حفريات “الإناسة” في الحضارة العربية الإسلامية

hadara

عبد العزيز غوردو

مقدمــــــة

يشير موضوع “حفريات الإناسة” بالضرورة إلى الكشف عن الأصول الأولى للتطور الذي حصل على هذا الحقل المعرفي الإنساني، وبما أن هذا العلم/الإناسة، يحيل مباشرة على كل ما هو إنساني، فإن شموليته تسبب سهولة ادعاء أي ثقافة كانت بأحقيتها الريادية عليه، ومن ثم فلكل واحد أن يدعي صناعة الإناسة في مختبره التاريخي الأول، إذا كانت هذه الصناعة لا تحتاج إلى عدة منهجية وثقافة واسعة للمجتمع الحاضن للمشروع الريادي، لكن هذه العدة/الثقافة بالضبط هي ما يمكن المؤرخ الحقيقي من طرح الأسئلة الذكية والجديدة على الماضي الإناسي، وهي أيضا ما يمكنه من ترتيب أحداث ماضي هذا العلم الترتيب المناسب بغية فهم أمثل لنشأته وتطوره.

ونحن، في هذه الورقة، لا نريد أن نحاور المشروع الانتروبولوجي الغربي (كما فعل دكروب وآخرين) انطلاقا من مبدأ التسليم له بالفضل والريادة،[1] بل نريد أن نحفر عميقا للتشكيك في هذا الفضل وهذه الريادة؟ وفي سعينا لتحقيق ذلك فإننا سنحاول ألا نصيب ورقتنا هذه بالترهل من خلال إثقالها بالمراجع والدراسات، بل سنعتمد فيها على خطوات منهجية محددة وثابتة، بغية استكشاف النتائج واضحة جلية؛

وعليه فإننا سنعتمد على مصادر أساس في التأسيس لمشروع هذه الورقة، حيث سنرجع، في بناء جانبها النظري، إلى قطبين كبيرين لهذا العلم تركا بصماتهما الواضحة عليه من دون شك، أما في الجانب الميداني فإننا سنركز على تقريرين ميدانيين للكشف عمليا عن حفريات الإناسة في الحضارة العربية الإسلامية.[2]

وبما أن ابستيمولوجيا المناهج تعلمنا أن الأصل في كل موضوع ليس هو اختيار النموذج، وإنما تبريره، فإننا نجد تبريرا لاختيارنا في الآتي:

أولا) فيما يتعلق بالجانب النظري: اخترنا للتأسيس له الاعتماد على قطبين مرجعيين هما: قطب الانتروبولوجيا الفرنسية، كلود ليفي ستراوس، وقطبها الأنجلوساكسوني: إيفانز برتشارد.

الأول من خلال عمله المرجعي: الانتروبولوجيا البنيوية، والثاني من خلال عمله الرائد: الانتروبولوجيا الاجتماعية؛

ثانيا) إن ورود ابن فضلان وابن بطوطة، كدعامة لتوثيق هذه الورقة في شقها الميداني، لم يكن اعتباطا، بل مؤسسا على تصورنا العام للموضوع، وعلى اختيار بعد قراءات عديدة لأدب الرحلات.

يأتي ابن فضلان، تاريخيا، في بداية أدب الرحلات، أي إنه يؤثث للحظة التأسيس، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى: (من التجارب الأولى؛ رحلة من تمويل الدولة/سفارة؛ ليس الهدف منها بالأساس حب المعرفة والاطلاع؛ ليست هناك خبرة في الرحلات… وبالتالي ضحالة التجربة)، بينما تؤرخ رحلة ابن بطوطة لاكتمال التجربة، بعد تراكم طويل: (رحلة حب في الاطلاع والمعرفة؛ دراية عبر التجارب السابقة بالرحلات وأدبها؛ من تمويل ذاتي… وبالتالي نضج التجربة واكتمالها). فالاختيار في شقيه، النظري والميداني، لم يكن اعتباطا كما هو واضح.

ولأجرأة موضوعنا المعنون: “حفريات الإناسة في الحضارة العربية الإسلامية” فإننا نقترح مقاربة تتكئ على تصميم بسيط مبدئيا يقوم على:

مقدمــــة.

الفصل الأول) الإناسة: المفهوم، التاريخ، المنهج.

المبحث الأول)  رصد المفهوم ومراحل تطوره الكبرى.

المطلب الأول: في معنى الإناسة.

المطلب الثاني: المراحل التاريخية الكبرى للأنثربولوجيا.

المبحث الثاني) موضوع الإناسة: حقل أو مجال الإناسة ومنهجها.

المطلب الأول: الإناسة الاجتماعية والثقافية، الإناسة الطبيعية.

المطلب الثاني: المنهج والأدوات.

الفصل الثاني) الإناسة، الجذور والامتدادات في الحضارة العربية الإسلامية.

المبحث الأول) أصول الإناسة في الحضارة العربية الإسلامية.

المطلب الأول: قراءة في المصادر ذات الصلة بموضوع الإناسة.

المطلب الثاني: الشروط الأولى لتكون الفكر الإناسي عند العرب والمسلمين.

المبحث الثاني) نماذج تطبيقية: ابن فضلان وابن بطوطة.

المطلب الأول: نصيب الإناسة من رسالة ابن فضلان.

المطلب الثاني: وماذا عن ابن بطوطة؟

خاتمــــة.

الفصل الأول) الإناسة: المفهوم، التاريخ، المنهج.

المبحث الأول)  رصد المفهوم ومراحل تطوره الكبرى.

المطلب الأول: في معنى الإناسة.

إيتنوغرافيا، إيتنولوجيا، أنتروبولوجيا:

Ethnologie كلمة مؤلفة من مقطعين: Ethnos (شعب) و logos (علم)؛ علم طبائع الأعراق من حيث المنشأ والتطور.

Ethnographie تتألف من  Ethnos (شعب) و graphie (وصف)؛ الدراسة الوصفية للشعوب.[3]

 تقوم الاتنوغرافيا على مراقبة بعض الجماعات البشرية وتحليلها من خلال خصائصها (ويتم اختيارها، غالبا، من بين أكثر الجماعات اختلافا عن جماعتنا) بغية رد حياة كل منها إلى شكلها البدائي؛ فيما تستخدم الاتنولوجيا الوثائق المقدمة من الاتنوغرافي استخداما مقارنا. وبهذا المعنى تأخذ الاتنوغرافيا معنى واحدا في جميع البلدان، وتطابق الاتنولوجيا تقريبا ما تعنيه الانتروبولوجيا الاجتماعية؛ (تختص الانتروبولوجيا الاجتماعية بدراسة المؤسسات، فيما تنشغل الانتروبولوجيا الثقافية بدراسة التقنيات).

تتناول الإتنوغرافيا الوصف الميداني لجماعة محدودة بالحد الذي يسمح للباحث من جمع معطياته ميدانيا بنفسه، سواء داخل الجماعة موضوع الدراسة، أو داخل المتحف عندما يتعلق الأمر بمعطيات مادية (أسلحة، أدوات مختلفة…)[4]

بالنسبة للإيتنولوجيا تمثل الإيتنوغرافيا خطوة أولى نحو التركيب، أي أن الإيتنولوجيا تشتمل بالضرورة على الإيتنوغرافيا “باعتبارها مسيرتها التمهيدية، وتشكل امتدادها”[5].

لذا، وباعتماد لفظتي الإيتنوغرافيا والإيتنولوجيا، تجد الإيتنولوجيا نفسها مقصورة على الأنتروبولوجيا الطبيعية.[6]

أما لفظي الأنتروبولوجيا الاجتماعية والأنتروبولوجيا الثقافية فيحيلان على مرحلة ثانية وأخيرة من التطور، تأتي بعد الإيتنوغرافيا والإيتنولوجيا، ويتناولان بالدراسة المجتمع البشري منذ أقدم عصوره، وصولا إلى زمننا الراهن.[7]

وبهذا المعنى فإن الإيتنوغرافيا والإيتنولوجيا والأنتروبولوجيا لا تؤلف ثلاثة فروع علمية مختلفة، ولا حتى ثلاثة مفاهيم مختلفة عن دراسات واحدة، “بل هي، في الواقع، ثلاث مراحل أو ثلاث لحظات من بحث واحد، وإثارة هذا اللفظ أو ذاك يعبر فقط عن اهتمام معين يتجه نحو نمط من البحث لا يستبعد النمطين الآخرين بأية حال.”[8] وفي هذه الحالة يصبح لفظ الأنتروبولوجيا هو الأصلح “لتمييز مجموع هذه اللحظات من البحث”.[9]

الأنتروبولوجيا الاجتماعية والأنتروبولوجيا الثقافية:

تميل بريطانيا للتعريف الأول، بينما تميل الولايات المتحدة للتعريف الثاني، والنقاشات الحادة التي دارت بين الأمريكي موردوك والانجليزي فيرث تثبت أن تبني كل تعبير يلبي اهتمامات نظرية محددة جيدا.[10] إن مفهوم “الثقافة” من أصل انجليزي “ونحن ندين لتايلر بتعريفها للمرة الأولى حيث يقول: هي ذاك الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والاعتقاد والفن والأخلاق والقانون والعادات ومقدرات وعادات أخرى يتحلى بها الإنسان الفرد في المجتمع.”[11] أي ما يميز الإنسان عن الحيوان، حيث يبدو الإنسان كصانع أدوات، وحيث تبدو العادات والمعتقدات والمؤسسات أيضا مجرد تقنيات أخرى، ذات طبيعة فكرية، جاءت لخدمة الحياة الاجتماعية، ولتجعلها ممكنة..[12]

بهذا تصبح الأنتروبولوجيا الاجتماعية[13] الفصل الذي يدرس التنظيم الاجتماعي، لكن مجرد فصل من بين فصول الأنتروبولوجيا الثقافية.[14]

“إن الانتروبولوجيا، إذ تدعي أنها “اجتماعية” أو “ثقافية”، تتطلع دائما إلى معرفة الإنسان الشامل، منظورا في الحالة الأولى من خلال إنتاجاته، وفي الثانية انطلاقا من تصوراته”.[15]

المطلب الثاني: المراحل التاريخية الكبرى للأنثربولوجيا.

موضوع الإناسة قديم جدا لأنه مرتبط بالإنسان وبواقع تطوره عبر العصور، أما علم الإناسة فحديث جدا ولم يدخل منتدى العلوم إلا قريبا،[16] فمثلا لم يتم اقتراح إحداث كرسي للأنتربولوجيا الاجتماعية في فرنسا إلا سنة 1958، وقبل ذلك بخمسين سنة كان السير جيمس جورج فرازر قد ألقى درس افتتاح الكرسي الأول، في العالم، للأنتربولوجيا الاجتماعية، وقبله بخمسين سنة أخرى كان قد ولد رجلان يعتبران بمثابة رئيسي العمال الذين شيدوا الإناسة، هما: فرانز بواز وإميل دوركهايم.[17]

وقد كان مارسيل موس قد فشل، سنة 1930، في إحداث كرسي خاص مستقل بالأنتروبولوجيا عن علم الاجتماع[18] ، لكنه نجح بعد ثمان سنوات من ذلك (أي سنة 1938) في إدخال كلمتي الأنتروبولوجيا الثقافية، ولأول مرة، إلى الترمينولوجيا الفرنسية.[19] ليبني إطارها النظري، وليأتي مالينوفسكي ليشيد صرحها التجريبي.[20]

ونحن نتتبع مسيرة تطور هذا الحقل المعرفي نجدها قد ارتبطت ارتباطا عضويا بتاريخ الاستعمار، إذ في الوقت الذي كان فيه الباحثون الأوائل يفتشون في المستعمرات عن تنوع الممالك الحيوانية والنباتية، تطور، بالتوازي، بحث آخر يعمل على الكشف عن تنظيم المجتمعات المستعمرة، الموسومة بـ:”البدائية” والكشف عن ثقافتها.[21] وبالتالي فنحن أمام علم، أو مجال، حديث جدا[22] كان يسعى إلى الإحاطة بالظواهر الإنسانية المختلفة، محاولا فهمها في سياق تطورها مع تطور المجتمع نفسه، مع الحرص على تصنيفها والتمييز داخلها بين ما يرتبط بثوابت المجتمع (القيم؛ الثقافة؛ الهوية…) والمتغيرات الطارئة (مثل بعض الحركات أو الأفكار الوافدة أو بعض أنواع السلوك المرحلي…)، مستخدما وسائل وتقنيات بحث ودراسة، نظرية وميدانية، تعتبر كلها من آخر ما أنتج خلال القرنين الماضيين، مثل بنوك المعلومات، واستطلاعات الرأي، والتحقيقات الميدانية، والاستجوابات المعمقة الخ…

لقد برزت الأهمية والحاجة إلى هذه التقنيات بسبب التطورات التي طالت المجتمعات الغربية الصناعية، فأرادت إعادة اكتشاف الذات عبر معارضتها مع الآخر، ذلك أن الثورة الصناعية، ثم الزراعية، قد قلبت بنيات المجتمعات الأوربية وأحدثت فيها تغييرات عميقة أدت إلى ظهور شرائح وفئات اجتماعية ونمط حياة حديث، واختفاء مهن وشرائح اجتماعية أخرى، كما أن نوعية الحياة عرفت تغيرا تاما مما أعطى بعدا جديدا للمجتمعات ومختلف المؤسسات.

