حول نظرية الوظيفة الثقافية للأسطورة عند “مالينوفسكي”

عامر السدراتي
مقدمة:

ما الأسطورة ؟ سؤال انكب عليه عدة باحثين درسا , كل حسب تخصصه و حسب منطلقا ته الابستيمولوجية , منهم الاركيولوجي , المؤرخ , السوسيولوجي , المحلل النفسي , الفلكي , الميتافيزيقي , الابستيمولوجي,……الخ.
فهل بقي للانثروبولوجي ما يدرسه في الأسطورة؟
بعد استعراض بعض التعريفات التي حاولت فهم و تحديد مفهوم الأسطورة , سأعرض وجهة نظر “برونسلاو مالينوفسكي” في هده المسألة , باعتباره من أهم رواد المدرسة الوظيفية في الانثروبولوجيا.

فالأسطورة بالنسبة للمدرسة الطبيعية هي تعبير رمزي و خيالي عن الظواهر الطبيعية و المناخية كحركة القمر, لون السماء , و الرياح . أما النظريات التاريخية فهي ترى أن الأسطورة ترتبط بأحداث ماضية . في حين تعتبرها مدرسة التحليل النفسي مجرد أحلام اليقظة , و لا يمكن معرفة حقيقتها إلا بالغوص في اللاوعي . و هناك من يذهب لاعتبار الأسطورة مجرد قصة بسيطة, ناجمة عن جهد فكري قام به أناس لا شغل لهم. و قد اعتبرها الاتجاه التطوري في الانثروبولوجيا محاولة من البدائي لفهم العالم و تفسيره. 1

في حين يرى “مالينوفسكي” أن كل هده التعريفات لم توفق في فهم الأسطورة , فهي لا تدرس – حسب تعبيره – من خلال كتب ضخمة , و في غرف موصدة , كمقاطع معزولة عن سياقها الاجتماعي . فالأسطورة ليست مجرد قصة تروى , بل هي حقيقة معاشة. و هي بالنسبة للبدائي كأساطير بدء الخلق و صلب المسيح بالنسبة للمسيحي. فأساطير البدائي تعيش في طقوسه, و في أخلاقه, بل هي تسيطر على معتقداته و تقوم سلوكا ته. و عندما تتم دراستها في سياقها الحي, فهي أنداك لا تبدو كإنتاج رمزي فقط, بل كتعبير مباشر عن حالة الأفراد الدين يحملونها.

فقد كان “مالينوفسكي” من السباقين إلى تبني البحث الميداني , و الاعتماد على تقنية الملاحظة المباشرة و المعايشة , في دراسته لل”مجتمعات البدائية” . فقد وظف هدا المنهج في دراسته للوظائف التي تضطلع بها الأسطورة في الحياة اليومية “للبدائي”, ودلك من خلال معايشته للسكان الأصليين في جزر”التروبرياند ” الواقعة في الشمال الشرقي بغينيا الجديدة. فقد أتقن لغتهم, و شاركهم طقوسهم, و صاحبهم في رحلاتهم. و قد اصدر عدة أبحاث تخص سكان هده الجزر منها “أخلاق و عادات الميلانيزيين.” 2

و هو المؤلف الذي سيحاول هدا العرض الاعتماد على جزء منه, والمعنون ب ” الأسطورة في السيكولوجية البدائية.” 3

اذن ما هي الخطوط العريضة لهده الدراسة ؟ و ما هي وظائف الاسطورة؟

ادا كان الفلكلور – حسب “فرانز بواص” – هو دراسة الأدبيات التقليدية, لا الأعراف و التقاليد. 4 فان الحكايات تشكل جزءا من هده الأدبيات, بل يمكن اعتبارها مدخلا لدراسة, ليس فقط الأعراف و التقاليد, بل لمعرفة مجمل صور الحياة الاجتماعية و النفسية للسكان. و قد قسمها “مالينوفسكي” إلى ثلاث فئات , حسب أهمية الوظيفة التي تؤديها في المجتمع “التروبرياندي” :

الحكايات الشعبية (القسم الأول), ثم الخرافات التاريخية (القسم الثاني) و أخيرا الأساطير أو الحكايات المقدسة (القسم الثالث).

