ستروس : إنني أعيش في عالم لم اعد أنتمي إليه

ترجمة: مدني قصري


لم يكن كلود ليفي شتراوس يرغب في حديثٍ مطول يلخص فكره وحياته المهنية، لكنه شاء بمناسبة “سنة البرازيل في فرنسا” أن يعود بنا إلى علاقته مع “في بلاد غابات الجمر”.

ففي العام 1935 وصل وهو ما يزال استاذا شابا في التاسعة والعشرين من العمر، إلى ساو باولو، ثم توغل في اعماق ماتو غروسو في قلب الاقاليم الهندية التي خطا فيها خطواته الأولى على طريق الأمركة americanism.

هذه الفترة من الدراسة الميدانية التي تابعها حتى العام 1939، هي التي شكلت القاعدة الأساسية للبناء النظري الذي قامت عليه انثروبولوجيته البنيوية.

بعد إقامة طويلة في الولايات المتحدة، اصدر العام 1955 “مدارات حزينة” التي بدأها بجملة ما لبثت ان صارت مشهورة: البرازيل بلد يمثل أهم تجربة في حياتي على الاطلاق بحكم بعده عنا، وبحكم التناقضات ما بين هنا وهناك، وبحكم كونه هو الذي رسم مصير تجربتي المهنية الاساسية.

يقول: إني أمقت الاسفار والمستكشفين. هذا الكتاب الذي جمع ما بين الاثنولوجيا والشعر كتاب يندرج في سياق نصوص رحالات الإثنولوجيين ميشيل ليريس والفريد ميترو اللذين ارتبطا بـ”متحف الانسان” ارتباط ليفي شتراوس العميق به. لكن هذا النص الذي طغى عليه الطابع الأدبي والحميم، والذي يروي مقومات بحث علمي خالص، نص يرجع بنا الى اصول اكتشاف هؤلاء البرازيليين من الباطن.. اهالي “سكان اصليين” وحضر على السواء.

ففي تاريخ العلاقات القديمة جدا ما بين فرنسا والبرازيل يتبوأ كلود ليفي شتراوس، مكانته ما بين جون دي ليري وماريو دي اندراد صديقه الإثنولوجي والإثنوموسيقي الذي كان مثله ولوعا شغوفا بالموسيقى، والذي نشر العام 1927 وتحت عنوان “السائح المبتدئ” ملخص رحلته الإثنوغرافية الاولى عبر غابات الامازون وأدغالها المتوحشة.

ليلة احتفالات باريس بـ”بلاد غابات الجمر” يعود إلينا مؤلف المدارات الحزينة الى الصلات الاساسية الحميمة التي ربطت بهذه البلاد التي خطا فيها خطواته الاولى في عالم الإثنولوجيا. فاليوم – يقول شتراوس مؤكدا – صارت الحضارات على صعيدها العالمي لا تبالي بهذا النمط من البحث والاستكشاف.

بلغ كلود ليفي شتراوس من العمر 96 عاما. وهو يسكن على الضفة اليمنى لمدينة باريس. بأدب جم، بمجاملة لا حد لها استقبلنا في مكتبته الخاصة في زحمة كم هائل من الكتب المجلدة لمحنا “طوطما” اوقيانوسيا، والكثير من الاشياء الآسيوية وشريطا طويلا من التعويذات التبتية، والقليل من هذه البرازيل، القارة القائمة بذاتها التي طبعت بطابعها الى الأبد آخر كبار المثقفين الفرنسيين ممن ولدوا في بداية القرن العشرين.

• تداخل فرنسا والبرازيل، الواحدة في الاخرى، أليس تداخلا قديما جدا في رأيك؟

– الاحتفال بـ”سنة البرازيل” في فرنسا خلال العام 2005 يأتي بالتحديد بعد مرور خمسمائة عام على اول اتصال ما بين فرنسا والبرازيل، أثناء رحلة نورمان بولمييه دي غونفيل. لقد وصل هذا الأخير العام 1504 الى الشواطئ البرازيلية في الجنوب، بعد مرور اربعة اعوام فقط على مجيء الرحال بيدرو الفاريس الذي كان قد حط الرحال بها بالقرب من سلفادور دي بهية. هكذا ندرك ان اقدم الشهادات التي نملكها عن برازيل القرن السادس عشر هي شهادات فرنسية بالتأكيد.