لكل هذه الأسباب برزت الحاجة إلى علم كعلم الإناسة لمواكبة، وتأطير، وضبط كل تلك التطورات بغية تمكين الآليات المختلفة في المجتمع من السيطرة عليها، والتوصل إلى أنجع الحلول للمشاكل التي تولدها.[23]

لكن من المؤسف حقا أن يتم كل ذلك بتجاهل مطلق لإضافة الآخر/النّد/الإسلام، للمشروع الحضاري الإنساني، وإنصافه، بدل وضعه موضع المناصب للعداء.[24]

كتب برتشارد فصلا طويلا (من كتابه: الإناسة المجتمعية) بعنوان: الأصول النظرية،[25] حشد فيه كل مفكري وفلاسفة عصر الأنوار، وجعلهم روادا للإناسة، لكنه لم يشر لا من قريب ولا من بعيد حتى لمفكر لا يخفى دوره على أي باحث في علوم الاجتماع والإنسان، هو ابن خلدون؟

يقول برتشارد: “الإناسة قد رأت النور فعلا خلال القرن 18م، إنها بنت عصر الأنوار، وهي ما زالت تحمل بصمات ذلك العصر.”[26]

في فرنسا، يضيف برتشارد، “يمكن الكلام عن الإناسة ابتداء من مونتسكيو (1689 – 1755). فكتابه الشهير “روح الشرائع” (1748) الذي هو مصنف في الفلسفة السياسية، بل والمجتمعية، قد عُرف بشكل خاص بالنظريات الفريدة التي كان ينادي بها الرجل. كان يعتقد أن للمناخ تأثيرا على طباع البشر،[27] ومن المأثور عنه أيضا ملاحظاته حول فصل السلطات في الحكم. وإذا كان مونتسكيو يحظى باهتمامنا فلأنه كان يعتقد منذ ذلك الحين أن الظاهرات في مجتمع من المجتمعات تتقاطع جميعا ويتوقف بعضها على بعض”[28]

في الوقت الذي يرد فيه القطب الأنجليزي إفانس برتشارد نشأة الأنتربولوجيا إلى عصر الأنوار، وبالذات مونتسكيو، فإن القطب الفرنسي ليفي ستراوس – وهو لا يبتعد عن عصر الأنوار بدوره – يردها إلى روسو، فيكتب بالحروف الكبرى: جان جاك روسو مؤسس علوم الإنسان،[29]  فقط لأنه، أي روسو، كان يشدد وينوه بالرحلات التي ينظمها العلماء، أو الناس عامة، للتعرف على عادات الشعوب وتقاليدها وطريقة تنظيمها وتفكيرها… رحلات تزور “تركيا ومصر وبلاد البرابرة وإمبراطورية مراكش وغينيا وبلاد القفر وداخل أفريقيا وسواحلها الشرقية ومالابار والمغول وضفاف الغانج وممالك سيام وبيغو وآفا والصين ولاسيما اليابان…”[30] ليعقب ستراوس على ذلك بسؤال استنكاري: “أفليست الاتنوغرافيا المعاصرة وبرنامجها ومناهجها هي التي نراها ترتسم هنا؟”[31] هذا هو “روسو الانتروبولوجي” الذي اكتشف نفسه من خلال الآخر، أو عبر تميزه عنه…[32] ولينتهي إلى خلاصة “أنا والآخر، مجتمعي والمجتمعات الأخرى، الطبيعة والثقافة، المحسوس والمعقول، الإنسانية والحياة”[33].

لا يهمنا، في هذا المستوى من البحث، أن نرجح من الأجدر بالريادة: مونتسكيو أم روسو؟ بقدر ما نريد فقط تطبيق المنهج الانتروبولوجي، كما قدمه أساطين الدرس الإناسي/برتشارد – ستراوس، على الرائدين المزعومين، من خلال السؤال: هل سافر مونتسكيو (المثال الانتروبولوجي الرائد عند برتشارد) وروسو (النموذج المفضل لدى ستراوس) إلى شعوب بدائية، وأقاما بينها وتعلما لغاتها ودرسا بنياتها وأنساقها الثقافية ومؤسساتها الاجتماعية عن قرب… حتى استحقا أن يكونا رائدين لهذا العلم؟

وإذا تجاوزنا هذا السؤال المزعج، واعتبرنا عن حسن نية، بأن برتشارد عندما قدم نموذجه/ مونتسكيو، وستراوس وهو يقدم مثاله/روسو، إنما كان ذلك على سبيل الضرب المجازي، وأن التأسيس الحقيقي (تأسيس الأنتروبولوجيا) تم بعد ذلك بمدة مع فرازر وبراون وآخرين.. فإن السؤال نفسه يظل يحاصرنا:

هل سافر جيمس فريزر ورادكليف براون وفرانز بواز وإميل دوركهايم…؟؟؟

والحصيلة، سواء بالاكتفاء بالسؤال الأول أو بمجاوزته إلى الثاني، تبقى واحدة: إما أن المنهج الأنتروبولوجي، كما قدمه رائداه (برتشارد/ستراوس) وتلاميذهم لاحقا، فيه كثير من المغالطة، أو أن الرواد المزعومين (بدءا من مونتسكيو إلى دوركهايم) لم يكونوا روادا فعليين؟ وفي هذه الحال علينا أن نبحث عن الرواد الحقيقيين خارج ترسانة الأسماء المقدمة لنا.

بما أن العلم لا يسمى علما إلا باعتماد منهج خاص به، يميزه عن باقي العلوم، فإننا سنحافظ على تعريف المنهج الانتروبولوجي كما قرره رواده، رغم الانتقادات التي قد تعترضه والتي نعتبرها طبيعية بالنسبة لجميع العلوم، أي: السفر والرحلة والإقامة مع الشعب/المجتمع المدروس، وتعلم عاداته واكتساب لغته والتعرف عن قرب على ثقافته ومؤسساته.. وملاحظة كل ذلك وتسجيله بموضوعية ودقة ومقارنتها مع نظيراتها في مجتمعات أخرى الخ.. الخ.. الخ…[34]

لكننا، وإذ نحتفظ للمنهج الأنتروبولوجي بهويته، فإن ذلك لا يعفينا من إعادة صياغة الإشكال الجوهري عن رواده الحقيقيين، من جديد، لنقول: إذا كان علم الإناسة ما زال حديث النشأة – وإن كان آباؤه ورواده الأوائل قد عاشوا قبل ذلك بكثير، بمعنى أن مجال وأدوات وغايات علم الإناسة قد وجدت قبل التسمية نفسها – فهل علينا أن نتوقف بتاريخ نشأة هذا العلم عند الحدود التي اقترحها علينا قطباه: ستراوس وبرتشارد؟

سؤال يحتاج إلى تأمل ونظر وتدقيق، وهو ما سنحاول القيام به في الفصل الثاني من هذا البحث.

المبحث الثاني) موضوع الإناسة: حقل أو مجال الإناسة ومنهجها.

المطلب الأول: الإناسة الاجتماعية والثقافية، الإناسة الطبيعية:

توجه الإناسة موضوعها لدراسة المجتمعات البدائية[35]، والمجتمعات البدائية لها تاريخ طويل لكنها قليلة العدد وتحتل أرضا محدودة المجال، وتقيم صلات خارجية محدودة، لها اقتصاد وتكنولوجيا بسيطة، ووظائفها الاجتماعية قليلة التخصص.. هذه هي المجتمعات التي ينصب عليها البحث الإناسي.[36] وربما لهذا السبب ذهب فوكو في تعريفه للإناسة على أنها “علم معرفة الشعوب التي ليس لها تاريخ”[37]، أما السبب الحاسم لدراسة المجتمعات البدائية في الوقت الراهن فهو “أنها تتحول بسرعة كبيرة بحيث تتوجب علينا دراستها الآن قبل فوات الأوان”[38]، أي قبل أن تصبح موضوعا سوسيولوجيا؛ ذلك أن السوسيولوجيا تنصرف لدراسة المجتمعات المتحضرة.[39]

 فالذاكرة الجماعية، لهذه الشعوب، تختزن العادات والقيم والتقاليد… والبحث الأنثروبولوجي الغربي انطلق بالأساس لدراسة ما تختزنه هذه الذاكرة، لكن بنيّة تدميره، قبل أن يدعي لاحقا بأنه قد غير مساره باتجاه العلم والموضوعية.[40]

الانتروبولوجيا الاجتماعية فرع من العلوم الاجتماعية[41] بما أن موضوعها التجمعات البشرية[42]، أما الانتروبولوجيا الطبيعية فتهتم بمسائل مثل تطور الإنسان بدءا من أشكال حيوانية[43]، وتوزعه الحالي في جماعات عرقية، متميزة بصفات تشريحية أو فيزيولوجية، وهي تقيم علاقات وثيقة على نحو خاص مع العلوم الاجتماعية. وتؤول إلى حد كبير، إلى دراسة التحولات التشريحية والفيزيولوجية الناجمة، بما يتعلق بنوع حي معين، عن ظهور الحياة الاجتماعية واللسان ومنظومة قيم، أو، بكلام أصح، ظهور الثقافة. إن ما يدرس في بعض الجامعات تحت مسمى الإناسة الطبيعية، يدرس في جامعات أخرى تحت تخصص التاريخ الطبيعي.[44]

أما مجال الأنتروبولوجيا الخاص(اجتماعية كانت أم ثقافية) فيحوي عددا من منظومات العلامات مثل اللغة الأسطورية وقواعد الزواج ومنظومات القرابة والقوانين العرفية وبعض أشكال المبادلات الاقتصادية.

إن الأدوات والتقنيات والرسوم والمعتقدات الشعبية والطقوس واللغة[45]، فضلا عن القرابة والتنظيم الاجتماعي، والدين، والفولكلور، والفن…[46] كلها تختزن أشكالا من الرموز والبنيات التي تقبل أن يمارس عليها الدرس الأنثروبولوجي منهجه، ما دام ذلك يتم في المجتمعات المسماة بالمتوحشة أو البدائية[47].

على أنه وجب التنبيه إلى أن الانتروبولوجيا وهي تطرح موضوعاتها الرمزية عبر دراسة العلامات والتقنيات وتحليلها في إطار منظومات، لا تنوي أبدا أن تنفصل عن الواقع[48]، بل هي تعيد بناء منظوماته – العقلانية واللاعقلانية – (الدين والفكر الذي يدور في فلكه، والقيم الثقافية المعنوية، بما في ذلك ما يعتبر خرافة أو تفكيرا خرافيا…) بهدف التأسيس لمقارنة الأنا مع الآخر، وهو ما سنسعى لتلمس بعض عناصره في المطلب الموالي.

المطلب الثاني: المنهج والأدوات.

إن علم الإناسة، وفي خضم تفاعله مع التطورات الحاصلة على مجتمعي الأنا والآخر، لا يحاول إنتاج نظم أو نماذج إنسانية، أو اجتماعية، مثلما أنه لا يفترض فيه إصدار أحكام قيمة على تلك التطورات أو المؤسسات العتيقة التي يقوم بتشريحها، بل يكتفي فقط بجردها وتفسيرها. لذا، وبناء عليه، فإن الأنتروبولوجي يجد نفسه، رغم ضغط الواقع وإغراءات الانزلاق السياسي أو الثقافي أو التعاطف مع أحداث أو وقائع معينة، ملزما إن أراد أن يؤدي مهمته بأمانة وعلمية، أن يعمل وفق شروط صارمة أهمها:

–         التفرقة، وبأقصى صرامة ممكنة، بين النظرة السريرية، أو الإكلينيكية (بمعنى العلمية أو المخبرية) والحكم القيمي الأخلاقي أو العرقي أو السياسي؛

–         استعمال مناهج وتقنيات البحث المشتركة مع باقي العلوم الاجتماعية الأخرى؛

–         امتلاك طموح المنهجية، بمعنى اقتراح أطر عامة للتحليل، وبناء نماذج تسهل عملية اكتشاف “قوانين”.

إن هذه الشروط، إذا ما احترمت بجدية وصرامة، يمكن أن تجعل من علم الإناسة الأداة المثلى أو الموضوعية، على الأقل/ وبالتالي العلمية، لدراسة مختلف الأدوار المجتمعية وفهمها الفهم الصحيح.

