرانيون يقاومون البريطانيين والأمريكيين، والكشميريون يقاومون الهنود، والتاميل يقاومون السنهاليين في سريلانكا، والويجوريون والتبتانيون يقاومون الصينيين. فالشرق الأوسط يمتلك نموذجا تاريخيا مجيدا يتمثل في الامبراطورية البيزنطية العظيمة التي استمرت لأكثر من 2000 عام، والتي مثلت رمزا دينيا وثقافيا هاما. وهو ما يؤبد من نواحي عديدة الانقسام الشرقي الغربي المعروف. وهذه الصورة المزعومة التي رسمناها لا تمثل صورة سلمية ومريحة بشكل كامل.

تحت راية النبي:

بالتأكيد، إنه لمن العبث أن نتصور أن وجود الإسلام لم يكن له أي تأثير مستقل على الشرق الأوسط أو على العلاقات الشرقية الغربية. فالإسلام كان القوة المُوحِّدة لنظام بالغ الأهمية عبر المنطقة. وبوصفه دين كوني وعولمي فقد خلق حضارة واسعة وعريضة تشترك في العديد من المبادئ العامة الخاصة بالفلسفة والفنون والمجتمع؛ كما خلق رؤية للحياة الأخلاقية، ومعنى للعدل والنظام القضائي، ونظام حكم جيد، وكل هذا تم في ارتباط مع ثقافة راقية متجذرة بعمق في الواقع الاجتماعي. وبوصفه قوة ثقافية وأخلاقية فإن الإسلام قد ساعد على تجسير الخلافات العرقية بين الشعوب المسلمة المختلفة، وتشجيعهم على أن يستشعروا أنفسهم بوصفهم جزءا من مشروع حضاري إسلامي أوسع، وهذا فقط هو ما أمده بوزن مؤثر وفعال. كما أن الإسلام قد أثر أيضا على الجغرافيا السياسية للعالم. فإذا لم يكن هناك إسلام فإن الأقطار الإسلامية في جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا اليوم، وعلى وجه الخصوص باكستان وبنجلاديش وإندونسيا كانت سوف تصبح جزءا من العالم الهندوسي.

فالحضارة الإسلامية قد وفرت تصورات مشتركة يمكن من خلالها لكل المسلمين أن يستأنفوا مقاومتهم ضد الاعتداءات الغربية. وحتى إذا ما فشلت هذه المحاولات في كبح جماح المد الامبريالي الغربي فإنها قد نجحت في خلق ذاكرة ثقافية من الأقدار والمصائر المشتركة التي لا تنتهي أبدا. فالأوروبيون قد استطاعوا أن يفتحوا ويقسموا الشعوب المختلفة من الدول الأفريقية والآسيوية واللاتينية الذين سقطوا فرادى أمام القوة الغربية. فالمقاومة المتحدة وعبر الدولية بين هذه الشعوب كان من الصعوبة تحقيقها في ظل غياب أية رموز عرقية أو ثقافية خاصة بالمقاومة.

ففي ظل عالم بدون إسلام، فإن الامبريالية الغربية سوف تجد مهام التقسيم والغزو والهيمنة على الشرق الأوسط وآسيا أكثر سهولة. فلن تبقي أية ذاكرة ثقافية مشتركة عن الإذلال والهزيمة عبر مساحة واسعة من الأرض. وهذا هو السبب المفصلي في أن الولايات المتحدة تواجه أوضاعا عصيبة في العالم المسلم. فالاتصالات عبر الكونية والصور المشتركة المنقولة عبر الأقمار الصناعية قد أوجدت وعيا ذاتيا قويا بين المسلمين وإحساسا بالحصار الامبريالي الغربي الواسع ضد الثقافة الإسلامية المشتركة. وهذا الحصار لا يرتبط بالحداثة؛ إنه يرتبط بالجشع الغربي المتواصل للهيمنة على العالم الإسلامي، وثرواته، وحتى ثقافته، وهو المحرك الذي يخلق شرق أوسط “مؤيد لأمريكا”. ولسوء الحظ، فإن الولايات المتحدة تفترض بسذاجة أن الإسلام يقف حجر عثرة بينها وبين تحقيق مآربها في المنطقة.