القسم الأول:

الحكايات الشعبية (les contes populaire   (kukwanebu)


يسمي” التروبريانديون” هدا النوع من الحكايات “كوكوانبو”, وهي تحكى في “موسم حكايات الجنيات”, حيث يتحلق ” الأهالي” حول النار من اجل المسامرة و الضحك, وتعد هده الحكايات في ملكية جماعة معينة, و لا يجوز سردها إلا من طرف أصحابها, بحيث يمكنهم إهدائها لجماعة أخرى . و يعتقد ” الأهالي” – اعتقادا ليس جادا – أن لإلقاء هدا النوع من الحكايات اثر جيد على المحصول الفلاحي. 5

يعترف ” مالينوفسكي ” بأهمية متن (مضمون) هده الحكايات , إلا انه حين يتم عزله عن سياقه الاجتماعي فانه يصبح مجردا من الحياة. ” فالحكايات تستمد حياتها من حياة الأهالي, و لا توجد فقط على الورق. و عندما يقوم عالم بتدوينها دون أن يكون قادرا على معرفة المناخ الذي انبثقت منه, فانه سيعطي صورة مشوهة عن الواقع.” 6 و تتلخص وظيفة هده الحكايات في التسلية, و تحقيق التعارف و الاندماج الاجتماعي.

القسم الثاني:

الخرافات التاريخية( les légendes) (libwogwo)

نتجت هده الخرافات عن الاحتكاك اليومي بواقع غير معتاد, واقع يحيل إلى ماضي تاريخي قديم. كما أن إلقائها لا يرتبط بوقت معين أو بموسم ما, وهي لا تتعلق بأي اثر سحري. إلا أن ” التروبريانديون” يعتقدون بمصداقيتها و يثقون بصحة المعلومات الواردة فيها. و يتعلق مضمونها بعدة ذكريات منها (الجفاف, المجاعة القاتلة, مغامرات البحارة في البلاد البعيدة, اسماك ضخمة و مخيفة, صخور راقصة, رجل مسخ قردا…….الخ).

و قد قسم ” مالينوفسكي” هده الخرافات بدورها إلى ثلاثة أصناف, و دلك انطلاقا من سند رواتها :

الصنف الأول : (Récits historiques) – حكايات تاريخية

وهي الحكايات التي يكون ساردها شاهدا مباشرا عليها, أو أن شخص أخر يكون قد احتفظ بذكراها الحية و يضمن مصداقيتها.

الصنف الثاني :(Les légendes) – حكايات تقليدية

تكون سلسلة رواة هده الحكايات مقطوعة, إلا أن مضمونها لا يتجاوز التجارب اليومية العادية ل”الأهالي”.

الصنف الثالث :(Récits reçus par transmission orale) – حكايات منقولة شفويا

تتمحور هده الحكايات حول أحداث وقعت في أماكن بعيدة, و في عصر لا علاقة له بالثقافة الراهنة.

لكن رغم ما سبق, يعتبر هدا الصنف من الحكايات حقيقيا لدى “الأهالي”, و يرتبط موضوعه غالبا بأنشطة اقتصادية أو حربية, بالمبادلات التجارية, بالمغامرات, بالرقص…….الخ.

أما وظيفته الاجتماعية فهو الرفع من مصداقية شخص أو جماعة ما, وكدا تمجيد الأسلاف. هدا إضافة إلى فائدته السوسيولوجية, حيث يعدد القبائل , العشائر و العائلات التي تنسب لها أحداثا معينة.

القسم الثالث:

الأساطير أو الحكايات المقدسة(Les mythes) (Liliu)

تعد الأساطير أكثر أهمية من الصنفين السابقين من الناحيتين الاجتماعية و الثقافية. فهي تعتبر مقدسة من طرف “الأهالي”, بحيث تتجسد في الطقوسي , في الأخلاق, و في التنظيم الاجتماعي. فهي تشكل جزءا حيويا من مكونات الثقافة البدائية. فلا يوجد سحر دو أهمية, أو احتفال أو طقس غير مصحوب بمعتقد ما, هدا الأخير يتجلى بوضوح في ثنايا الأسطورة.
ادن, الأسطورة تراقب و تتحكم في جل الممارسات الثقافية, و تعتبر محور عقائد الحضارة البدائية.

يعالج “مالينوفسكي” ثلاث أصناف من الأساطير “التروبرياندية” , و هي :
الصنف الأول :الأساطير المرتبطة بالبدايات

يعتقد “الأهالي” – حسب ما تمليه عليهم الأسطورة – أن أصلهم يعود إلى العالم التحت-ارضي, حيث كان أسلافهم يعيشون حياة تشبه حياتهم فوق الأرض. حياة فيها قرى, تراتبية اجتماعية, عشائر, امتيازات, ملكية, سحر, تقسيم الأراضي, نشاط اقتصادي….الخ من مظاهر الحياة الاجتماعية التي توازي حياة “التروبريانديين” الحقيقية.

