الهوية اللبنانية – مقاربة ذاتية (1 من 5)

ID_001

مقدمة :

تقول قصة جحا ، أنه قرّر السفر إلى مدينة بعيدة ، فلبس عقداً كتب فيه إسمه وكنيته ، وعندما وصل إليها كان الليل قد حل ، فنام في خانها ، فسرق لص عقده ولبسه ! وفي الصباح إستيقظ جحا ليجد اللص يلبس عقده ، فقال له : إن كنت أنت جحا ، فمن أنا ؟![1]

بالطبع إن قضية الهوية الإشكالية ليست بهذه الطرافة أو التبسيط ! إلا أن سؤال جحا البسيط ، يكشف عن آلية إكتشاف .

ما هي الهوية غير إسم وكنية ؟!

ألا نتحدّد عبرهما إلى الآن ، مضافاً إليهما وضع إجتماعي ، عمر ، وجندر ، وأحياناً لون ، ودين ، ومنطقة ، وحيّ ؟!

هي دوائر هوية متداخلة ، دوائر إنتماء أصيلة ، جوهرية ، وهامشية ، متبادلة التأثير ، ولا جامع بينها إلا الشخص ذاته !

فأنا أنا ، أليس هذا أحد قوانين الفكر (قانون الهوية) ؟! أنا = أنا ، أنا ثابت لا متغير ؟!

أليس هذا إشكال مركب ؟ وكيف أنا لا أتغير ، والتغير بمرور الزمن لا لبس فيه !

أنا أتغير ، وأنا ثابت ، وكأنه حوار بين جوهر وعوارض …

وسؤال آخر : هل أبقى أنا أنا إذا تم نقل عقلي لجسد آخر ؟! أليس هناك مكان ما في الدماغ ، يؤسس لخريطة ذهنية عن جسدي ، وصورتي في المرآة ! أعرف نفسي وأتوقع كيف سأصبح ، التغير حتمي إلا أنه متوقع وتراكمي ولا شبهة فيه – حيث نعرف من الصور القديمة من هو فلان دون أن نكون على معرفة به في صغره – ألا يشير هذا إلى ثبات الجوهر ، وتغير العوارض ؟!

أما قصة شوانج تسو (Chuang Tzu) مع الفراشة فتحوي نكهة إبستمولوجية بيّنة ، إذ يقول : ’’ذات مرة حلمت ، أنا شـوانج تسـو ، بأنني كنت فراشة ، وكنت سعيداً باعتباري فراشة . وكنت أعي أنني مسرور تماماً بنفسي ، ولكنني لم أكن أعرف أنني تسو . وفجأة استيقظت ، وهنالك عرفت بجلاء أنني تسو . ولم أدر ما إذا كان تسو يحلم بأنه فراشة أم أن الفراشة هي التي تحلم بأنها تسو‘‘ .[2]

هل الحقيقة هي هذا العالم الواقعي ؟! أم أنها تكمن في العالم الرقمي ؟

سابقاً عاش الفلاسفة بين عالمين ، عالم الواقع ، وعالم الحلم – عالم الخيال غير المتحكم فيه – . ومنهما إنطلقت تنظيرات حول أيهما أجدر بإتباعه ؟

وأسّ الإبيستمولوجيا ينطلق من مدى موضوعية/ذاتية معرفة الواقع ؟! وهو كشف غير ممكن دون مقدرة الحلم ، الذي يمأسس لوعي موازٍ ، وعي غير ممكن تخيله دون مقدراته الخيالية ! فبالحلم فقط نقدر على التحليق كطائر !

شوانج تسو عبّر عنها بأنقى صورة ممكنة ؟ أي العالمين هو الحقيقة ؟ ظلال كهف أفلاطون ، أم الشمس التي تظلّل ؟ وكيف يمكن لنا أن نحكم على أيهما؟!

ألا نعيش في الحلم ، الحلم ، على أنه حقيقتنا ؟!

وألم يرد في المأثور : الناس نيام فإذا ماتوا إنتبهوا ؟! وكأن الموت هو لحظة عبور من الوهم (الدنيا) إلى الحقيقة (الآخرة) ؟!

إذن لماذا لا يكون الحلم هو الحقيقة إذن ، وعلاقته مع العوالم الأخرى أعمق ؟! ألا يحدث (الحلم) بسبب طواف الروح ؟ وهي أليست متعالقة مع ذلك العالم؟!