في العام 1555 كانت هناك محاولة الاميرال فليغينيون في بناء فرنسا قطبيجنوبية التي شهد عليها اندريه تيفيت في كتابه مميزات فرنسا القطبيجنوبية الذي نشر العام 1557. وفي العام 1578 اصدر جون دو ليفيت كتابه “قصة رحلة الى البرازيل”. ثم، وفي القرن السابع عشر، قامت محاولات اخرى كان هدفها تنصيب مبشرين في الارض البرازيلية. ثم وبعد فترة زمنية طويلة، اي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عندما أصبحت البرازيل امبراطورية، شهدت هذه الاخيرة وجود فنانين رسامين فرنسيين – البعثة الفنية التي ارسلها ابتداء من العام 1815 لويس الثامن عشر، والتي ضمت على الخصوص جون باتيست ديبريه – هم الذين تركوا لنا العديد من الصور والرسومات عن الحياة في ريو دي جانيرو وفي داخل البلاد ايضا. لا ننكر ان العلاقات ما بين فرنسا والبرازيل قد شهدت بعض الأزمات والهزات كتلك التي نشبت بسبب الاقاليم المجاورة لغوييانا الفرنسية التي كان البلدان يطالبان بها. لكن مؤسسة جامعة ساو باولو ما لبثت في القرن العشرين ان اتاحت إعادة بناء تلك الصلات الطيبة الوثيقة ما بين البلدين.

• جامعة ساو باولو بالتحديد هي التي ذهبت لتدرس فيها علم الاجتماع سنة 1935، ما الذي تعنيه البرازيل اليوم في نظرك؟

– البرازيل بلد يمثل اهم تجربة في حياتي على الاطلاق، بحكم بعده عنا، وبحكم التناقضات ما بين هنا وهناك، وبحكم كونه هو الذي رسم مصير تجربتي المهنية الأساسية، انني احس تجاه هذا البلد بدين عميق، فبعد هذه الرحلة تركت البرازيل في بداية العام 1939 ولم اعد اليها عودتي القصيرة جدا، الا في العام 1985 حين رأيت الرئيس الراحل فرانسوا متران الذي قام بزيارة رسمية للبرازيل دامت خمسة ايام. غير انني اقول ان هذه الرحلة رغم قصرها قد احدثت في نفسي ثورة فكرية حقيقية فقد استحالت البرازيل بلدا مختلفا عما كانت عليه، اختلافا كاملا.

فمدينة ساو باولو التي لم يكن عدد سكانها يتجاوز المليون نسمة، صار سكانها اليوم عشرة ملايين، فآثار الحقبة الاستعمارية وبصماتها اختفت تماما، فقد اصبحت ساو باولو مدينة مرعبة، بعد ان انتصبت فيها كيلومترات من الأبراج لدرجة انني حين رغبت في ان ازور البيت الذي كنت اسكن فيه، ولا شك انه اختفى، لم استطع حتى الوصول إلى الشارع البسيط الذي كان به هذا البيت، لفرط ضغط الزحام الذي حال في النهاية دون وصولي إليه.

