انثروبولوجيا القبيلة في دولة الامارات

عمار السنجري

لازالت الدراسات الأنثروبولوجية الجادة، المهتمة بخصوصية مجتمع الإمارات ذي الخلفية القبلية، نادرة، بل ولا نكاد نجد شيء منها غير ما دوّنه بعض الرحالة الأجانب الذين مروا بالمنطقة لفترة من الزمن، كالملاحظات الاثنوغرافية التي دوّنها الرحالة البريطاني بيرترام توماس Bertram Thomas التي ذكرها في كتابه (العربية السعيدة)، ولا نكاد نعثر على دراسة متخصصة عدا ما كتبه الأنثروبولوجي البريطاني بيتر لينهاردت “مشيخات شرق الجزيرة العربية”، Lienhardt, Peter, Shaikhdom of the Eastern Arabia، والذي سيظل من الأعمال المرجعية الأساسية التي سيجري الاستشهاد بها من قبل عدد غير قليل من الدراسات والأبحاث والأعمال المنشورة عن مجتمع الإمارات وربما الخليج أيضاً.(1)رغم الملاحظات والتحفظات على بعض ما يرد في مثل هذه الدراسات.

تشكل القبيلة بالنسبة لمعظم أبناء القبائل، مجالاًَ محبباً للبحث، والتقصي، عن الأصول والجذور الممعنة في القِدم، وقد قام مجتمع الإمارات العربية المتحدة أساساً على نظام القبيلة، وهي الجماعة الأساسية فيه، وعصب الحية الاجتماعية والسياسية، فشعب الإمارات يشبه أي مجتمع من مجتمعات الجزيرة العربية من ناحية تكوينه. فقد كانت الهجرة إلى هذه الأماكن من طرفين، الطرف الأول وسط وجنوب الجزيرة العربية، والطرف  الثاني من السواحل الشرقية للخليج العربي، ويحوي كثيراً من الهجرات الأجنبية من دول أسيا المجاورة عامة، ومن إيران بخاصة وتلك الهجرات أتت إلي الإمارات بقصد الاستيطان سعياً وراء الرزق، ومجموع هذه الهجرات هو ما يشكل المجتمع السكاني الحالي في الدولة.

يتميز مجتمع الإمارات بأنه متعدد القبائل Multiriebal System وكذلك تعيش على أرضه تاريخياً جماعات وافدة تشكل جماعات عرقية Ethnic Groups متعددة الثقافات، تعيش منفصلة ثقافياً مرتبطة اجتماعياً واقتصادياً في قطاعات العمل المختلفة.(2)

لقد كانت سنوات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين صعبة لاستقرار التحالفات القبلية، فقد اختلفت خريطة التحالفات من عقد إلى عقد، ومن سنة إلى سنة في بعض الأوقات، ويتكون مجتمع الإمارات كما أسلفنا من عدة قبائل، ومجموعة بطون وعشائر وأُسر متعددة إلا انه من الملاحظ أنها كانت قد تجمعت منذ السنوات الأخيرة من القرن السابع عشر، وخلال النصف الأول من القرن الثامن عشر تحت لواء تحالفين يتمثل الأول في تحالف بني ياس، و يتزعمهم آل نهيان، ومقرهم في الظفرة وأبوظبي، ويمتد نفوذهم على طول الساحل من دبي حتى حدود قطر، ثم أصبحت بعد ذلك مدينة أبوظبي عاصمة لهم.

وقد نجح بنو ياس في إقامة تنظيم مستقر في المنطقة فوثائق حكومة بومباي تشير إلى انه سكن بنو ياس عام 1761م جزيرة عُرفت باسم أبوظبي فقد تم اكتشاف المياه فيها، وعندما اكتشفت المياه الحلوة شجع ذلك سكان الصحراء على الوصول إليها. و بذلك بدأت نواة إمارة أبوظبي منذ ثلاثة قرون في واحة ليوا بأرض الظفرة، وكانت واحة ليوا تَضُم زُهاء خمسين قرية سكنتها قبيلتان، هما قبيلة بني ياس وقبيلة المناصير، وقبائل أُخرى. وتحالفات القبيلتان منذ وقت مبكر. وتعتبر قبيلة بني ياس حلف قبائل عديدة وقد تزعمهم جميعاً آل بوفلاح. ولما كان آل بوفلاح ينتسبون إلى ياس، فقد أطُلق على هذا الحلف اسم بني ياس.(3)