و قد حدث أن خرج من تحت الأرض الزوج الأول: الأخت كرئيسة للعائلة, و الأخ باعتباره حاميا لها. و قد تم دلك (الانبثاق الاول) من خلال أماكن خاصة يسميها “الأهالي” تجويفات, وهي عبارة عن كهوف, جذوع الأشجار, ركام من الأحجار, عيون….الخ. هدا الزوج الأول هو الذي أعطى الجماعة الصفة الطوطمية, الصناعية, السحرية و السوسيولوجية.

يتكون المجتمع “التروبرياندي” من أربعة طبقات أساسية, خرج ممثلوها من مناطق خاصة. فأول حيوان خرج إلى سطح الأرض هو طوطم عشيرة “لوكولابولا” , و هو من صنف السحليات (الزواحف), وقد تسلق – بمجرد خروجه – أعلى شجرة, و أخد يتابع الأحداث. ثم خرج الكلب, طوطم عشيرة “لوكوبا”, و التي كانت تحتل الرتبة الأعلى بين العشائر. فتلاه الخنزير طوطم قبيلة “مالازي” التي تتربع الآن على قمة تراتبية القبائل. دلك لأنه حدث أن الكلب – طوطم عشيرة “لوكوبا” – قد أكل نبتة محرمة (نوكو), فأمسى الخنزير هو الرئيس, و بالتالي أصبحت قبيلة “مالازي” تحتل المكانة الأسمى في هرم التراتبية. أما الطوطم الذي التحق أخيرا, هو طوطم عشيرة “لوكوازيزيكا”, الذي يمثل تارة بالتمساح , و تارة أخرى بالأفعى, وفي بعض الأحيان يكون مجهولا.

لفهم هده الأسطورة – يقول “مالينوفسكي”- يجب فهم سوسيولوجية ” الأهالي” , ديانتهم, أعرافهم, و عاداتهم…الخ. لان هناك مسالتان تحتلان موقع الصدارة في جدالات “الأهالي”, الأولى هي مسالة العشيرة الأعلى مرتبة, و الثانية هي مسالة المحرمات الغذائية.

فرغم أن هده الأسطورة قد حسمت في كون أن العشائر الأربعة هي التي تحظى بالأولوية بين باقي العشائر فيما يخص التراتبية الاجتماعية. إلا انه يتضح من سياق الأسطورة أنها لا تحترم هدا الترتيب بجدية, و لا تخضع بصرامة لمنطق تسلسل الأحداث الأسطورية. لكن هدا لا يؤثر على القيمة الرمزية للأسطورة , لأنه ” في كل الحالات التي يظهر فيها نزاع حول الأراضي, اختلافات في مادة السحر, أو حول حقوق الصيد أو باقي الامتيازات, يتم استدعاء الأسطورة كشاهدة.” 7

يبقى أهم ما في هده الأسطورة – في اعتقاد “مالينوفسكي”- , هو وظيفتها الاجتماعية التي تتلخص في خلقها الانسجام الاجتماعي, و تقويتها للشعور بالوحدة و القرابة بين أفراد العشيرة الواحدة, و خلقها للرابطة الحميمية التي تربط السكان بالأرض, ولعل هدا ما يؤدي للاستمرارية التاريخية للامتيازات الترابية , التي تضل حكرا على المنحدرين مباشرة من نفس الأصل. ادن, فأسطورة الأصل هاته تؤسس ل”ميثاق شرعي”, يتم بمقتضاه ضمان حق عشيرة ما في السلطة و الإقليم (السيادة).

يبدو انه عند الشروع في دراسة الوظيفة الاجتماعية للأسطورة لاستجلاء دلالاتها, إن صورة كاملة نسبيا عن التنظيم الاجتماعي للسكان الأصليين, تبدأ في التكون شيئا فشيئا. لدا فانه عند تحليله لوظيفة أسطورة الأصل, تطرق “مالينوفسكي” لعدة مواضيع تهم سوسيولوجية ” التروبريانديين” منها : الصراع بين العشائر و النزاع القائم داخلها, بنية السلطة داخل العشائر و علاقتها بمؤسسة الزواج مثلا, قوانين الحرب و مراسيم السلام, التراتبية الاجتماعية بين العشائر المستقاة من أسطورة الأصل.