وعليه فإن أكبر تهمة يمكن أن توجه للأناس هي عدم الموضوعية، أي عدم احترام العلمية،

وذلك بتغييب أدوات علم الإناسة، أو عدم احترام نتائج البحوث والدراسات الإناسية.

فالانتروبولوجيا تبحث في “الإنسان”/شبيهنا والمختلف عنا في آن واحد، إنها “نحن” منظورا إلينا من الخارج، مجموع الإنتاج الثقافي والاجتماعي “للأنا” كما يراها “الآخر” – وذلك بعد تجربة ومعاينة – حيث “الإنسان” هو “الذات” و”الموضوع” دون مسافة حقيقية بينهما، لإنتاج “معرفة” يفترض فيها أن تكون “موضوعية”.

فهل السؤال حول موضوعية الإناسة هو إجراء تعسفي في حقها، انطلاقا من المعطيات أعلاه؟

ربما.. وربما لهذا السبب اختتم آدم كوبر تقديمه للتفسير الانتروبولوجي للثقافة، بالتسليم باستحالة “الموضوعية” في البحث الانتروبولوجي الذي قدمه، كناية عن استحالة هذه الموضوعية في الدرس الانتروبولوجي عامة[49]. وجدير بالإشارة أنه في عدد كبير من المناسبات تعرضت الدراسات الأنتروبولوجية للنقد، عندما كانت تتحول إلى أداة في يد الأنظمة الحاكمة، حيث “تجازف بأن تجعل من الأنتربولوجيا مساعدا للنظام الاجتماعي”.[50] ومعروف أن فرنسيس فوكوياما كان قد وجه انتقادا حادا لعالمة الإناسة الشهيرة مارغريت ميد واتهمها بأنها كانت تتجاهل، في كثير من المرات، الحقائق التي تتناقض مع افتراضاتها وتوجهاتها الأيديولوجية…[51]

إن الأنتربولوجيا إذ تنفتح على عدد كبير من العلوم: اللغة، وعلم الآثار، والتاريخ، والجغرافيا البشرية، وعلم النفس… تبقي البحث الميداني ركيزتها الأساس التي تجعل من الباحث، المتمرس بالميدان، أنتروبولوجيا حقيقيا، وعليه فلا غنى عن الممارسة الميدانية لكل من يروم الارتماء في زخم الإناسة هذا، ومن يعتقد بأنه يمارس الأنتربولوجيا، أو يقوم بتدريسها، مكتفيا بعدد من المراجع والمصادر النظرية ودون نزول للميدان، هو يعيش حالة من الوهم عليه أن يتخلص منها[52]. إن حاجة الأنتربولوجيا للتجربة الميدانية تتعلق بسبب عميق يرتبط بطبيعة الفرع العلمي ذاتها[53]، ذلك أن الأنتروبولوجي يعتمد اعتمادا جدليا على الملاحظة والعيش، فترات طويلة، مع مجتمع غريب، يسلط عليه عدسته المكبرة/الملاحظة التامة “الملاحظة التي لا شيء بعدها، إن لم يكن استغراق الملاحظ استغراقا نهائيا – وهذا مجازفة – في موضوع ملاحظته”[54]، ولذلك وجب أيضا على الأناس الأصيل أن يحيط علما بلغة القوم الذين يتنطع لدراستهم[55].

الفصل الثاني) الإناسة، الجذور والامتدادات في الحضارة العربية الإسلامية.

المبحث الأول) أصول الإناسة في الحضارة العربية الإسلامية.

المطلب الأول: قراءة في المصادر ذات الصلة بموضوع الإناسة[56].

بديهي أن تحضر إلى الذهن كتب الرحلات، عند الحديث عن حفريات الإناسة في التراث العربي الإسلامي، لكن هل هذه الكتب فعلا كتب إناسة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا أغفلها منظرو هذا الحقل المعرفي، على الأقل العرب، طيلة القرن الماضي؟ وفي حال الجواب نفيا أليس بالإمكان الانتقال بسؤالنا إلى مستوى آخر هو: هل يمكن الحديث عن إشارت إيتنولوجية، أو إيتنوغرافية، في هذه المصادر؟

هذه أسئلة مؤطرة مبدئيا للمعالجة الإشكالية التي سنعتمدها، قد تتولد عنها لاحقا أسئلة تساعد على توجيه مشروع هذه القراءة المصدرية وترسم أهدافها. وهي قراءة لا تزعم لنفسها الإحاطة بجميع المصادر لاستقصاء أجوبة للأسئلة أعلاه، بل هي تكتفي – على طريقة أهل الاستنباط – بنماذج عن هذه المصادر عينة لتفكيك بُنى الأجوبة.

الفرع الأول من هذه المصادر، يجسده نموذج رحلة ضاع أصلها، لكنها تظل حاضرة بطريقة غير مباشرة في مظان أخرى؛ الأمر يتعلق برحلة/سفارة يحي بن حكم الغزال (ت. 250هـ) التي لخص أخبارها ابن دحية السبتي (ت. 633هـ) في كتابه “المطرب من أشعار المغرب”، وهي رحلة جاءت ردا على سفارة ثيوفيلوس Theophilus إلى الأندلس في أعقاب فتح عمورية، وقد وصف فيها الرحالة العربي بعض جوانب الحياة في بيزنطة وقتئذ. وتعتبر هذه الرحلة أقدم من رحلة ابن فضلان (التي سنفصل الحديث عنها لاحقا)؛

ومثلها رحلات أخرى لم تبتعد عنها كثيرا، منها رحلة أبي دلف إلى الشرق الأقصى (النصف الأول للقرن الرابع الهجري)، وناصر خسرو إلى الديار الحجازية (بين 437هـ و444هـ). لكننا نقصيها جميعا من بحثنا الإناسي، بكل مستوياته، بما أن هدفها كان بيزنطة والصين والهند، التي تعتبر مجتمعاتها أبعد ما يكون عن المجتمعات البدائية، كما تشترط كل دراسة أنتروبولوجية.

ولنفس السبب نستبعد رحلة أخرى، مماثلة، وإن كان هدفها المعلن هو البحث العلمي، قام بها هشام بن هذيل، مبعوثا من طرف عبد الرحمن الناصر، إلى بيزنطة لترجمة مخطوطة ديوسقوريدس اليونانية، أواسط القرن الرابع الهجري.

وعليه فإن أي رحلة توجهت إلى مجتمع كبير، مفتوح، بسجل تاريخي وحضارة عريقة الخ[57]… أو حتى تضمنت بعض الوصف الخفيف لمناطق نائية أو شبه مغلقة، لا يمكن لمصيرها أن يكون إلا مصير الرحلات سالفة الذكر، حيث يفترض إقصاؤها من حقل الأنتروبولوجيا، والاستفادة منها ضمن البحث التاريخي الصرف، أو في أبعد تقدير استخراج المادة الإيتنوغرافية منها فقط، دون السمو إلى ادعاء التحليل الانتروبولوجي. ومن هذه الرحلات، على سبيل العد لا الحصر، رحلة ابن جبير الأندلسي (578هـ)، وابن عبد ربه الحفيد (587هـ)، وابن رشيد السبتي (683هـ)، ومحمد العبدري (688هـ)، وأبي القاسم التجيبي (695هـ)، وابن عيسى البلوي (737هـ)، وابن الحاج النميري (774هـ) وابن سعيد الرعيني (778هـ)…[58] فكل هذه الرحلات، وغيرها مما لم نذكره لكنه سار على نهجها، يصعب تصنيفه ضمن حقل الإناسة لعدم استيفاء شروط المنهج فيه، وهو ما سنعمل على تقديم مثال عنه عند تفكيك رسالة ابن فضلان.

الفرع الثاني، الكبير، من كتب الرحلات هو الذي اكتمل منهجه مع ياقوت الحموي (ت. 623 هـ)، وكان قد رسم معالمه الكبرى الشريف الإدريسي (ت. 560 هـ)، وقبله نماذج شهيرة كثيرة: ابن خرداذبه[59] (ت. حوالي 300هـ) وقدامة بن جعفر (ت. 337هـ) وابن حوقل (ت. حوالي 380هـ)[60] الذي نختاره نموذجا عن هذا النوع.

اعتمد بن حوقل بشكل كبير على الاصطخري[61]، فضلا عن ابن خرداذبه وابن جعفر، لكنه اعتمد أيضا على الرؤية والمشاهدة العيانية للكثير من المناطق التي زارها، بعد خروجه من بغداد عام 331هـ، كما يذكر هو نفسه في مقدمة كتابه.

وكتابه (المسالك والممالك) يلخص لنا نمطا معينا من الكتابة والتأليف الغرض منه: “ذكر الأقاليم والبلدان على مر الدهور والأزمان وطبائع أهلها وخواص البلاد في نفسها، وذكر جباياتها وخراجاتها ومستغلاتها، وذكر الأنهار الكبار، واتصالها بشطوط البحار، وما على سواحل البحار من المدن والأمصار، ومسافة ما بين البلدان للسفارة والتجار، مع ما ينضاف إلى ذلك من الحكايات والأخبار، والنوادر والآثار”.[62]

لكن الرجل، على غرار من نسجوا على نفس المنوال، يطيل في ذكر أقسام البلاد وأقاليمها وخراجها وجباياتها… ويقصر فيما يتعلق بعادات وتقاليد وأعراف البلاد التي تحدث عنها أو زارها.. وذلك عن وعي منه بهذا التقصير، مما يدل على أنه ارتضى لكتابه منهجا خاصا على عادة من كتبوا فيه، فيقول: “ووصفت رجالات أهل البلدان… والمقدمين في كل ناحية… إلى ذكر النادرة بعد النادرة… ولم أستقص ذلك كراهية الإطالة المؤدية إلى ملال قارئه، ولأن الغرض في كتابي هذا تصوير هذه الأقاليم…”[63]

وهكذا يتضح، وكما هو معلن صراحة، بأن الهدف من هذه الكتابة لم يكن متابعة المادة الأنتروبولوجية: (الأدوات والتقنيات والرسوم والمعتقدات الشعبية والطقوس واللغة، فضلا عن القرابة والتنظيم الاجتماعي، والدين، والفولكلور، والفن… للمجتمعات الموسومة بالبدائية)، بل عكس ذلك تماما (أي عدم الإطالة في ذكرها مخافة السقوط في الإملال)، فتنغلق الحلقة مع الفرع الأول من مصادرنا، مما يعيدنا إلى أصل الإشكال، لكن ليس إلى المربع الأول منه، بما أننا نعلم بأن أي طفرة انتقالية في مجال العلوم لا بد لها من أساس تقوم عليه، يشكل شروطها التاريخية الموضوعية لإنضاجه وبروزه على السطح، وهو ما سنبحثه في المطلب الموالي.

المطلب الثاني: الشروط الأولى لتكون الفكر الإناسي عند العرب والمسلمين.

شاءت الظرفية التاريخية لنشأة الأنثروبولوجيا الغربية أن تربطها بالاستعمار، بحيث تحولت إلى أداة في يده (رغم ادعاء العكس لدى البعض، ورغم الطموح لتأسيس أنثروبولوجيا مستقلة عن الاستعمار/ “أنتروبولوجيا علمية”، لدى البعض الآخر)، في حين جاءت كتب الرحلات العربية الإسلامية في إطار مغاير يحقق الشرط الجوهري والأساس لكل معرفة “بالإنسان” (الهدف الأسمى للأنتروبولوجيا) تتجاوز المصلحة الضيقة للأفراد، وللدول التي نضجت في إطارها كتب الرحلات، فهي كانت استكشافية علمية بالدرجة الأولى، لكن هل هذا يضفي عليها طابع البحوث الإناسية المكتملة؟

لاستقصاء ذلك قمنا بمقارنة عدد كبير من كتب الرحلات والتاريخ والجغرافيا، القديمة والوسيطية، مع بعضها، حتى إننا رجعنا إلى كتب التاريخ القديم، والأدبيات الجغرافية الأولى لدى اليونان والرومان (هيرودوت؛ سترابون؛ ديودور؛ بلين)[64] لمضارعتها بالمصادر العربية القروسطية التي قدمنا نماذج عنها في المطلب السابق.

وتوصلنا، في حدود معرفتنا وما رجعنا إليه، إلى أن بعض الكتب أعلاه كان أقرب إلى مباحث ما يعرف حاليا بالجغرافيا الإقليمية، أو ما اصطلح عليه وقتئذ بكتب المسالك، حتى وإن أضيفت لها صفة الممالك أحيانا، من ذكر لدرجات الطول والعرض ومواقع البلدان وموازاة بعضها بعضا ووصف الطرق المؤدية إلى نقطة معينة، تشكل المنطلق والمركز بالنسبة لهؤلاء المؤلفين: بلاد اليونان القديمة، عند الكتاب الإغريق، وروما في الكتابات اللاتينية، ومكة أو بغداد عند المسلمين… هذا شأن: سترابون؛ ابن خرداذبه؛ قدامة بن جعفر؛ ابن حوقل؛ البكري؛ الإدريسي… ومن سار على هذا النحو.