أما التحالف الثاني فهو تحالف القواسم، وقد قُدّر لهذين التحالفين، القواسم بقوتهم البحرية، وبني ياس بقوتهم البرية والبحرية معاً أن يكونا ذراعين كبيرين لحماية الوطن والدفاع عنه.(4)

لقد عاش أبناء القبائل وفي كثير من الحالات كمجموعات قرابية واحدة تسكن في قرية واحدة، وقد لا تتجاوز بعض القرى 50 فرداً أو مائة فرد. وهؤلاء ينتمون في العادة إلى عشيرة معينة، وتربط بينهم أواصر قرابة قوية. ويكثر هذا النمط من القرى بين القرى الزراعية، وخاصة قرى الواحات. ورغم قلة أهمية هذه القرى، فإن البعض منها قد أصبح في الوقت الحاضر يمثل مراكز جذب في مناطق الضواحي حول مدينة العين، وحول مدينة الشارقة وعجمان ودبي ورأس الخيمة.

وكانت المدن الرئيسية والثانوية بأجمعها- ماعدا مدينة دبي التي كان طراز البناء الغربي قد دَخلها منذ أواسط القرن المنصرم- تعكس الصورة الحقيقية للبيئة الطبيعية في بساطتها وهندستها ومواد بنائها. وكان هناك ثلاث أنماط من المساكن، الأولى: مشيدة من الحجر، وعددها قليل وتتركز في عواصم الإمارات، والثانية: مبنية من الطين وهي أكثر شيوعاً من الأولى ، والثالثة وهي الأكواخ المقامة من الحصير وسعف النخيل وهي الأعظم انتشاراً ويطلق عليها اسم عريش وعرشان، وكانت أغلب مساكن القرى هي من نوع العريش في كل من مناطق الصيد أو الزراعة وكان أشباه البدو يقيمون أيضاً في مثل هذا النوع من الأكواخ لاسيما في فصل الصيف.(5)

وقد ترتب على ظهور النفط تغيير في توزيع السكان، وقد كانت التغييرات بطيئة في الستينات، ثم اشتد إيقاعها ووصلت ذروتها في السبعينات والثمانينات، حيث بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الاستقرار البشري في دولة الإمارات العربية المتحدة، فالمساكن المنعزلة التي كانت هي الصفة الغالبة على مساكن الصيادين كادت تختفي، قلم يعد قائماً منها سوى نماذج قليلة، كما أن العريش استُبدلَ بمسكن شعبي، كما أن القرية بمفهومها التقليدي القائم على أساس خدمة السكان العاملين في الحرف الأولية، سواء كانت صيداً أم زراعة- لم يعد لها وجود تقريباً، وفقدت القرية وظيفتها التقليدية، وانتقلت إلى مرحلة الارتباط بالكيان الجديد المتمثل في النفط والصناعة، وساعد على ذلك سهولة الاتصال نتيجة لتلك الشبكة الكبيرة من الطرق المرصوفة، هذا بالإضافة إلى قُصر المسافات بين القرى.وترصد الدكتورة نبوية حلمي أبو باشا في كتابها البيئة الاجتماعية والسياسية وأثرها في قيام دولة الإمارات العربية المتحدة هذا التحول الايكولوجي وما رافقه من تحول سواء في المدن، أو تغيير النمط الموجود في المراكز البدوية التقليدية، وانعكاس ذلك حتى على التشكيلات المادية العمرانية ومراعاة منح أحياء سكنية لكل فخذ أو قبيلة بحيث لا تنعزل الأُسر البدوية عن بعضها البعض، منذ إطلاق مسمى “المساكن الشعبية” أو “الشعبيات” في نهاية الستينات وبداية السبعينات على الأحياء السكنية الحديثة. وقد تفاوَت التطور العمراني في عواصم الإمارات حسب نصيبها من مدخولات النفط، ولكن سكنى البدو في تلك المساكن الحديثة “الفلل” لم يجعلها بالطبع يتخلون تماماً عن عاداتهم وتقاليدهم المتأصلة المتوارثة، فلا يزال الناس يطالبون بأن يكون للبيت حوش فسيح حتى يمكن إقامة خيامهم فيه حين يريدون ذلك، وبخاصة في فصل الشتاء، وقد ينصب أحدهم خيمة حديثة واسعة خارج المنزل، أو قرب المنزل، لتكون مضيفاً مفتوحاً لكل عابر سبيل، ومكاناً محبباً للالتقاء بالجيران والأصدقاء والتحلق ليلاً حول نار، تجلب الدفء، وتذكر بماضٍ حميم، وسط رشفات من فناجين القهوة العربية الأصيلة وهي تدور بين الحاضرين.

