صورة أوربا في رحلة ابن فضلان

ibnfad

 


شمس الدين الكيلاني*

تعتبر وقائع رحلة ابن فضلان، كما دوّنها في رسالته إلى الخليفة، ووصف فيها بلاد الترك والبلغار والروس والخزر وأيضاً البلاد الاسكندنافية، من أهم كتب الرحلات عند العرب، إذ أضاءت تلك الرسالة ثغرة كبيرة عن الماضي البعيد لتلك الشعوب، وقدّمت للروس إضاءة حقيقية لماضيهم البعيد، وأنارت في صفحات واسعة أساليب حياتهم في الزمن الغامر. في أمانة ودقة نادرين، لذلك فقد عنوا بترجمتها ونقلوا فصولاً عنها إلى لغتهم. وقد ذكر المستشرق الألماني فراهن Fraehn في تقديمه لابن فضلان في اللغة الألمانية: إذا كان الغرب قد أغفل روسية فإن العرب تحدثوا عنها، فألقى العرب أنواراً كثيرة على تاريخ الغرب القديم، وأدلوا بمعلومات ناقصة، وخاصة عن البلغار وروسية في العهد البعيد(1).

فقد ارتدت رسالة ابن فضلان أهمية خاصة، لا سيما أنها تضيء مرحلة غامضة لتاريخ بعض الشعوب كروسيا وبلغاريا والبلاد الاسكندنافية، أي في الفترة التي بدأت تتعرف بها على المسيحية، ولا يزال قسم منها على الديانة الوثنية، وغارقاً في التقاليد القديمة، فابن فضلان -كما يشير إلى ذلك كراتشكوفسكي- قدَّم لنا صورة حية للظروف السياسية في العالم الإسلامي، والعلاقات بين بلاد الإسلام والبلاد المتاخمة لها في آسيا الوسطى، والأصقاع النائية التي كانت تمثل أطراف العالم المتمدن آنذاك مثل حوض الفولغا، وتحفل رسالته بمادة إثنوغرافية قيّمة جداً ومتنوعة بصورة فريدة وهي تمسُّ عدداً من القبائل التركية البدوية القاطنة في آسيا الوسطى، وعدداً من الشعوب التي كانت تلعب دوراً سياسياً في تاريخ أوربا الشرقية، كالبلغار والروس والخزر(2).

ويتحدث “أندريه ميكيل” عن فضل ابن فضلان على تاريخ روسيا، بقوله: “وقد جمع في رحلته جملة معلومات نادرة عن هذه الأمة الغامضة جداً والنائية”(3). ويمكن القول: أن ابن فضلان قد كتب وثيقة استثنائية لا تتعلق بالبلغار وحدهم، بل بالخوارزميين والغز والبجناك والجفرد، بالإضافة إلى بعض المعلومات عن الروس والخزر، وإن كان العمل يتركز على البلغار، أو الصقالبة على حد تسمية ابن فضلان لهم(4). ولقد حافظت الرسالة على قيمتها بالنسبة لتاريخ الروس وبلغار الفولغا والاسكندنافيين إلى الآن. ولقد ارتبطت تلك الرحلة منذ البداية بمهمة سياسية عليا للخلافة العباسية في بغداد، التي بقيت محافظة على هيبتها الكبرى في العالم الخارجي، وعلى مهابتها الروحية داخل دار الإسلام، رغم انحسار نفوذها السياسي في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، وهذا يفسر كثرة الوفود التي قصدت بغداد لعقد الصلات والتحالفات ولإظهار الولاء. من هنا نفهم قدوم وفد من الصقالبة/ البلغار، وهم من سكان شمال أوروبا على أطراف نهر الفولغا (آتل)، وعاصمتها على مقربة من قازان الحالية، طالبين العون من الخليفة المقتدر بالله (ت320هـ) في المجالين السياسي والديني.

فلقد وصلت بعثة من ملك الصقالبة البلغار إلى بغداد طلباً لعون الخليفة المقتدر، وذلك لإرسال بعثة من طرفه لتعلّم أهل مملكته الدين الإسلامي، ولبناء جوامع هناك، وحصون تحميهم من الأعداء الجوار. ويتحدث ابن فضلان في رسالته عن هذه البعثة بقوله: “لما وصل كتاب “ألمش بن بلطوار” ملك الصقالبة إلى أمير المؤمنين المقتدر يسأله فيه البعثة إليه مِـمَّن يفقّه في الدين، ويعرّفه شرائع الإسلام، ويبني له مسجداً، وينصب به منبراً ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته، ويسأله بناء حصن يتحصّن فيه من الملوك المخالفين له، فأجيب إلى ما سأل من ذلك”(5). ويشير ميكيل إلى أن غاية الرحلة الفعلي “كانت توفير وسائل تمكِّن البلغار الذين اعتنقوا الإسلام سطحياً، من ترسيخ إيمانهم، وبناء مجتمعهم على الشرائع الإسلامية. لكننا نظن بأن السياسة والاقتصاد تدخلا في هذه القضية، فكان المقصود أيضاً تأمين مصلحة التجارة الكبرى، وتجنُّب عقبة الخزر الذي كان وجودهم على نهر آتل (الفولغا) الأسفل يقطع الطريق بين روسية الشرقية وبين دار الإسلام الشمالية”(6).

فتقرر أن يرسل وفد إلى ملك الصقالبة برئاسة أربعة أشخاص وهم: “سوسن الرسي” مولى نذير الخرمي، وتسكين التركي، وبارس الصقلابي، وأحمد بن فضلان رئيساً للوفد، ويرافقهم رسول الصقالبة كدليل، فضلاً عن أشخاص ثانويين فيهم الفقيه والمعلم والغلمان كمعاونين للوفد. وقد حمل الوفد معه (أدوية) تلبية لطلب ملك الصقالبة(7)، وهي شهادة ذات دلالة على تفوق الإمبراطورية الإسلامية، وغنى حضارتها.

ورحل الوفد من بغداد بقافلة تتألف من خمسمائة رجل وثلاثة آلاف دابة، يوم الخميس 11 صفر 309هـ (الموافق 21 يونيو 921م)، وصعد شرقاً ثم شمالاً ماراً بإقليم الجبال فهمذان فالري قرب طهران اليوم، وعبر نهر جيحون (أموداريا) فبلغ بخارى، تم أوغل في البراري والبوادي إلى أن وصل إلى الفولغا، عند ملك الصقالبة يوم الأحد 12 محرم 310هـ (الموافق 11 مايو 922م)، ولاقى في طريقه المصاعب والأهوال.

رحل ابن فضلان تاركاً وراءه بلاداً ترفل بالوفرة والازدهار المديني والثقافي، وتزهو بمكانتها وغنى حياتها وتأنقها، يختزن في أعماقه مرجعياتها الثقافية، فهي وإن كانت لا تعاني التمركز الذاتي العرقي؛ لأنها أساساً مزيجاً من الأعراق والأمم، يوحدها الإيمان الديني الإسلامي، وما ينتج عنه من سلوك في النظافة والطهارة، كما يظهر في الحرص على الوضوء قبل الصلوات الخمس والاغتسال بعد الجماع، وأساليب الزواج، والإرث، وبر الوالدين، ومكانة الأم، وما يسمى العفّة، والاحتشام، والحرمات المتعلقة بمدى انكشاف المرأة على الرجل، وحرمان العلاقة الجنسية قبل الزواج، واحترام العلاقات الأسرية، فضلاً عن تبجيلها لصفات الكرم، والمروءة، والشجاعة، وقول الحق، والتعاضد الاجتماعي.

فلقد حمل ابن فضلان مرجعية ثقافية تنفي التمركز العرقي، وحتى الحضاري، إذ أن مظاهر الحضارة يمكن أن نجدها عند كل الأمم، إلا أن هذه الثقافة تختزن نوعاً من التمركز، يمكن تسميته بالتمركز الروحي الديني؛ فالإسلام هو أصل الدين، وهو الدين المكتمل أيضاً، تبدو فيها الأديان السماوية الأخرى تجليات مختلفة لجوهر الإسلام، فاض كل منها بجانب من الحقيقة الروحية، أو حقيقة الدين، الذي وجد اكتماله في الإسلام، فهي قد ضمَّت إلى هذه الأسرة الروحية المسيحية واليهودية، وأنبياء اليهودية والمسيحية، وسمَّت أصحاب هاتين الديانتين بأهل الكتاب، وإن كانت نظرت إلى أصحاب الديانات تلك، المعاصرين لها، على أنهم قد انحرفوا عن الديانة الأصلية المسيحية واليهودية، وأتى الإسلام ليُكمل ويُصلح. ولكنها ظلت تنظر إليهم كأهل كتاب موحى به، لهذا نظرت إلى انتقال بعض الشعوب الأوروبية إلى المسيحية كأحد مظاهر التقدم الروحي، وميَّزتها عن الشعوب التي لا زالت غارقة في الوثنية، فسمَّت هؤلاء بـ(المجوس) وهو ما ينطبق عليهم نعت “الكفر”. أما ما عدا الجانب الديني فقد وجدت أن المظاهر الحضارية والعمرانية تتوازعها الشعوب المختلفة، يمكن أن توجد بعض خصالها في هذا الشعب أو ذاك.

وعلى هذا الأساس، نظر ابن فضلان لحال الشعوب التي زارها، فضلاً عن تأثره بما عرفه في عاصمته ومملكته من ترف وحضارة، جعله أحياناً يقيس ويقارن بين حالها وحال الشعوب التي زارها، فأصبح يستصغر أحياناً أحوالها، وخاصة في أوربا الشمالية، وبلدان الترك في الشمال، بطريقة أشعرنا بها بدهشته وعجبه، انطلاقاً من مقايسته إياها ضمنياً بمرجعيته الثقافية العربية الإسلامية.

لقد امتاز ابن فضلان بوصفه الدقيق بأسلوب ممتع شائق، لا زلنا ننعم بعد مضي ما يزيد على ألف عام بالصور التي نقلها عن عادات تلك الشعوب وتقاليدها، وحياتها الأخلاقية في ذلك العصر. وكان دقيق الملاحظة، يسجل أكثر مِـمَّا يريده السائح، فيصف الحكم والأمراء، ورجال الشعب على حد سواء، كما يرسم الهيئة والوجود على إيجاز رسالته وقصرها(8). وامتاز ابن فضلان عمن سبقه، بأنه وضع العلاقة الأساسية بين المكان والزمان، التي سوف تصبح في وقت لاحق صفة من الصفات التي تميّز الرحلة، كما نراها عند ابن جبير، وابن بطوطة؛ فرسالته كانت نوعاً متوسطاً بين الجغرافية والتاريخ، فهي كالجغرافية تهتم بالمكان بعد أن تعيد تنظيمه على معايير زمنية يختص بها التاريخ(9). فضلاً عما تتسم به تلك الرسالة من وصف إثنوغرافي لحالة الشعوب، وهو ما يجعلها متفوقة على رحلتي “الجرمي” و”هارون”، اللذان لم يركزا إلا على هرم السلطة، والعمائر، والعجائب، ومظاهر العمران المدني؛ وتجاهلوا البشر الذين شيدوها، فقد وضع ابن فضلان في مقدمة اهتماماته حال الإنسان العادي: سلوكه، وعاداته، وتقاليده، ودياناته، وطقوسه الحية، والمظاهر الأخرى لاعتقاداته، ولا ينسى أفراحه وأتراحه، وطرائق زواجه، وتربيته، وطقوسه في الدفن والموت، فضلاً عن اهتمامه بمنشأ السلطة والسلطان، ومظاهر العمران الأخرى إن وجدت، وتأثير الطقس، ومظاهر العجائب والمدهش في حياة تلك الشعوب.