تقدم الأسطورة تاريخا مشحونا بالعواطف و التوترات الاجتماعية. و هي تستمر في الزمان و المكان, لأنها عبارة عن وعاء يحفظ قوانين و أخلاق الأسلاف, الدين يعتبر “الأهالي” امتدادا لهم. فالأسطورة لها ارتباطا وثيقا بالواقع المعاش للسكان الأصليين.

الصنف الثاني : الأساطير المرتبطة بالموت و تكرار دورة الحياة:

تقول الأسطورة انه بعد الوفاة , تذهب كل الأرواح إلى جزيرة “توما”. فتدخل عبر تجويف خاص إلى العالم التحت-ارضي, فتمر بحارس عالم الأرواح الذي يمنحها هدية, و بعد دلك يستقبلها أفراد عائلتها و أصدقائها (الأرواح), فتخبرهم عن أخبار العالم الفوقي. و هكذا تبدأ الروح حياتها الجديدة التي تشبه جنة حقيقية – وفي هدا سيرورة معاكسة للانبثاق الأول-.

لقد كان الإنسان – في العالم السفلي- يجدد شبابه عن طريق تبديل جلده, لكنه فقد هده الميزة. دلك لان جدة ذهبت صحبة حفيدتها إلى البحر للاستحمام – حسب الأسطورة دائما-, فبقيت الحفيدة في الشاطئ بينما كانت جدتها تسبح بعيدا, نزعت الجدة جلدتها فأصبحت شابة, لكنها عندما عادت إلى حفيدتها طردتها هده الأخيرة لأنها لم تتعرف عليها. فقفلت الجدة إلى البحر, لبست جلدتها لتعود عجوزا كما كانت. و عند عودتها إلى البيت, و قالت لابنتها: ” كنت استحم فاخذ التيار جلدي, لم تتعرف علي ابنتك وطردتني. لن انزع جلدي ثانية. سوف نصبح كلنا عجائز, سوف نموت جميعا.” 8

تبدو هده الأسطورة تافهة للدين لم يقوموا بدراستها على ضوء الطقوس, الأفكار و العادات المرتبطة بالموت و الحياة ما بعد الموت. ف”الأهالي” يعتقدون انه لا علاقة تربط بين الشيخوخة, تدهور الصحة, و المرض من جهة, وبين الموت من جهة ثانية. فالصحة – حسب اعتقاد “التروبريانديين”- هي الحالة العادية للناس , و لا يمكن أن تتدهور إلا عن طريق حادثة ما , أو بسبب فوق-طبيعي.

تنجم الأمراض البسيطة و العابرة عن السحر , وهناك أسطورة تتحدث عن كون السحر قد انتقل إلى جزر “التروبرياند” عن طريق سلطعون (سرطان).أما الأوبئة فهي ناجمة عن أفعال الأرواح الشريرة, التي تتجول ليلا بين القرى محدثة اصواتا, تصيب السكان با لهلع, و يعد اجتياحها للقرية منذرا بالهلاك الجماعي.

و خلال إقامة “مالينوفسكي” بجزر”التروبرياند” , انتشر بها مرض خطير, فزعم الكثير من “الأهالي” أنهم سمعوا أصوات الأرواح الشريرة, و أن احدهم شاهد إحدى الزواحف العملاقة , وحين قام بقتلها مات فانتشر الوباء في القرية. في حين ادعى آخرون أنهم رأوا ثعبانا عملاقا و مزركشا, لكنه اختفى بمجرد اقترابهم منه. هده أساطير صغيرة تتنا سل با استمرار من خلال خطاطة الأسطورة الكبيرة, و هي تعبر عن مجموع الأنشطة الثقافية للسكان الأصليين.

للمزيد من الفهم للأسطورة السابقة , يجب تفسيرها على ضوء معتقدات الأهالي المتعلقة بعالم الأرواح, و كدا الأنشطة التي يقومون بها بمناسبة “عيد عودة الأرواح” (ميلامالا), وكدا الإحاطة بتمثلهم العلاقة بين عالم الأرواح و عالم الأحياء. فالتواصل مع أرواح الأموات يتخذ عدة مظاهر, من “الأهالي” من يصادفها جوار قرية أو منطقة “توما”, وهناك من يلتقي بها في حالة أو الهياج فيخبرها عن حالة الناس فوق الأرض, و ينقل بالتالي أخبار الأرواح إلى الأحياء, و هناك من يتولون مهمة نقل الهدايا و المأكولات و الأشياء النفيسة من عند الأحياء و يقدمونها إلى الأرواح. 9