إن الفترة الواقعة منذ نهاية الستينات وبدايات السبعينات وصولاً إلى الثمانينات، هي أشد فترات التحول في مجتمع الإمارات، ولكنها مع الأسف لم تأخذ حقها من الرصد العلمي، والدراسة الأنثروبولوجية المعمقة، في وقت لم يؤخذ موضوع التسجيل والتوثيق الإنساني بصورة خاصة (فالمادي ربما كان مهمة توثيقه ملقاة على دوائر حكومية معينة مثل البلديات) مأخذ الجد. وبقيت بالتالي هذه المرحلة الخصبة في تاريخ الإمارات تحتاج إلى إعادة توثيق إن صح القول.

وأذكر في بداية فترة الثمانينات، وكنت أعمل في قرية الهير، وهي قرية نزعم أنها نموذج حي شاهد على مدى عمق تلك التغيرات التي شهدها مجتمع الإمارات، طلبت من مدير المدرسة أن يُبقي على جزء من المبنى الأول للمدرسة والذي شُيد في أواسط السبعينات ليبقي هذا الجزء يذكّر الأجيال الجديدة بالبدايات، بعد أن تعذّر طلب الإبقاء على المبنى القديم البسيط، ولكن كانت قرارات الإزالة قد سبقت ولم يبق من المبنى القديم إلا جدار وجزء بسيط من المبنى القديم، ولكن حتى هذا الجدار مُحي من الوجود ولم يبق له أثر.

في الحقيقة ربما كان طلبي –أو بالأحرى رجائي- الإبقاء على جزء من شاهد المكان، ليس مجرد رَثاء للمكان، بل هو محاوَلة للفهم، لسبر أغوار زمن لم يعد له وجود إلا في ذكريات من عاشوه بوَعي وقدرة على التمثل والتذكر. كان ذلك الجزء من جدار المبنى عادي، قد لا يقلق أحد على هدمه أو الإبقاء عليه، ولكن برأينا، كان له وظيفة التذكير بالظروف الاجتماعية والاشراطات التي يمكن لكل صاحب قول ممن امتلكوا القدرة علة التذكر نتاجاً لها، وكذا، مسار هذا الشخص وتكوينه، وخبراته المهنية.

ولا تتوقف أهمية الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية على الفترات القريبة فقط، ونعني بها الستينات والسبعينات وبدايات الثمانينات، بل أن هناك فترات في تاريخ الإمارات والمنطقة، بحاجة ماسة إلى قراءات جديدة ليس على ضوء ما توفّر من وثائق –أجنبية في جلهّا وعلى الرغم من أهميتها بل تكاد تكون هي أهم المصادر المدونة عن تاريخ المنطقة- كفترة الأربعينات والخمسينات والستينات، فقد كانت المنطقة تمور بأحداث ووقائع لازالَ شهودها أحياء بيننا اليوم، لم يُراجع معهم أحد من الباحثين والمهتمين تاريخ تلك الفترة التي سبقت إعلان الاتحاد وقيام دولة الإمارات، بل، ولازالَ العديد من رجال تلك الفترة ممن أسدوا خدمات وقاموا بأدوار مشرفة في سبيل الوطن، لازالت أخبارهم متناثرة إلى اليوم في مدونات ووثائق ومصادر أجنبية لم تُراجع، ولم تُجمع، ولم يُنشر شيء من تلك الوثائق نشراً علمياً عن طريق دراسات معمقة وموثقة. وبعملية جرد سريعة في ما دوّنه جي.بي. كيلي في كتابه الحدود الشرقية لشبه الجزيرة العربية على سبيل المثال يمكن الوقوف على أسماء لشخصيات لعبت دوراً مهماً في تاريخ المنطقة، ومع أن الأسماء معروفة ومشهورة ومتداوَلة بين أبناء القبائل، إلاّ أننا نادراً ما نجد دراسات حولها سواء كانت تاريخية، أو سوسيولوجية يبرز تلك الأدوار بشكل علمي مدروس وممنهج يستفيد منها الباحث والدارس والمؤرخ المهتم، بل ونكاد نلحظ نُدرة الدراسات الأنثروبولوجية عن طبيعة العلاقات، وحياة أبناء المجتمع القبلي في فترة ما قبل النفط، ولا زالت برأينا الفرصة سانحة للقيام بمثل هذه الدراسات الميدانية، على اعتبار أن العديد من الآباء والأجداد ممن عاصروا فترات الأربعينات والخمسينات والستينات لازال  من الممكن تتبع آثار وأخبار تلك الأيام منهم، أو من أبنائهم.