يتوافق سرده مع تتابع أحداث الرحلة، بدءاً من قصة الرحلة وأغراضها، وانتهاءً بوصفه الدقيق للبلغار والروس والاسكندنافيين، وبين محطتي السفر هاتين، يصف ابن فضلان في طريقه الخوارزميين والترك والبجناك والباشغرد، وما شهدته رحلته من عقبات هناك. فلا ينسى التذكير ببرد بلاد الشمال، وما واجهه من مصاعب، فقد ذكر أنه تنكَّر (=اختبأ) في القافلة قبيل نيسابور خوفاً من برد الشتاء في الجرجانية، فإذا باب من الزمهرير قد فُتح، والريح تعصف، فإذا خرج من الحمّام إلى المنزل جمدت لحيته، فأصبحت قطعة واحدة من الثلج، وإذا هو يبيت في بيت داخل بيت، ويتدثر بالأكيسة والفراء، ومع ذلك يلتصق خده على المخدة لشدة البرد. وحين أوغل في بلاد الترك لقي الضر والبرد حتى أشرف على التلف فيمن معه، ولمواجهة هذه المشاق لم يجد إلا التمسك بإيمانه بالله، والتضرع له، والتقرب إليه(10). ويذكر “لقد رأيت الأرض تنشق فيها أودية عظام لشدة البرد، وأن الشجرة العظيمة العادية لتنفلق بنصفين لذلك”(11).

فأما في بلاد الترك فقد وجد أن “برد خوارزم عنده مثل أيام الصيف، ونسينا كل ما مر بنا، وأشرفنا على تلف الأنفس”(12). ولا ينسى وصفه الإثنوغرافي لشعوب الأتراك الغزية البدوية، حيث يبدي أسفه على بقائهم على دين الوثنية “لهم بيوت شعر، يحلون ويرتحلون، وترى منهم الأبيات في كل مكان، ومثلها في مكان آخر، على عمل البادية وتنقلهم، وإذ هم في شقاء، وهم مع ذلك كالحمير الضالة لا يدينون لله بدين، ولا يرجعون إلى عقل، ولا يعبدون شيئاً، بل يسمون كبراءهم أرباباً… وأمرهم شورى بينهم، غير أنهم متى اتفقوا على شيء وعزموا عليه جاء أرذلهم وأخسهم فنفض ما قد أجمعوا عليه… وسمعتهم يقولون: لا إله إِلاَّ الله محمد رسول الله “تقرباً بهذا القول إلى من يجتاز بهم من المسلمين”(13).

ولا يغفل الجوانب الأخرى المتعلقة بسلوكهم الاجتماعي، ولا سيما علاقتهم بالمرأة، وعادات الدفن، فيذكر أنهم لا يهتمون بـ(عفة المرأة) ولا بستر (عورتها)، إذ نزلوا يوماً على رجل منهم ومعه امرأته (فبينما هي تحدثنا كشفت فرجها وحكته، ونحن ننظر إليها، فسترنا وجوهنا، وقلنا: “أستغفر الله”، فضحك زوجها وقال للترجمان: “قل لهم: تكشفه بحضرتكم فترونه، وتصونه، فلا يوصَل إليه، هو خيرٌ من أن تغطيه وتمكّن منه”(14). إلا أنهم لا يعرفون الزنا، ومن زنا منهم شقوه نصفين؛ أما رسوم تزوجهم، تقوم على أن يخطب الواحد منهم إلى الآخر بعض حرمه (ابنته أو أخته) بثوب خوارزمي، أو مقابل جمالاً أو دواباً، فإذا وافقه حملها إليه(15).

وإذا مات الرجل وله زوجة وأولاد، تزوج الأكبر من أولاده بامرأته إذا لم تكن أمه، ويذكر أن “أمر اللواط عندهم عظيم جداً، يقتلون من يمارسه”(16). وإذا مرض الرجل منهم ضربوا له خيمة يبقى فيها منفرداً إلى أن يموت، وإذا كان فقيراً رموه في الصحراء وتركوه؛ وإذا مات حفروا له حفرة كبيرة كهيئة البيت، وألبسوه ثيابه، وتركوا له ماله وأشياءه، وإناء نبيذ، وأجلسوه في البيت، وجعلوا له قبة. كما لاحظ أن الترك كلهم ينتفون لحاهم إلاَّ أسبلتهم (=شواربهم)، فيعبر ابن فضلان عن استيائه من هذه العادة، إذ يقول: “وربما رأيت الشيخ الهرم منهم وقد نتف لحيته وترك شيئاً منها تحت ذقنه، فإذا رآه إنسان من بُعدٍ لم يشك أنه تيس”(17).

أما السلطة، فإن ملك الترك الغزية يقال له (يبغو)، ومن عاداتهم أن الرجل لا ينزع عنه الثوب الذي يلي جسده حتى ينتثر قطعاً. ويتحدث عن البجناك (=البشناق)، وهم قبيلة تركية غزية، طردهم الغزُّ أمامهم، فوجدهم ينزلون على ماء شبيه بالبحر غير جار “وإذ هم سمر شديدو السمرة، حليقو اللحى، فقراء، خلاف الغزية”(18).

ثم يقف عند قوم من الأتراك يقال لهم الباشغرد، فرأى فيهم “شر الأتراك وأقذرهم، وأشدهم إقداماً على القتل”، يأكلون القمل، ويعبدون أرباباً مختلفة: ومنهم من يزعم أن له اثني عشر رباً: للشتاء رب، وللصيف رب، وللمطر رب.. وهكذا.. والرب الذي في السماء أكبرهم، فيعلق قائلاً: “تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً”، ومنهم طائفة تعبد الحيات، أو السمك، أو الكركي(19).

الصقالبة (البلغار)

يمتاز ابن فضلان بوصفه الإثنوغرافي لبلغار الفولغا بالدقة والإحاطة الشاملة، فلا يكاد يغفل عن أي شيء يمس حياتهم العامة والخاصة: السلطة، والدين، والسلوك الاجتماعي، والطقوس، فضلاً عن الأنواء، والظواهر الغريبة التي تحيط ببيئتهم وحياتهم.

1- السلطة والعلاقة الدولية:

يذكر أن ملك الصقالبة اسمه (ألمش بن بلطوار)، وله مساعدون يدعوهم “الملوك الأربعة” كانوا مع الملك عند استقباله لهم، وكان الملك يصحبه أيضاً إخوته وأولاده يحملون “معهم الخبز واللحم والجاورس (=نوع من الحبوب)”. وبعد مراسيم الاستقبال بساعة، دعاهم الملك “فدخلنا إليه وهو في قبته، والملوك على يمينه، وأمرنا أن نجلس على يساره، وإذا أولاده جلوس بين يديه، وهو وحده على سرير مغشى بالديباج الرومي..”، ثم يحدثنا عن عادات الطعام عند الملك، فعندما أُعدَّت المائدة لهم قدِّمت إليهم وعليها اللحم المشوي وحده، فتضمن طقس الطعام الملكي، أن يبدأ الملك بالطعام، وأن لا يبدأ الآخرون إلا بعد أن يقدم الملك بنفسه قطعة من الطعام لهم “فلا يمدُّ أحدٌ يده إلى الأكل حتى يناوله الملك لقمة”(20). وَلَـمَّا أكلوا دعا (الملك) بشراب العسل وهم يسمونه السجو، فشرب قدحاً نخباً لخليفة بغداد، وهو يقوم قائلاً:”هذا سروري بمولاي أمير المؤمنين -أطال الله بقاءه- وفعل ذلك ثلاث مرات”.

وبما أن العقيدة الإسلامية لم تنغرس بعمق، لاحظ ابن فضلان أنه كان يُخطب على منابر جوامع البلغار، قبل قدومه “اللهم أصلح الملك بلطوار ملك البلغار” فنبه ابن فضلان الملك “أن الله هو الملك، ولا يسمى على المنبر بهذا الاسم غيره”، وذكّره أن منابر بغداد والشرق يقال فيها “اللهم أصلح عبدك وخليفتك الإمام المقتدر بالله”، فصار من حينها يُخطب لملك البلغار على المنابر “اللهم أصلح عبدك جعفر بن عبد الله أمير البلغار مولى أمير المؤمنين”(21).

ولاحظ أن الملك إذا ركب لا أحد يكون معه، فإذا اجتاز السوق لم يبق أحد إلا قام وأخذ قلنسوته عن رأسه فجعلها تحت إبطه، إذ إن كلهم يلبس القلانس، فإذا جاوزهم الملك ردوا قلانسهم إلى رؤوسهم؛ كذلك فإن كل من يدخل إلى الملك في مجلسه يأخذ قلنسوته تحت إبطه، وكل من يجلس بين يديه يجلس باركاً. وكلهم يسكن القباب، إلا أن قبة الملك كبيرة، تسع ألف نفس وأكثر، مفروشة بالفرش الأرمني، وله في وسطها سرير مغشى بالديباج الرومي.

ويشير إلى علاقة التبعية التي تربط البلغار بجيرانهم الخزر، إذ يضطر ملك الصقالبة على دفع ضريبة إلى ملك الخزر مقدارها جلد سمور عن كل بيت في مملكته. ويضع ابنه رهينة عند ملك الخزر، الذي تزوج ابنة ملك الصقالبة غصباً، على الرغم من أنه يهودي وهي مسلمة، ومن جهة أخرى فإن ملك الصقالبة يأخذ العشر من كل سفينة تجارية تأتي من الخزر، وإذا قَدِم الروس أو غيرهم من سائر الأجناس برقيق فالملك يختار رأساً من عشرة رؤوس. ويحدثنا أن فيهم تجار كثر، يخرجون إلى أرض الترك فيجلبون الغنم، وإلى بلد آخر يقال له (ويسو) فيجلبون منه السمور والثعلب الأسود(22). وإذا غزوا على بعض البلدان فللملك حصته فيها، كما أن في كل عرس أو فرح له قدر من الوليمة.

وهكذا نجد أن تنظيم السلطة، وعلاقة الجماعة بها، يجمعان بين حياة القبيلة وتنظيمها، وبين الملكية المركزية التي تتجلى في الضريبة التي يفرضها الملك على رعيته، وفي التجارة الدولية النامية في بلده، وفي السلطة والنظام اللذان يحرسهما.

2- السلوك الاجتماعي والديني:

لقد عرف ابن رسته، من قبل، دخول الإسلام إلى البلغار الصقالبة، غير أننا مع ابن فضلان ندخل ردهات الحياة الدينية اليومية للبلغار، إذ يصور لنا ما يتوافق أو يختلف مع الاعتقاد الإسلامي، فنجده غير راضٍ، بشكل عام، عن سطحية تمثُّل البلغار للمعتقد الإسلامي، وانعدام تجذره في سلوكهم؛ إذ رآهم يتبركون بعواء الكلاب جداً، ويفرحون به، لما يمثله لهم من دلالة على الخير فيقولون لبعضهم: “سنة خصبة وبركة وسلامة”، ويستغرب من رسومهم التي تقضي بأن يأخذ الجدُّ المولود دون أبيه، فيعطوا الحق للجد في حضنه حتى يصير رجلاً، وإذا مات منهم رجل ورثه أخوه دون ولده. من هنا قول ابن فضلان “فعرَّفت الملك أن هذا غير جائز، وعرفته كيف المواريث حتى يفهمها”(23).