• الهندسة العمرانية لمدينة ساو باولو أبادت، كما هو معروف، كل الغطاء النباتي، وقد صار نهر تييتي الذي لعب دورا رئيسيا في غزو أعماق البرازيل انطلاقا من ساو باولو نهرا بائسا محتضرا! أليس هذا الارتخاء في الصلات ما بين الإنسان والطبيعة من سمات العصر الذي نعيش فيه؟

– حتى في الفترة التي كنت مقيما فيها كانت ساو باولو قد تغيرت كثيرا، فقد شهدت هذه المدينة عهد القهوة، وفي تلك الاثناء كانت كل الاقاليم المجاورة مخصصة للصناعات الزراعية الغذائية، وكانت هذه المنطقة ما تزال تحتفظ من هذه الطبيعة القوية بمنحدرات سييرا دو مار ما بين ساوباولو وميناء دي سانتوس، وكان ثمة على مسافة بضع كيلومترات انخفاض في مستوى الارض يمتد على مسافة 800 متر كان من الوعورة ما جعل الحضارة تستخف بالمكان لصالح الغابة العذراء، لدرجة اننا صرنا كلما نزلنا بساوباولو نكتفي باتصال مختصر ومباشر، مع ما كانت البرازيل ما تزال تحتفظ به من الداخل، على بعد آلاف الكيلومترات من ذلك المكان.

فعل الصلة ما بين الانسان والطبيعة قد انقطع، وفي الوقت نفسه يمكننا ان نفهم ان البرازيل التي شهدت نموا هائلا تنتهج تجاه الطبيعة السياسة نفسها التي كانت تنتهجها اوروبا في القرون الوسطى، اي تقويضها من اجل بناء الزراعة.

•  هل عدت الى أصدقائك من الهنود الكاديوفيوس caduveos والبوروروس Bororos والنامبيكواراس Nambikwaras الذين درستهم في البرازيل؟

– في العام 1985 كانت برازيليا واحدة من مراحل الزيارة الرئاسية. ساعتها اقترحت على يوميةO Estado de Sao Paulo اصطحابي الى قبائل بوروروس وهي الرحلة التي كلفتني كثيرا في العام 1935 والتي يمكن اليوم القيام بها بالطائرة في بضع ساعات، فقد صعدنا ذات صباح في طائرة صغيرة لا تسع اكثر من ثلاثة اشخاص؛ زوجتي وزميلة برازيلية وأنا. ووصلت الطائرة فوق اقاليم بوروروس حيث امكننا ان نرى بعض القرى التي كانت ما تزال محتفظة ببنيتها الدائرية والتي صارت كل قرية فيها مزودة بأرضية لهبوط الطائرات، وبعد ان حلقنا فوق هذه المنطقة قال لنا الربان إن بإمكاني ان اهبط هنا، لكن المسارات قصيرة مما قد يتعذر علينا الإقلاع منها بسهولة. لذلك، اذن، تخلينا عن النزول في هذه المنطقة وتوجهنا نحو برازيليا بعد ان عبرنا عاصفة جوية هوجاء.

وأحسست ان حياتنا لم يسبق ان تعرضت حتى في عز استكشافاتي الاولى، لمثل ما تعرضنا له من خطر اثناء هذه الرحلة، وأخيرا وصلنا في الوقت المناسب، وأمكن لزوجتي ان تغير فستانها، وألبس انا السموكينغ لحضور مأدبة العشاء التي قدمها الرئيس البرازيلي على شرف الرئيس الفرنسي وفي كل هذا ما يبين مدى التحولات التي شهدتها البلاد.

اذن لم ار قبائل بوروروس بلحمهم ودمهم، ولكنني زرت إقليمهم. فقد حلقت بي الطائرة فوق ريوفيرميلهو وهو فرع من فروع نهر الباراغواي الذي كنت قد قطعته من خلال ايام عديدة بواسطة زورق يسير بالمجداف، وقد لاحظت ان طريقا معبدا صار يحاذيه الآن.

• هل يمكن لبلد أن يترك فينا أثره إلى الأبد؟

– بالتأكيد، فقد كانت صدمتي الاولى، حين وصلت الى البرازيل، هي ما احدثته في الطبيعة من وقع عميق، على نحو ما يمكننا مشاهدته على سفوح مرتفعات سيرادومار، ثم عندما توغلت في اعماق البلاد واجهتني طبيعة مختلفة كل الاختلاف عن تلك التي كنت قد رأيتها من قبل، لكن ثمة بعدا آخر كثيرا ما لا ينتبه إليه الزائرون، وكان في نظري بعدا غاية في الاهمية، ألا وهو الظاهرة الحضرية الملموسة.

