تراثيات الشعوب بضائع في أسواق الغرب

 أهمية التراث وصورته الفنية في تاريخ ونهضة الامم

  سعد الجادر

تشترك أقوام وشعوب وأمم الارض، إنسانيا وزمنيا: فالانسان أخو الانسان متجانس معه بشريا مهما بعد عنه جغرافيةً وتاريخاً؛ ولكن المنتوج الثقافي، وصورته الفنية، متباين بين أمّة وأخرى نتيجة تنوّع القاعدة الروحية لفهم العالم والكون والوجود؛ وفي ذلك يقول ابن خلدون (عن: بديع العابد، عمارة المسلمين، حقيقة التواصل التاريخي، مجلة الكتب وجهات نظر، العدد 116، السنة العاشرة، ايلول/سبتمبر 2008، القاهرة): ‘ان الناس جميعهم متشابهون مهما تختلف أزمنتهم وأمكنتهم، وان الناس جميعا مختلفون مهما تشتد بهم وجوه الشبه’.
تعكس الصورة الفنية طابع وسمة انتاج الشعب للفن بالابتكار والتراكم عبر الزمن، وبالروح التي تميز المنتجين من قبائل وأقوام وشعوب وأمم. لذلك فان لكل أمة صورة فنية تميزها عن غيرها، تمثل هويتها المتفرّدة بين ثقافات الآخرين؛ وهذه الصورة هي التي ينتجها هذا الشعب او غيره، وهي التي ترتاح لها وتُسعد بها وتتفاعل معها وتتعلّم منها وتُراكِم عليها الأمة. كما تقدِّم هذه الصورة انطباعا للمتلقي أسرع من الكلمات وأعمق تأثيرا، سواء بالوعي أم باللاوعي، لان الكلمة والموعظة والحكمة ثابتة المعنى مهما امتد فضاؤها؛ بينما تحمل الصورة الفنية أبعادا واضحة وأخرى ضبابية مناوِرة ومُلغَّزَة تثير المتلقي وتحفّزه للتمعّن والتفكّر والتبصّر في معانيها ومغازيها ومراميها؛ فتنفُذ فرادتها الى روحه ووجدانه، فيتمتع بها ذوقاً ودهشةً وانفعالا ونشوة، ويبصرها جمالا، ويبتهج بها وقعاً شعرياً ونثرياً موزوناً، ويسمعها لحناً موسيقياً تجريدياً هائماً في تنوّع المشاعر التي يخلّفها اللحن عند المتلقي في وقت سماعه، و’يفهمها’ موضوعاً وفكراً ودلالةً وثقافةً وحكمةً.
فالصورة الفنية هي محصّلة الذاكرة الصادقة والحقيقية لتاريخ العمل المنتج لهذه الامة او تلك، وهي قاموس رموزها، وكنز كنوزها، ومجال افتخارها، ووسيلة تعبئتها، وأساس تطورها وتواصلها عبر الزمن: من الماضي الى الحاضر ونحو المستقبل. وهكذا تتواصل الصورة الفنية في نتاج الامة مئات، بل آلاف السنين؛ وبينما يشيخ جيل من الفنانين ويختفي، فان الصورة الفنية التي خلّفها تتجدّد شباباً مع الزمن مهما طال، وذلك من خلال استرجاع دراستها، وإلقاء أضواء جديدة عليها، والولوج الى أعماق منتجيها؛ تماما كما يحصل الان بالنسبة للصورة الفنية الاسلامية، التي يدرسها المؤرخون والنقاد، المسلمون وغيرهم، وكل يقدم نظرته عنها واكتشافه الجديد لها: عن علومها وتقنياتها وعمارها وآدابها وفنونها وتحفها وموسيقاها وتقاليد حياة مجتمعاتها التي انتجتها، ليقدموها الى جميع شعوب العالم كتراث، وكاحياء إسلامي معاصر.
كتب (صلاح سليمان، جماليات الخط العربي في معرض في ميونيخ، القدس العربي، 17/02/2011 ): ‘قاعات المعرض تمتلئ باعداد كبيرة من الزوار الالمان، ساعدت فيها تلك الهجمات الاعلامية المتوالية على المسلمين وعلى ثقافتهم في أوروبا مما أثار فضول الكثيرين للتعرف على جوانب الثقافة الاسلامية المختلفة. يقول ماتياس هيباك أحد زوار المعرض، ان الخطوط والفنون والثقافة الاسلامية بصفة عامة هي المفتاح الاول للتعرف على الاسلام، ولا شك في ان الاعجاب بها يساعد كثيرا على تفهم وتقبل هذه الثقافة لدى الاوربيين’…’جدير بالذكر ان عددا من الاوربيين كان مدخلهم لاعتناق الدين الاسلامي هو الفنون الاسلامية’.
ويعكس هذا احدى قوى وطاقات الصور الفنية التي تَرَكَتْها أمم الارض عن مختلف ثقافاتها، هذه الصور التي تُغني عن الكلمة والخطاب، وتُلجم المُغرض والمُحرِّف والمُزوِّر والكذّاب والمُستعمِر والمُتعولِم العنصري، الذي يريد بثقافات الشعوب شرا، ويسعى لمحقها وتنميطها واستبدالها بالتغريب.
وبذلك فان الصورة الفنية هي من أهم الوسائل وأكثرها فاعلية وحيوية في التأثير على الرأي العام، وفي تعبئته بحالاتها المتنوعة: ففي السياسة مثلا نقل فظائع كوانتانامو باي، وأبو غريب للاعلام عن سقوط وانحطاط النخب السياسية الغربية، وعن جانب الخزي والعار من ثقافة الغرب القائمة على الكذب والنفاق والخداع والتضليل. وصورة أخرى مشرِّفة لكرامة الانسان أينما كان، وهي من النضال الوطني الفلسطيني: ‘ثورة الحجارة’ وأطفالها. وصورة ثالثة من المقاومة بالفن والموهبة والاحترافية والذهن المتوقد، مثل لوحة الغورنيكا لبيكاسو، التي ساهمت، ولا تزال، في تنوير الرأي العام العالمي بجرائم الحروب.