بينما الكتب والمصنفات الأخرى كانت أقرب إلى الكتابات التاريخية العامة (هيرودوت؛ ديودور؛ بلين؛ كتب الرحلات الإسلامية العامة: ابن عبد ربه الحفيد؛ ابن جبير؛ ابن رشيد؛ العبدري؛ ابن الحاج النميري…)

وتلتقي المجموعتان (الجغرافية والتاريخية) في تقديم إشارت غنية، وغزيرة (بمثابة قاعدة بيانات)، لما يمكن إدراجه اليوم ضمن حقل الإتنوغرافيا، كما عرفناه سابقا، لكنها ركزت في المقام الأول على المسالك والطرق وضبط الأقاليم والسلع والبضائع.. وقبل هذا وذاك أمور الخراج والمال، وصلة الأقاليم والبلدان بعاصمة الملك أو الخلافة… بالنسبة للمصادر الإسلامية.

وعليه فإن مجمل هذه المصادر شحيحة عندما يتعلق الأمر باستخراج المادة الأنتروبولوجية منها (العادات؛ التقاليد؛ الأعراف؛ الأساطير؛ المعتقدات، التنضيد المجتمعي؛ المؤسسات…)، لأنها كانت ترصد بالأساس الخراج والمال، وصلة الأقاليم بعاصمة الخلافة، أو الطرق المؤدية إلى الحج والأراضي المقدسة، أو تسهيل التجارة بالمجمل… ونحن لا نعيب عليها ذلك لأن هذا كان شأن، هذا النوع من الكتابة والتأليف في ذلك العصر؛

فالقضية إذن قضية منهج (منهج العصر في الكتابة)، وحتى لا يجرفنا منطق اللا تزامن بعيدا في أحكامنا نقول إن الهدف من هذه الورقة لم يكن منذ البداية ليّ ذراع الوقائع للاستجابة لطموح شوفيني محموم، على حساب الموضوعية العلمية، بل التأسيس لمنهج في استقصاء نصيب الإناسة من كتب الرحلات، إذ ما ينبغي الانجرار وراء العاطفة العمياء (إما مع أو ضد) بل ينبغي  الاقتناع بتشريح كل رحلة على حدة واستقصاء الجانب الأنتروبولوجي، أو الإيتنوغرافي، فيها، هذا إن تحققت فيها الشروط أصلا، وإلا فإن تصنيفها ضمن أدب الرحلات أو كتب الجغرافيا أو التاريخ العام، أو تحت أي مسمى علمي آخر.. لا يضيرها، بل يظل فضلها محفوظا.

المبحث الثاني) نماذج تطبيقية: ابن فضلان وابن بطوطة.

المطلب الأول: نصيب الإناسة من رسالة ابن فضلان.

أعاد العرب حاليا اكتشاف رسالة ابن فضلان عن طريق الغرب، وإن كان ياقوت الحموي قد نسخ ثلثيها في معجمه، وابتداء حديثنا في هذا المطلب بهذا القول دليل على قيمتها الكبرى، لندرة معلوماتها وانفرادها بها أحيانا، حتى لئن عددا كبيرا من الباحثين الغربيين جعلها موضوعا لبحث أنجزه أو دراسة قام بها[65]

لكن هل هذا الثراء المعرفي كاف لأن يدخل بها حقل الدراسات الأنتروبولوجية؟

لم نستعجل الجواب، وحملنا العدسة المكبرة للقيام بمتابعة مجهرية لما حملته الرحلة في تقريرها. وكانت نتيجة هذا الفحص أن الرحلة لا تشذ عن التصنيف الذي قدمناه في مبحثنا السابق. فهذه الرسالة، رغم أنها كانت أكثر غنى بالمعلومات الإتنوغرافية، إلا أنها لم ترق مع ذلك إلى مستوى البحث الأنتروبولوجي في اعتقادنا، وذلك للأسباب التالية:

أولا) إن هدف الرحلة، كما هو مثبت في مطلعها[66]، كان الاستجابة لطلب ملك الصقالبة ليرسل إليه الخليفة العباسي المقتدر من يفقهه في الدين ويبني له مسجدا ويقيم محرابا.. فهي أقرب إلى سفارة مثاقفة منها إلى الرحلة في طلب العلم، بله إنجاز بحث علمي يراد له أن يكون إناسيا.

ثانيا) تألف الوفد الرسمي الذي أوفده الخليفة المقتدر من أربعة أشخاص هم:

سوسن الرّسي: مولى نذير الخرمي الذي ينتهي نسبه إلى بلاد الروس، وقد استجلب كرقيق ثم أسلم وتعلم العربية (فهو يتقن لغته الأصلية/الروسية)؛

تكين التركي: كان حدادا في خوارزم، يتقن التركية، بحكم النسب إلى مشارف نهر الفولغا؛

بارس الصقلابي[67]: حيث تدل نسبته على أصله من شمال أوربا (بلاد البلغار)، فلغة بارس إذن من لغة قومه؛

أحمد بن فضلان: تخبرنا الرحلة بأنه كان يجهل اللغات الأجنبية، لكنه ضليع في العربية والشريعة الإسلامية.

فابن فضلان، كما هو واضح، لم يحقق شرط تعلم لغة القوم/موضوع رسالته/تقريره، بله إتقانها. وهذا خلل كبير في تقرير كنا نطمح له أن يكون أنتروبولوجيا.

ثالثا) خرج الوفد من بغداد يوم الخميس 11 صفر 309 هـ / 21 حزيران 921م، ووصل عند ملك الصقالبة يوم الأحد 12 محرم 310هـ / 11 أيار 922م، لتستغرق الرحلة ذهابا أحد عشر شهرا… ورغم أنه ليست هناك إشارات عن طريقة العودة إلى بغداد، فلا نظن الرجل قد مكث عند ملك الصقالبة أكثر من بضعة أشهر، لأن وصف خط رحلته يشير إلى أنه واصلها باتجاه أرض الروس، ثم بلاد الخزر، كما أنه يشير عند كل مناسبة (سواء في بلاد الصقالبة أو الروس أو الخزر) إلى اعتماده الكبير على المترجمين، ولو كان قد لبث في القوم مدة طويلة ربما كان تعلم لغتهم؛ بل نحن نميل إلى ما مالت إليه الإشارة الواردة في كتابه[68]، والتي تذكر سنة 310 عند وصف بلاد الخزر، لنستنتج بأن رحلة ابن فضلان كلها لم تتجاوز ثلاث سنوات، منها حوالي سنة للذهاب ومثلها للإياب؟؟؟ فتبقى سنة فقط لتقسيمها على كل المناطق التي أقام فيها ابن فضلان؛ تفاوتت فيها مدة الإقامة بين يوم وثلاثة أيام، وفي معظم الأحوال أياما لا تصل الشهر…[69]، وهذا في اعتقادنا لا يمكن أن يسمح لملاحظاته أن تتطور إلى مستوى الملاحظة الأنتروبولوجية، لهذا وحتى عندما أقام في الجرجانية (على مشارف بحر آرال) مدة ناهزت ثلاثة أشهر[70] فإن أهم ما وصفه في هذه الأشهر الثلاثة كان شدة البرد وقساوة ظروف الإقامة.

رابعا) حشدت الرحلة بمحطات كثيرة فيها من الوهم والغلط والكذب.. شيء كثير، وقد انتبه لذلك ابن حوقل، منذ القرن السابع، عندما نقل عنها قرابة ثلثيها، في معجمه، فقال عن ابن فضلان: “هذا وأمثاله هو الذي قدمت البراءة منه، ولم أضمن صحته”، وقال أيضا: “وهذا كذب منه، فإن أكثر ما يجمد خمسة أشبار…” وقال كذلك: “قلت: وهذا أيضا كذب لأن العجلة أكثر ما تجر على ما اختبرته…”[71]

وليس غريبا أن يخرج ابن حوقل، وهو من هو في تحري الدقة والضبط، بما خرج به من انطباع عن ابن فضلان، فنحن نطالع في الرسالة ما يؤكد ميل الرحالة العربي إلى نقل الغث والسمين في رسالته، بل لا يبعد عن الإسهاب في الحديث عن وهم توهمه، وزعم بأنه رآه عيانا: من احمرار الشفق وظهور دواب، في الجو، عليها رجال يقتتلون.. فكان أن فسر له الصقالبة ذلك بأن الجن (المؤمنين والكفار) يجتمعون كل ليلة للاقتتال؟؟؟[72] ومثل ذلك حديثه عن الحية التي رآها، والتي يقارب طولها مائة ذراع أو يزيد، وغلظها مثل جذع الشجرة العظيمة؟؟؟ وجمجمة الإنسان التي تتجاوز في عظمها القفير الضخم، وأضلاعه التي تكبر عراجين النخل[73]… فهل يكون ابن فضلان قد رأى كل ذلك حقا؟؟؟

دون أن يعني كل هذا بأننا نقلل من قيمة الرسالة وفائدتها وأهميتها، بل فقط لنقول بأن صاحب الرحلة لم يتحقق من بعض أخباره فذكرها من باب الحقيقة بينما هي أقرب إلى الأوهام والأساطير، فلم ينبه بعد أن لم ينتبه.

خامسا) ينظر ابن فضلان إلى “الآخر” نظرة تعال واحتقار، لا نظرة اختلاف، وهذا عيب كبير في رسالة كنا نطمح لها أن تكون إناسية؛ فهو يقول عن سكان الجرجانية بأنهم أوحش الناس كلاما وطبعا[74]، وعن سكان الكردلية بأن كلامهم أشبه بنقيق الضفادع[75]؛ وعن الأتراك الغزية بأنهم كالحمير الضالة[76]؛ ويقول عن الباشغرد بأنهم شر الأتراك وأقذرهم[77]؛ ويصف الروس بأنهم أقذر خلق الله.. بل هم كالحمير[78]

سادسا) لا نكاد نمسك بالخيط الناظم للمشروع الأنتروبولوجي في رسالة ابن فضلان حتى يضيع منا ثانية، في عدة مناسبات، فقد بدأ – مثلا – في وصف الأتراك الباشغرد[79]: ملابسهم وتعدد آلهتهم وعبادتهم.. لكنه سرعان ما انتقل للحديث عن الأنهار التي عبرها، حتى إن المعلومات التي وفرها عن هذه الأنهار أضعاف ما خصصه للآلهة والأساطير، ففي صفحة واحدة (الصفحة 107) يتحدث عن عبوره ثمانية أنهار، وفي فقرة واحدة (هي كل الصفحة 110) يذكر أنه عبر سبعة أنهار…

وفي وصف بلاد الصقالبة يكثر من الحديث عن طريقة الاستقبال والجلوس وقراءة الرسالة السلطانية ونثر الدنانير والدراهم وتوضيح مسائل شرعية الخ.. دون أن يتحدث عن العادات والتقاليد والأساطير وبنية التفكير لدى الصقالبة..[80] ثم يكرس نفس المبدأ عندما يقضي صفحات طويلة، بعد ذلك،[81] يتحدث فيها عن طول النهار وقصر الليل ووصف القمر والكواكب ليلا، حيث يبدو أنه وصل إلى بلاد الصقالبة صيفا فأدهشه ما رأى…

لكن في خضم هذه المعطيات نجد إشارات إيتنوغرافية هامة، سجلها ابن فضلان، بل وانفرد ببعضها دون غيره كما تشهد بذلك الدراسات التي تناولت رسالته، منها وصفه لطقوس الموت والدفن، لدى الصقالبة[82]، وبعض عاداتهم في الأكل، وطريقتهم في القصاص من القاتل والزاني، وتطيرهم من البيت الذي تصيبه الصاعقة[83]، وكيفية غسل الموتى، على عادة المسلمين، وبكاء الرجال، دون النساء، على الميت[84]؛

يفرد ابن فضلان أيضا إشارات تصف الروس بكثرة الوسخ والقذارة[85]، وأخرى تتحدث عن تقديمهم للقرابين لاسترضاء الآلهة بغرض تيسير التجارة[86]؛ لكن من بين هذه الإشارات جميعا، يبرز الفصل الذي أبدع فيه بامتياز، عندما وصف كيفية إحراق الروس لموتاهم[87]، حيث يمكن اعتبار هذا الوصف أكمل جزء إتنوغرافي في الرحلة كلها…

والحصيلة أننا دخلنا مختبر البحث التاريخي وقد وضعنا لهذه الورقة فرضية تتأس على استقصاء الدرس الأنتروبولوجي عند كل من ابن فضلان وابن بطوطة، ولما كان “البحث” –  بمضمونه الإبستيمولوجي الرحب –  يقوم على شرط الموضوعية، توجب علينا بالاستتباع أن نظل أوفياء لهذا  الشرط مهما كانت النتائج.

