جيلبير دوران والمتخيل الأنتروبولوجي: الجزء الثاني

الترسيمات الذهنية الأولية:

يستعمل كانط هذا المصطلح في سياق نظريته حول المعرفة كما تبين سابقا، ويعتبره “إجراء عاما للمخيلة لإسناد صورة لتصور”، فبدون هذه الترسيمات تظل المقولات عاجزة عن تجاوز دورها المنطقي. إن دورها، إذن، أساسي بين الصورة والتصور، بين المقولات الذهنية والأشياء التي تعطيها الحواس، لكن استعمال دوران لهذا المصطلح يختلف. صحيح أن دور الترسيمات الذهنية الأولية هو الربط والوصل، إلا أنه ربط بين الحركات الحسية-الحركية اللاشعورية، أي ردود الفعل المهيمنة المشار إليها سابقا، وبين التمثلات. وهذا الفهم، عموما، هو الذي نجده عند بياجي وباشلار من خلال مصطلحي “الرمز الوظيفي” و”الرمز المحرك” على التوالي. ومن ثم، فإن الترسيم الذهني الأولي Le schème هو تعميم دينامي وانفعالي للصورة” وبالتالي، تلعب هذه الترسيمات، المحركة للمتخيل، دورا تأطيريا، بحيث تقوم بدور العمود الفقري الدينامي للمخيلة وتصميمها الوظيفي. وعليه، فهي مسارات وأبعاد تتجسد في تشخيصات ملموسة ومحددة. وعلى سبيل المثال، فإن حركة الوضع العمودي يقابلها شكلان من أشكال الترسيمات الذهنية الأولية

1 ـ ترسيم ذهني يتسم بالعمودية المتصاعدة.

2 ـ ترسيم ذهني يهم التوزيع البصري واليدوي. أما حركة الابتلاع، فيقابلها الترسيم الذهني المتجسد في النزول، وتخطيط الركون إلى الحميمية. إن الترسيم الذهني الأولي هو، حسب تعبير سارتر، “مستحضر” présentificateur للحركات والدوافع اللاشعورية.

النماذج الأصلية:

يعني هذا المصطلح في اليونانية النموذج البدئي (ARCHE: بداية – TYPOS: نموذج أو طراز)، وقد استعمله عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ لتوصيف رموز الثقافات الكونية وأساطيرها. وهكذا، فإن النماذج الأصلية هي تلك الصور الموروثة، الرمزية والجمعية التي تخترق الأساطير والخرافات، وتشكل، انطلاقا من أساس بشري مشترك، اللاوعي الجمعي للفرد. وهكذا، فإذا كان يونغ يركز على السمة الجمعية والفطرية للصور الأولى، فإن دوران يسعى إلى تجنب السقوط في شرك نزعة ميتافيزيقية ترد كل شيء إلى الأصل، وتبحث عن ترسبات ذاكراتية متراكمة عبر العصور والثقافات. إن النماذج الأصلية، خلافا لذلك، ناتجة عن اتصال الحركات المجسدة في شكل تخطيطات ذهنية أولية بالمحيط الطبيعي والاجتماعي، كما تقوم بدور تأسيسات Substantifications للتخطيطات الذهنية. وهكذا تلعب النماذج الأصلية، في نظر دوران، دورا أساسيا حيث تربط بين المتخيل والسيرورات العقلانية. فالفكرة لا تسبق الصورة، بل إنها مشروطة بقالبها العاطفي والتمثيلي، “وهذا ما يفسر أيضا كون الفلسفات العقلانية والمناهج الذريعية للعلوم، لا تتخلص أبدا، وبصفة نهائية، من هالة المتخيل، وكون كل نزعة عقلانية(…) تحمل في ذاتها استيهاماتها الخاصة”. وهكذا، فإن النماذج الأصلية تتميز باستقرار كبير: مثلا، الترسيمات الذهنية الأولية المتعلقة بالارتقاء، تقابلها دائما ودون تغيير النماذج الأصلية للقمة والرأس والنور، وترسيمات الأسلحة تتجسد في نماذج أصلية ثابتة كالسيف والتعميد. أما ترسيمات النزول، فتأخذ كأسماء أصلية لها الليل والقعر، والترسيم الذهني المرتبط بالركون والتقوقع يؤدي إلى نماذج أصلية كالحميمية والحضن والأسرة. وهكذا يستنتج دوران أن “ما يميز بالضبط النموذج الأصلي عن الرمز، هو، عموما، عدم التباسه وكونيته المستقرة ومطابقته للترسيم الذهني الأولي”. وهكذا، فإن العجلة، مثلا، هي أكبر نموذج أصلي يعكس الذهني الأولي المعبر عن الدائرية، خلافا للحية التي ليست سوى رمز للدائرة، كما قد تصلح لأن تكون رمزا لشيء آخر.