وبهذا الصدد تتوارد على الذهن أسئلة وخواطر منها:

هل استشهد الرسام الجزائري الفذ محمد راسم (1896- 1975) قتلا بربريا في مدينة الجزائر من قبل ‘مجهول’ لم يُكشف عنه لحد الان؟ لقد كان الشهيد أول من طوّرالمنمنمة الاسلامية بابتكار إغناء صورتها الفنية بالمنظور الغربي مع الحفاظ على أصالتها التاريخية والثقافية، مما نقل فن التصوير الاسلامي من صفحات داخل المخطوطات لتوضيح وشرح و/ أو تزيين نصوصها، ومن زجاج يوشح مختلف التحف الاسلامية المنفّذة على شتى المواد، من الطين والخشب الى الفضة والذهب؛ وحوّلها إلى لوحات تشكيلية تعلّق على الحائط بصورة فنية اسلامية معاصرة تصطفّ بهيّة متميّزة مع لوحات فنون الثقافات الاخرى. وللاسف الشديد فان هذا الفتح الاسلامي الفني الذي قدّمه محمد راسم لم ينتشر بين المسلمين وفي العالم بما يستحق ليعكس نموذجا رائدا للتجديد والابداع والابتكار الفني الاسلامي المعاصر، ويملأ الفراغ الذي يصول ويجول فيه ‘فنان’ الحداثة العبثية.