فعندما وصلت الى ساو باولو قيل لي إن البلاد تشهد بناء بيت في كل ساعة، وفي تلك الأثناء كانت هناك شركة بريطانية كانت قد شرعت منذ اربع او خمس سنوات، في تهيئة اقاليم جديدة عبر ولاية ساو باولو، لقد كانت تشيد خطا لسكة الحديد وتبني مدينة في كل خمسة عشر كيلومترا، فأولى هذه المدن وهي الأقدم كانت تؤوي 15000 ساكن، الثانية 5000، والثالثة 1000 ثم 90 ثم 40 وفي آخر مدينة ساكن واحد وكان فرنسيا.

في تلك الأثناء كان من اكبر مزايا البرازيل أن كل واحد كان بإمكانه أن يشهد وبشكل شبه تجريبي نموا وتشكل تلك الظاهرة البشرية الهائلة ألا وهي ميلاد المدن، ففي برازيل الثلاثينات كان يمكن مشاهدة هذه العملية، مختصرة، وهي تتحقق في سنوات معدودة.

وبالطبع، وبحكم ممارستي للإثنوغرافيا، فقد كان الهنود بالنسبة لي على جانب كبير من الأهمية لكن هذه التجربة الحضرية احتلت مكانة جد مهمة وكانت البرازيل البدائية والبرازيل الحضرية تتعايشان معا، حتى وإن كان التعايش بينهما متباعدا.

وعندما ذهبت الى اقليم “ماتو غروسو” للمرة الاولى لم تكن مدينة برازيليا قد رأت النور بعد، لكن كان ثمة محاولة لإنشاء مدينة من لا شيء، وهي مدينة غويانا التي لم تر النور هي الاخرى. فالهضبة الوسطى.. البلاناتو هضبة رائعة: فالسماء فيها مهيمنة كليا، ولذلك تتخذ الأبعاد هنا مستوى آخر من العظمة.

فقد وصف روائيون مبدعون، من امثال اوكليدس- مؤلف “اوس سيرتوس” OS SERTOES الذي ترجم الى الفرنسية تحت عنوان “الهضاب العليا” البرازيل وصفا رائعا.

وقد تعرفت ايضا على ماريو دي اندراد الموسيقي والشاعر، ومؤسس الشركة البرازيلية للانثوغرافيا والفلكلور. لقد كان يدير الدائرة الثقافية لمدينة ساو باولو. كنا على صلة وثيقة وتعتبر رواتيه Macunaima من أروع ما انتجه الادب البرازيلي.

كان ماريو دي اندراد قد تخيل بكثير من الهزل رواية Macunaima، وهو هندي من قبائل تبانهوما المستقرة في الامازون، وهو شخص اشتهر بالكذب والكسل، صار بحكم زواجه، امبراطورا للغابة العذراء، ثم نراه يغزو مدينة ساو باولو لكي يستعيد فيها تعويذة يتحول بقوتها السحرية الى كوكبة من نجوم الدب الاكبر.

• ترى هل ما زالت هذه الافكار البدائية وهذه العلاقة ما بين المدينة والغابة والأسطورة قائمة ومتغلغلة في الاذهان؟ وهل تابعتم تطورها عند هذه الشعوب البدائية؟

-ما زلت اتابع تطور الاهالي الذين كنت قد درستهم بشكل منهجي، عن طريق الفكر، وبفضل زملاء اصغر مني سنا، ولا سيما من جامعة كويبابا في اقليم ماتو غروسو ما زالوا يواصلون البحث على قبائل “نامبيكواراس”. فهم يراسلونني ويبعثون الي ببحوثهم. لقد تعرضت هذه الشعوب لمآسٍ مرعبة. فقد أبيد منهم عدد كبير، ولم يكتب البقاء الا لنحو 5 او 10 بالمئة منهم فقط. لكن ما يحدث اليوم يكتسي بالتأكيد اهمية كبيرة. فقد تواصلت هذه الشعوب بعضها مع البعض الآخر. وصارت تدرك الآن وتعي ما كانت تجهله في السابق، وهو انه لم تعد كما كانت وحدها في هذا الكون. ففي زيالندا الجديدة، واستراليا، وميلانيزيا، هذه الشعوب التي ظلت مضطهدة لفترات طويلة من تاريخها، بدأت اليوم تعي موقعها المشترك في العالم.