ولكن ماذا عن الإرهاب؛ المسألة الأكثر إلحاحا التي يربطها الغرب الآن مباشرة بالإسلام؟ وبشكل صريح هل كان من الممكن أن تقع أحداث الحادي عشر من سبتمبر بدون إسلام؟ فإذا ما ارتبطت المظالم التي تعرض لها الشرق الأوسط، والناجمة عن سنوات الغضب السياسي والعاطفي ضد سياسات الولايات المتحدة في المنطقة وتصرفاتها، برايات ورموز أخرى مختلفة غير الإسلام، فهل كانت الأمور سوف تسير وجهة أخرى؟ ومرة أخرى، فإنه من المهم أن نتذكر أنه من السهل الزج بالدين عندما نريد توجيه اللوم على تلك المظالم المستمرة. فالحادي عشر من سبتمبر لم يكن بداية التاريخ، وبالنسبة لمختطفي الطائرات المنتمين للقاعدة فإن الإسلام يماثل العدسة المكبرة في مواجهة الشمس، حيث يقوم بتجميع كل هذه المظالم العامة المشتركة والمنتشرة، وتركيزها في حزمة واحدة تمثل لحظة الفعل الواضح ضد الغازي الأجنبي.

وتتسم الذاكرة الغربية في تركيزها على الإرهاب باسم الإسلام بالقصور. فالمليشيات اليهودية استخدمت الإرهاب ضد البريطانيين في فلسطين. كما اخترع نمور التاميل الهندوس البدلة الانتحارية لمدة تزيد على عقد من الزمان، وهو الأمر الذي قاد العالم فيما بعد إلى العمليات الانتحارية، بما في ذلك اغتيال رئيس الوزراء راجيف غاندي. كما قام الإرهابيون اليونانيون بعمليات اغتيال ضد المسئولين الأمريكيين في أثينا. والإرهابيون السيخ المنظمون قتلوا انديرا غاندي. حيث نشروا الفوضى عبر ربوع الهند، وأسسوا قاعدة لهم عبر البحار في كندا، وأسقطوا طائرة تابعة للخطوط الهندية فوق المحيط الأطلنطي. كما كان الجميع يخاف الإرهابيين المقدونيين بشكل كبير عبر منطقة البلقان في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ولقد قام العديد من الفوضويين الأوروبيين والأمريكيين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بالعديد من الاغتيالات الكبرى الأمر الذي أدى إلى انتشار الرعب على نطاق واسع. واستخدم الجيش الجمهوري الأيرلندي الإرهاب المؤثر بشكل وحشي ضد البريطانيين لعقود عديدة، وهو ما فعلته العصابات الشيوعية والإرهابيون في فيتنام ضد الأمريكيين، والملايو الشيوعيون ضد الجنود البريطانيون في خمسينيات القرن الماضي، والإرهابيون الماو ماو الكينيون ضد الضباط الإنجليز في كينيا. ولا تقف القائمة عند ما بيناه فقط فهي تشتمل على العديد والعديد من أشكال الإرهاب في الكثير من مناطق العالم. وكل هذه الأمثلة لا تعني أن المسلمين هم المعنيون فقط باقتراف الإرهاب.

وحتى التاريخ القريب الخاص بالأنشطة الإرهابية لا يبدو مختلفا كثيرا؛ فوفقا لمنظمة البوليس الجنائي الأوروبي فإن 498 هجوما إرهابيا حدثوا ضمن دول الاتحاد الأوروبي في عام 2006. ومن هذا العدد فإن 424 هجوما قد تمت بواسطة جماعات انفصالية، و 55 هجوما قم تم بواسطة متطرفي الجناح اليساري، و18 هجوما قد قام بها إرهابيون آخرون، وهجوما واحدا فقط قد تم بواسطة إسلاميين. ولمزيد من الدقة فإن هناك العديد من الهجمات التي تم إحباطها من خلال المراقبة اللصيقة للجماعة الإسلامية. لكن هذه الأرقام تكشف عن المدى الأيديولوجي العريض للإرهاب المحتمل في العالم.