إن نُدرة تلك الدراسات الأنثروبولوجية المعمقة، ُيقابله اهتمام غربي كبير بموضوع القبيلة وتقسيماتها، وعلاقاتها بالقبائل الأخرى، والانتماء وما يعنيه إلى المجتمع العشائري وما يحدده هذا الانتماء من سلوك (كان سائداً إلى عهد قريب) في جميع مستويات المنظومة الاجتماعية، والانصهار، وتحالفات القبائل لمواجهة أي خطر خارجي، وما إلى ذلك من مواضيع تمس طبيعة وتركيب وخصوصيات المجتمع القبلي، لقيت الاهتمام الواسع (بِغَض النظر عن دوافع هذا الاهتمام بالنسبة للدارس والأنثروبولوجي الغَربي ودون الدخول في تفاصيل تلك الدوافع) منذ أواخر الأربعينات حيث عنى سوسيولوجيون وأنثروبولوجيون، وكذا مؤرخون وفي بعض الأحيان جغرافيون بدارسة المجتمعات المغاربية من خلال نماذج نظرية تم إعدادها في إطار مجتمعات أُخرى تشترك معها في بعض سماتها الأساسية.(7)

بل أن الفرنسي مونتاني Montagne (R.) بحث في ما أسماه “ديمقراطية القبائل” حين تعرّض لقبائل بالأطلس الكبير في 1930. بل هناك من سبقه في الدراسات الأنثروبولوجية التي اهتمت بدراسة المجتمعات القبلية، حيث أصدر هانوتو ولوتورنوHanoteau(A.) Letourneux (A.) كتابهما: القبائل والأعراف القبائلية (1872)، بعدها أصدر ماسكري Masqueray دراسته: نشأة الحواضر لدى السكان المستقرين بالجزائر. كما عالجت بعض الدراسات مسألة تمسك القبائل بحرية ثقافية وسياسية إزاء الحكم المركزي، والانتخابات الدورية لتعيين رؤساء القبائل، ونظام المبادلات بين القبائل، وحركات الهجرة التي تؤدي إلى النزوح النهائي لبعض الأفراد، وتبني القبائل لأفراد أتوا من مناطق أخُرى، والرجوع إلى المنظومة الانقسامية لتعيين خصائص القبائل، والعنف الجماعي في القبيلة (أو بين القبائل) وكيفية ضبطه وذلك لتفشي النزاعات في جميع المستويات قديماً من أجل المراعي أو الآبار، والاستقلال الذاتي الذي تمتعت به بعض القبائل، والذاكرة الجماعية القبلية وميلها الفطري نحو المبالغة والتأكيد على النسب، مع إعطاء الأسبقية لعلاقات القرابة بَدَل (عِوَضَ) الانتماء الجغرافي والكثير الكثير مما يمكن أن يدخل في باب أنثروبولوجيا القبيلة.

في كتابه الانثروبولوجيا والاستعمار، استخدم جيرار لكلرك عبارة الاستعمار العلمي، في توضيحه لدور الانثروبولوجيا المبكر، فهو يَراها إما وَصف لشروط الوجود البدائي في المرحلة السابقة على دخول الاستعمار، بحيث تصف نمط هذا الوجود قبل أن يصار للقضاء عليه، أو أنها تتناول وصف شروط هذا الوجود كما صنعه الاستعمار وبذلك يتحول حقلها إلى دراسة “التغير الاجتماعي” أو “التثاقف”.(8)