الرموز:

تكتسي الرموز أهمية قصوى نظرا لغنى معانيها. وقد يكون الرمز اسما مشتركا أو اسما عاما، أي أنه دائما اسم، خلافا للنموذج الأصلي الذي “يوجد على طريق الفكرة والاسم معا”. وهكذا، فالرمز هش لأنه ذو سمة تحولية. ولهذا السبب، قد يفقد الرمز تعدديته، ويغدو مجرد علامة لغوية. ومن ثم، فإن الرمز سنن جماعي متعدد القيم ملتبس، أي أنه قابل للتأويل بحكم تعدديته ومعانيه الثانية. ولهذا السبب، فإن الرمز، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، لا يرتبط بخطية الدال اللغوي. فالأسطورة، مثلا، باعتبارها خطابا، تعيد، عن طريق الكتابة، إدماج خطية الدال اللغوي هذه، غير أن الدال، في هذه الحالة، يستمر ويدوم بوصفه رمزا، لا بوصفه علامة لغوية “اعتباطية”. ولهذا، فالأسطورة، عند دوران، وخلافا لتصور ليفي ستروس، ليست مماثلة للغة، لكون الأهمية الأساسية للأسطورة، لا تكمن في خيطها السردي فقط، بل في المعنى الرمزي لكلماتها. الأسطورة كالطائرة، تتدحرج باللغة، لكن سرعان ما تبتعد عنها وتحلق في الفضاء بفضل الكثافة الرمزية.

ويمكن أن نربط بين هذا التصور، وبين تصور تودوروف، الذي يعتبر، في سياق دراسته لعلاقة الرمز بالتأويل، أن النص، أو الخطاب، لا يصبحان رمزيين، إلا انطلاقا من اللحظة التي نكتشف فيها، بفضل عملية التأويل، معنى غير مباشر، لذلك فإن “المتلقي يفهم الخطاب، لكنه يؤول الرموز”.

الأساطير:

يستعمل دوران مصطلح أسطورة بالمعنى الواسع، أي باعتبارها “نسقا ديناميا من الرموز والنماذج الأصلية والترسيمات الذهنية الأولية، أي نسقا ديناميا ينزع، بتأثير من ترسيم ذهني معين، نحو التشكل في حكاية”. فهو، إذن، يبتعد عن المفهوم الضيق لعلماء الأديان، ودارسي المعتقدات، الذين يرون فيه “الوجه الآخر التمثيلي لفعل طقوسي”. وإذا كانت الأساطير تأخذ شكل حكاية، فإنها توظف اللغة والخطاب اللذين يحولان الرموز إلى كلمات، كما يحولان النماذج الأصلية إلى أفكار، وهذا ما يجعلها تميل إلى العقلنة. بيد أن الأسطورة ليست مماثلة للغة وإن كانت تحتاج إلى توظيفها. وهكذا تشمل الأسطورة المحكي المبرر لعقيدة دينية معينة، أو سحرية، كما تشمل الخرافة والحكاية الشعبية والخطاب الروائي. لذلك، لا يمكن اختزال الأسطورة إلى لغة معينة، فهي صيغة خطاب لا مكان فيه للعبارة الإيطالية الشهيرة “الترجمة خيانة”، لأن الأسطورة، شأنها في ذلك شأن النموذج الأصلي، لا تخون أية لغة، لأنها لا تترجم. ولأنها تضم المكونات السابقة، فإنها تعتبر بمثابة تكوكبات للصور.