كما رأى أنه إذا وقعت صاعقة على بيت لم يقربوه تطيراً منه، وتركوه بما فيه من أنفس ومال حتى يتلفه الزمان، ويقولون عنه “هذا بيت مغضوب عليهم”. وإذا كانوا يعاقبون القاتل العمد بالقتل، وهو يتفق إلى حد ما مع المعتقد الإسلامي، فإن ما يثير استغرابه أنهم يعاقبون من قتل رجلاً خطأ، بدون قصد، بوضعه داخل صندوق وتعليقه حتى يبليه الزمان وتهب به الريح. وأعار ابن فضلان موضوع المرأة انتباهاً خاصاً ولا سيما بعد أن رأى تخففها من ضوابط التقليد الإسلامي، فأثار استهجانه نزول الرجال والنساء إلى النهر ليغتسلوا جميعاً عراة لا يستتر بعضهم من بعض، فيقول “وما زلت أجتهد أن يستتر النساء من الرجال في السباحة فما استوى لي ذلك”(24)، إلا أنهم لا يزنون بشكل عام، ومن زنا منهم، كائناً من كان، ضربوا له أربعة سكك وشدوا يديه ورجليه إليها، وقطعوه بالفأس من رقبته إلى فخذيه، وكذلك يفعلون بالمرأة أيضاً، ثم تُعلّق كل قطعة منه ومنها على شجرة(25).

أما فيما يتعلق بعادات الدفن، فإنه يصفها بدقة ربما لأنها كانت تخالف طريقة الدفن الإسلامية، فإنهم يغسلون الميت على طريقة المسلمين، إلا أنهم يحملونه، إذا كان حراً أو من الرؤساء، على عجلة تـجرّه إلى مكان الدفن، حيث يضعونه على الأرض، ثم يخطّون حوله خطاً ويحفرون داخل ذلك الخط حفرة، ثم يجعلون له لحداً ويدفنونه في الحفرة. ويُمنع على النساء البكاء على الميت، ويبكي الرجال الأحرار، أما عبيد الميت فيأتون إليه بعد ذلك فيضربون جنوبهم بالسيور، وينصبون له مطرداً (=علماً) على باب قبة قبره، ويأتوه بسلاحه، ولا يقطعون البكاء عليه خلال سنتين، فإذا انقضت السنتان حطّوا العلم وقصوا من شعورهم، ثم يدعون بدعوة إيذاناً بخروجهم من الحزن، ويحق لزوجته بعده الزواج ثانية. أما في حال الميت من العامة “فيفعلون بعض هذا بموتاهم”(26).

3- معاشهم وغرائبهم:

يلاحظ ابن فضلان أن أكثر البلغار مريض بداء القولنج (=مرض معوي)، حتى أن أكثرهم تختفي من وجهه الحمرة، ويلبسون جميعاً القلانس، وأكثر أكلهم الجاورس (نوع من الحبوب) ولحم الدابة، على أن الحنطة والشعير كثير لديهم، وكل من زرع شيئاً أخذه لنفسه، ليس للملك فيه حق، سوى ما يقدمونه له كل عام من جلد السمور. ويحفرون في الأرض آباراً ويضعون طعامهم فيها، فلا تمضي أيام حتى يتغير طعمه ورائحته، وليس لهم زيت أو دهن، سوى دهن السمك يعتمدونه في أكلهم. ويعملون من الشعير حساء للجواري والغلمان. وفي غياضهم عسل كثير، وعندهم تفاح أخضر شديد الخضرة، وأشدّ حموضة من خلّ الخمر، تأكله الجواري فيسمنَّ عليه. ولم ير في بلدهم أكثر من شجر البندق، كما يوجد عندهم شجر مفرط الطول وساق أجرد الأوراق، يجيئون إلى موضع يعرفونه في ساقه فيثقبونه فيخرج منه ماء أطيب من العسل، إذا أكثر منه المرء أسكره؛ وعندهم أيضاً رمان أمليس (لا نواة له) لذيذ جداً.

ولا ينسى أن يحدثنا عن المناخ والطقس، وما يحتويانه من غرائب، فيلاحظ تفاوت الليل والنهار واختلافهم عما اعتاده في بلاده، لدرجة صار حائراً والتبست لديه مواقيت الصلاة، فالنهار لديهم طويل جداً، إذ أنه يطول عندهم مدة من السنة ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار، ورأى في يوم إقامته الثاني أن الشفق الأحمر الذي قبل المغيب لا يغيب البتة، وإذا الليل قليل الظلمة يعرف الرجلُ الأشياء عن بعد. ورأى القمر لا يتوسط السماء، بل يطلع في أرجائها ساعة ثم يطلع الفجر فيغيب القمر. ورأى البلد عند طلوع الشمس يحمرُّ كل شيء فيه الأرض والجبال وكل شيء(27).

ويحدثنا عن عجائب، حرص أن ينسبها إلى غيره لغرابتها، رغم قوله: “رأيت في بلده من العجائب ما لا أحصيها” فهو يتحدث بلسان أحد أصحابه عن وجود حيوان غريب، هو دون الجمل في الكِبر وفوق الثور، وحوافره مثل أظلاف الثور، له في وسط رأسه قرن واحد غليظ مستدير، يرتقي ورق الشجر، إذا رأى الفارس ظل يلاحقه حتى يقتله، لذا فهم يصعدون إلى أعالي الشجر ليرموه بالسهام المسمومة لقتله. ولعله بذلك يصف ما يسمى بوحيد القرن.

كما يتحدث على لسان أحد الرجال عن شعب غامض يسميه يأجوج ومأجوج، ويبعد هؤلاء عن أهل (ويسو) ثلاثة أشهر، وهم عراة، يفصلهم البحر عن أهل (ويسو), وهم مثل البهائم ينكح بعضهم بعضاً. يخرج الله لهم كل يوم سمكة من البحر لطعامهم(28). كما التبس عليه رؤيته لبعض الظواهر المتعلقة بالشفق القطبي، فتخيَّل أنه يرى أمثال الناس والدواب في الجو، تأثراً ببعض المعتقدات المحلية الراسخة.

كما يحدثنا عن لسان ملك البلغار عن شعب (ويسو)، وهو شعب فنلندي شمالي، ولعله كما يرى المستشرق “فرهن” شعب روسيا البيضاء، قرب موسكو الحالية، إذ يعلمه ملك البلغار أنه يبعد ثلاثة أشهر عن بلاده؛ والليل عندهم أقل من ساعة، يذهب إليهم تجار البلغار ليشتروا منهم جلود السمور والثعلب الأسود. فقدم لنا ابن فضلان صورة حية، عن مقطع من حياة البلغار قبل ألف عام، لا غنى عنها لأي مؤرخ لحياة وأصول شعوب شرق أوربا، فجمعت رسالته بين أسلوب التقرير الرسمي وبين الدراسة الإثنوغرافية لحياة هذا الشعب.

الروس
لقد قام برحلته إلى بلاد الروس، أثناء بعثته التي قادته إلى بلاد البلغار، فكانت في أواسط القرن العاشر الميلادي، أي قبل عهد الملك فلاديمير، وكان الروس آنئذ لم يعتنقوا المسيحية بعد(29).

ويذهب “كريكتون” Micheal Crichton وأغلب المستشرقون الغربيون إلى أن ابن فضلان أطلق اسم روسية/ الصقلبية على السكان الذين التقاهم في بلاد الروس الحالية، ولكن هؤلاء الروس هم اسم قبيلة اسكندنافية، لذلك سماهم كريكتون في تحقيقه لرسالة ابن فضلان بـ(Northmon) النورديين، أو أهل الشمال، وهو يخالف رأي المستشرقين الروس الذين يعتقدون أنهم قبائل روسية أصلية السلوك الفردي والاجتماعي.

لا يختلف أسلوب ابن فضلان في تناوله للروس عن تقريره الخاص بحالة شعب البلغار، فهو لا يكتفي بالوصف السطحي للواجهة السياسية، بل يغوص لينقل لنا وصفاً إثنوغرافياً عن أساليب حياتهم المعاشية والدينية، وسلوكهم الاجتماعي والثقافي؛ فجمع لنا-حسب ميكيل- صورة نادرة عن هذه الأمة الغامضة والنائية، قبل أن تنتقل إلى المسيحية. وهو يأخذ كل جانب من جوانب حياتهم الاجتماعية والثقافية على حدة ليصدر حكمه عليه استناداً إلى المقاييس القيمية التي اكتنزها، فهناك الجانب الذي يثير الإعجاب، وجانب يثير منه الاستغراب أو الاستهجان، فلكل جماعة بشرية حسب مفاهيمه مواقعها المنيرة وجوانبها المظلمة، فهو يصف بإعجاب “لم أر أتم أبداناً منهم كأنهم النخل، شقر حمر، مع كل واحد منهم فأس وسيف وسكين لا يفارقه، وسيوفهم صفائح مشطبة إفرنجيـة”(30).

ثم يراقب بدقة سلوكهم وعاداتهم، وأحياناً يصف ذلك بحيادية، فيها نوع من الاستغراب، فهو رآهم ينزلون بتجارتهم على نهر آتل (=الفولغا) لا يلبسون القراقط، ولا الخفاتين، ولكن يلبس الرجل منهم كساء يستر به أحد طرفي جسمه، ويخرج إحدى يديه منه. والواحد منهم ينقش جسمه من ظفر رجله إلى رقبته صور مخضرة بالشجر وغير ذلك، وتضع المرأة على ثدييها حقة (=وعاء) مشدودة من حديد أو فضة أو نحاس أو ذهب، على قدر مال زوجها، وعلى عنقها أطواق من ذهب وفضة، يرتبط عددها بحجم ثروة زوجها، وأجلَّ الحلي عندهم الخرز الأخضر من الخزف(31). لكنه أحياناً، يصدَم بسلوكهم الاجتماعي، ولا سيما فيما يخصُّ العلاقة بين الجنسين، حيث يختفي التستر و”العفة” من جهة، وهو سلوك خاص بمجتمعه الثقافي-الديني، أو ما يخص النظافة و”الطهارة”، وما اعتاده من طقس إسلامي بهذا الخصوص، ففي البيت الواحد يجتمع عشرة أو عشرون شخصاً، لكل واحد منهم سرير يجلس عليه، ومعهم رفيقاتهم الجميلات، فينكح الواحد منهم جاريته، ورفيقه ينظر إليه، وربما يدخل عليهم تاجر فيصادف أحدهم ينكح جاريته “فلا يزول عنها حتى يقضي أربه”، ويعبر عن صدمته لخروجهم عن طقس “الطهر” والنظافة الإسلاميين بقوله: “وهم أقذر خلق الله، لا يستنجون من غائط أو بول، ولا يغتسلون من جنابة، ولا يغسلون أيديهم من الطعام، بل هم كالحمير الضالة، يجيئون من بلدهم فيرسون سفنهم بآتل، وهو نهر كبير، ويبنون على شطه بيوتاً كباراً من الخشب”(32).

ويصف بتقزز عاداتهم اليومية بغسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ماء، إذ تأتيهم الجارية بالغداة بقصعة كبيرة فيها ماء، فتناوله لسيدها فيغسل منها يديه ووجهه وشعر رأسه، ثم يتمخط ويبصق فيها، ثم تحمل الجارية القصعة إلى الذي يليه، وهكذا حتى تديرها على جميع من في البيت.

