الهوية اللبنانية – مقاربة ذاتية (2 من 5)

ID_001

‌أ.    مقدمة
‌ب.    محاولة للتعريف

ج. الهوية اللبنانية – محدّدات :

ج – 1. الجغرافيا :

اللبناني هو من يعيش في لبنان !

وهذا أسوء تعريف ممكن ! ليس بسبب حالة لبنان الفسيفسائية ، أو بسبب نشوئه التاريخي الملتبس ، بل لأنه يعني أن الحدود الجغرافية (فقط) هي ما يمدّ الهوية بجوهرها !

ربما مع نشوء الدولة الحديثة ، أضحى للحدود الجغرافية/السياسية موطئ قدم في تشكيل الهوية ، إلا أنه مجرد خطوة صغيرة !

إذن ، ما الذي يحدّد اللبناني ؟

ج – 2. التاريخ :

لا بد أن البعض وجد الجواب السهل ، هو من تصنّفه الدولة (النظام/المؤسسة/الحكومة/وزارة الداخلية – لا فرق –) عبر إعطائه بطاقة هوية !

هذا لطيف … إلا أنه يؤكد السؤال ذاته ..

كيف يحدّد النظام “لبنانية” اللبنانيين ؟!

إذ أن مجرد الولادة في لبنان لا تكفي ! والبقاء فيه جيلاً بعد جيل لا يكفي !

هل هي اللحظة التاريخية إذن ؟

اللحظة الملتبسة لتشكيل هذا الكيان الذي أكّد لبنانية البعض ونفاها عن بعضهم الآخر ؟!

هل هو التاريخ (بمعنى الذاكرة المشتركة) ما يحدّد الهوية ؟

ربما كان المحدّد التاريخي أقوى إرتباطياً مع الهوية من المحدّد الجغرافي ، إلا أنه ليس أساسياً … فما يشكّل جوهر الجبلّة ، لا بد أن يكون مجمَعاً عليه !

وفي حالة التاريخ ، هو ليس كذلك !

ج – 3. اللغة :

اللغة ، إذن …

اللغة اللبنانية …

هذه نكتة حقاً …

إذ ناهيك عن إختلافات اللهجة في ذات المنطقة قديماً وحديثاً ، هناك لكنات مختلفة بين المناطق المختلفة . هذا على إفتراض أن اللغة اللبنانية هي لغة جديدة!

وهي مجرد “طريقة آداء” للغة العربية …

فاللهجة ليست إلا محدّداً تقسيمياً بين من يتكلم مثلنا أو مختلفاً عنا ..

وهي ليست محدّداً دقيقاً !!

إذن ما الذي يحدّد لبنانية اللبنانيين ؟!

ج – 4. جواب المؤسسة :

جواب النظام سهل (ومتفرّع) :

  1. أن يكون من أب لبناني !
  2. أن تستمر علاقة الجيل الثاني/الثالث مع لبنان عبر إستحصالهم على أوراق ثبوتية ! وأحياناً عليه أن يكون إما من طائفة محدّدة (تختلف بإختلاف طبيعة التقسيم الطائفي/العددي) ، وإما مشهوراً ، عندها يصبح (أو سيصبح) من أصل لبناني ، ويُحتفَى به في بلاد الأرزة !

ج – 5. توضيحات :

  • إن الأم لا تقدر على منح جنسيتها اللبنانية لأولادها إذا تزوجت من غير لبناني ! لذا فالهوية لا تنتقل إلا من ذكر إلى ذكر (إذ أن الأب يحصّل الهوية اللبنانية لأولاده بمعزل عن هوية زوجته ، إذ تصبح الهوية حقاً لهم شرط أن يُبرز للسلطات (في المكان الذي هو فيه) وثيقة الولادة ، وبطاقة هويته – يفضل في مثل هذه الحالات إخراج القيد الذي يذكر الطائفة ، حتى يطمئن العدّادون للحجم الديموغرافي –) . هذا يعني أن هناك في الجينات أو في الدم (الذكوري طبعاً) محدّداً ما للهوية اللبنانية ! وهذا يحتاج إلى علماء وراثة لتحديد الجين المسؤول عن الهوية ، والتي لا بد أنها على الكروموسوم (Y) ، لأنها خاصية ذكورية بحتة !
  • الجيل الثاني الذي عاش في الغربة لكنه ما زال يتواصل مع أهله باللهجة اللبنانية ، أما الجيل الثالث فقد إلتزم بالأجنبية واسطة للتواصل ، وإن كان بعضٌ من الجيل الثالث يتخلص من عقدة تحقيق الذات أمام الآخر المغاير التي عايشها معظم أبناء الجيل الثاني ، فيستعيد الرغبة بالتعرف على جذوره ، فيأتي إلى بلده الأصلي (كسائح غريب) لكنه يحمل الأرزة في قلبه ! (أو هكذا يدّعي من أسعده الحظ بالتعرف عليه)![1]