بالطبع اذن، لن تكون الإثنوغرافيا، مستقبلا، هي الإثنوغرافيا التي كنت امارسها في زماني، حيث كان العمل يتعلق بالبحث عن شهادات عن المعتقدات والتشكلات الاجتماعية، والمؤسسات التي تولد بمعزل تام عن مؤسساتنا، فهي مشكلة علاقات لا تعوض، ولا غنى عنها في التراث البشري، فنحن الآن، ان صح القول، في نظام من “التداخل المشترك المتبادل”. فنحن نتجه نحو حضارة على الصعيد العالمي، حضارة سوف تبرز فيها، على الارجح، فوارق واختلافات، ونحن نأمل في ذلك.. على الاقل. لكن هذه الفوارق لن تكون فوارق من الطبيعة نفسها، حيث ستكون فوارق داخلية، وليست خارجية كما كانت في السابق.

سرعة التنقل، وسرعة انتشار الثقافات، والاتصالات… عوامل حاسمة بالتأكيد…

في السابق، كنت مع زملائي نسافر بواسطة طائرات شحن، كانت الرحلة عليها تستغرق بعد محطات عديدة تسعة عشر يوما قبل ان تصل بنا الى اميركا اللاتينية، بعد ان تتوقف على الشواطئ الاسبانية والجزائرية والافريقية. والطريف انني لم اعرف افريقيا حقا الا من خلال هذه المحطات التي كنت اقف بها… ذهابا وايابا الى البرازيل.

• هل يمكن لفن التصوير الفوتوغرافي الذي مارسته، كما يشهد على ذلك العديد من الصور المنشورة، ان يثبت هذه العوالم القديمة ويحفظها في ملفات التاريخ؟

-لم أُولِ اهتماما كبيرا قط للتصوير الفوتوغرافي. كنت التقط الصور لأن الامر كان يقتضي ذلك، لكن مع الشعور بان التصوير يمثل مضيعة للوقت ومضيعة للتركيز والعناية بالأشياء. ومع ذلك فقد احببت التصوير كثيرا ومارسته اثناء مراهقتي. كان والدي فنانا في الرسم، وكان يهوى التصوير كثيرا. يبقى ان التصوير يمثل فنا قائما بذاته، مختلفا. وما أنجزته في هذا الحقل هو التصوير بدرجة صفر. فقد نشرت كتابا في التصوير كان عنوانه Soudates do brasil يمكننا ترجمته بـ”الحنين الى البرازيل”، وقد صدر العام 1944. لقد أنجزت هذا الكتاب تحت إلحاح الكثير من حولي. وقد جمع فيه الناشر ما لا يقل عن 200 صورة.

ففي أثناء رحلتي الى قبائل “بوروروس” كنت قد أخذت معي كاميرا سينمائية صغيرة، وكنت من حين لآخر اضغط على الزر لالتقاط بعض الصور. لكنني ما لبثت ان تقززت من هذه العملية، لأنه اذا كانت عيننا وراء عدسة الكاميرا فإننا لا نرى ما يحدث من حولنا، ولا نفهم مما يجري حولنا الشيء الكثير. وقد تخليت عن جزء من هذه الصور التي يمكن أن تشكل فيلما قد يستغرق عرضه نحو ساعة كاملة. وقد تم العثور على هذه الصور في البرازيل وأعيد ترتيبها، وقد عرضت مرة بمركز بمومبيدو بفرنسا. لكن في النهاية دعني أقول لك هذا السر: “ان الأفلام الإثنوغرافية تزعجني كثيرا”.