1- الدين والسلطة:

يلاحظ أن ديانتهم ترتبط بمعاشهم وبحاجاتهم الاجتماعية، وبتلبية هذه الحاجات، فعندما يرسون بسفنهم على شاطئ نهر آتل، يأتون بها ببضائعهم للإتجار بها، جواري وسمور؛ فيخرجون ومع كل واحد منهم خبز ولحم وبصل ونبيذ، يتجهون إلى خشبة منصوبة لها وجه يشبه الإنسان، وحولها صور صغار، وخلف تلك الخشبة خشبة طويلة أخرى تنصب في الأرض، هي مقدسة عندهم، فيأتي تاجرهم إلى الصورة الكبيرة ويسجد ويتضرع لها، علّها تسهّل له أمر بيعه لتجارته، فيقول لها: “يا ربِّ قد جئت من بلد بعيد، ومعي من الجواري كذا وكذا رأساً، ومن السمور كذا وكذا جلداً”. فيذكر جميع ما عنده من تجارة، ثم يقول: “وجئتك بهذه الهدية”، فيترك هديته لها وينصرف، فإن تعذرت تجارته أعاد الطقس نفسه وقدَّم هدايا أخرى. فيعمد إلى ذبح غنم وبقر ويطرحها على الخشبة الكبيرة والصغار التي حولها، فإذا أتت الكلاب عليها في الليل، يقول: “قد رضي ربي عني وأكل هديتي”(33).

ولفت ابن فضلان النظر إلى عقوباتهم المعتمدة في تقاضيهم، فهم يجازون السارق بنصبه على شجرة غليظة، وبشده من عنقه بحبل يعلقوه فيها، حتى يتقطع بفعل الرياح والأمطار. وإذا مرض الواحد منهم نصبوا له خيمة، وتركوا معه خبراً وماءً، لا يقربوه ولا يكلموه، فإذا برئ رجع إليهم، وإن مات أحرقوه، وإذا كان مملوكاً تركوه للكلاب وجوارح الطير.

ويغلب على الصورة التي يقدمها ابن فضلان عنهم، لون البداوة، وحياة الحرب والقسوة، والتخفف من قيود الحشمة والتعفف فيما يتعلق بعلاقتهم بالنساء، فملك الروس يحتفظ بجواره دائماً بأربعمائة رجل من صناديد أصحابه، وأهل ثقة عنده “ومع كل واحد جارية تخدمه وجارية أخرى يطؤها، يجلسون تحت سرير سيدهم، المرصع بنفيس الجواهر، ويجلس مع الملك على تخته أربعون جارية لفراشه، وربما وطئ الواحدة منهن بحضرة أصحابه؛ وهو لا ينزل عن سريره، حتى أنه يقضي حاجته في طشت يقدَّم إليه، وله خليفة يقود الجيش ويحارب الأعداء ويخلفه في رعيته”(34).

2- طقس الدفن:

يعرض ابن فضلان في صفحات مطولة مشاهد الدفن، التي تبدو أنها أثارت لديه انفعالات متضاربة، ففي هذه المشاهد من الغرابة والألم والسمو واللامعقول والدلالات الغريبة، التي تبدو برمتها غير مألوفة لديه، لدرجة الصدمة.

لقد سمع أن الروس يفعلون بملوكهم عند الموت أموراً غريبة بما فيها الحرق، فأراد أن يكون شاهداً مباشراً على وقائع دفن أحد الموتى من رجالهم الأجلاء، كما حرص أن يدوّن لنا المشاهد بكل تفاصيلها، فامتزج في وصفه الإحساس العميق بأن مشهداً أسطورياً أليماً وجليلاً يحدث أمامه مباشرة بمشاعر الاستغراب والتعاطف والأسى.

فمن عاداتهم أن يضعوا الرجل الفقير الميت في سفينة صغيرة ويحرقونها، أما الرجل الغني فيقسمون ثروته، فثلثها لأهله وثلثها يخيطون له بها ثياباً وثلث للنبيذ الذي يشربونه يوم تقتل جاريته نفسها وتموت مع مولاها. فأراد ابن فضلان أن يقف على إحدى تلك الحالات، فلما مات رجل جليل وضعوه في قبره حتى يخيطون له ثيابه، وسألوا جواريه: من يموت معه؟ فتقدمت إحداهن، فوكلوا لها جاريتين لتهيئانها لهذا الحدث الجليل؛ ويقضون هذه الفترة بشرب النبيذ ليلاً ونهاراً، وربما مات الواحد منهم والقدح بين يديه.

فلما كان اليوم الذي يُحرق فيه الميت والجارية حضر ابن فضلان إلى النهر حيث السفينة التي يتم فيها الحرق، فجاءوا بسرير فوضعوه على السفينة وغشّوه بالمضرَّجات (=المساند) والديباج الرومي ومساند الديباج الرومي، وتولَّت امرأة عجوز تُسمى ملك الموت أمر فرش السرير، وأحضروا الميت من القبر إلى السفينة، وألبسوه ثيابه الجديدة، وأدخلوه القبة التي في السفينة، وأجلسوه على المساند وبجانبه النبيذ والفواكه والريحان، وخبز ولحم وبصل طرحوه بين يديه، وبسلاحه، وبدابتين وبقرتين وديكاً ودجاجة قطعوها وألقوا بلحمها على السفينة.

والجارية التي نذرت نفسها للموت معه تذهب وتجيء وتنتقل من قبة إلى قبة، حيث يضاجعها الرجال ويقولون لها: “قولي لمولاك إنما فعلت هذا من محبتك”، فينصهر الفعل الجنسي بالموت بحضور الرغبة بالخلود.

فلا يتوقف ابن فضلان عن تعقب التفاصيل، فيأتون بالجارية ويحملونها على أكفهم حتى تشرف على باب السفينة ثلاث مرات، فتقول في المرة الأولى: هو ذا أبي وأمي، وفي الثانية: أرى جميع قرابتي الموتى قعوداً، وفي الثالثة: هو ذا أرى سيدي قاعداً في الجنة، وهو إشارة إلى تساميها على رماد الحياة إلى الخلود والحضور في جنة الخلود حيث تلتقي بسيدها، فمرّوا بها إلى السفينة، ثم يأتي دور المرأة العجوز، التي تلعب، حسب وصف ابن فضلان، دور العراف والشامان المقدس، والتي تسمى ملك الموت والمكلفة بقتل الجارية، فتدفعها إلى السفينة، وتدفع إليها قدحاً من النبيذ، فتغني وتشربه، بعدها تدخِلها إلى القبة التي فيها سيدها، وهناك يدخل ستة رجال، فيجامعوا الجارية ويضجعونها إلى جانب مولاها. وتجعل العجوز في عنق الجارية حبلاً تدفعه إلى اثنين من الرجال ليجذباه، ثم تقبل ومعها خنجر فتدخله في أضلاعها حتى تموت، والرجال في الخارج يضربون على التراس ليحدثوا ضجيجاً يمنع سماع صوتها، ثم ينتهي المشهد المذهل والمروع بإشعال السفينة من قبل أقرب الناس إلى الميت، ثم يبادر الجميع بإلقاء الخشب المَحرَق، فتأخذ النار في الحطب ثم السفينة ثم القبة والرجل والجارية وجميع ما فيها(35). ثم بنوا على موضع السفينة، ونصبوا في وسط البناء خشبة كبيرة، كتبوا عليها اسم الرجل واسم ملك الروس وانصرفوا.

هذه رواية شاهد عيان حية، يلاحظ المؤرخ وجود عادة الدفن والحرق المتبعة لدى الروس القدماء وعند الصقالبة والأتراك أيضاً، وربما جاءت عادة السفينة من العالم الاسكندنافي، وتذكِّر الموكبات الموسيقية بعادات سويدية أو صقلبية؛ أما موت المرأة الإجباري فشائع عند أمم عديدة مثل الأسقونيين والأتراك والمغول والبلغار والجرمانية والصقالبة؛ ويُعرف دفن الميت جالساً في آسيا الوسطى؛ أما دفن أغراضه معه فشائع عند الصقالبة والبلغار والأتراك، وقد يشابه ملكة الموت عندهم آلهة الموت الجرمانية هيل(36).

لقد امتزج في وصف ابن فضلان لهذا الحدث الجليل، الإحساس بمرارة ومأساوية الحدث الذي تبدى أمامه بالتعاطف، وأيضاً بالدهشة والغرابة، فنحن هنا أمام ارتطام مرجعيتين ثقافيتين لا تلتقيان إلا بتلك الرغبة بالخلود، والارتفاع عن اليومي إلى ذروة التعالي، وإن كان هنا يجري -حسب ابن فضلان الفقيه المسلم- بطريقة خاطئة، ولقد كان حاضراً في وجدانه أثناء وصفه للمشهد، هذا الافتراق في القيم والمرجعيات التي تؤسسها، فلا ينسى أمام وقوفه عند تفاصيل الموت أن يتذكّر ما جرى من حوار بينه وبين أحد الروس، عن طريق المترجم، وهم ينظرون إلى السفينة وهي تحترق، إذ قال له الروسي: “أنتم يا معشر العرب حمقى”، فقال ابن فضلان: لم ذلك؟ قال الروسي: “إنكم تعمدون إلى أحب الناس إليكم وأكرمهم عليكم فتطرحونه في التراب، وتأكله التراب والهوام والدود، ونحن نحرقه بالنار في لحظة فيدخل الجنة من وقته وساعته”(37)، وضحك ذاك الروسي ضحكاً مفرطاً، فسأله ابن فضلان عن السبب، فقال: “من محبة ربه له (=يقصد الميت) قد بعث الريح حتى تأخذه في ساعته”. ولكن هذا الحوار بالتأكيد لم يقرِّب أسس الفهم بينهما، لذا كان الروسي مبتهجاً لحدوث التعالي أمامه، بينما كان ابن فضلان كدراً مهتزاً في أعماقه لمشهد بدا له مروعاً وأليماً! الأول رأى في الحدث جسراً للعبور إلى الأبدي، والثاني رأى فيه حدثاً تمتزج فيه القوة واللامعقول بالألم.

الخزر
لقد تعرَّف العرب على الخزر عن قرب، فقد التقينا بهم مع ابن رسته، وكان مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية قد طاردهم إلى شمال الدربند، واحتل حاضرتهم آتل، إلا أنهم عادوا وتحصنوا في ما وراء جبال القفقاس، ورداً على الضغط الإسلامي من قبل العباسيين من جهة، والضغط المسيحي من قبل بيزنطة، اختارت النخبة اليهودية ديناً لها، وفشلت محاولات بيزنطة السياسية تارة والتبشيرية تارة أخرى في دفعها إلى المسيحية حيث لم تنجح جهود القديس (كيرلس) في صرفهم عن اليهودية(38). فقد تهودت هذه الدولة في عهد هارون الرشيد، واستمرت في مناوشتها للإسلام، وتحالفها مع بيزنطة حتى انهيارها، ولعل اليهود الأوربيون وعلى الأقل يهود أوربا الشرقية يرجعون بأصولهم إلى هذه الدولة بعد تمزقها، ولا يمتون بأية صلة أقوامية وسلالية إلى ما سمي “بني إسرائيل”.