إن استقصاء الدرس الأنتروبولوجي في “تقرير” ابن فضلان، انتهى بنا إلى أن هذا الرحالة ظل أبعد من أن يستوفي كل الشروط، رغم أننا أخذنا عامل اللا تزامن Anachronique بعين الاعتبار، من خلال تفهم شروط نضوج العلوم في إطارها التاريخي الصحيح، أي ألا نسقط على أي علم منهجنا المعاصر في التفكير فقط، بل علينا أن نراعي الاعتبارات الموضوعية له/العلم، في الزمن الذي نبحث فيه. ورغم ذلك فابن فضلان، فيما نعتقد، حقق بعض شروط الباحث الإتنوغرافي، ولم ينضج عمله، أو بعض منه، ليرتقي إلى مستوى الإشارات الإناسية. فهو، أي ابن فضلان، زار المنطقة بسرعة، ولم يتعلم لغة القوم كما يفترض في البحث الميداني الأنتروبولوجي الحق، ونظر إلى “موضوع” تقريره، والموضوع هنا بمعنى Objet، وهو الشعب المتناول بالدراسة نظرة تعال واحتقار، تماما كما كانت تنظر بعض التقارير الإناسية الاستعمارية لمواضيع دراستها، من الشعوب البدائية، بالمعنى القدحي للكلمة.

إن هذه الشروط، وغيرها: كالسطحية في التحليل وعدم اعتماد منهج المقارنة والسقوط في أحكام القيمة التي تنأى عن الموضوعية، واعتماد أخبار كاذبة أو مغلوطة… تسقط عن ابن فضلان أن يكون أناسا حقيقيا سابقا لعصره، فهل حقق صاحبنا الثاني/ابن بطوطة ما عجز ابن فضلان عن تحقيقه؟ أو بمعنى آخر: إلى أي حد تحقق الدرس الأنتروبولوجي في “تحفة النظار”؟ دون أن يغيب عنا بأن بين ابن فضلان، أو على الأصح أدب الرحلات في بداية القرن الرابع الهجري الذي عاش فيه، وما يمكن أن يكون عليه الأمر في القرن الثامن الهجري، وهو عصر ابن بطوطة، مسافة زمنية كبيرة تسمح باقتراح تساؤل حول تراكم التجربة في كتابة الرحلات؟

المطلب الثاني: …وماذا عن ابن بطوطة؟

لنجدد الصلة بالمنهج الأنتروبولوجي، عبر التذكير بخطواته العريضة، حتى تظل طرية في الذاكرة ونحن نفصل مقاسها على ما كتبه ابن بطوطة:

أولا) البحث الميداني أو التحقيق يجب أن ينصب على مجتمع صغير مغلق، أو شبه مغلق، بحيث يستطيع الأناس مراقبته بنفسه، وليس عبر وسيط.

ثانيا) العيش مع السكان المحليين/موضوع الدراسة، فترة من الزمن كافية للاندماج معهم بحيث لا يعودون يتصنعون في معيشهم اليومي أمام الملاحظ، وبحيث تكتمل لديه الملاحظة بشأن سلوكياتهم ومؤسساتهم.

ثالثا) تعلم لغتهم للتواصل المباشر معهم دون وسيط.

رابعا) الاهتمام بالحفريات والأثريات والإتنوغرافيا كمستوى أول للبحث الأنتروبولوجي.

خامسا) الموضوعية والحياد عند الكتابة.

سادسا) احترام الآخر، والابتعاد عن نظرة التعالي والاحتقار؛ بل اعتباره فقط مختلفا عن الذات، وبالتالي اعتماد أسلوب المقارنة بينهما: “الأنا” و”الآخر”.

هذه الخطوات لم تتحقق، كلها ولا جلها، في مونتيسكيو ولا في وروسو، ورغم ذلك اعتبر برتشارد الأول رائد الإناسة، واعتبر ستراوس الثاني فاتحها الأول.

فهل تحققت هذه الشروط، أو بعضها على الأقل، في ابن بطوطة، بعد أن لم تتحقق في ابن فضلان؟

وجب أن نقر أولا، وقبل بداية تلمس جواب لسؤالنا، بأننا لم نقدم أبدا “تحفة النظار” باعتبارها بحثا متكاملا في الإناسة، فذلك أبعد ما يكون عن إشكاليتنا التي نشتغل عليها؛ هذه مقدمة ضرورية هنا، حتى لا يزعمن أحد بأننا صادرنا منهجنا الذي التزمنا به منذ البداية؛ فالرحلة كما يمكن أن يلاحظ أي متصفح لها، لا تختلف في كثير من فصولها عن بقية كتب الرحلات: المرور بأماكن معينة ووصفها.. وهذا الجانب، رغم أهميته وفائدته في تقديم معلومات تاريخية وجغرافية وأدبية أو حتى إيتنوغرافية.. إلا أنه لا يسمو، في اعتقادنا، إلى مستوى العمل الإناسي الناضج…

فما الجديد الذي جعلنا ندخل بها/الرحلة إلى مختبر البحث هنا؟ بعبارة أخرى أين تلتقي الرحلة مع الدرس الأنتروبولوجي؟

إذا كان درس الأنتروبولوجيا لم يتحقق كاملا وناضجا في كل الرحلة، فإننا نزعم أن بعض فصولها كان وثيق الصلة بهذا الدرس، كما سنرى من خلال عدة نماذج؛

فالقسم المتعلق بوصف الهند حقق كثيرا من الشروط الأنتربولوجية، كالإقامة بين السكان الأصليين وتعلم لغتهم وعاداتهم وغيرها… حيث قام الرحالة المغربي بتسجيل دقيق لكل ما شاهده حتى إنه خصص نصف الجزء الثالث من الرحلة لتفصيل الحديث عن هذا المجتمع، ولا غرابة في ذلك إذا علمنا بأن ابن بطوطة دخل الهند، كما ذكر هو نفسه في محرم سنة 734 هـ،[88]؛ وخرج منها في صفر سنة 743هـ[89]، فيكون قد أقام فيها أكثر من تسع سنوات؛ فهل يعقل ألا يتعلم لغة القوم طوال هذه المدة؛ وألا يعرف عن عاداتهم وطقوسهم ومؤسساتهم شيئا كثيرا؟ علما بأنه اشتغل هناك بالقضاء، ومهام السفارة، ونديما في البلاط، فتعلم لغة القوم، فضلا عن الفارسية التي كانت شائعة بعدد من مناطق الهند آنذاك، والتي كان الرحالة المغربي قد أتقنها، مع التركية، قبل وصوله الهند بزمن؛ وقد ذكر حوارا منها بنصه الفارسي الأصلي، وذكر ترجمته العربية، عندما عرض لقصة إحراق المرأة الهندية التي توفي عنها زوجها.[90]

هذا فضلا عن إحاطته بشرط أنتروبولوجي آخر هو الجانب الأثري للعاصمة دهلي: بأقسامها العمرانية، وأسوارها وأبوابها ومقابرها ومزاراتها وأحواضها ومسجدها الجامع… فاطلع على النقوش والكتابات المهمة عليها؛ ووصفها وصفا دقيقا أفرد له عدة صفحات من كتابه[91]، كما تتبع طائفة الجوكية، شبه المغلقة، وعلاقاتها بالاستشفاء والأساطير والسحر وأكل اللحم البشري واعتقادهم في سر الشباب الدائم الخ، مما يدل على بنية تفكيرهم ومعتقدهم، فتتبع ذلك في عدة محطات[92]

فهذه كلها اعتبارات يمكن أن تحسب لصالح أنتروبولوجية الرحلة، لكننا لم نعتبرها كذلك، حتى نظل أوفياء لمنهجنا المعلن، لأن الأمر تعلق بمجتمع كبير مفتوح “مملكة” واسعة وحضارة عريقة قائمة، وليست مجتمعا بدائيا، أو مغلقا، بأي حال من الأحوال، حتى إن ابن بطوطة قال عن عاصمتهم دهلي بأنها أعظم حواضر الإسلام في الشرق كله، وعد ملكها من الملوك العظام في المعمور… فالأقرب إلى إبستيمولوجيا العلوم أن يدخل ما كتبه الرحالة المغربي، بخصوصها، ضمن كتب التاريخ والحضارة، وليس الإناسة.

النموذج الثاني الذي نريد أن نتحدث عنه في رحلة ابن بطوطة هو مجتمع بلاد البرهنكار[93]؛

فهنا مجتمع مغلق، شديد البدائية بجميع ما تحمل الكلمة من دلالات، يسكنون في بيوت من القصب مسقفة بحشيش الأرض على الشاطئ.. رجالهم مثلنا، يقول ابن بطوطة، إلا أن أفواههم كأفواه الكلاب، ونساؤهم آية في الجمال.. لا يلبسون شيئا، (وما يهدى إليهم من ثياب يلبسونه الفيلة التي يركبونها) إلا أن الواحد منهم يجعل ذكره وأنثييه في جعبة من القصب منقوشة معلقة من بطنه.. يتناكحون كالبهائم ولا يستترون من ذلك: الرجل مع ثلاثين امرأة أو أقل أو أكثر… ولا يسمحون للغرباء بالدخول إلى بلادهم، بل يتاجرون معهم في الساحل، خوفا على نسائهم لأنهن يطمحن إلى الرجال الحسان… عقوبة الزنا عندهم شديدة، وقد شهد ابن بطوطة تطبيقها أثناء إقامته بالمرسى، حيث ضُبط غلام صاحب المركب مع إحدى نسائهم، فأمر ملكهم بصلبه، بعد أن قطعت أنثياه، وحكم على الزانية بأن جامعها الناس حتى ماتت.. ثم اعتذر ملكهم من صاحب المركب وأهداه غلاما آخر بدل المصلوب[94]

نلاحظ دون عناء كبير بأن هذا المجتمع يشكل مادة أنتروبولوجية خصبة بامتياز، لولا أن ابن بطوطة لم يطل الإقامة فيه، إذ لم يبرح المرسى طيلة مدة إقامته التي لم تتجاوز أياما، فلا هو خبر لغة القوم ولا هو اقترب منهم بما يكفي لتسجيل ملاحظات جديرة بأن تدرج ضمن الدرس الأنتروبولوجي.. ورغم ذلك فهذه المادة الوثائقية التي حفظتها رحلته غنية بالإشارات الإيتنوغرافية.

على نفس المنوال إذن يمكن التعامل مع فصول عديدة من رحلة ابن بطوطة[95]، حيث إنها إجمالا إما تدخل ضمن نموذج المجتمع الهندي (حيث توفرت بعض شروط الإناسة فيها، لكنها افتقرت لبعضها الآخر) وإما تدخل ضمن نموذج بلاد البرهنكار (حيث توفرت على النصف الثاني من الشروط لكنها افتقرت للنصف الأول)؛ فما الذي يتبقى من الرحلة إذن ليكون جديرا بالمتابعة الأنتروبولوجية؟

يأتينا الجواب مضمرا، لا يكاد يبين، بين فصول الرحلة، في الطريق بين مجتمعي الهند ومجتمع البرهنكار، حيث مجتمع صغير شبه مغلق هو مجتمع ذيبة المهل.

لكن قبل أن نبدأ في بسط الحديث عما سجله الرحالة المغربي بخصوص هذا المجتمع، نرى أنه من الأنسب البحث أولا في مدى موضوعية ابن بطوطة ومصداقية ما كتبه…

يبدو الرجل، من خلال رحلته، صادقا مع نفسه، صادقا مع الآخرين، يذكر ما يراه دون مواربة أو مداراة حتى إنه عندما تعجبه ابنة هذا الوزير يذكر ذلك، وعندما يكره بنت ذاك يذكر ذلك أيضا.. يصف جواريه وأحسنهن لذة في الجماع، دون أن يخدش الحياء، ويذكر كيف انبطح أرضا عند استسلامه لقطاع الطرق دون ادعاء فروسية أو بطولة…

عندما دخل على السلطان غياث الدين، بالهند، وكان من عادة السكان ألا يدخلوا عليه دون خف، ولم يكن مع الرحالة المغربي ذلك، أعطاه بعض الكفار خفا، فعلق ابن بطوطة على الواقعة بقوله: “وكان هنالك من المسلمين جماعة فعجبت من كون الكافر كان أتم مروءة منهم”[96].

ورغم أن هذا السلطان قد أكرمه وأحسن وفادته إلا أنه لم يتورع عن شهادة الحق، عندما رآه يقتل الكفار ويذبح نساءهم وأطفالهم… فقال: “وذلك أمر شنيع ما علمته لأحد من الملوك وبسببه عجل الله حَيْنه”[97].