هل يصعب علينا هنا أن نتخيل أن العرب، مسلمين أو مسيحيين، الغاضبين من إسرائيل أو مما تقوم به الإمبريالية من غزو لأوطانهم وإطاحة بأنظمة الحكم في بلادهم أو تدخلات في شؤونهم الداخلية، يستخدمون نفس الأساليب الإرهابية وحروب العصابات التي يستخدمها الآخرون؟ وعوضا عن ذلك يمكن طرح السؤال بشكل آخر: لماذا لم يحدث ذلك على وجه السرعة؟ ولأن الجماعات الراديكالية تربط تلك المظالم بعصرنا المعولم، فلماذا لا نتوقع منهم ان يقوموا بتوجيه ضرباتهم نحو المركز الغربي؟

فإذا كان الإسلام مضاد للحداثة، فلماذا انتظر المسلمون حتى الحادي عشر من سبتمبر 2001 حتى يقوموا بهجومهم؟ ولماذا تحدث المفكرون الإسلاميون أوائل القرن العشرين عن الحاجة إلى التعاطي مع الحداثة بالرغم من التأكيد على ضرورة حماية الثقافة الإسلامية؟ فلم تكن دوافع أسامة بن لادن مقاومة الحداثة، بقدر ما تمثلت في الدفاع عن فلسطين، ورفض وجود القوات الأمريكية في العربية السعودية، والحملات الصليبية الراهنة ضد العالم الإسلامي. وإنه لمن المستغرب ألا نرى أي غليان ضد العالم الغربي إلا ما رأيناه في أحداث سبتمبر 2001، وهو الحدث الأبرز الذي واجه أمريكا على أرضها كرد فعل ضد الأحداث التاريخية المتراكمة الحالية، وضد السياسات الأمريكية ذاتها. وحتى إذا لم تحدث أحداث الحادي عشر من سبتمبر فإنه كان من المقدر أن تحدث أحداث أخرى مشابهة لها.

وحتى إذا لم يوجد الإسلام كأداة للمقاومة، فإن الماركسية قامت بالدور نفسه. فالماركسية كأيديولوجية قد أنتجت إرهابا وحروب عصابات عديدة إضافة إلى حركات التحرير الوطنية. حيث ألهمت العديد من المنظمات والحركات الثورية في إقليم الباسك في أسبانيا وفي كولومبيا وبيرو وأوروبا. كما أن جورج حبش، مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كان مسيحيا أورثوذكسيا شرقيا وماركسيا، درس في الجامعة الأمريكية في بيروت. وفي حقبة الغزل بين القومية العربية والماركسية العنيفة فإن العديد من الفلسطينيين المسيحيين قد وجهوا دعمهم لحبش.

فالشعوب التي تقاوم المغتصب الأجنبي تحتاج لشعارات يمكن من خلالها أن تدعم وتعظم أسباب تلك المقاومة. فالصراع الطبقي العالمي من أجل العدالة يوفر شعارا وجيها في هذا السياق. كما أن القومية تعتبر أيضا أفضل كسبب وجيه يدعم الصراع والمقاومة. لكن الدين يوفر أفضل هذه الشعارات والرايات، حيث يثير العواطف والمشاعر لأقصى مستوياتها تأثيرا من أجل مواصلة المقاومة والصراع. فالدين في كل مكان يمكن أن يستخدم في تعزيز العرقية والقومية، في الوقت نفسه الذي يتفوق فيه عليهما، وبشكل خاص عندما ينتمي العدو لدين مخالف. وفي مثل هذه الحالات، فإن الدين يتوقف عن أن يصبح مصدر هذه الصراعات والمواجهات في المقام الأول، لكنه على العكس يصبح محركها. فشعار المرحلة يمكن أن يختفي لكن المظالم تظل باقية.