وقد حصل عند العرب بعض اللبس في أصول الخزر، فلم يكن هناك إجماع على أصولهم التي يرجعها البعض إلى أصول تركية، رغم أن ما يروى عن أديانهم ومؤسساتهم السياسية تجد ما يشابهها عند الشعوب التركية(39). أما ابن فضلان فيربطهم بعلاقة غامضة بالأتراك، ويركز في وصفه لهم الوجه السياسي، فيستغرق في وصف الملك ووظائفه وسلوكه أكثر مما يعطينا صورة عن الحياة اليومية للخزريين. فملك الخزر يسمى عندهم (خاقان) أو الخاقان الكبير، لا يظهر للجمهور إلا كل أربعة أشهر حفاظاً-على ما يبدو- على المهابة، وله خليفة أو نائب يسمى (خاقان به) يقود الجيوش ويسوسها ويدبر أمر المملكة، ويقدّم كل إشارات الطاعة للخاقان الأكبر فلا يدخل عليه إلا حافياً وبيده حطب يوقده بين يديه، بعدها يجلس على يمين سريره، ويخلفه رجل يقال له كندر خاقان، ويخلف الأخير رجل يقال له جاوشيغر.

وإذا مات الخاقان الأكبر (الملك الأكبر) يبنى له دار كبيرة فوق نهر، ويجعلون القبر فوق ذلك النهر، ويقولون: حتى لا يصل إليه شيطان ولا إنسان ولا دود ولا هوام”. وإذا دُفن ضربوا أعناق الرجال الذين دفنوه، حتى لا يُدرى مكان قبره.

ولملك الخزر خمسة وعشرون امرأة من أبناء الملوك المجاورين، وإذا ركب ركب معه سائر الجيوش، ويكون بينه وبين المواكب ميل، ويخرُّ له ساجداً كل من صادفه في طريقه، ومدة ملكه أربعون سنة فإذا تجاوز هذه المدة قتلته رعيته وخاصته بحجة أنه سيعاني نقص في عقله بعد ذلك.

ويشير إلى بسالة جيوشهم، فإذا بعث الملك سرية لم تولِّ الدبر بوجه ولا سبب، فإذا انهزمت قُتل كل من تراجع، فأما إذا انهزم القواد أو خليفة الملك، أحضر الملك نساءهم وأولادهم ووهبهم إلى غيرهم، ومعهم دوابهم ومتاعهم وسلاحهم وبيوتهم، وربما علقهم بأعناقهم في الشجر. وتقع مدينة ملك الخزر على جانبي نهر آتل، وعلى أحد الجانبين يقطن المسلمون وفي الجانب الآخر الملك وأصحابه، وعلى المسلمين رجل مسلم من رجال الملك يقضي في أمور المسلمين(40). وهناك أيضاً جماعات من النصارى، والوثنيين، فالخزر مجتمع تعددي تهيمن عليه نخبة حاكمة يهودية.

– ابن فضلان في البلاد الاسكندنافية

تدل الأوراق والنصوص التي استغرق في تجميعها بيير كراوس دولوس Per Croaus Dolus ما بين العامين 1951-1957، وترجمها ميشيل كريكتون من النروجية إلى الإنكليزية، على أن ابن فضلان قد عرَّج شمالاً إلى البلاد الاسكندنافية بعد زيارته إلى بلاد الروس. إذ أجبرته إحدى القبائل الروسية ذات الجذور الشمالية، وكانت تقيم بجانب نهر الفولغا، عند زيارته لها، على رفقة مجموعة من رجالهم المحاربين ليكون العدد الثالث عشر فيهم، وذلك في مهمة حربية لنجدة إحدى الممالك الدانماركية المسماة مملكة روثغار من غزو الوندول المحيطين بهم. فلقد كان، كما تبين له، ضحية اعتقاد الشماليين الفايكنغ بقدسية الرقم 13، إذ كانوا يعتقدون أن القمر ينمو ويضمحل ثلاثة عشر مرة خلال العام، ولهذا السبب تضمنت الحسابات الهامة لديهم على العدد 13، ومن جراء اعتقادهم بسحرية المقطع الثالث عشر، وأن يكون أجنبياً تم اختيار ابن فضلان لأنه أجنبي ليصبح الرجل الثالث عشر السحري في المجموعة(41).

وعندما دخلت مجلس القبيلة الروسية “عجوزهم الشمطاء” ذات القوة الشامانية السحرية عندهم، والمعروفة عندهم بـ”ملكة الموت”، أخرجت كيساً جلدياً فيه عظام، نثرتها على الأرض مرتين متتاليتين فاختارت (بوليويف) قائداً للمجموعة، ومعه أحد عشر رجلاً، ثم أشارت “ملكة الموت” إلى ابن فضلان ليرافقهم، ففسر له المترجم هرجر أن الآلهة اختارته ليكون الرقم السحري الثالث عشر باعتباره الأجنبي الوحيد في المجموعة(42).

وهكذا أجبر ابن فضلان بالنهاية على السفر تاركاً أصحابه وراءه، معتمداً على مترجمه الوحيد (هرجر) للتفاهم مع المجموعة، قاصداً بلاد الدانمارك، ومملكة روثغار الدانماركية، فيستغل ابن فضلان هذه الرحلة لتدوين مذكراته عنها، فقدم شهادة نادرة عن حال شعوب الفايكنغ الاسكندنافيين، في فترة غامضة من حياتهم. وقد وصف كريكتون هذا الجزء من الرحلة بقوله: “يمثل مخطوط ابن فضلان أقدم وصف معروف لشاهد عيان عن حياة الفايكنغ ومجتمعهم، ويعتبر وثيقة بارزة، في وصفه لحوادث وقعت منذ ما ينوف عن ألف عام، بتفصيل مميز مفعم بالحياة”(43).

في طريق الشمال البارد
يصف ابن فضلان، في رحلته الطويلة إلى الشمال، والناس والطبيعة، قبل وصوله إلى بلاد الدنمارك، فشهد أنه كلما أمعنوا شمالاً، ازدادت البرودة وتكاثر المطر أو الصقيع، والغابات والغياض، والظواهر غير المألوفة لديه كالأشجار “المكتظة العملاقة” والأرض “رطبة وباردة، ومثيرة للقشعريرة، ذات خضار شديد في بعض المواقع، إلى درجة تؤذي العيون من سناء اللون، بينما هي سوداء قاتمة، توجس بالخطر، في بعض المواقع الأخرى”(44). وسافر خلال أسابيع خلال الغابات، ولقي المطر الغزير، الذي يصفه بأنه “يهطل بكثافة تدعو إلى الانقباض”.

ويصف لنا سفنهم، حيث ركبوا واحدة منها، كانت بطول خمسة وعشرين خطوة، وبعرض ثماني خطوات أو أكثر قليلاً، ومصنوعة صناعة ممتازة، من خشب السنديان، واللون أسود يجلل كل من مواقعها “وقد نصب عليها شراع مربع من قماش محبوك بحبال من جلد الفقمة، ويجلس مدير دفة السفينة على منصة صغيرة قرب مؤخرتها، يدير دفة السفينة المربوطة بجانب السفينة على الطريقة الرومانية، وقد ركبت على السفينة قواعد المجاديف، إلا أنهم كانوا يستعملون الشراع فقط، وفي مقدمة السفينة نحت خشبي لوحش البحر، وفي مؤخرة السفينة ذيل(45).

وعبروا عباب الفولغا عشرة أيام، إلى أن وصلوا إلى منطقة شديدة البرودة، عليها ثلج كثيف، وكثيرة الغياض، ويسميها الشماليون، حسب ابن فضلان (فادا).

وعلى الرغم من وصف ابن فضلان لرفاقه الفايكنغ بـ”أفضل بحارة في العالم” إلا أنه وجدهم “لا يسافرون عادة في الليل أبداً” يفضلون أن ترسوا سفينتهم بالليل على الشاطئ، منتظرين ضوء الفجر، ولاحظ مع تعاقب الأيام أن فترة الليل، أثناء أسفارهم، صارت قصيرة جداً، إلى حد “لا يمكنك أن تطهي ملء قدر من اللحم خلالها”، ولم يكن النوم في تلك الأماكن الباردة منعشاً. فعرف من مترجمه هرجر: أن في البلاد الشمالية هذه، يكون النهار طويلاً في الصيف، والليل طويلاً في الشتاء، ونادراً ما يتعادل الليل والنهار(46).

ولا يكل ابن فضلان من الحديث عن تفاصيل حياتهم، فسجَّل أنهم يعتمدون على الصيد في طعامهم، حيث كانوا يصطادون الطرائد في طريقهم “حيواناً صغيراً أو طيراً”، ثم يلتهم رفاقه الطعام بدون طهي، إذا كان الطقس ممطراً، ويصف قرية (مسيورغ) التي مروا عليها، إذ لاحظ بيوتها خشبية، وقليلة العدد وواسعة، وأن أهلها يعيشون “على بيع الأطعمة للتجار، الذين يجيئون ويذهبون على طول هذه الطريق”، وقد ترك رفاقه قاربهم فيها، وسافروا براً على الخيل ثمانية عشر يوماً، في منطقة جبلية ذات طقس شديد البرودة، فرآهم كيف يندفعون، أحياناً، على خيولهم خلال الأشجار الكثيفة “دون اهتمام بالخوف” غير أنهم يتجنبون دخول أعماق الغياض، ثم يترجلون فيضرمون النار، ويقدمون الطعام الذي يتألف “من رقائق الخبز اليابس”، ويقصون لبعضهم عند استراحتهم في الليل “حكايات التنين والحيوانات المفترسة، وقصص أجدادهم الذين ذبحوا تلك الحيوانات”(47).

ويلفت النظر إلى أن الشماليين الفايكنغ يتعاملون بالذهب والأصداف، حيث شاهد رفاقه يبدلون جيادهم، في كل مرحلة، ويدفعون أثمانها لأصحابها القرويين “الذهب والأصداف الصغيرة الخضراء، التي يثمنها الشماليون أكثر من أي شيء آخر في الدنيا”(48).

وتتكشف له في طريقة عاداتهم وأخلاقياتهم، فرفاقه الفايكنغ اعتادوا شرب الخمر، وكلما افتقدوه “ازدادوا توتراً وغضباً”، لهذا عندما وصلوا إلى قرية فيها خمر “شربوا بطريقة خشنة، غافلين من فرط تلهفهم.. عن أن المشروب يسيل على ذقونهم وألبستهم”(49).

وعرف أن من عاداتهم قبل سفرهم أن يقضوا الليل شراباً وقصفاً، ففي قرية (لينبورغ) البحرية، وقبل أن يستأنف رفاقه سفرهم، ازدادوا شرباً وصخباً ومرحاً، يلهون خلالها مع النساء والفتيات، فاستنتج ابن فضلان “أن هذه عادة الشماليين قبل القيام برحلة بحرية، لأن أي إنسان لا يعرف ما إذا كان سيبقى على قيد الحياة بعد الرحلة، لهذا يمضي في عربدة مفرطة”(50).

ولم يخف ابن فضلان إعجابه بكرم أهل الشمال “فحيثما حللنا كنا نستقبل بالترحيب وعظيم الضيافة؛ لأن هذا يعتبر فضيلة عند هؤلاء القوم”(51).

بلاد الدانمارك
يذكر ابن فضلان أنه أبحر مع رفاقه يومين بمحاذاة شاطئ مسطح تحيط به جزر كثيرة تدعى (الدانس)، وهو اسم يقابل لفظة دينز Danes الإنكليزية، على ما يُعتقد، أي الدانماركيين(52)، إلى أن وصلوا إلى منطقة مستنقعية تتلاقى فيها بضعة جداول ثم تصب في البحر، ويذكر أن هذه الأنهار تدعى (وايك)(53) ويبدو أن أصل هذه الكلمة Vik أي الفايكنغ Viking.