وقال في موقف آخر عنه: أهديت لهذا الملك (غياث الدين) جارية فأراد أن يعطيني قيمتها “فأبيت، ثم ندمت لأنه مات فلم آخذ شيئا”…[98]

لهذا، وعندما عقد العلامة الروسي كراتشوفسكي، مقارنة بين ابن بطوطة وماركوبولو لم يجد بدا من الاعتراف بأفضلية الرحالة المسلم بسبب نزاهته ودقة ملاحظاته، فابن بطوطة، يقول كراتشوفسكي، كان له إحساس فطري ذاتي بظروف حضارة العالم الذي يصفه أكثر مما كان لدى رحالة البندقية، وإن وصف الرحالة المسلم لخط سير رحلته كان أدعى إلى الثقة مما عليه الحال مع معاصره المسيحي، فضلا عن أن محرر رحلة ماركوبولو قد أضاف إليها الكثير من مخيلته[99]؛

ولهذا، أيضا، أطلق عليه المستشرق الهولندي راينهارت دوزي لقب “الرحالة الأمين”.

فنحن إذن أبعد ما نكون عن رحالة غُفل فيما كتبه، أو مستغفِل لمن سيقرؤه، لأنه يحترم نفسه ويحترم الآخرين. من هنا فإننا نرى ما كتبه عن جزر ذيبة المهل، التي ننوي تفصيل الكلام عنها، على جانب كبير من الدقة والنزاهة والموضوعية. فهذا شرط في الأنّاس قد تحقق.

تحدث ابن بطوطة عن جزر ذيبة المهل (المالديف) في صفحات كثيرة من كتابه[100]، وقضى فيها، كما ذكر هو بنفسه، أكثر من سنة ونصف[101]، وخرج منها ثم عاد إليها في زيارة ثانية منتصف ربيع الثاني سنة 746هـ/غشت 1345م[102]… لكنه لم يذكر، بعد عودته الثانية، بشأن العادات أو الأعراف أو المؤسسات… شيئا يذكر، مما يجعلنا نستنتج بأنه سجل أهم ما يمكن تسجيله بخصوص ذلك خلال مدة إقامته الأولى.

واضح خلال مدة هذه الإقامة، الأولى الطويلة، أنه تعلم لغة القوم الذين نزل بينهم، فهو لا يتحدث معهم عبر مترجم، بل يكلمهم مباشرة، فيفهمهم ويفهمونه، رغم أنه يقر بأنه لما نزل بجزرهم أول الأمر لم يكن يعرف ذلك[103]. وإذا كنا نذكر هذا، ونشدد عليه هنا، فإننا لا نذكره اعتباطا، بل لأنه من أدوات الأنتروبولوجي وعدته التي يبني بها تقريره الميداني.

هذا التقرير، الذي بين أيدينا، بدأ بتقديم على طريقة المبحثات/المونغرافيات، تحدث فيه الرحالة المغربي عن أصل التسمية وعدد الجزر وشكلها وكيفية الوصول إليها ودخولها وعدد أقاليمها[104]

إنها جزر نائية معزولة وسط المحيط الهندي، وللوصول إليها كان على ابن بطوطة أن يسافر بحرا من ميناء قاليقوط مدة عشرة أيام، ولو أخطأ المركب سمتها لم يتمكن من دخولها[105] (هنا يتحقق شرط مهم في التقرير الأنتروبولوجي: المجتمع المنعزل، شبه المغلق)؛ بعد ذلك ذكر بأن هذه الجزر لا زرع فيها (عدا واحدة)؛ إنما يعيش السكان على الأسماك وشجر النارجيل (جوز الهند) ووصف بتفصيل طريقة الطبخ وإعداد الطعام وشدد على أن السمك عندهم يقوي الباءة إلى درجة كبيرة، وقد جرب ذلك بنفسه…[106]

ثم بدأ في تقديم عرض مفصل ودقيق لما ستطلق عليه الأنتروبولوجيا لاحقا مفهوم “الثقافة”[107]؛ فسكان الجزيرة هزيلو البنية لا يعرفون السلاح، وبالتالي الحرب/مجتمع مسالم، وإيمانهم بالله قوي جدا، صادقون في معاملاتهم، بسطاء في تفكيرهم وعيشهم.. يسود الاعتقاد لدى الجميع بأنهم مستجابو الدعوة، حتى إن أعداءهم لا يغيرون عليهم ولا يأخذون من مالهم شيئا، مخافة أن يلحقهم شيء من هذه الدعوة (لا يهم البحث الأنتروبولوجي صحة هذا الاعتقاد من بطلانه، بقدر ما يهم أن الناس قد آمنت به فعلا)…

منازلهم بسيطة من الخشب، وهم يحبون النظافة والطيب وجميعهم يسيرون حفاة، ولا يرتدون إلا فوطا يشدونها عند وسطهم بدل السراويل، ومن عاداتهم عند الزواج أو السلام على القاضي أو الملك وضع أثواب من القطن يفرشونها أمامه.[108]

لا يمانعون أن تتزوج المرأة منهم بالغريب، لكنهم يمنعون خروجها من البلد، فإذا أراد زوجها مغادرة جزرهم كان عليه أن يطلقها، وإذا أقام بينهم دون زواج فالمرأة التي يقيم عندها تتكفل بخدمته وترضى منه بالقليل من الإحسان[109].. (وسيؤكد لاحقا، عندما تزوج بربيبة السلطانة، أنها كانت من خيار النساء، “وبلغ حسن معاشرتها أنها كانت إذا تزوجتُ عليها – يقول – تطيبني وتبخر أثوابي وهي ضاحكة لا يظهر عليها تغير”[110])، أما مبادلاتهم التجارية فتتم بالمقايضة أو بالودع، ولهم حساب غريب في ذلك وصفه الرحالة المغربي بتفصيل[111].

لا تغطي النساء شعورهن، بما في ذلك السلطانة، (وكان قد لاحظ، في معرض وصفه لرجال الجزيرة، بأنهم يضعون على رؤوسهم عمائم أو قطع قماش[112])، ويمشطنها ولا يضعن على أجسادهن إلا فوطا تستر النصف الأسفل، ويمشين كذلك في الأسواق وغيرها[113]، ولم يفلح ابن بطوطة لاحقا، وهو قاض، أن يزيل هذه العادة رغم بذله المجهود في ذلك.

يمكن استئجار النساء للخدمة في بيوت الأغنياء، ويغرمن ما يكسرنه من أواني. وزواج المتعة عندهم منتشر جدا، ولا تمل المرأة من خدمة زوجها ولا تأكل أمامه، ولا هو يعرف ما تأكل، لكنهن لا يخرجن من بلادهن أبدا[114].

قصة إسلام أهل هذه الجزر مرتبطة بالأساطير والجن والعفاريت، يعتمد في روايتها على أخبار ذكرت له، لكنه يعتمد أيضا على ما قرأ من نقوش مكتوبة على مقصورة جامعها[115]، وقد عودنا ابن بطوطة على اعتماده على النقوش والأثريات في ذكر أخباره، إلى درجة أن محقق رحلته قد أفرد لذلك فصلا من جزئها الأول. (وهذا شرط أنتروبولوجي، آخر، يحسب لصالحه أيضا)[116].

هذه الجزر تحكمها امرأة (هي خديجة بنت السلطان جلال الدين عمر) يطيل في وصف كيفية انتقال الملك إليها[117]، وباسمها يتم الدعاء على المنابر، ولها جند من الغرباء (حوالي ألف) أجورهم من الأرز عند مطلع كل شهر، ولها وزراء وقاض وخطيب[118]

من عاداتهم الاحتفال بعيد الفطر[119]، وهو يختلف في بعض تفاصيله عن طرق الاحتفال في المغرب، ويحتفون بالضيف على طريقتهم، رغم حقارتها، بأن يعلقوا أربع دجاجات وعشرة من جوز النارجيل على أعواد ويضعونها على أكتافهم[120]. أما احتفالهم في مجلس السلطان فكبير، وينتهي بإضرام النار فيدخلونها ويطأونها بأقدامهم ومنهم من يأكلها كما تؤكل الحلوى[121]

يقول برتشارد، في الإناسة المجتمعية،[122] بأن مهمة الأنتروبولوجي تكمن في إيجاد الروابط بين المؤسسات المجتمعية واستيعابها، بعد تفسيرها؛ وقد انتبه الرحالة المغربي إلى ترابط مؤسسات المجتمع الذي أقام فيه، على بساطتها، ففهم بأنه وسط مجتمع بسيط مسالم، إذا لقي الواحد منهم صاحبه قال: الله ربي ومحمد نبيي وأنا أمي مسكين؛ أبدانهم ضعيفة ولا عهد لهم بالقتال أو المحاربة، وسلاحهم الدعاء[123]؛ مسلمون لكن تنتشر بينهم عادات كثيرة مخالفة للشرع: كإقامة المطلقة في بيت طليقها، والتراخي عن إقامة الصلاة، والتقصير في إقامة الحدود… وقد اجتهد ابن بطوطة في محاربتها، بعد أن ولي القضاء، ونجح في ذلك.. لكنه فشل في ستر النساء[124]… أما قصته مع إقامة الحد على السارق فطريفة وتؤكد مدى مسالمة هذا المجتمع، يقول: “أمرت مرة بقطع يد سارق بها فغشي على جماعة منهم كانوا بالمجلس”[125].

فهم الرحالة أيضا الأدوار التي تلعبها المصاهرة كأداة لترسيخ النفوذ ضمن سكان ذيبة المهل، فوصفها وأجاد في ذلك، بل واستخدمها أيضا.. يقول، بعد أن صاهر أربعة من أعيان القوم وكبرائهم[126]: “فلما صاهرت من ذكرته هابني الوزير وأهل الجزيرة”، فيكون قد فهم آليات الحراك الاجتماعي داخل هذا المجتمع، وارتباطها بالمؤسسات الدينية، نموذج القضاء، فارتقى اجتماعيا بسرعة، فانفتحت أمامه أبواب المجتمع على مصراعيها، يلاحظ، ثم يسجل منها، ما يشاء.

جدير بالذكر أن الرحالة المغربي وهو يسجل كل هذه الملاحظات والمعلومات لم يتوقف عن عقد المقارنة كلما رأى ذلك ضروريا؛ فقارن بين طريقتهم في “التبراح” ومثيلتها في المغرب[127]، وكذا طريقة إعداد السردين وتناوله، هنا وهناك[128]، كما قارن – بعد أن تولى القضاء – بين تفاوت طبائع السكان، فقال: “ليست هنالك خصومات كما ببلادنا”[129]، وواقع الحال أن ابن بطوطة لا يكف عن المقارنة، بين بلاده ومختلف البلاد التي زارها، في كثير من المناسبات، فقارن إنتاج الأرز وبعض المحاصيل الفلاحية وأسعارها والأوزان… بتفصيل كبير، بين بلاد بنغالة والمغرب[130] وقارن بين أسماء بعض التوابل والأفاويه بين بلاد الجاوة (سومطرة) والمغرب…[131] وقارن بين بلاد الملبار، والسودان، والمغرب[132]؛ وكان قبل ذلك قد قارن ببين أمور الصرف والعملة في المغرب عندما كان في مصر والبصرة وتركيا والهند… وبين الرطل المغربي والمن في الجهات الأخرى، وبين دور السكة المغربية والصينية، وأسعار الخيول هناك والمغرب، وشكل البناء بين الصين وسجلماسة المغربية… ونهر سلا ونهر إسطنبول، والخزف المغربي والخزف في عدد من المنطق التي زارها…

فإذا عرضنا كل هذا على تنظير إيفنز برتشارد[133] الذي قال بأن منهج الأنتروبولوجي يجب أن يقوم على المقارنة التي يعقدها الأناس بين المجتمع الذي يقوم بدراسته، ومجتمعه الأصلي؛ أفلا يحق لنا عندها السؤال: ألسنا هنا في قلب الدرس الأنتروبولوجي وبؤرته؟

إن من يأخذ العدسة المكبرة ليفحص”التحفة” عن قرب ليس باعتبارها كتاب رحلة فقط، سيلاحظ أنها جمعت فعلا بين التصورين: الماكروسكوبي المتسم بالنظرة الشمولية لما تم عرضه من وقائع، والميكروسكوبي المتسم بالمعالجة الدقيقة للقضايا…

والقارئ (الأنتروبولوجي) عليه، وهو يتابع بنية التفكير لدى ابن بطوطة، ألا يغيّب عن ذهنه أبدا سمة المقارناتية، ويتوخى الحذر الشديد من الوقوع في شرك تسطيح هذا العمل الكبير.