يخلد “التروبريانديون” حفلا سنويا يدعى “ميلامالا”, فيه تعود الأرواح من “توما” إلى القرية. فتقام لها منصة تمكنها من مشاهدة الأحياء يلعبون و يتسلون, و تعرض فيها الولائم بكثرة لإدخال الفرحة إلى القلوب. و عند الصباح تعرض الأشياء الثمينة أمام كوخ الزعيم و الأثرياء و الأعيان. وتكثر الطابوهات لحماية الأرواح , فيمنع صب السوائل الساخنة, و قطع الخشب, و اللعب بالعصي, و كدا رمي الحجارة, و كل ما من شانه أن يسبب في اداية الأرواح.

تعد هده الأساطير خلفية لتصور علاقة الإنسان بالأرواح, فهي تشمل انشغالاته , مخاوفه و قلقه. و هي توحي بوجود خطاطة واسعة و منسجمة للمعتقدات “البدائية” التي تتعلق بواقع ثقافي يحدد كل التمظهرات الملموسة للمعتقدات و العواطف.

لهده الأسطورة طابع ميتافيزيقي – حسب “مالينوفسكي”- فهي تعالج مصير الإنسان و تتعلق بالجانب العاطفي و البرجماتي, فهي تحاول مراوغة الإحساس المشحون بردة فعل عاطفية قوية تجاه المصير الحتمي الذي لا يمكن مواجهته (الموت).

إلا أن البدائي دائما لا يستقي موقفه من الموت فقط من معتقداته الأسطورية, بل كدالك من عواطفه, فإحساسه الجاد بالخوف من الموت, و رغبته الكبيرة في إبعاده ما أمكن, قلقه العميق, كلها عوامل تجعله يرتمي في أحضان المصير المتفائل الذي ترسمه له الأسطورة, و هو الانتقال السهل إلى عالم الأرواح/الجنة. (في هدا السياق تحدث “مالينوفسكي” عن التجربة الوجدانية لصديقه البدائي المحتضر بسبب مرض السل, والدي سيطر عليه نوع من الخوف من الموت.)

الصنف الثالث :الأساطير المتعلقة بالسحر

يعتقد “مالينوفسكي” أن السحر يشكل الوجه الأكثر أهمية و غرابة في الموقف البرجماتي للبدائي من الواقع. فالسحر يلعب دورا أساسيا في أنشطة البدائي, خاصة تلك التي يلعب عامل الحظ و المصادفة فيها دورا أساسيا. ويسيطر كذلك على الانشغالات التي يصاحبها صراعا داخليا بين الأمل و الخوف, وعلى تلك التي يلعب فيها عامل الخطر دورا مهما مثل الغرس, صيد القرش, الحرب, الحب, المرض, المبادلات التجارية المهمة….الخ.

في حين يغيب السحر عن الأشغال التي يمكن القيام بها بثقة, و التي تكون مصحوبة بالشعور بالأمان, والتي تخضع للطرق العقلانية و الإجراءات التقنية.

ادن فالسحر يسد الثغرات الناتجة عن عدم كفاية قدرات الإنسان للقيام بعمل ما. انه يعطي البدائي إيمانا مطلقا في قدرته على النجاح, في حين تعجز الوسائل الأخرى في منحه هده الثقة.
يقول “مالينوفسكي” إن أهم عنصر في السحر بالنسبة ل”التروبريانديين” هو الصيغة السحرية, و التي تعد بدورها عنصرا من عناصر المعرفة التقليدية, و بالتالي فهي ترتبط بالأسطورة. فالسحر لا يعد فعالا و ناجعا ادا وقع فيه تحريف. لهدا السبب لا بد له من تأشيرة تقليدية تضمن أصالته و صحته في رحلته الزمنية عبر الأجيال, و الأسطورة هي التي تضمن له هده المصداقية, فهي الحامل الأمين للسحر و عناصره. والسحر- حسب “الأهالي” – أزلي, لا أصل و لا بداية له, انه وجد مع وجود العالم.

هناك أسطورة حول السحر تقول: اعد شاب شرابا سحريا لإحدى الفتيات, فشربته أخته خطئا فاغر مت به, وبدأت تلاحقه و تغريه حتى واقعها في الشاطئ, فندما على ما فعلا, فدخلا في غار و امتنعا عن تناول الطعام حتى ماتا جوعا. فنبتت وردة على جثتيهما, هده الوردة تعتبر الأكثر فعالية في خليط سحر الحب.