فكيف الحال إذن ، مع عالم متجدّد دوماً ، عالم وهمي ، ندعوه «رقمياً» ، نتشكل فيه بقدرات أعجب من مجرد التحليق ، حيث قدرنا على طيّ متصل الزمكان ، فنتواصل مباشرة ونعايش لحظة بلحظة أي مكان دون أن نترك غرفتنا ومقعدنا !

سيتعجب مؤسسو الأنثروبولوجيا (أصحاب المقاعد الوثيرة) من قدرتنا اليوم ، على إنتاج أنثروبولوجيا (مقعدية) تلاحظ الحدث من على بعد مئات الأميال .

لم يعد العالم الرقمي ، مجرد وهم ، بل أضحى واقعاً للمتصل به (online) ، هو (أي المتصل) كمن يحلم كل ليلة ! فبالنسبة له ، يعيش كل ليلة مغامرة تؤثر على واقعه بعد الإستيقاظ – لذا يسعى في كثير من الأحيان إلى طلب تأويل لحلمه – ! بينما يعيش غير المتصل به (offline) وكأنه لا يحلم ، هو يظن ذلك ، إلا أنه واهم ! وكما أن كل من ينام يحلم (لاعتبار فيزيولوجي بحت وهو حركة العين السريعة [R.E.M.]) ، كذلك كلٌ منا ، يعايش هذا الواقع إلى درجات !

منّا من أدمن عليه فأضحى الرقمي واقعه ، ومنّا من هو متزن ، ومنّا من يقتصر على ألفبائه ، دون أن يخوض في تأويل مناماته أبداً (إذا أردنا أن نستكمل الإستعارة التي بدأناها) .

لو كان شوانج تسو في عالمنا اليوم ، لكان سؤاله يدقّق حول حقيقته الرقمية مقابل الفيزيقية ، ولكان إحتاج إلى من يقطع عنه الإتصال بالشبكة (Wi-Fi) كي يستيقظ من خلطه .[3]

إن النص التالي هو نص منهجي ذاتي حول الهوية ، فما هي ؟

محاولة للتعريف :

لأختصر الحوار الفلسفي الطويل ، هناك من ينظّر للهوية كجبلّة ، وهناك من ينظّر لها كعوارض …

الثاني يرى فيها تغيراً دائماً (هيراقليطس – Heraclitus) ، تحدّده عوارضها الآنية المرتبطة أساساً بالموئل (الهابيتوس) ، الأول يرى فيها أصلاً ثابتاً جوهرانياً (بارمينيدس – Parmenides) ، له أشكال بروز متسقة ومحكمة ، منفعلة عن الأصل ، لا متفاعلة معه !

الهوية ، إذن ، تحوي جوهراً وعوارضاً ، وأصحاب النظريتين على صواب وخطأ! والخطأ تأتى من الفصل بين الجوهراني والإسماني .

فالهوية هي جبلّة لها عوارض منبثقة منها ، منفعلة عنها ، ومتفاعلة معها . فهي جوهر خاضع للتغيير ، تبعاً للتنشئة والمعارف وخبرات الحياة ، وتلاقح هذه العوارض مع عوارض جبلّات أخرى …

وكلما زاد التلاقح (الندّي) كلما إتسعت دائرة الجوهر ، وكلما كبر الخطر على الهوية ، ضاقت دائرتها إلى نقطوية !

هذه النقطوية ، هي ما نسمعه في نشرات الأخبار (حالياً) حول التذرّر والتفتت ، والعودة إلى الهوية الإثنية/الطائفية/المناطقية الضيقة .

للتوضيح ، ليس بالضرورة للخطر أن يكون محواً وجودياً عبر التطهير العرقي ، بل ربما يكون عملية دمج قسري (أو غير مباشر) ، مما يهدّد “الأقلية” بالذوبان ![4]

الهوية ، هي بالضرورة علاقة ثنائية !

إن كانت هوية ذاتية ، فهي ثنائية تحوي الذات والآخرين المؤثرين . وإن كانت هوية جمعية ، فهي تحوي جماعتنا/جماعتهم !

والهوية الثقافية ، من هذا المنطلق ، ليست إلا تنميطاً للثقافة ، عبر إبتداع صورة نمطية لها عصية على التحديد (المقصود الحدود – لا التعريف [وإن كان هو أيضاً محل نقاش مستفيض] –) .