إن المقارنة بين المغرب وبين ذيبة المهل؛ وبين المغرب وبين مل جاوة؛ وبين المغرب وبين بلاد الترك أو الصين أو الهند أو السودان الخ، لم تكن بريئة أو ساذجة أبدا، إنها تقيم الدليل القوي على النموذج الإنساني الذي يتم بسطه بين ناظرينا، للكشف عما هو إبستيمولوجي في معارف الإنسان، حتى لو كانت معتقدات أو أساطير أو شعوذة… لإقناع القارئ بجدية هذه المؤسسات في حياة ذلك الإنسان، في وسطه الحي، قبل أن تتم إعادة الحياة إليها من خلال مؤلف يعي ما يقول، ويخترق زمانه ومكانه في المعرفة التي يطرحها…

إن الأنتروبولوجي الحق، يضيف ستراوس،[134] هو ذاك الذي يغادر موطنه ويغترب بعيدا عنه لا لشيء إلا للسبب الأنتروبولوجي، حيث الاقتراب من الآخر والعيش معه وملاحظته عن قرب… ونحن نتساءل ماذا كان يفعل ابن بطوطة غير ذلك؟ أليس هو القائل، في تشبيه بليغ، في مطلع رحلته: “كان خروجي من طنجة مسقط رأسي… منفردا عن رفيق آنس بصحبته، وركب أكون في جملته… فجزمت أمري ولم أبن على السكون، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكون”[135]

أليس هو الذي رفض أن يرافق ركب الحجيج، رغم نية الحج لديه، بل اختار مركبا آخر؛ فنزل حيث شاء له النزول وارتحل حيث حنت نفسه للرحلة، حبا في المغامرة وإرضاء لغريزة الاستكشاف داخله، استكشاف مجتمعات أخرى مختلفة عن مجتمعه الأصلي الذي ترعرع فيه؟

لقد كان الأستاذ التازي (في معرض تعليقه على خروج ابن بطوطة بقصد الرحلة)، من الذين انتبهوا إلى أن الرجل لم يكن مهتما بتقديم معلومات عن المدن المغربية: طنجة وتازة وتلمسان وغيرها، وإنما أخذ في ذلك عندما ابتعد عن البلاد وشعر بالحاجة إلى تقديم الفائدة الجديدة[136]

أليس هنا إدراك دفين، وشعور مبطن، بأن الرحالة المغربي لا يريد أن يكتب عن “أناه” (أي مجتمعه الذي خرج منه) بل يريد تسجيل معلومات عن “الآخر” المختلف عنه، لما في ذلك من شعور بتقديم “الفائدة”؛ وما هي هذه الفائدة غير تلك التي يسطرها الأنتروبولوجي لنفسه، ولحقله المعرفي؟ ها هنا، نعتقد، لقاء حاسم مع الدرس الأنتروبولوجي في هدفه الأسمى، بل وحتى دون خلفيات استعمارية أو غايات براغماتية ضيقة، وكأني بابن بطوطة يريد أن يتعرف ثقافته من خلال ثقافة الآخرين، وهذه بالضبط مهمة الانتروبولوجي الكبرى.

إن تكريس مكانة ابن بطوطة الفذة، في الدرس الأنتروبولوجي، تكمن في أنه قد أرسى مبادئ اكتشاف بعض جوانب هذا الدرس، تماما كما تشترطها مناهجه وأدواته: اكتشاف الذات من خلال الآخر؛ عبر دراسة الإنسان في أماكن متفرقة من هذا العالم، تكون ميدانا تجريبيا لاختبار عدد من الفرضيات العامة التي تخص الإنسان.. وحيث لا يرى ممانعة في أن تكون “أناه” على خطأ.. إن تجربته مع روح وفلسفة الحياة نفسها تجعله نموذجا حقيقيا لعلاقة وطيدة بالأنتروبولوجيا…

إنه/ابن بطوطة، الواضع الأول لمبادئ هذا العلم – ونكون نغالط أنفسنا إذا كنا نطلب منه أن يكتب بنفس اللغة وأدوات التعبير المعتمدة في البحث الأنتروبولوجي المعاصر – في شكله الأول، لكن هذا لا يمنع من أنه حقق، ثم كرس، الفتح الكبير للعلاقة السوية بين الإنسان/الأنا والإنسان/الآخر، ثم بين الإنسان/عامة والطبيعة باعتبارهما امتدادا، وتكاملا، لبعضهما، وليسا نقيضين متعارضين، من حيث المبدأ والهدف، بحيث لا يعود مستحيلا معرفتهم عن قرب، بل يمكن فهمهم والعيش معهم والاندماج فيهم حد الذوبان.. وهو ما يتجلى في “تحفة النظار” وبالذات في قسمها الخاص بسكان ذيبة المهل؛ عبر الانكباب على تسليط بقعة من الضوء على العقل البشري، من خلال ملاحظة وتسجيل تمثله للأساطير والدين والتنضيد الاجتماعي… والتأكيد على نسبية الثقافة: “إنهم فقط ليسوا مثلنا.. لكن العيش بينهم ليس مستحيلا، بل مشتهى”..[137] هذه خلاصة الدرس الذي نستنتجه من تقريره الذي دمج فيه فنون الطهي بالآثار بالآداب بالأساطير… في موضوع واحد، دون ترفع أو استخفاف، بالبنية الحاضنة لكل هذا.. بحيث يمكن الإعلان بأن المشروع الإناسي عنده، حتى دون تسميته بهذا العنوان (أي الإناسة)، هو إثبات تداخل كل هذه المكونات في اليومي العنيد، الرتيب، الذي يحاصر الإنسان، بما هو كذلك، في بيئته ووسطه، كمشروع واع بهذا الوسط، وعارف به، حتى لو كانت فلسفته في هذا الوجود بسيطة (من زاوية نظرنا نحن) وهذا هو الدرس الفلسفي العميق الذي علينا استيعابه جميعا.

خاتمــــــــة

إن الجدال الذي يؤلف هذه الورقة لا يتعلق، في العمق، بمجرد خلاف مع مؤرخي العلوم حول حفريات الإناسة، بل مع نمط، من الفكر، عركته عقدة المعتقدات والمواقف والأحكام المسبقة وشكلت مساحة واسعة من جغرافيته؛ ونقصد به الفكر الغربي المتمركز حول الذات.

وحيث إن أطروحتَيْ ستراوس – برتشارد لا تبتعد عن هذه المشكلة: مشكلة الدور المحوري للمركز في إنتاج الحضارة، في حين لم تعمل الأطراف، طيلة تاريخها، شيئا غير الاستهلاك.

وحيث تسمح – الأطروحتان – بإنشاء النموذج المثالي الازدواجي للمجتمع الغربي الذي يتجلى جوهره الداخلي في العمل دائما باتجاه إنتاج المعرفة، بينما ترى في المجتمع الإسلامي راكدا إلى الأبد أو متراجعا منذ نشأته.

فإنه كان لزاما أن نبني هجوما مضادا يقوم على توضيح زيف هذا الطرح، بتبيان أن تأكيداته وخلاصاته حول نشأة الأنتروبولوجيا كانت خاطئة تجريبيا، وذلك من خلال تحليل دقيق للشروط التاريخية التي أفرزت هذا العلم.

لقد حاولنا إظهار أنه باستطاعة التحليل التاريخي الرصين أن يحطم كامل هذا المشروع الشوفيني، وإظهار أنه يمكن من حيث المبدأ تحويل معضلاته، شبه العلمية، إلى أهداف صالحة للعمل النظري، بعد تقويمها. وكنا نستند في هذا الطرح على نظرة إبستيمولوجية قائمة على أن العمل العلمي الجاد يقضي بالقطيعة مع المفاهيم الأيديولوجية وأحكام القيمة القبلية إذا كنا نبغي إقامة نظام جديد للمعرفة.

قطعا لا تهدف هذه التعليقات إلى التلميح بأن الأنتروبولوجية هي نموذج مخفف من الفكر الاستشراقي، في عمومياته، أو أن الفكر الاستشراقي هو الأنتروبولوجيا زائد كثرة الكلام، بل إن الهدف هو الإدراك بأن الأنتروبولوجيا، كشكل لإنشاء الخطاب التواصلي، تحتوي على تقليد نقدي للذات يمر بالضرورة عبر “الأنتروبولوجيا النقدية”.

يتطلب نقد أطروحة برتشارد/ستراوس، في أشكاله المتنوعة، شيئا أكثر من الرد على فكرة الريادة الدائمة للغرب، ذلك أن المتردد في هذا النوع من الكتابة أنها في أحسن حالاتها تصبح ستارا رقيقا لمواقف التفوق الأخلاقي أو العنصري، وتبريرا للاستعمار بالتالي. لذلك فإن ما نحتاجه هو شيء أكثر من مجرد الاعتراض على أن بعض الأنتروبولوجيين لم يكونوا موضوعيين أو حياديين في موقفهم من نشأة الإناسة. وتتطلب نهاية هذا الموقف هجوما أساسيا على الجذور النظرية والمعرفية لهذا النوع من الكتابة، وبالتالي الفكر. ونعتقد بأن الأدوات المعرفية الحديثة مجهزة تماما للقيام بعملية النسف هذه؛ إن نهاية المركزة الغربية حول الذات تتطلب إذن نهاية أشكال معينة من الفكر وخلق نوع جديد من التحليل.

مراجع:


[1] – حتى لو زعم هذا الحوار بعض النقد (انظر حواره مع ستراوس ومع غودلييه ضمن: الانتروبولوجيا الذاكرة والمعاش، الفصلان الثالث والرابع.) ورغم أن عيسى شماس خصص فصلا من كتابه مدخل إلى علم الأنترولوجيا (منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2004، ص. 20 وما بعدها) للحديث عن تاريخ الأنتروبولوجيا منذ عهد الفراعنة، إلا أن تحليله لم يتسم بالعمق المطلوب للتأسيس بقوة لهذا العنوان، بل إنه خلط بين كتب الرحلات والتاريخ والجغرافيا، دون أن يبين الفروق العميقة بين هذه الحقول المعرفية.

2- أما البيبليوغرافيا الأخرى التي سيجدها القارئ ضمن المتن، فستكون لتدعيم هذه القراءة المصدرية لا غير.

[3]– الأنتربولوجيا النبيوية… ج،1، ص.ص. 14-15.

[4]– الأنتربولوجيا البنيوية… ج.1، ص. 407.

[5]– نفسه، ص. نفسها.

[6]– نفسه، ص. 408.

[7]– نفسه، ص. 408.

[8] – نفسه، ص. 408.

[9]– نفسه، ص. 412.

[10]– نفسه، ص. 409.

[11] – نفسه، ص. 409.

[12] – نفسه، ص. 409.

[13] –  “ما هي، إذن، الانتروبولوجيا الاجتماعية؟

لم يكن أحد، على ما يبدو لي، أقرب إلى تعريفها – وإن كان ذلك بأسلوب غير مباشر – من فرديناند دوسوسور، عندما احتفظ، وهو يعرض علم اللغة على أنه جزء من علم يتطلب النشوء أيضا، لهذا العلم باسم العلامات، وعزا إليه موضوع دراسة هو حياة العلامات في قلب الحياة الاجتماعية…” إن الانتربولوجيا تحوي عددا من هذه العلامات ويضاف إليها كثير غيرها، كالطقوس، وقواعد الزواج، ومنظومات القرابة، والقوانين العرفية، وبعض أشكال المبادلات الاقتصادية… (انظر الأنتروبولوجيا البنيوية، ج. 2، ص. 18).

[14] – نفسه، ص. 409.

[15] – نفسه، ص. 411.

[16]– يقول ستراوس (الأنتروبولوجيا البنيوية، ج. 1، ص. 409): “لم يكن من قبيل الصدفة أن ظهر لفظ الانتربولوجيا ذاته في انجلترا” مع فرازر، ثم رادكليف براون “الذي أبرز المعنى العميق لهذا التعبير” (نفسه، ص. 410).

[17] – الانتربولوجيا البنيوية، ج.2، ص 10.

[18] – نفسه، ج. 2، ص.12.

[19] – نفسه، ص. 12.

[20] – نفسه، ص. 15.

[21]– خصص برتشارد قسما كبيرا من الفصل السادس من كتابه (الإناسة المجتمعية) لتفصيل العلاقة بين الإناسة والاستعمار، وكيفية توظيف هذا الحقل المعرفي لأغراض استعمارية صرف. (ص. 126 وما بعدها).

[22]– وجب التنبيه إلى أن تصنيف هذه المحطات اعتمد المنظور الغربي، الذي نحن بصدد إعادة النظر فيه.

[23] – لم يعد الأمر يتعلق بتقديم الأسترالي أو الأفريقي على أنهما مجرد حيوانات مسكينة، نصف متوحشة، عاجزة عن العد لأكثر من 5… تلك الصورة النمطية التي عرضها علينا الفولكلور الأنتروبولوجي لقرابة قرن من الزمن… انظر: Mircea Eliade, le sacré et le profane, edit. gallimard, 1965.p.11

[24] – ستراوس، الفكر البري، ترجمة نظير جاهل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط. 2، 1987، ص. 8 وما بعدها.

[25] – الانتربولوجيا البنيوية، ج.2، ص. 29 وما بعدها.

[26] – برتشارد، الإناسة المجتمعية، ص. 30.