ج – 6. محاورة :

يتشكل المجتمع من حدود جغرافية تحيط بسكان يشتركون بثقافة ! هذا الحدّ الجغرافي ، إما طبيعي وإما مصطنع ! الطبيعي كـ : الجبال ، الأنهار ، البحار ، الصحارى ، والغابات ! المصطنع ، بقوة المستعمِر الذي فرضه على السكان فقسّمهم إلى أكثر من دولة !

الحدّ الطبيعي (بشكل عام) يفصل بين ثقافات ، متلاقحة ، متنافرة أو متصارعة ، لكن الحدّ المصطنع يفصل ذات الثقافة فتتحول إلى هجين متنافس، يؤسس لاحقاً لصراع !

هذا لا يعني أن الحد الطبيعي يقي من الصراع دائماً ، لكن وبما أنه طبيعي فهو على الأرجح تاريخي ، مما سمح للثقافتين أن تتجاورا فتتاجرا ! والتجارة كشكل أولي من علاقات التواصل تُمأسس للتعددية ، إذْ أريد للآخر أن يحتاج ما أصنع، وأريد له أن يصنع ما أحتاج ، خصوصاً أن الإكتفاء متعذر لشروط الموئل في كثير من الأحيان . لذا تبني علاقات التبادل التجاري (ومن ضمنه الثقافي) أسس قبول الإختلاف .

بينما في حالة الحدّ المصطنع ، فالموئل هو ذاته ، لذا حتى رافعة الإختلاف (التجارة) تتحول إلى مؤسس للصراع على الصعيد الإنتاجي ، كما على الصعيد الثقافي !

لا نريد للآخر (الشبيه) أن يتفوق علينا ، لذا نمارس معه التنميط فالتحامل الموصلة بالضرورة إلى العنصرية ! فيصبح الشبيه أسوء من المختلف ، لأنه يُذكّرنا دوماً بالنحن ! وكأننا أمام مرآة الذات الجماعية نرفض الصورة المنعكسة سعياً وراء وهم إفتراضي ، فتختلف عندها الأصول ، ويصبح أصل “جماعتنا” مختلفاً عن أصل “جماعتهم” !

هذا الوهم يصبح “الحقيقة” ، فتُنسج حوله الأساطير ، وتتأكد يومياً عبر عبارات ومصطلحات و”خبريات” ، فتصبح السردية المؤسّسة لوجهة نظر الفرد والجماعة عن الذات المتضخمة ![2]

تصبح عندها هوية ثقافية تحوي جوهراً ثابتاً ، وعوارض ثابتة ، هي مقدس والبحث حولها تابو ! لذا نشهد ردات فعل عنيفة من أصحابها تجاه من يحتمل فيه المسّ بمقدسهم ![3]

قلت أنها حقيقة متخيلة يبنيها المتفاعلون أثناء تفاعلهم ، لذا قد تتعدّد الحقائق تبعاً لطبيعة التفاعل والمتفاعلين ، لكن يبقى لها أسساً مشتركة تحوي أسطورة الأصل ، كما تضخم الذات وإحتقار الآخر .

هذه الحقائق ، تعلن عن نفسها ، كحدود وهمية بين المناطق تعتمد الحدّ الطائفي ويمارس الطائفيون إحتقار بعضهم البعض ، وكأن الهوية الثقافية الداخلية متذرّرة متصارعة . إلا أنها أمام الآخر تتحول إلى كتلة ، دون أن تتفق إلا على رموز مقدسة معدودة (الأرزة من بينها بالطبع) !

د. الهوية اللبنانية الرقمية :

هل هناك هوية رقمية ؟

بمعزل عن المكان الفيزيقي ، إن كان لبنان أو اليونان !