فنحن نعيش في عصر غالبا ما يصبح فيه الإرهاب هو أداة الضعفاء. وهذا الإرهاب هو ما يعيق القوة غير المسبوقة للجيوش الأمريكية في العراق وأفغانستان وغيرها من بقاع العالم. ولهذا يعتبر أسامة بن لادن في العديد من المجتمعات غير المسلمة “شي جيفارا القادم”. وهو وضع ليس أكثر من كونه اسئناف للمقاومة الناجحة ضد هيمنة القوة الأمريكية، وعودة لذلك الهجوم الضعيف الذي يتجاوز الإسلام أو ثقافة الشرق الأوسط. المزيد عن الشيئ نفسه:

لكن يبقى السؤال نفسه، إذا لم يوجد الإسلام هل كان العالم سوف يكون أكثر أمنا؟ ففي مواجهة هذه التوترات بين الشرق والغرب، فإن الإسلام قد أضاف بدون شك عاملا تحفيزيا آخرا، كما أضاف مستوى أخرى من التعقيدات في مواجهة أية حلول لتلك التوترات. والإسلام ذاته ليس هو السبب في خلق مثل هذه المشكلات. فربما يبدو من المعقول أن نحاول أن نعثر على آيات من القرآن تفسر لنا “لماذا يكرهنا المسلمون”، لكن هذه المحاولة تفتقد بشكل تام القدرة على فهم طبيعة الظاهرة. فمن السهل تحديد الإسلام بوصفه مصدر “المشكلة”؛ ومن المؤكد أن هذا التحديد أكثر يسرا من الوقوف على الآثار الكونية للقوة العظمي الوحيدة في عالمنا المعاصر.

فالعالم بدون إسلام سوف يشهد معظم تلك الصراعات الدموية المزمنة التي غطت الحروب والمحن المرتبطة بها المشهد الجيوسياسي. وإذا لم يوجد الدين، فإن كل هذه الجماعات المتصارعة كانت سوف تجد شعارات أخرى يمكن من خلالها أن تعبر عن القومية وطلب الاستقلال. وبالتأكيد فإن التاريخ لن يسلك نفس المسار الذي سلكه فيما قبل. لكن في المعنى العميق فإن الصراع بين الشرق والغرب سوف يستمر حول القضايا التاريخية والجيوبوليتيكية الكبرى الخاصة بالتاريخ الإنساني مثل: العرقية، القومية، الطموح، الجشع والطمع، مصادر الثروة، القادة المحليين، المراعي والكلأ، المكاسب المالية، القوة والنفوذ، التدخلات في شؤون الغير، وأخيرا كراهية الدخلاء والغزاة والإمبرياليين. وفي مواجهة هذه القضايا الأبدية كيف يمكن ألا نستحضر قوة الدين؟

ويجب أن نتذكر أيضاً أن كل أشكال الرعب الرئيسة في القرن العشرين قد أتت تقريبا بشكل حصري من الأنظمة العلمانية المتشددة: ليوبولد الثاني ملك بلجيكا في الكونغو، هتلر، موسوليني، لينين وستالين، ماو، وبول بوت. كما كان الأوروبيون هم من جروا العالم نحو حربين عالميتين مدمرتين على المستوى الكوني. ولم يوجد في التاريخ الإسلامي ما يشابه هاتين الحربين العالميتين بتأثيراتهما الكونية الكارثية. وربما يتمنى البعض اليوم عالما بدون إسلام آملا أن هذه المشكلات الحالية لم تكن موجودة على مسرح الوجود. لكن، وفي الحقيقة، فإن الصراعات والمنافسات والأزمات المرتبطة بالعالم بدون إسلام لن تكون مختلفة بشكل كبير عن واقع المشكلات الذي نعهده اليوم.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.