فالإغراء و الحب يلعبان دورا حيويا في حياة “الأهالي”, إلا أن الخيانة الزوجية تعتبر جريمة يعاقب عليها, و كدالك ممارسة الجنس مع بنات العشيرة ذات الطوطم الواحد, اد تعد جد محرمة. لكن اخطر جريمة لدى ” الأهالي” هي زنا المحارم. أما ممارسة الجنس خارج العشيرة فتحمها الحرية المطلقة, و يكمن الإغراء الجنسي و القدرة على الإغواء في فعالية السحر المتعلق بالحب.

يشيد “مالينوفسكي” بنظرية أصول السلطة و الملكية ل “جيمس فرازر” .فالتفوق الاجتماعي –حسب “فرازر”- يعد من آثار السحر.و يرى “مالينوفسكي” أن اكتشافه للوظيفة السوسيولوجية للأسطورة يدعم هاته النظرية.

خاتمة:
حاول “مالينوفسكي ” البرهنة على أن الحكايات التي تكون فلكلور” الأهالي” لا يمكن فصلها مبدئيا عن السياق الاجتماعي و الثقافي للحياة القبلية. فالأفكار و الأحاسيس المتضمنة في الحكاية لا تثار فقط أثناء سرد الحكاية, بل عند كل عرف و قاعدة أخلاقية يتم استحضارها, بل و في كل طقس. فالنسبة للنوع الأول “كوكوانبو”, يتقلص فيه السياق السوسيولوجي إلى أدناه. في حين يدخل النوع الثاني “ليبووكوو” كمكون أساسي في الحياة القبلية. أما الأسطورة – “ليليو”- فهي تقدم نموذج القيم الأخلاقية النظام السوسيولوجي للمعتقدات السحرية.

فالأسطورة ادن –يقول “مالينوفسكي”- ليست حكاية عادية و لا محاولة للتفسير العلمي في شكله البدائي , و لا عمل فني ولا وثيقة تاريخية, إنها تؤدي و وظيفة أساسية ترتبط بطبيعة التقاليد , باستمرارية الثقافة, بالموقف الإنساني من الماضي.

فقد أتى “مالينوفسكي” بمنهجية جديدة – المعايشة – لدراسة الفلكلور, و من خلالها بين استحالة فصل الأسطورة عن الطقوسي , عن السوسيولوجي, و عن الثقافة المادية.

أخيرا, هناك سؤال مشروع يطرح نفسه , رغم ارتباط الأسطورة بالمجتمعات التقليدية إلا انه يجوز القول أنها امتدت إلى الذهنية المعاصرة متنكرة تحت أثواب مختلفة؟ ا

يقول الانثروبولوجي البنيوي “كلود ليفي ستروس” : ” ….لا شيء يشبه الفكر الأسطوري أكثر من الإيديولوجية السياسية. وربما حلت في مجتمعاتنا محل هدا الفكر فقط.” 10

لائحة المراجع:
1- Bronislaw , Malinowski ; « le mythe dans la psychologie primitive » ; un texte extrait de « Mœurs et coutumes de Mélanésiens » ; traduit de l’anglais par Dr. Jankélévitch.

Du site web : http : //www.uqac.uquebec.ca/zone 30/classiqes des sciences sociales/index.html.

2- Madeleine Grawitz ; « Lexique des sciences sociales » ; 8éme édition ; 2004.

3- كلود ليفي ستروس ,”الانثروبولوجيا البنيوية” , ترجمة :د.مصطفى صالح,منشورات وزارة الثقافة و الارشاد القومي – دمشق,1977.

1Madeleine Grawitz ; « Lexique des sciences sociales » ; 8éme édition ; 2004. P287.

2-« moeurs et coutumes malénésiens » .

3-« le mythe dans la psychologie primitive ».

4- Madeleine Grawitz ; « Lexique des sciences sociales » ; 8éme édition ; 2004. P187.

5– Bronislaw Malinowski ; « le mythe dans la psychologie primitive », un texte extrait de « moeurs et coutumes malénésiens » ;( traduit de l’anglais par Dr.Jankélévitch ; 1933).P…..

6–Ibid ; P…….

7– Ibid ; P…..

8– Ibid ; P……

9– Ibid ; P…

– كلود ليفي ستروس, “النثروبولوجيا البنيوية”, ترجمة د. مصطفى صالح , منشورات وزارة الثقافة و الارشاد القومي- دمشق 1977. ص 247.10
أضافها أحمد هلالي في علم الاجتماع @ 10:26 م

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.