ويشير الأنثروبولوجي الإنجليزي هنتر، وهو من العاملين الميدانيين في هذا المجال بالقول “لقد قمنا بدراسة شعوب بشكل لم يقم به أي منتصر، وبشكل لم تُدرس أو تُفْهَم فيه قبيلة خاضعة للسيطرة. فنحن نعرف تاريخهم وعاداتهم وحاجاتهم ونقاط ضعفهم بل وأحكامهم المسبقة، وهذه المعرفة الخاصة قد أتاحت لنا توفير قاعدة للإرشادات السياسية التي يمكن ترجمتها بالحذر الإداري والإصلاح اللازم في حينه، وهذا ما يُرضي الرأي العام”. (9)

وبرأينا لم يقم علم من العلوم على فهم ودراسة القبيلة بمفهومها الاجتماعي أكثر من الانثروبولوجيا، ويما أن الانثروبولوجيا، تتغذى دائماً من الاختلاف كما أشارت فالنِسي Valensi في إحدى دراساتها، فهي تتوجه نحو المجتمعات الأكثر تجانساً، والمتميزة بنسقها الاجتماعي القائم على القرابة الدموية والمعتمدة أيضاً على نظام اقتصادي جماعي ونظام سياسي يعتمد على الزعامة وتتحكم فيه الظروف الايكولوجيه. وقد ظهرت كلمة أنثروبولوجيا لأول مرة عام 1832م حين بدأ الإنسان يدخل حيّز هذه المعرفة كموضوع للدراسة، وأضحت الشعوب المكتشفة حديثاً مقصد علماء الانثروبولوجيا وميداناً خصباً لأبحاثهم، ويفكون بناها الاجتماعية محاولين الوصول إلى القوانين الخاصة التي تشتغل وفقها هذه المجتمعات، مما جعلها تختلف اختلافاً جذرياً عن المجتمعات الأوربية آنذاك. (10)

على أن هناك أنثروبولوجيون معروفون ككلود ليفي شتراوس C.Lévi-Strauss والذي تحررّ من دعاوي العِرق والجنس والقوة، التي ميزت أهم سمات (الاستعمار العلمي)، ودافع عن التنوع الثقافي الإنساني ودعا إلى ضرورة الحفاظ عليه واستنباط الوسائل التي تمده بالتجدد والديمومة. وهذا ما جعله يكتب في عام 1952 كتابه الصغير “العِرْق والتاريخ”، الذي أصبح من النصوص الكلاسيكية التي تندد بالعنصريات المختلفة، وأضاف إليه بعد عشرين عاماً تقريباً، “العِرْق والثقافة”، الذي يستأنف أسئلة النص الأول ويزيدها وضوحاً. ولعل فكرة التنوع الثقافي هي التي أملت عليه، منذ زمن مبكر، أن يتحرر من المركزية الثقافية الأوربية، وان يذهب إلى ثقافات مغايرة في طريق الانقراض، تعامل معها الاستعمار الأوربي بأدوات القتل والإبادة والاجتثاث، بعد أن رأى، ولا يزال في غير الأوربي خطيئة ونظيراً للشيطان. في رحلته إلى قبائل “بدائية” في أطراف البَرازيل كان شتراوس يعترف، أخلاقياً، بثقافة غريبة عنه، ويعترف، علمياً، أن للـ “آخر” وجوده العياني الذي لا يُشتق من كليات ايديولوجيه جاهزة، وهو في الحالتين، وكما جاء في كتابه “مداريات حزينة” يؤكد الأخلاق عنصراً داخلياً في الإنتاج المعرفي ويصيّر المعرفة قضية أخلاقية، بعيداً عن الاجتهادات الأكاديمية، وهذا هو جوهر المجتمعات القبلية التي يمكن دراستها.(11)