• أين وصل مشروعكم الخاص بمتحف الانسان؟

متحف الإنسان يسير نحو مصير آخر غير الذي هيئ له اصلا. فقد قام تصوره وفقا لصيغة جد طموحة لم تعد، في رأيي، مطابقة للحقائق الراهنة. كان موضوعه هو جمع حقبة ما قبل التاريخ والإثنروبولوجيا الفيزيائية والإثنورافيا، وهي التخصصات التي صارت منذ ذلك الوقت تنتج مناهج مختلفة بعضها عن البعض الآخر. وفيما يتصل بالإثنوغرافيا تحديدا فقد كان متحف الإنسان يطمح الى ان يقدم وصفا للكيفية التي كانت ما تزال هذه الشعوب الموغلة في القدم تعيش عليها في العشرينيات والثلاثينيات الماضية والتي كان الإنثنولويون يذهبون لدراستها.

كل هذا لم يعد يستجيب للحاضر الذي تغير كثيرا. فإذا اردنا ان ندرس اليوم قبيلة ميليانيززية لم تكن معروفة في العام 1930 لا بد اولا من ان نضع في الواجهة اكياسا من القهوة، وسيارات تويوتا الى جانب بعض المواعين التقليدية. وستكون هذه الصورة مع ذلك صورة كاذبة. ان الفكرة الرئيسية لمتحف “كي برانلي quai Branly للإنسان المزمع انشاؤه هي جمع كل ما انتجته هذه الحضارات القديمة من اشياء كبيرة وجميلة، مع الاخذ بعين الاعتبار ان هذه الاشياء اشياء من الماضي.

وهذا يستجيب استجابة جيدة للعلاقة التي يمكن وينبغي على هذه الحضارات ان ترعاها مع الماضي، والتي يمكننا اليوم ان نرعاها ونصونها ونحرص على بقائها هذه الحضارات.

• هل يمكن لشيء انقطع عن سياقه الطقوسي ان يظل محتفظا بدلالاته ومعانيه الاصلية؟

– ان القناع الذي يتضمن وظيفة طقوسية هو في الوقت نفسه اثر فني رائع. ان المقاربة الجمالية لا تزعجني اطلاقا. فمتحف اللوفر هو اولا متحف للفنون الجميلة. فهو اذن يتميز بروح، وبوظيفة جمالية. وهذا الواقع لم يمنع يوما التاريخ وعلم الاجتماع والفن من ان تتطور، ولا منع القائمين على هذا المتحف من ان يكونوا علماء جيدين. ان اثارة الاهتمام والانفعال عند الجمهور، عبر هذه الاشياء الجميلة لا يخيفني على الاطاق، فالجمالية واحدة من السبل التي تتيح لهذا الجمهور اكتشاف الحضارات التي انتجت هذه الاشياء الجميلة الرائعة. وعلى هذا النحو يصبح البعض مؤرخين وملاحظين وعلماء… يكرسون جهودهم لهذه الحضارات.

• لقد احببت وجمعت أدوات لدرجة انك شبهت الأساطير، موضوع بحثك بـ”الأشياء الجميلة جدا”، التي لا نشبع ولا نمل من مشاهداتها وتأملها. هل ما زلت تحبها؟

ما زلت احب هذه الاشياء، منذ طفولتي في فترة سابقة كانت الاشياء التي كنا نسميها بالاشياء البدائية تباع بأسعار يقدر عليها الجميع! فمع اندريه بروتون، عندما كنا في الولايات المتحدة، كنا نعرف ان هذه الاشياء الجميلة كانت لا تقل جمالا وروعة عن اشياء الحضارات الاخرى المتقدمة. فضلا عن اننا كنا نستطيع اقتناءها بأرخص الاثمان. اما اليوم فقد صارت كل الاشياء غالية الى الحد الذي صرنا فيه لا نملك سوى مشاهدتها عن بعد، ولا نفكر في امتلاكها. فلو كانت الظروف ظلت كما كانت لكنت بالتأكيد ظللت اجمعها كما كان شأني بها من قبل. في العام 1950 كنت اعاني من بعض المشاكل الشخصية وكان علي ان اشتري شقة بأي ثمن. لذلك اضطررت للتخلي عن مقتنياتي من هذه الاشياء الجميلة.