وربما لهذا وقف بعض الفلاسفة[5] موقفاً نقدياً راديكالياً من الهوية بإعتبارها شكلاً من أشكال العنف ، تؤسس لصراع مجتمعي مبني على محدّدات إفتراضية (وهمية) .

فما هي هذه المحدّدات ؟ أو السؤال : من هو اللبناني ؟ (ذات السؤال الإشكالي ينطبق على أي دولة/مجتمع) !




[يتبع الأسبوع القادم]




الهوامش

[1] ذكرت بإختلافات طفيفة في كتاب “جحا العربي” : سافر جحا سفراً طويلاً فعلق على جسمه يقطينة وقال : أعلقها حتى لا أضيع ، وسار فحط في بعض المنازل ولما نام جاء رجل وأخذ تلك اليقطينة وعلقها على نفسه ، فلما إستيقظ جحا ورأى الرجل ، قال : عجباً ، هذا الرجل أنا ، فمن أنا ..؟!

أنظر : محمد رجب النجار ، (أكتوبر/1978) ، جحا العربي ، الكويت ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، (سلسلة عالم المعرفة ، عدد 10) ، ص 220 .

[2] وردت هذه القصة في كتاب “الفكر الشرقي القديم” ، أنظر :

جون كولر ، (يوليو/1995) ، الفكر الشرقي القديم ، ترجمة : كامل يوسف حسين ، الكويت ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، (سلسلة عالم المعرفة ، عدد 199) ، ص 373 .

وقد أورد الشاعر الصيني لي بو (Li Po) ، الحلم بالشكل التالي :

حلم شوانج تسو بأنه فراشة

طوال اليوم طاف مع النسيم

بدون أي فكرة عن ماهيته وإلى أين يذهب

عندما استيقظ أضحى حائراً

هل أنا رجل ؟ فكر ، حلم بأنه فراشة ؟

أم هل أنا فراشة تحلم بأنها رجل ؟

ربما كل حياتي هي مجرد لحظة من حلم فراشة !

هذه هي قصة التحول .

أنظر :

Li Po, and David Hinton. (1998). The Selected Poems of Li Po. (Reprint ed). Greenwich: Anvil Poetry.

أما باشو (Basho) الذي يعد من أعظم شعراء الهايكو (Haiku) في اليابان ، فقد أورده بالصيغة التالية :

يحلم شوانج تسو بأنه فراشة

وفراشة تصبح شوانج تسو

كل تحولات هذا الجسد

تستمر في حدوثها اللانهائي

فلا عجب أن تصبح البحار الشرقية إذن

جداولاً غربية ضحلة وصافية

أو من كان زارعاً للشمام على بوابات تشينغ

يحكم كدوق في سلالة تونغ لينغ

هل في الآمال والأحلام أي اختلاف

نبحث بصخب ، لكن عن ماذا ؟

أنظر :

  1. Aitken. (2003). A Zen Wave: Basho’s Haiku and Zen. (First ed.). USA: Counterpoint.

[3] تقول القصة أن أحد طلابه (لي تزو) ملأ دلواً بالماء وأفرغه على رأسه ، بعد أن تجهم وأحبط من قصة الفراشة ، وأن شوانج تسو شكره بعد ذلك ، لأنه أعاد ربطه بالواقع !

أنظر :

أوشو ، لقاءات مع أناس إستثنائيين ، ترجمة : علي الحداد ، بيروت ، دار الخيال ، ط 1 ، 2009 ، ص.ص 69 ، 70 .

[4] هذا ما حدث لليهود في أواخر القرن التاسع عشر ، في شرق أوروبا إضطهاد وتطهير إثني ، وفي غربها عملية دمج قانونية سمحت لليهود بالخروج من الغيتوات ! وفي الحالتين شعر اليهود بالخطر ، فتمسكوا بالحركات الصهيونية الناشئة ، والتي وجدت ملهمها الروحي في شخص “هرتزل” – وهذا مقال له مقام منفصل .

[5] حنة أرندت مثلاً .




ملاحظة

تم نشر هذه الورقة ضمن فعاليات المؤتمر الرقمي الأول للإنسانيات والعلوم الإجتماعية – والذي صدرت أعماله لاحقاً ضمن كتاب – (يمكن تحميله مجاناً)

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.