[27] – فائض عن الحاجة القول بأسبقية ابن خلدون، وقبله إخوان الصفا، في القول بتأثير البيئة والمناخ على طبائع البشر. (انظر: رسائل إخوان الصفا، تحقيق عارف تامر، عويدات للنشر والطباعة، بيروت، 1995، الرسالة الرابعة من القسم الرياضي في الجغرافيا، وخاصة منها: فصل في خواص الأقاليم. وانظر أيضا ابن خلدون، المقدمة، م. 1 من العبر، دار الكتب العمية، بيروت، 1992، خاصة المقدمتين الثالثة والرابعة من الباب الأول).

[28] – برتشارد، الإناسة المجتمعية ، ص. 30.

[29] – عنوان كبير للفصل الثاني من الجزء الثاني من كتابه الشهير: الأنتربولوجيا البنيوية، ص. 53 وما بعدها. اعتمادا على: مقالة في أصل عدم المساواة، لروسو.

[30] – ستراوس، ج.2، ص. 54، ودائما نقلا عن مقالة: في أصل عدم المساواة.

[31] – نفسه، ج. 2، ص. 55.

[32] – ج. 2، ص. 59.

[33] – نفسه، ج. 2، ص. 66.

[34]– سنعود لتفصيل ذلك في المبحث الموالي.

[35]– برتشارد، ص. 10.

[36]– نفسه، صص. 14-15.

[37]-M. Foucault, les mots et les choses, Gallimard, Paris, 1966, p.388.. لكن، هل هناك شعوب بدون تاريخ حقا؟

[38] – برتشارد، ص. 16.

[39] – نفسه، ص. 18.

[40] – أكدنا غير ما مرة على العلاقة المبدئية بين الإناسة والاستعمار.

[41] – الانتروبولوجيا البنيوية، ج. 1، ص. 397.

[42] – نفسه، ص. 402.

[43] – ذلك أنها، أي الانتروبولوجيا الطبيعية، تنطلق من أرضية داروينية؛ والانتقادات التي وجهت إلى هذه النظرية تقع خارج موضوع اهتمامنا في هذه الورقة.

[44] – الانتروبولوجيا البنيوية، ج. 1، ص. 405-407.

[45] – نفسه، ج. 2، ص. 18.

[46] – نفسه، ص. 91.

[47] – نفسه، ص. 398. ونلاحظ بأن كل من برتشارد وستراوس يتفقان على أن مجال الأنتروبولوجيا الأول هو المجتمعات البدائية.

[48] – الانتروبولوجيا البنيوية، ج. 2، ص. 21.

[49] – آدم كوبر، الثقافة التسير الانثروبولوجي، ترجمة تراجي فتحي، عالم المعرفة، ع. 349، مارس، 2009، ص. 16.

[50] – الانتروبولوجيا البنيوية، ج. 1، ص.435، هامش 17.

[51] – فرانسيس فوكوياما، هل صحيح أن كل شيء في الجينات، ترجمة عبد الرزاق موافي، ضمن مجلة الثقافة العالمية، ع. 91، 1998، صص. 34-35.

[52] – الأنتروبولوجيا البنيوية، ، ج. 1، ص. 427.

[53] – نفسه، ص. 428.

[54]– الانتروبولوجيا البنيوية، ج.2، ص. 27.

[55] – برتشارد، ص. 22.

[56] – لمزيد من الاطلاع حول هذه النقطة يراجع العمل المتميز الذي قام به العلامة الروسي كراتشوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي عند العرب، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم، ط.2، دار الغرب الإسلامي، 1987. أو ما قام به عدد من محققي كتب الرحلات بكتابة مقدمات لما حققوه، أو نشروه، كتحفة النظار، ورسالة ابن فضلان، ونزهة المشتاق، وصورة الأرض… وقد رجعنا لعدد منها وأثبتناه في مكانه.

[57] – أي الشروط التي يفترضها منهج البحث الأنتروبولوجي.

[58] – خلف هؤلاء الرحالة، على التوالي: “رحلة ابن جبير”؛ “الاستبصار في عجائب الأمصار”؛ “ملء العيبة”؛ “الرحلة المغربية”؛ “مستفاد الرحلة والاغتراب”؛ “تاج المفرق”؛ “فيض العباب”؛ “الرحلة الحجازية” المنظومة.

[59] – صاحب “المسالك والممالك”، وقد رجعنا منه إلى طبعة ليدن، 1889، وأعادت تصويره دار صادر، بيروت، دون تاريخ، مع نبذ من كتاب الخراج لقدامة بن جعفر.

[60] – وكتابه الشهير “صورة الأرض” رجعنا منه إلى ما نشرته دار مكتبة الحياة، بيروت، 1979.

[61] – حتى ليقال بأن ابن حوقل لم يزد على نسخ كتاب أبي إسحاق الفارسي المعروف بالاصطخري، “المسالك والممالك”. عنوان يبدو أن غير واحد قد اتخذه لكتابه، حيث نجد البكري أيضا يؤلف كتابا على نفس المنوال، وبنفس العنوان، اعتمد فيه على نسخة مفقودة لكتاب مماثل ينسب للوراق.

[62] – صورة الأرض، ص. 7.

[63] – نفسه، ص. 11.

[64] – راجع موضوعنا: صورة الجزيرة العربية في الإيسطوريوغرافيا الإغريقية – اللاتينية الكلاسيكية: الثابت والمتغير. والذي رجعنا فيه إلى:

– هيرودوت، تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، إصدارات المجمع الثقافي، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، 2001.

– Strabon, Géographie de Strabon, Traduction nouvelle par Amédée Tardieu, Paris, Librairie de J. Hachette et C°. 1867.

– Diodore de Sicile, Bibliothèque historique de Diodore de Sicile, traduit par Ferdinand Hoefer, édit. Adolphe Delahay, paris, 1851.

– Pline l’ancien, Histoire naturelle, trad. Par M. E. Littré, Colléction des auteurs latins, Publiée sous la diréction de M. Nisard Firmin – Didot, Paris, 1855.

[65] – وقد فصل الأستاذ د. سامي الدهان في ذلك، عند تقديمه للنسخة العربية التي أشرف على نشرها.

[66] – رسالة ابن فضلان، صص.67-68.

[67] – ترجع الإيتيمولوجيا أصل الكلمة “صقلاب” إلى الأصل اللاتيني sclavus والذي كان يعني السلاف  slave، منذ القرن السابع للميلاد، وبدأ المعنى يطلق على الرقيق الأبيض عموما بسبب رواج تجارته لتصبح الكلمة دالة على العبيد esclave، ابتداء من القرن العاشر الميلادي.

[68] – رسالة ابن فضلان، ص. 172، هامش رقم 4.

[69] – انظر مثلا ص. 73 وما بعدها من الرحلة.

[70] – نفسه، ص.84.

[71]– تفسه، صص. 43 – 44. (من مقدمة المحقق).

[72] – نفسه، صص. 123 – 124.

[73] – نفسه، صص. 139 – 140.

[74] – نفسه، ص. 82.

[75] – نفسه، ص. 82.

[76] – نفسه، ص. 91.

[77] – نفسه، ص. 107.

[78] – نفسه، ص. 151.

[79] – ص. 107.

[80] – من ص. 113 إلى ص. 122.

[81] – من ص. 123 إلى ص. 127.

[82] – ص. 98.

[83] – من ص. 132 إلى ص. 134.

[84] – صص. 143 – 144.

[85] – صص. 151 – 152.

[86] – صص. 153 – 154.

[87] – من ص. 155 إلى ص. 165.

[88] – ج. 3، ص. 71.

[89] – ج. 4، ص. 9، وحقق الأستاذ التازي سنة خروجه من الهند في 742 ه.

[90] – ج. 3، ص. 101. نص غني بالمعطيات الأنتروبولوجية في كيفية إحراق الموتى، وإحراق زوجة الهالك معها

[91] – ج. 3 من ص. 104 إلى ص. 113.

[92] – يمكن الرجوع منها في الجزء الرابع فقط إلى ص. 17، 23، 31، 32، 79، 80، 90، 96… فضلا عما ذكره عنها في الجزء الثالث من الرحلة.

[93] – في بورما حاليا.

[94] – ج. 4، صص. 107 – 108.

[95] – انظر على سبيل المثال ما سجله بجزيرة سيلان، عندما زار القدم المباركة (ج. 4، ص. 81)؛ وفي بلاد “مل جاوة” (ج. 4، صص. 119-120) وغيرها كثير مما يزخر بالحديث عن العادات والطقوس والأعراف والمؤسسات.. لكن دون تجاوز المستوى الإيتنوغرافي.

[96] – ج. 4، ص. 93.

[97] – نفسه، ص. 94.

[98] – نفسه، ص. 96. ولمن يريد أن يتابع نماذج أخرى، عن موضوعية ما كتبه ابن بطوطة، فله الرحلة بطولها.

[99] – انظر كراتشوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي عند العرب، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم، دار الغرب الإسلامي، ط. 2، 1987، ص. 456.

[100] – ج. 4، من ص. 53 إلى ص. 77.

[101] – نفسه، ص. 57.

[102] – نفسه، ص. 98 – 100.

[103] – نفسه، ص. 71.

[104] – نفسه، صص. 535 – 54.

[105] – نفس المصدر والجزء والصفحة.

[106] – خصص للحديث عن الطبخ صفحتان من تقريره: 55 – 56. ثم أتم حديثه عن الأكل وأنواع الطعام في ص. 69.

[107] – سبق أن قدمنا تعريف تايلر للثقافة ضمن المطلب الأول الذي عنوناه: في معنى الإناسة.

[108] – صص. 57 – 58.

[109] – ج. 4، ص. 59.

[110] – نفسه، ص. 73.

[111] – صص. 59 – 60.

[112] – ص. 57.

[113] – ص. 60.

[114] – ص. 61.

[115] – الصفحة نفسها.

[116] – وقد كان ابن بطوطة يوثق كل المآثر التي يمر بها أو يصادفها، ويقوم بتحليلها ومقارنتها مع ما شاهد في مناطق أخرى… انظر مثلا: ذكر أبواب الإسكندرية ومراسيها ومنارها وعمود السواري الشهير الخ… (ج. 2،ص. 179 – 183) ومساجد مصر ومارستانها وقرافتها… (ج. 2، ص. 202 – 206) والأهرام (ج. 2، ص. 209وما بعدها…) وقبة الصخرة (ج. 2، ص. 247 وما بعدها)….. وهذا دأب ابن بطوطة في رحلته جميعا، يصف آثارها واحدا واحدا… ويذكر ما وصل إليه عن كيفية بنائها والروايات، والأساطير، التي عرضت لذلك، أو ارتبطت بهذه الآثار… وعديد المآثر التي زارها حتى إن تتبع البحث الأثري عند ابن بطوطة يحتاج إلى دراسة منفصلة مستقلة…

[117] – ج. 4، ص. 65.

[118] – نفسه، صص. 66 – 67.

[119] – أفرد لذلك صفحتان، هما: 72 و73.

[120] – ص. 69.

[121] – ص. 70.

[122] – برتشارد، صص. 44 – 45.

[123] – ج. 4، ص. 57.

[124] – صص. 73 – 74. وهذه نماذج فقط عن المقارنات التي كان يعقدها بين الحين والآخر، وهي كثيرة أثناء وصف هذه الجزر.

[125] – ج. 4، ص. 57.

[126] – ج. 4، ص. 74.

[127] – ص. 71. و”التبراح” هي المناداة في الأسواق والأماكن العامة لأمر طارئ أو اجتماع أو ما شابه ذلك…

[128] – ص. 73.

[129] – ص. 73.

[130] – صص. 100 – 101.

[131] – ص. 118.

[132] – ص. 38، وص. 42. بل ويقارن أيضا بين البلاد التي زارها، يقول مثلا: “وعادة أهل الهند كعادة أهل السودان لا يتعرضون لمال الميت ولو ترك الآلاف، وإنما يبقى ماله بيد كبير المسلمين حتى يأخذه مستحقه شرعا” ج. 4، ص. 41.

[133] – إيفنز برتشارد، مرجع سابق، ص. 38.

[134] – الأنتروبولوجيا البنيوية، ج. 2، ص. 27.

[135] – ج. 1، ص. 153.

[136] – ج. 1، ص. 153، هامش رقم 9.

[137] – يقول، وهو يغادر ذيبة المهل: “ووصلنا إلى جزيرة من تلك الجزائر  صغيرة ليس بها إلا دار واحدة فيها رجل حائك له زوجة وأولاد ونخيلات نارجيل، وقارب صغير يصطاد فيه السمك، ويسير به إلى حيث أراد من الجزائر، وفي جزيرته أيضا شجيرات موز، ولم نر فيها من طيور البر غير غرابين خرجا إلينا لما وصلنا الجزيرة وطافا بمركبنا، فغبطت – والله – ذلك الرجل وودت أن لو كانت تلك الجزيرة لي فانقطعت فيها إلى أن يأتيني اليقين” ج. 4، ص. 77.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.