ويشير ابن فضلان نفسه، إلى أن الناس الذين يقطنون في منطقة الأنهار هذه “وايكنغ” و”ترمز هذه الكلمة عند الشماليين إلى المحاربين الذين يبحرون بمراكبهم عبر هذه الأنهار”(54) ليغيروا على المستوطنات القائمة على شطآنها.

ثم يحدثنا عن توقفهم عند مكان عجيب، في هذه المنطقة، يدعوه ابن فضلان (تريلبورغ)، ولعله يقصد حسب كريكتون مدينة Trelleborg وهي غربي جزيرة زيلاند الدانماركية، التي تقع كوبنهاغن عاصمة الدانمارك في أقصى شرقها(55)، ولفت نظره أن تريلبورغ عبارة عن معسكر للجند، ورجالها محاربون بينهم عدد قليل من النساء والأولاد. وقد شيدت تحصيناً بعناية على الأسلوب الروماني، يحاط الجزء الرئيسي منها بسور ترابي ارتفاعه مقدار قامة خمسة رجال، وينتصب فوقه سور خشبي، وخلف السور يوجد خندق مملوء بالماء، والحراس يجوبون الأسوار ليلاً نهاراً(56). ولاحظ الطريقة المنتظمة الهندسية، التي شيدت عليها مساكن المستوطنة الستة عشر، بحيث تؤلف كل أربعة بيوت مربعاً، وبيوتهم مصنوعة من الخشب، ويسميها الشماليون “البيوت الطويلة”، وجدرانها منحنية تشبه المراكب المقلوبة، مقطوعة من الأمام والخلف، لعلها تشبه، حسب وصف ابن فضلان (البرال Barral).

وهي بيوت طويلة ذات مدخل واحد شديد الانخفاض، لا تتناسب “ورجال الشمال العمالقة”، وذلك ليتمكن مقاتل واحد في داخل البيت من رأس أي مهاجم، فاستنتج ابن فضلان، أن مستوطنة تريلبورغ “كانت من كل النواحي مبنية للحرب والدفاع، فالتجارة لا تمارس هنا أبداً”(57).

كما يلاحظ أن شعب تريلبورغ يعيش على السمك، وعلى القليل من الخبز، ولا يمارسون الزراعة، ورغم أن أراضي المستنقعات التي تحيط المستوطنة تشمل على مناطق تصلح للإنبات، وسبب ذلك أنهم شعب محارب ويعيش على الصيد. وأغلبهم من الرجال، وجميع النساء من الجواري، ولا توجد زوجات “وينال الرجال من يشاؤون من النساء بحرية، وكيفما يشاؤون”(58). إلا أنه وبالمقارنة مع الروس، وجدهم ابن فضلان “شعباً نظيفاً بالنسبة لجنسهم” إذ كانوا “يغتسلون في النهر، ويتخلصون من نفاياتهم خارج الأبواب”(59).

مملكة روثغار الدانماركية
لعل مملكة روثغار، التي وصلها في نهاية رحلته، هي إحدى المستعمرات الدانماركية في بلاد الوند Wend، وهو شعب سلافي كان يسكن في سكسونيا بجوار بروسيا الألمانية، حيث كانت هناك مستوطنات للفايكنغ، وكانت إحداها مملكة روثغار حيث كان الدانماركيون يحكمون في تلك الأثناء(60).

ويشير ابن فضلان إلى أنهم أبحروا يومين بعد خروجهم من تريلبورغ بين بلاد يسميها (الدان)، وهي بلاد الدانمارك، وفي الثالث اجتازوا ممراً مائياً مفتوحاً، لعله ممر Storestroen، بين جزيرتي زيلاد وموين Moen من الشمال، وبين جزيرة فولستر Falster من الجنوب، وهي جزر دانماركية. فوصلوا إلى مقاطعة يسميها (فندن) وهي نسبة إلى الوند، فيصف هنا أراضي الوندول بأنها “جبلية وعرة”. ثم أبحروا على الساحل حتى وصلوا إلى مملكة روثغار، التي تشرف على البحر الرمادي الهائج.

وأول ما يلاحظه قصر الملك العظيم “خشبي ضخم، قوي البنيان، مهيب المنظر” ومزيناً “بنقوش أنيقة، مرصعاً بالفضة التي كانت تتلألأ، وتلمع عن بعد”، وهو محصن تحصيناً شديداً. وسمع أن الدانماركيين يعتقدون “أنه لا يوجد له مثيل في العالم”، وقد أطلقوا عليه اسم “هوروت”، فعرف أن من عادة الشماليين أنهم “يمنحون الأسماء للأشياء المتعلقة بحياتهم، كالمباني، والمراكب، وخاصة الأسلحة”(61).

في مقابل ذلك، رأى بيوت المزارعين متواضعة مؤلفة من “جدران خشبية، الذي سدت الشقوق بين ألواحه بلصاق من طين مخلوط بالقش” بينما كان السقف من الغماء (أي القش) المشبك، والخشب”، وأرض المنزل ترابية، وفيه موقد يستعمل روث الحيوانات “لأن أهالي المزرعة ينامون مع حيواناتهم داخل الغرف من أجل الحصول على الدفء الذي تشعّه أجسام هذه الحيوانات، كما يشعلون الروث في الموقد للحصول على النار”(62).

ولاحظ ابن فضلان أن هذه المساكن الشعبية طويلة ومنحنية الجوانب، كما في تريلبورغ، ولكن لا توجد فيه مربعات، كما لا توجد تحصينات أو أسوار ترابية. واعتمدت مملكة روثغار على تحصينات، مؤلفة من سور وأوتاد حادة الأطراف، ثم أتت “عجوزهم الشمطاء” المسماة “ملكة الموت”، فذبحت خروفاً ثم نثرت أمعاءه على الأرض، وغنت أغانٍ مختلفة، وختمت طقوسها بالتضرع والتوسل نحو السماء(63)، وكأنها تطبع قوتها السحرية على تلك التحصينات. ولم يفهم ابن فضلان جدوى تلك التحصينات، إلا بعد أن اخترقت تلك الأوتاد، ذات الرؤوس الحادة، أجساد خيول الوندول عند مهاجمتهم مملكة روثغار.

وسجل ابن فضلان عادات الطعام الملكي على مائدة ملك روثغار، التي جلس إليها مع رفاقه، فكان لكل رجل سماط وصحن، وملعقة وسكين، وقدموا لهم وجبة “من لحم الخنزير والماعز والسمك المسلوق، إذ أن أهل الشمال يفضلون كثيراً اللحم المسلوق على اللحم المشوي. كما كان هنا كثيراً من الملفوف والبصل والتفاح وأثمار البندق”(64)، وقدموا لابن فضلان؛ لأنه لا يأكل لحم الخنزير “لحم سمين حلو المذاق، قيل إنه كان لحم الإبل”، وشربوا على المائدة شراباً يسموه “المعبد” وهو مصنوع من العسل.

الوندول

ندرك من خلال وصف ابن فضلان إلى أية درجة كان الدانماركيون يخشون من شعب الوند، أو الوندول Wendol، وهم شعب سلافي كان يسكن سكسونيا بجوار مستوطنات الفايكنغ الدانماركيين، بما فيها مملكة روثغار. وينقل ابن فضلان صورة غامضة عن هؤلاء الوندول، إذ يكتفي بنقل ما تخيله الدانماركيون عنهم، وحتى بعد احتكاكهم بهم أثناء المواجهة معهم، ظلت صورتهم متأثرة بأحكام رفاقه الدانماركيين، الذين ينظرون إليهم كخطر أكبر، لدرجة أن مجرد ذكر اسمهم يولد الخوف لديهم، لذا فهم يتجنبون ذكره. فكانوا يشيرون إليهم أحياناً بـ”الضباب” لخوفهم من نطق الاسم، لما يحمله الاسم من قوة سحرية يجعله يقوم بدور البديل عن صاحبه، ثم تحول عندهم الضباب نفسه إلى مصدر للخوف، إذ لاحظ ابن فضلان كيف أشار مترجمه هرجر وهو خائف، إلى “الضباب وهو يغطي الغابات” دون أن يتكلم أو يذكر اسمه، فسأله ابن فضلان إن كان مصدر خوفه من الضباب، فلم يجبه(65). كما كانوا يقولون عنهم “الضباب الأسود” و”الشيطان الغر” أو “تنين الكورغون”، وعندما شاهدوا آثار أقدام الوندول نطقوا برعب، لأول مرة أمام ابن فضلان: وندول، وندول!. وعندما تنبأت “العجوز الشمطاء” بغزو الوندول، اكتفت بالقول: “أن الضباب سيأتي الليلة”(66)، ثم صادف ابن فضلان شيخاً عجوزاً، فأعلمه أن “الوندول اسم قديم جداً، أقدم شعوب أهل الشمال، ويعني الضباب الأسود. ويعني هذا بالنسبة للشماليين، ضباباً يجلب تحت جناح الليل أشراراً، أو شياطين يقتلون الكائنات البشرية، ويذبحونهم ويأكلون لحومهم، وأجسام هؤلاء الشياطين مكسوة بالشعر، وهم كريهو الملمس والرائحة.. ويأتون مع ضباب الليل”(67)، ويذكر الشيخ العجوز أن مناطق سكناهم كريهة، حتى أن الأيل يفضل الموت من قبل الكلاب على الدخول في مناطقهم.

لعل ابن فضلان قد تبنى الروايات التي نسجها الدانماركيون عن الوندول، وهذا ما جعله يشبّه أصوات الوندول بـ”قباع الخنزير” ورائحتهم بـ”زنخة كرائحة الجثة العفنة”(68)، وعندما شاهد هجومهم على ملك روثغار تخيل اندفاع تيار من الهواء “العابق بالروائح الكريهة”، فبدا له الوندول باندفاعهم “كأنهم ألوف من الأشكال السوداء”. وعندما اشترك بالمعركة ضدهم، تذكر “لمسة أولئك الوحوش على جسمي، ومظهر أجسامهم الفروي، إذ لوحوش الضباب هؤلاء شعر طويل كثيف”(69).

لكن ابن فضلان بعد مواجهته الأولى تتحرر أحكامه نسبياً من تصورات رفاقه الدانماركيين عن الوندول، فيصف هجومهم الثاني “كان جسم التنين طويلاً.. ومنظره فظيعاً.. ومع ذلك لم أكن خائفاً؛ لأنني أيقنت الآن أنه عبارة عن ثلة من الفرسان يحملون المشاعل”(70). وقد علم من الدانماركيين أن القضاء على الوندول يتطلب القضاء على “عجوزهم الشمطاء” المسماة “ملكة الموت”، لما تمتلكه تلك العجوز من قوة سحرية لديهم، فهي بمثابة أم القوم، تعيش فيما سموه بـ”كهوف الرعد”(71).

وتعرَّف بصحبة الفايكنغ الدانماركيين على بلاد الوندول، وقراهم ومنازلهم، فوجد برودة الطقس الشديد وأن أراضيهم تحتوي الكثير من البرك والينابيع الحارة الفوارة، ويتجمع فيها ضباب خفيف، ويطلقون عليها اسم “منطقة البحيرات ذات البخار الصاعد”(72).

وكلما توغلوا أصبح الضباب أكثر كثافة، وشاهد على حدود أراضيهم جماجم دببة ضخمة، التي كان الوندول يعبدونها، حسب تفسير هرجر الذي قال لابن فضلان “إن جماجم الدببة تحمي حدود أراضي الوندول”، كما شاهد صخرة ضخمة على شكل امرأة حبلى، عليها بقع دم الضحايا، إذ كانوا يذبحون عليها القرابين(73). وذكر له هرجر أن الوندول “يأكلون أنخاع الضحايا الإنسانية، كما يأكل الإنسان البيض والجبن”(74).