البنيات:

ينبه دوران إلى أن مصطلح البنية لا ينبغي أن يلتبس مع مصطلح الشكل. فإذا كان هذا الأخير يدل، في معناه الأنتروبولوجي، على نوع من التوقف والوفاء، أي على نوع من السكونية، فإن البنية، على العكس من ذلك، تستلزم نوعا من الدينامية المحولة. وهكذا، تدل البنية، عندما تضاف إلى نعوت كيفية وليست كمية، على شيئين أساسين:

1 ـ أن هذه الأشكال دينامية، أي خاضعة لتغييرات بواسطة تعديل أحد طرفيها، كما أنها تشكل “نماذج” تصنيفية وبيداغوجية، أي أنها تقوم بوظيفة التصنيف، وبإمكانها تغيير حقل المتخيل، ما دامت قابلة للتغيير والتحويل.

2 ـ أن هذه “النماذج” ليست كمية، بل هي أعراضية، ذلك أن “البنيات، مثلها مثل الأعراض الطبية، تعتبر نماذج تسمح بالتشخيص وبالفحص الطبي.

وخلاصة القول إن البنيات “الأنتروبولوجية” للمتخيل تتمثل في الخصائص النوعية التي تميز الطبيعة الإنسانية، التي هي (تشريحية وفيزيولوجية وسلوكية وذهنية).

اعتمدت، في عرض المنظور الأنتروبولوجي لدوران، بشكل أساسي على كتابه الأول البنيات الأنتروبولوجية للمتخيل، لأنه يشتمل على تقديم نظري يطرح فيه الأساس الفلسفي والمنهجي لمشروعه، خلافا للكتب اللاحقة التي أخذت طابعا تطبيقيا.

وتتجلى قيمة هذا التصور، في كونه يتسع ليشمل كلية الإنسان، في تفاعله مع العالم الخارجي. وهذه الكلية الأنتروبولوجية هي التي قادت دوران إلى البحث في/عن النماذج الأصلية والصيغ الرمزية والأسطورية ذات الصبغة الكونية.

ومن ثم فإن مشروع دوران يقوم على تجميع “الموارد الأنتروبولوجية” للبحث في الخيال الرمزي العام، الذي يسم المتخيل الإنساني. ولهذا توسل بعلم النفس التكويني (بياجي)، والخيال المادي (باشلار) لوصف النماذج الأصلية والأساطير والرموز التي تنتظم وفق بنيات محددة لها طابع الكونية. فالمتخيل، حسب دوران، ليس إلا نماذج أصلية، ورمزية وميثولوجية محددة للإنسان الرمزي في مواجهته لوجوه الزمن وهروبيته، ذلك أن “المخيلة تنظم الزمن، وتقيسه، وتؤثثه بالأساطير والخرافات التاريخية، وبهذه السمة التحقيقية، تأتي لتعزي من هروب الزمن”.

وهكذا، فالأسطورة عنده ليست مماثلة للغة، لأن أدلتها لا تخضع للنسق اللغوي الاعتباطي، بقدر ما هي رموز غير قابلة للترجمة. وبالمثل، فإن النموذج الأصلي لا يترجم، وبما أنه كذلك، فلا يمكن أن تخونه أية لغة

Gilbert Durand, Les structures anthropologiques de l’imaginaire, Dunod, 11ème édition, Paris, 1992,

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.