إن العادات، والتقاليد والأعراف والموروثات الشعبية واللهجات وما إلى ذلك، لكل قبيلة من القبائل، هي في الحقيقة مجال خصب لمشاريع دراسات أنثروبولوجية ممكنة، والأخلاقيات التي تحرص على صونها وتناقلها، وزرعها في عقلية كل فرد من أفرادها ومدى ملائمة هذه (الموروثات) لنقل لأنها أعم وأشمل، مع التطور الهائل، والعولمة التي تجتاح العالم، جديرة بالفعل بدراسات جادة نحن بحاجة إليها، ويمكن للتاريخ أيضاً أن يُلاحق الجغرافيا، بأدوات الانثروبولوجيا الميدانية، يمكن إنجاز أعمال يمكن أن تكون لها خصوصية معينة، في بحث تاريخ القبيلة، ودراسة خصوصياتها تفتقر إليها في الحقيقة، خاصة أن مثل هذه الدراسات تركزت على دول المغرب العَرَبي بفعل التواجد الفرنسي آنئذ، وكما قدمتها الانثروبولوجيا الفرنسية. إن هذه الفجوة، وهذا الافتقار لدراسات أنثروبولوجية علمية لموضوع مثل موضوع القبيلة (وهي في جميع الأحوال مجرد مجال واحد من مجالات عديدة يمكن التطرق إليها لاحقاً) لازال قائما، ولعل مرد ذلك ربما إلى ما عانته الانثروبولوجيا (كعلم) من الظروف التاريخية لنشأتها وعلاقتها مثلاً بمشاريع الاستعمار وببعض النظريات العنصرية وكذلك بمشاريع التبشير وغيرها. لذلك ساعدت الأوضاع التاريخية الخاصة بالانثروبولوجيا إما على التجاهل السلبي والمطلق لأهمية هذا العلم أو على استغلال ظروفه التاريخية كقرائن تدين الغرب (ونحن لم نحذو حذوه في هذا المجال بالطبع في الدراسات الميدانية العلمية) وتوسيع ساحة المعارك معه على اكثر من صعيد، فقد سادت حقل الكتابة العربية في هذه الميادين كتابات قليلة تميزت بالجدية، (12) ككتابات عبد الله عبد الرحمن يتيم وأحمد أبو زيد وحسين فهيم وسليمان نجم خلف وأسماء أُخرى تعد على الأصابع، في مقابل كتابات أُخرى ساحقة أخذت على عاتقها ممارسة أدوار تمثلت في تكريس الابتذال والسطحية والتهافت خلف الترقيات “الأكاديمية” فقط، وهكذا أنتجت هذه الفئة كتباً جامعية أصبحت تكرسّ أساليب بالية في التفكير، بل وتجتر أفكاراً واطروحات ونظريات علمية عفا عليها الزمن.(13)

ومشكلة الانثروبولوجيا، أن البعد الاستعماري قد جرى تضخيمه والمبالغة فيه بشكل هائل. خارج هذا التضخيم فان نسبة ما لايقل عن 10% من الأنثروبولوجيين كما يشير عبد الله عبد الرحمن يتيم الذين دان لهم هذا العلم قد انطلقوا في دراساتهم من غايات علمية تحاول أن تكون متجردة ما وسعها الأمر. وهذا بالطبع، لا ينفي وجود فئات هامشية صغيرة من المرتزقة والطامعين أو من المبشرين الدينيين الذين حاولوا استغلال ما توفره الدراسة الأنثروبولوجية من مآرب خاصة يتم انكشافها بسرعة.(14)

قائمة المراجع

1.    أوان، العدد 2، السنة الأولى، 2002، عبد الله عبد الرحمن يتيم، مشيخات شرق الجزيرة العربية- رؤية أنثروبولوجية بريطانية، ص:112

2.    البيئة الاجتماعية والسياسية وأثرها في قيام دولة الإمارات العربية المتحدة، د. نبوية حلمي أبو باشا، مركز الوثائق والبحوث، أبوظبي، ط1، 2002م، 2 ص (42)، 3 ص(43)، 4 ص (46) ، 5 ص (51،50).

3.    الانثروبولوجيا والاستعمار، جيرار لكلرك، ترجمة د. جورج كتورة. معهد الإنماء العربي، بيروت، ط1، 1982، 6 ص (33،32،  7 ص (34).

4.    مجتمعات للذاكرة مجتمعات للنسيان، محمد الهادي الجويلي، سيراس للنشر، تونس، ط1، 1994م، 8  ص(14).

5.    دفاتر انثروبولوجيه، عبد الله عبد الرحمن يتيم، مؤسسة الأيام للصحافة والنشر والتوزيع، المنامة، ط1، 2000،  10 ص (10،9)، 11 ص (336).

6.    الانثروبولوجيا والتاريخ، ليليا بنسالم، مجموعة مؤلفين، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 1988، 5 ص(11).

7.    مداريات حزينة ، كلود ليفي شتراوس ، دار كنعان ، بيروت ، ص : 7،8،9 .