وبالنهاية تبنى ابن فضلان أحكام رفاقه عليهم، لدرجة أنه صوَّرهم “مخلوقات قصيرة عريضة المنكب، غليظة القامة، تغطي الشعور كل أجزاء أجسامها، خلا راحة أيديهم، وأخمص أقدامهم، ووجوههم”(75).

ثقافة الفايكنغ الدانماركيين وتصادم المرجعيات

لقد خاض ابن فضلان قسراً تجربة إنسانية عميقة في رحلته إلى بلاد الفايكنغ، ولا سيما بلاد الدانماركيين، دخل فيها في فواصل التخوم الحضارية، واختبر التغاير الثقافي مع أناس بدوا له مخيفين لأول وهلة، إلا أن التعايش وما خلقه من تعاطف خفف من وطأة الفواصل الثقافية، وقربه منهم.

لقد سجل ما رآه بعين عربي-إسلامي من بغداد الزاهية، الواثقة من مكانتها الحضارية، فلم يقتصر على تسجيل السطحي من أحداث، بل ذهب عمقاً في ملاحظاته ليعطي صورة إثنوغرافية عن أناس مغايرين، فيعرفنا من خلالها على ديانتهم واعتقاداتهم وسلوكهم الاجتماعي ونظامهم السياسي، وأبرز أشكال سلوكهم العائلي والاجتماعي، وبجانب هذا كله لم يخف أحكامه وتقييمه لحياتهم، فكانت ملاحظاته مزيجاً من التقصي الموضوعي والتقويم الحضاري لهم.

فلم ينظر إلى الدانماركيين، وإلى جوارهم من الفايكنغ الآخرين، بعيون السائح الجوّال الباحث عن النادر، والمشهد السريع، بل غلبت عليه روح الإثنوغرافي، والمحلل النفسي، والمؤرخ، والشاهد.

اختبر البرد والصقيع، ومشاهد الغياض، والحيتان، والنباتات القطبية، والأشجار العملاقة الكثيفة، والضباب، ورعشة البرد، والأمطار الأكثر غزارة. إلا أن صعوبة التكيف مع تلك الأجواء لم تكن أكثر صعوبة عنده من تكيفه وتعايشه مع أناس يحملون مرجعية مختلفة، ولكن عبر هذا التعايش تعلَّم درساً كبيراً هو أن العالم متسع، وعلينا الاستعداد لتقبل المغاير والجديد. يقول له مترجمه هرجر: “أنتم العرب صارمون (جديون) أكثر مِـمَّا يجب، تتذمرون طوال الوقت”، يكتفي ابن فضلان بالقول: “إنه كان خاطئاً”، ويحكي نكتة لرفيقه، الذي لا يستجيب لها، فيعلق ابن فضلان: “إنه شمالياً أحمق لا يعرف شيئاً عن اتساع العالم”(76).

عندما أمطر ابن فضلان مترجمه بالأسئلة، قال له هرجر: “أنتم العرب ترغبون معرفة أسباب كل شيء، إن قلوبكم عبارة عن كيس كبير يطفح بالأسباب”، فيعلق ابن فضلان: “يؤمن هؤلاء الشماليون بالخرافات، ولا يلجأون إلى حسن الفهم أو العقل أو القانون”(77).

ولقد كانت سمرته بحد ذاتها شاهدة على غربته، فكان الشماليون يحاولون لمس جلده “ومرة صرخ طفل من الرعب، حين رآني”، فيعلق ابن فضلان على هذا: “هناك في الحقيقة أناس جهلاء، لا يعرفون شيئاً عن اتساع العالم”(78). ويقرر ابن فضلان واقعة أن الشماليين “لا يعرفون الكتابة؛ لأن مغزى الكتابة الوحيد الذي يعرفه هؤلاء الناس الشماليون هو النقش على الخشب، أو الحجر، وهو ما يفعلونه نادراً”(79).

فضائل الشجاعة

يكرر ابن فضلان “الصورة النمطية” العربية عن الأوربيين باعتبارهم شعوباً تتسم بالشجاعة “فهؤلاء المحاربون الشماليون لا يخافون شيئاً في العالم”، وهم ذوو أجسام ضخمة يحاربون باستمرار “ويغنون قصائد الحرب والشجاعة”(80)، وينحتون “على قبور المحاربين النبلاء مديحاً يقول: “إنه لم يفرّ من المعركة”، فالفرار من المعركة “عار ما بعده عار، فأغلب رجالهم يموتون في المعركة”.

ولاحظ ابن فضلان أنهم يبتسمون عند سقوط أي قتيل عندهم في المعركة، وذلك تعبيراً عن سرور “الشخص الميت نفسه” ونيابة عنه، بينما عندما يموت أحدهم وهو نائم يقولون عنه “لقد مات كما تموت البقرة على القش”. ويرتبط موقفهم هذا، كما يشير ابن فضلان، باعتقاد الفايكنغ الشماليين “أن كيفية موت الإنسان تحدد وضعيته في الحياة الأخرى”.

وسجل ابن فضلان سرعة غضب الفايكنغ، وحساسيتهم الشديدة “حول ما يتعلق بشرفهم، فتكررت المبارزات بين أعضاء الجماعة نفسها”، وقد تحدث المبارزة بينهم للرد على الشتيمة، فيلبسون لباساً خاصاً بالمبارزة، مؤلفاً من حزام، وطماقات من الصوف الخشن، فوقها معطف من الفرو الثقيل يصل إلى الركبتين، فوقه درعاً، ويتقلدون سيفاً، وشبكة في الحزام، مع ترس جلدي، ورمح، وخوذة من المعدن أو الجلد على الرأس(81).

ويصف بدقة طريقتهم في المبارزة، حيث يثبتون الجلد، الذي تقوم عليه المبارزة، بأوتاد أربعة من خشب الغار. حيث تستمر المعركة بينهم حتى الموت، وتشرف “العجوز الشمطاء” على إنشاء قواعد المبارزة.

ويخبرنا ابن فضلان أن سهام الشمال ذات نهايات حادة، وممتازة الصنع، يقوم بصنعها في كل قرية رجل يدعى المزمان Al msman يبيعها بقطع من الذهب، أو بالأصداف.

كما يصف طرائقهم في تشخيص الجرح وعلاجه، فإذا جُرح المحارب في رأسه وعنقه، يغسلون جرحه وينظفونه، ثم تفحصه الجواري فإذا كان الجلد ممزقاً والعظم صحيحاً، قلن: “لا يهم. وإذا كانت العظام مصدوعة أو مكسورة، قلن: إن حياته تنقضي”، وإذا كان الجرح في الصدر، وكانت دافئة يديه قلن: لا يهم. وإذا سعل الجندي وتقيأ دماً، قلن: يتكلم دماً. وهو أخطر الجروح لديهم. أما إذا جرح الجندي في بطنه، فيطعمونه حساء البصل، والأعشاب. ويعتمدون في غسل جراحهم على ماء البحر، لاعتقادهم بقوة إبرائه أكثر من ماء النبع. وأحياناً يغسلونه ببول البقر الحار، الذي يستعملونه أحياناً في غسل الملابس البيضاء، بعد أن يجعلوه كثيفاً بعد غليهم له(82).

ولا يخفي ابن فضلان إعجابه بكرم الفايكنغ، وكياستهم بالضيافة، وحسن معاملتهم للضيف، وبالمقابل هناك ما يثير استغرابه فيهم، كمثل تقديرهم الزائد للأنف على بقية أجزاء الجسم، فلا يعتبرون فقدان الأذن أو إصبع اليد أو القدم أو اليد نفسها أكثر أهمية من الأنف “إنما يعتبرون فقدان الأنف معادلاً للموت نفسه”(83).

المرأة

أكثر المسائل الاجتماعية التي أثارت انتباه ابن فضلان واستغرابه هو موقف الفايكنغ-الدانماركيين من المرأة، وذلك قياساً إلى مرجعيته العربية-الإسلامية.. وهو موضوع أثير لدى الرحالة العرب في علاقتهم مع الآخر، لما تحتله المرأة لديهم من موقع مركزي في الحكم على أخلاقية أي مجتمع.

فقد أثارت دهشة ابن فضلان الممارسات شبه الإباحية التي تطبع علاقات الشماليين الفايكنغ بالمرأة، إذ لاحظ أن رفاقهم الدانماركيين يختار كل منهم امرأة ليعاشرها قبيل المعركة، علها “أن تختار أن تموت من أجله على المحرقة الجنائزية” إن مات في المعركة.

ولا تقتصر عندهم المعاشرة الجماعية المفتوحة، على المناسبات السابقة للمعركة، بل لاحظ في قرية لينبورغ البحرية، أن الناس يمرحون ويشربون طيلة المساء، ويلهون مع الفتيات؛ لأن أي إنسان “لا يعرف ما إذا كان سيبقى على قيد الحياة بعد الرحلة، ولهذا يمضي في عربدة مفرطة”(84)، وليس هذا فحسب، بل إنه في الحالات العادية يمكن لأي رجل “أن يمنح نفسه من إحدى الجواري”، ولقد قالوا له مَرَّة: إن عفة النساء فضيلة عظيمة، إلا أن ملاحظاته جعلته يستنتج “لكن نادراً ما وجدت هذا مطبقاً بالفعل؛ لأن الزنا (بغير إكراه) لا يعتبر عندهم قضية خطيرة، وإذا كانت زوجة الرجل شبقة.. فما ينتج عن ذلك لا يعتبر شيئاً ملفتاً للنظر كثيراً”، كما أن “أهل الشمال لا يعتبرون أي مولود غير شرعي طالما الأم متزوجة”، ولقد سأل مرة مترجمه هرجر: أكانت زوجته مخلصة له أثناء سفره، فضحك هرجر قائلاً: “إني أسافر في البحار، وربما لن أعود.. وزوجتي ليست ميتة!”، فاستخلص ابن فضلان من هذه الإجابة “أن زوجة هرجر لم تكن مخلصة، أو أنه (هرجر) لا يهتم بذلك”(85).

الدين والسلطة
ليست مملكة روثغار الدانماركية سوى أكثر من مشيخة قبلية، لا يفصل ملكها عن رعاياه إِلاَّ القليل من المزايا، بل إن هرجر ورفاقه اشتكوا من غطرسته وطريقته البذخة في بناء مستوطنته وقصره، ويعتمد امتلاك السلطة الملكية على القوة، إذ لاحظ ابن فضلان أن الشماليين يفتقرون إلى “قاعدة ثابتة لاختيار زعيم جديد عندما يموت الزعيم القديم، إذ يعتمد الأمر على قوة السلاح اعتماداً كبيراً”(86). ورأى كيف أن أحد أولاد الملك روثغار قد قتل أخويه بين يديه، فاستنتج “أنه كان شيئاً طبيعياً أن يقوم أبناء أحد الملوك بخلع أحدهم للآخر لكسب العرش”(87). ودخل ابن فضلان البلاد الاسكندنافية قبل اعتناقها المسيحية، وكانوا على الوثنية، التي ذكَّرته بـ”العصور الجاهلية” العربية، فكان يصغي باستغراب إلى المعلومات المتعلقة بديانتهم، وما يصاحبها من طقوس، ورغم هذا فإنه أحياناً يعرض تلك المعتقدات بطريقة حيادية، دون أحكام قاسية، وكثيراً ما تجابهت المرجعيتان الدينيتان وجهاً لوجه. فعندما افتتح ابن فضلان طعامه بـ”بسم الله” أثار تفسيره لهذا التقليد الضحك والسخرية لدى الدانماركيين، وعندما طلب منه رئيس “المجموعة” بوليويف أن يكتب شيئاً على الرمل، كتب ابن فضلان “الحمد لله” فسأله هرجر: “أي رب تحمد”، فأجابه: “إنني أحمد رباً واحداً اسمه الله” فبادره هرجر مقرراً: “لا يمكن أن يكفي ربُّ واحد!”(88).