والطريف انني صرت ارى اليوم اشياء تمر تحت عيني كانت ذات يوم من ممتلكاتي الخاصة. ففي متحف اللوفر، مثلا، بعض مما جلبته من ادوات. وسوف يشاهد الناس الكثير من هذه الاشياء في المعرض الذي سوف ينظم في شهر اذار الحاري في اطار السنة البرازيلية في فرنسا بقصر المعارض الكبير.

وسوف تعرض ايضا ادوات كنت قد جمعتها خصيصا لمتحف الانسان اثناء حملاتي الاستكشافية. فقد عانت هذه الاشياء كثيرا اثناء الحرب، فضلا عن ظروف التدفئة الرديئة التي كانت فيها.

فقدت كثيرا حالة زينات الرأس من تصفيفات الشعر المصنوعة من الريش الملصقة بواسطة مادة صمغية أو الشمع. وفي الفترة التي كنت اجمع فيها هذه الأشياء كان البعض يتصور أن الأمر يحتاج لإغراق العلب التي اجمع فيها هذه الأشياء في مطهرات خاصة تزيل ابخرتها هذه المواد الصمغية وهذا الشمع.

• انت رجل مولع بالموسيقى. في “النيء والناضج” وهو اول الاجزاء الاربعة من كتابك “مثولوجيات” نراك تبدأ النص بأغنية من اغاني قبائل “البوروزو” – لحن مخرب اعشاش الطيور- ترى هل درست موسيقى هذه القبائل؟

لا، اطلاقا. انا لست مختصا في الاثنولوجيا الموسيقية. لم ادرس ألحانهم واغانيهم. بعضها كان يؤثر فيّ، او يحرك مشاعري العميقة. فأول انفعالاتي كانت بفعل الاحتفالات التي كانت تجري يوم وصولي إلى قبائل بوروروس. فقد كانت ترافق ألحانهم بعض التسالي التي كانوا يؤدونها ببراعة متناهية وكأنها تجري تحت قيادة رئيس اوركسترا ماهر.

حدث ان زارني قبل بضعة شهور شخصان هنديان من قبيلة بوروروس يرافقهما باحثان من جامعة “كامبو غراندي” في “ماتو غروسو”، وهي اقرب جامعة من اقليمهم، وهي الجامعة نفسها التي يدرس فيها هذا الهنديان. فقد شاءا ان يغنيا ويرقصا لي خصيصا في مكتبي في “كوليج دي فرانس”، وبمبادرة منهما شخصيا. فهذان الزميلان ما يزالان يحتفظان بكامل نضارة وآنية ألحانهما، ويحتفظان بموسيقى كنت قد سمعتها قبل ستين عاما مضت. فلكم كان وقع هذه الألحان عميقا في نفسي!

ولا بد من القول إن الموسيقى هي اكبر سر خفي نواجهه في حياتنا. ولا اخفي ان الموسيقى الشعبية البرازيلية التي كانت في زماني كانت ألحانا جد عذبة.

• ما الذي تقوله عن المستقبل؟

لا تسألني شيئا من هذا القبيل. اننا نعيش الآن في عالم لم اعد أنتمي اليه. العالم الذي عرفته، العالم الذي احببته كان يضم  1.6 بليون نسمة. اما عالم اليوم فقد صار يسع 6 بلايين نسمة. هذا العالم لم يعد عالمي بأي حال. وعالم الغد الذي سيصير سكانه 9 بلايين من الرجال والنساء. لا يمنحني اي إمكانية للتنبؤ.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.