هل يمكن لنا الحديث عن تكوين هوية رقمية ، ذاتية ، و/أو جماعية ، متشكلة هنا/هناك في الفضاء الرقمي ، ولا إرتباط لها بالفضاء الفيزيقي ؟!

هذا سؤال إشكالي يرتبط أساساً بوعي الذات ، فإذا تواجدت آلة رقمية واعية، ستكون ذات هوية خاصة ، إذ أن أصل التأمل في الهوية ، هو وعي الطفل لذاته منفصلاً عن أمه ! فيبدأ بعدها رحلة البحث عن إستقلاليته ، ودوره ، وهي مباحث فصّل بها إريك إريكسون في مراحل النمو النفس – إجتماعي منذ الطفولة وحتى الكهولة .

الهوية التي تتشكل في الفضاء الرقمي متعلقة بمستخدمين ، يخلقون هوياتهم الجديدة ، مع الأخذ بعين الإعتبار عدّة نقاط :

  • إذا إستخدم إسمه الحقيقي أو إسماً وهمياً . حيث يسمح له الوهمي بخلق هوية مبتغاة ، يطمح لها ربما ، لكنها لا ترتبط بحقيقته ! أما الإسم الحقيقي فيلزم صاحبه بدرجة صدق أعلى ، لأن من يعرفه فيزيقياً لن يترك له فرصة التمتع بكذبه فترة طويلة !
  • إذا كان أهله/أقرباؤه/أصدقاؤه ضمن لائحة الأصدقاء ، فهذا يخفّف من غلوائه في نشر الأكاذيب عن نفسه ، وسيلتزم الحذر أو الحجب ، أو – وهذا المتوقع – الصدق !
  • قد يسعى عبر هذه الهوية أن يعيش حياته المثالية التي يطمح لها ! قد يحقق عبرها أفكاره الحرة ، التي كان يخشى ضغط الجماعة أو منعها لها .
  • أخيراً قد تشكل له هذه الهوية فرصة أن يعبّر عن رغباته دون أن يخشى تبعات التصريح من مجتمع يدقّق في نأماته كلها !

ربما لهذا يكثر لدينا وجود هويات مزيفة ، بسبب آليات الضبط الإجتماعي ، وهي ما عادت قادرة على الضبط في العالم الرقمي !

إذ في هذا العالم ، أضحى المجال الخاص عاماً ، لذا دخلت عيون الناس إلى الأبواب المغلقة ، متحيّنة لحظة الكشف ، عسى أن تقدر على الإسهام بدلوها، أو التشفي ، وربما الحلم بما يصعب عليها أن تمتلكه .

هناك عدة تمظهرات للهوية الرقمية ، تبرز تبعاً لحدث أو علاقة ، الأبرز منها هي الهوية الجندرية ، بسبب طبيعة التفاعل الرقمي ، وشبكة العلاقات ، حتى لو لم يتفاعل الذكر مع الأنثى ، فهي في مخياله ، مع كل السرديات الجندرية ، وهذا ما سيتضح من المثال الذي سأستعرضه بعد قليل .




[يتبع الأسبوع القادم]




الهوامش :

[1] لمن يريد التعمق ، يرجى النظر :

Maurice Crul , Jens Schneider, and Frans Lelie, eds. (2012). The European Second Generation Compared: Does the Integration Context Matter?. 1st ed. Amsterdam University Press.

وأيضاً :

Vern L. Bengtson. Longitudinal Study of Generations, 1971, 1985, 1988, 1991, 1994, 1997, 2000, 2005 [California]. ICPSR22100-v3. Ann Arbor, MI: Inter-university Consortium for Political and Social Research [distributor], 2015-07-16. http://doi.org/10.3886/ICPSR22100.v3

[2] اللبناني شاطر وحربوق ، نشر الحرف ، الأصل الفينيقي ، تجار من جدود جدودنا …

[3] جبران خليل جبران وحسن كامل الصباح ، كمثالين جرت حولهما على صفحات التواصل ضجة ، بعد أن نشر د. أسعد أبو خليل كلاماً وجده البعض مهدّداً للسردية القائمة .




ملاحظة :

تم نشر هذه الورقة ضمن فعاليات المؤتمر الرقمي الأول للإنسانيات والعلوم الإجتماعية – والذي صدرت أعماله لاحقاً ضمن كتاب – (يمكن تحميله مجاناً)

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.