وكانوا يؤمنون بتعدد الآلهة، إذ قال له هرجر: “لا تتكلم عن ربك الواحد؛ لأن أحداً لا يهتم بمثل هذا الأمر الفارغ”، فهؤلاء الوثنيون “بأرباب كثيرة، عمالقة، وذوي قدرة كذلك” ويصلون إلى أرباب كثر “إلى أويدين، وفري، وثور، وإيرد، وإلى عدة آلهة آخرين”(89). فعندما كانوا في عرض البحر، وشاهدوا هولة Monsters، أو ما سموه “وحش البحر”، ولعله الحوت الذي وصفه ابن فضلان بإسهاب “صاح أحدهم منادياً: أودين بصرخة ابتهال”، وضربوا بهراواتهم على التروس محدثين ضجة، وذلك “من أجل لفت انتباه أودين”.

كما كانوا يعتقدون بأن العالم كان يقطنه في العصور القديمة “جنس من العمالقة، الذين انقرضوا بعد ذلك” ولا يعتبر الشماليون أنفسهم أحفاد هؤلاء العمالقة، إنما تلقوا “بعض قدراتهم بطرق لم أفهمها”(90). واكتشف ابن فضلان أن في كل قبيلة من هؤلاء الشعوب الاسكندنافية، التي صادفها، امرأة عجوز “ملكة الموت”، تقوم بوظائف سحرية، قريبة من الوظيفة الشامانية، نسبة إلى الشامانيزم وهو دين قديم لشمال آسيا وأوربا القديمة، يعتقد بالعالم الآخر وأرواح الشياطين. وكانوا يعتقدون بأن العجائز تملك قدرات سحرية لاندمال الجروح، وطرد التأثيرات الشريرة، والتنبؤ بأحداث المستقبل(91).

وكانوا يؤمنون بالجنة التي يسمونها (فالهالا) ويتخيلونها أنها “عبارة عن قصر كبير” ويعود الأموات إلى الحياة ليشاركوا في الحرب والولائم. وطبيعة جنتهم ذات الخلود الدائم جعلت الدانماركيين، كما يقول ابن فضلان: “لا يعتبرون مواصلة القتال، على الأرض، يوماً بعد يوم شيئاً غريباً”(92).

وأشار إلى اعتقاد الدانماركيين بامتلاك الأقزام لقدرات سحرية، لذلك فهم يعزلونهم منذ الطفولة في كهوف، يرتدون ملابس من الفرو أو جلد السمور، ويتمنطقون حزاماً دقيقاً من الجلد مزيناً بقطع من الذهب، إذ تكمن فيه قدرات القزم السحرية، ويصنع الأقزام في عزلتهم أسلحة يثمنها الشماليون، ويقدمون النصائح في الأوقات الصعبة للشماليين(93).

* * *

عندما اقتربت لحظة رحيل ابن فضلان قال له هرجر بتعاطف: “سنصلي من أجلك”، وذكر له الأسماء العدة لآلهته، فأجابه ابن فضلان: “إني أومن بإله واحد، هو رب العالمين”، فأشار هرجر في لحظة التعاطف الفريدة إلى إيمان كل منهما “إنني أفهم هذا، ربما يكون إله واحد كافياً في بلادك، أما هنا فليس كذلك، توجد هنا آلهة كثيرة، ولكل منها أهمية، ولهذا نصلي لهم جميعاً”(94).

ولقد دأب هرجر في الأيام السابقة لرحيل ابن فضلان، أن يسأله مرة تلو الأخرى عن معتقداته، فسأله في إحداها إن كان يُغضب ربه أحياناً، فأجابه ابن فضلان: “إنني أفعل، ولكنه غفور رحيم”، فشدد السؤال: “هل هو غفور عندما يشاء؟”، أجابه ابن فضلان بالإيجاب، فهز هرجر رأسه قائلاً: “إِنَّهَا مجازفة أعظم مِـمَّا يمكن احتماله، فلا يمكن للمرء أن يضع ثقته كلها في شيء واحد، سواء أكان امرأة، أو حصاناً، أو سلاحاً، أو أي شيء فريد”، فما كان من ابن فضلان إلا أن أكد “ومع ذلك فإنني أفعل” وكأنه يريد أن يقول لهرجر: ما هو مستحيل لديك هو المعقول نفسه بالنسبة لي. ولكن ابن فضلان خلُص إلى نتيجة أنه “لا يمكن إقناعه بمعتقداتي كما لا يمكن أن أقتنع بمعتقداته”(95).

ولقد تعلَّم ابن فضلان من خلال تجواله الطويل في العالم، من بغداد إلى بلاد الفايكنغ، درساً في النسبية الثقافية، ولقد عبر عنه بقوله: “أولاً: يعتقد الناس في بلد معين أن عاداتهم حسنة، وأفضل من عادات أي شعب آخر، ثانياً: يعتبر أن أي غريب، رجلاً كان أو امرأة، أدنى منزلة منهم في جميع الحالات باستثناء الإنجاب”(96).

لقد ختم ابن فضلان رحلته بلحظة تصالح فريدة مع الآخر الاسكندنافي الذي يمثله هرجر، وعبر عن هذا بقوله: “كنت أشعر بثقل وطأة الفراق عن هرجر وعن بقية المحاربين، وقد شعر هرجر بهذا. فأمسكت بكتفه، وأمسك بكتفي. ثم انطلقت إلى السفينة السوداء”(97). لقد وجدا في ثنايا اختلافهم الثقافي، وعلى حافته مجالاً إنسانياً مشتركاً.

*************

الهوامش

*) كاتب وباحث من سوريـة.

1- سامي الدهان: (تحقيق وتقديم) رسالة ابن فضلان-لأحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد، مديرية إحياء التراث العربي-دمشق، ط2، وزارة الثقافة، دمشق 1978م، ص40.

2- اغناطيوس يوليانوفيتش, كراتشكوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي العربي, ترجمة صلاح الدين عثمان,الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية, جزء أول القاهرة, 1957 م, ص 168. و عبد الرحمن حميدة، أعلام الجغرافيين العرب, دار الفكر دمشق, 1984م, ص244.

3- أندريه ميكيل، جغرافية دار الإسلام البشرية ج2، ق2, ترجمة إبراهيم الخوري, وزارة الثقافة دمشق, 1985 م، ص93.

4- المصدر نفسه، ص27.

5- رسالة ابن فضلان، المصدر السابق، ص98.

6- ميكيل، جغرافية…، ج2، ق2، ص27.

7- رسالة ابن فضلان، المصدر السابق، ص100.

8- نقولا زيادة، الجغرافيا والرحلات عند العرب, الاهلية للنشر والتوزيع, بيروت, 1962م، ص142.

9- ميكيل، جغرافية…، ج1، ق1، ص226.

-10 ابن فضلان، المصدر السابق، ص115-116.

-11المصدر نفسه، ص117.

-12 المصدر نفسه، ص120.

-13 المصدر نفسه، ص122.

-14 المصدر نفسه، ص123.

-15 المصدر نفسه، ص124.

-16 المصدر نفسه، ص127-128.

-17 المصدر نفسه، ص131.

-18 المصدر نفسه، ص137.

-19 المصدر نفسه، ص139.

-20 المصدر نفسه، ص146.

-21 المصدر نفسه، ص147.

-22 المصدر نفسه، ص161-163.

-23 المصدر نفسه، ص160.

-24 المصدر نفسه، ص162.

-25 المصدر نفسه.

-26 المصدر نفسه، ص170.

-27 المصدر نفسه، ص154-155.

-28 المصدر نفسه، ص156.

-29 صفير البشير: الجغرافيا عند العرب نشأتها وتطورها، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1984م، ص42-43.

-30 ابن فضلان، المصدر السابق، ص175.

-31 المصدر نفسه، ص176-177.

-32 المصدر نفسه، ص177.

-33 المصدر نفسه، ص179-180.

-34 المصدر نفسه، ص188.

-35 المصدر نفسه، ص181-186.

-36 ميكيل، جغرافية…، ج2، ق2، ص100.

-37 ابن فضلان، المصدر السابق، ص186.

-38 ستيفن، رنسيمان، : الحضارة البيزنطية، ترجمة جاويد، عبد العزيز توفيق، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1961م، ص351.

-39 العظمة، عزيز: العرب والبرابرة، دار الريس، لندن 1991م، ص143.

-40 ابن فضلان، المصدر السابق، ص91-94.

-41 ابن فضلان: رحلة ابن فضلان، جمع وترجمة وتقديم: غيبة-د.حيدر محمد، الشركة العالمية للكتاب، بيروت1994م، ص115.

-42 المصدر نفسه، ص195.

-43 المصدر نفسه، ص23.

-44 المصدر نفسه، ص99.

-45 المصدر نفسه، ص96.

-46 المصدر نفسه، ص98-99.

-47 المصدر نفسه، ص103-104.

-48 المصدر نفسه، ص105.

-49 المصدر نفسه، ص104.

-50 المصدر نفسه، ص105.

-51 المصدر نفسه.

-52 المصدر نفسه، “هامش”، ص111.

-53 المصدر نفسه، ص111.

-54 المصدر نفسه.

-55 المصدر نفسه، الهامش (5)، ص111.

-56 المصدر نفسه، ص112.

-57 المصدر نفسه، ص113.

-58 المصدر نفسه، ص113-114.

-59 المصدر نفسه، ص113.

-60 المصدر نفسه، هامش المترجم (11)، ص119.

-61 المصدر نفسه، ص126.

-62 المصدر نفسه، ص122.

-63 المصدر نفسه، ص149.

-64 المصدر نفسه، ص136.

-65 المصدر نفسه، ص110.

-66 المصدر نفسه، ص133.

-67 المصدر نفسه، ص134-135.

-68 المصدر نفسه، ص138.

-69 المصدر نفسه، ص139.

-70 المصدر نفسه، ص167.

-71 المصدر نفسه، ص190.

-72 المصدر نفسه، ص175.

-73 المصدر نفسه، ص176.

-74 المصدر نفسه، ص180.

-75 المصدر نفسه، ص201.

-76 المصدر نفسه، ص163.

-77 المصدر نفسه، ص116.

-78 المصدر نفسه، ص104.

-79 المصدر نفسه، ص210.

-80 المصدر نفسه، ص78 و88.

-81 المصدر نفسه، ص121.

-82 المصدر نفسه، ص169-170.

-83 المصدر نفسه، ص179.

-84 المصدر نفسه، ص105.

-85 المصدر نفسه، ص106-107.

-86 المصدر نفسه، ص88.

-87 المصدر نفسه، ص115

-88 المصدر نفسه.

-89 المصدر نفسه، ص108 و215.

-90 المصدر نفسه، ص108.

-91 المصدر نفسه، ص145.

-92 المصدر نفسه، ص173-174.

-93 المصدر نفسه، ص185-186.

-94 المصدر نفسه، ص215.

-95 المصدر نفسه، ص215-216.

-96 المصدر نفسه، ص151

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.