وهل استشهد الأكاديمي الفلسطيني الرائد اسماعيل راجي الفاروقي (1921 1986) وزوجته الامريكية المسلمة لمياء الفاروقي، على يد ‘مجهولين’ في أمريكا؟ إذ أسّس الفاروقي ‘المعهد العالمي للفكر الاسلامي’ في واشنطن وترأسه حتى استشهاده. وقد قدّم الشهيدان بحوثا رائدة وأعمالا نوعية ومرجعية في تاريخ الفكر والثقافة والفن الاسلامي، في مقدمتها (د. اسماعيل راجي الفاروقي ود. لويس لمياء الفاروقي، أطلس الحضارة الاسلامية، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، الطبعة الاولى، الرياض 1998)، الذي صدر في ست لغات عالمية، استعرض فيه المؤلفان الاسس الفلسفية المادية والفردية للمعرفة الغربية، مقارنة بالقاعدة الاسلامية التي تعتبر ان الله هو مصدر العلم والمعرفة.
وهل استشهد رسام الكاريكاتور الفلسطيني الكبير ناجي العلي (1937 1987) في لندن للتأثير الواسع، والسهل الممتنع للوحاته اللاذعة؛ وللشهرة العالمية لشخصياته المُبتكَرَة: الصبي المظلوم والصامد ‘حنضلة’، الذي مثّل توقيع ناجي العلي؛ والام ‘فاطمة’ المُصِرّة على الحق؛ مقابل كتل اللحوم البشرية المترهلة الزاحفة، التي تمثل خونة الانظمة العربية؟
وهل استشهد المخرج السينمائي السوري العالمي مصطفى العقّاد (1935 2005)، الذي قُتل مع ابنته بانفجار في فندق بالعاصمة الاردنية عمّان؟ وعلى الطريقة الامريكية المعروفة في العراق، حيث يُقتل المستهدَف حتى لو كان وسط المئات من الناس، كما حصل للشهيد محمد باقر الحكيم (1939 2003)، مؤسس المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق، عند تفجير موكبه في النجف بسيارة مفخّخة راح ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى؛ ولا يزال هذا الابتكار الامريكي ‘الاثير’ ساري المفعول، كما في العراق وأفغانستان وباكستان، بتتبُّع المقاومين: بالارهاب الأعمى، والعقوبة الجماعية الابادية بنسف القرى والمجمعات السكنية والاسواق والجوامع وحتى حفلات الزفاف. لقد أنتج مصطفى العقّاد عدة أفلام نوعية، مثل ‘أسد الصحراء’ عن نضال عمر المختار ضد الاحتلال الايطالي لليبيا، وتحضيره لعملين مهمين آخرين هما ‘فتح الاندلس’، و’صلاح الدين’. لكن في مقدمة أعماله كان فيلم ‘الرسالة’، الذي استعرض نشأة وتطور الاسلام، والذي كان له، ولا يزال، دور بارز ومؤثر في تصحيح الصورة المضللة التي رسمها الاعلام الغربي لشحن مجتمعاته ضد الاسلام وثقافة المسلمين. ويُذكر ان العقاد لم يساوم أحدا، وكان يعلن ذلك عبر لقاءاته الصحافية بأنه يرفض التمويل السياسي لاعماله السينمائية.
لقد تصدّت أعمال هؤلاء الشهداء الكبار، رحمهم الله وطيّب ثراهم، لما خلّفه الاعلام الغربي من تصوّرات شرّيرة ومُرعبة عن الاسلام وثقافة المسلمين، مما سهّل، ولا يزال، تمرير ظلم النخب الاستعمارية، بإحداث كوارث فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وفنية في عالم المسلمين نجم عنها تكريس تخلفهم وتبعيتهم واستغلالهم عقودا، حتى بدء صعود اليقظة العربية الاسلامية، التي تتوسع بثبات عبر تطور ماليزيا وايران وتركيا و’ثورة العرب’، التي تنشر نور الحقيقة والوعي في مجتمعات العرب والمسلمين والعالم.
كما ان تصفية هؤلاء الشهداء وغيرهم، يعكس أهمية ودور وخطورة الفكر والفن الحقيقي والصورة الفنية الجذابة في تطوير الامم، وفي الاحياء الاسلامي المعاصر، مقابل الخطيئة التاريخية والوطنية الكبرى لمنظومة فنون الحداثة الغربية بحق مجتمعات وثقافة وفنون العرب والمسلمين وباقي الشعوب؛ وهو ما سنتحدّث عنه لاحقا في باب ‘فنون الحداثة العبثية’.

E.mail: [email protected]

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.