الهوية العربية الإسلامية و تحديات العولمة

أ.ميــلاط  صبرينــة

جامعــة جيجـــل / الجزائر

مقدمــة:

نحـاول في هـذه المداخلة مقاربة موضوع الهويـة كأحـد الأبعاد  الأساسيـة و الحساسـة لأي مجتمع  قائم بذاتـه محافظ على خصوصياته، من خلال التركيز على فكـرة الهويـة الثقافيـة والدينيـة باعتبـارها تمثل في نظرنا القاعـدة الأساسية للصمود و مواجهة تحديات العولمة، التي تمتلك قوة خاصة تستطيع بها فرض نفسها على الحياة المعاصرة على العديد من المستويات سياسياً، إقتصادياً، فكرياً، علمياً، إعلامياً ، ثقافياً و تربوياً و تعليمياً.

إننـا بحاجة إلى قدر كبيـر من الفهم و الوعي لمواجهتها، ليس فهماً بعمق الظاهرة “العولمة” وجوهرها و إدراك لبعدها و غايتها فحسب، وإنما وعياً تاماً بمقوماتنا وقيمنا وتعاليمنا الثقافيـة والدينيـة و تنميتهـا.

تعريف الهويـة :

حظيت مسألة الهوية و الهوية الثقافيـة بالخصوص باهتمام الكثيـر من المفكرين و الأدباء في مختلف الثقافات، و تزايد الإهتمام في الفتـرة الأخيرة بمفهوم الهوية العربيـة الإسلامية الذي أصبح من أهم الأهداف التي تسعى التربية العربية إلى تعزيزها وترسيخها لدى النشأ والشباب، لما يترتب على ذلك من تعزيز الانتماء و تحقيق  التقـدم في ظل التحديات الجديـدة في عصر العولمة.

الهوية تعني جوهر الشيء و حقيقته  … إنها كالبصمة للإنسان يتميز بها عن غيره، وقد شخصها       ” إليكس ميكشيللي ” بأنها ” عبارة عن مركب من العناصر المرجعية و المادية و الذاتية المصطفاة التي تسمح بتعريف خاص للفاعل الإجتماعي، فالهوية طالما أنها مركب من عناصر فهي بالضرورة متغيرة في الوقت ذاته الذي تتميز فيه بثبات معين، مثل الشخص الواحد يولد و يشب و يشيخ و تتغير ملامحه و تصرفاته و أحياناً ذوقه ( أي تتغير شخصيته )، و لكنه يبقى في الأخير هو نفس الشخص و ليس شخصاً آخر ( ).

أمٌا علم النفس فقد اهتم بالجانب الإجتماعي للهوية و كانت هناك محاولات عديدة لتعريف الهوية خاصة من خلال دراسة مفاهيم الذات الإجتماعية و الشخصية الإجتماعية و غيرها، و يؤكد ” WILLIAM James ” أن الهوية ظاهرة نفسيـة إجتماعية تقع عند نقطة التقاطع بين معرفة الذات من طرف الإنسان نفسـه و من طرف الآخرين ( ).

و هناك من يعتقد أن الحديث عن الهوية، أو أزمة الهوية في الحقيقـة ليست حقيقية، و إنما هي أزمة مفتعلة توجد في الذهن أكثر مما توجد في الواقع، نتيجـة لعدة عوامل لعل أهمٌها هو التغيرات و التحولات التي يشهدها العالم المعاصر و خاصة مع ظهور نظام العولمة.

فالأزمـة ليست في الهوية كما يقول تركي الحمد، ولكن في العقل الذي وجد صعوبة كبيرة في القـدرة على استيعاب المتغيرات و إنتـاج عقل جديد و ثقافـة جديدة ( ).

إن الهوية لا تنفصـل عن الثقافة التي تتغذى منها، فغالباً ما تحيلنا التساؤلات الكبرى المثارة اليوم حول الهوية إلى مسألة الثقافة، فنحن نرمي إلى رؤية الأشياء الثقافية حيثما نظرنا، كما نريـد أن يحظى كل منٌا بهويتـه، في مجال العلوم الإجتماعية يتميز مفهوم الهوية الثقافية بغموضه و تعدد معانيه، نظراً لحداثة هذا المفهوم، فقد شهـد عدداً من  التعاريف وتحولت من مفهوم إلى فكرة في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الخمسينيات، حيث أصبح ينظر إلى الهويـة الثقافية كمحددات تامة لسلوك الأفراد، و عموماً يمكن القول أن الهوية الثقافية تعني التفرد الثقافي بكل ما تتضمنه معنى الثقافة من عادات و أنماط و سلوك و ميل و قيم و نظرة إلى الكون و الحياة( ) .

إنها تعبر عن محصلة مختلف التفاعلات المتبادلة بين الفـرد مع محيطه الإجتماعي و الهوية الإجتماعية للفرد تتميز بمجموع انتماءاته في المنظومة الإجتماعية، وكما يقول دوركايم فإنه يوجد فينا كائن إجتماعي جمعي يتمثل في أنساق الأفكار و الأحاسيس و العادات التي تعبٌر عن شخصية الأفراد والجماعات، و تتيح للفرد التعرف على نفسه، كما تمكن المجتمع من التعرف عليه، و يؤكد هذا المعنى ORIOL.M حيث يقـول أنٌ الهوية الفردية والهويـة الجماعية  تربطهما علاقة التكامل و ليس عنصر الإقصاء، وأن الهوية تظهر في كل الحالات كنتيجة للفوارق و الإختلافات ( )

و تبرز الهوية الجماعية بشكل حاد كلما حصل شعور بالخطر فتذوب الهوية الفردية في الهوية الجماعية لمقاومة أي خطر يمس خصائص الهوية، و نلمس ذلك خاصة عندما تتعرض أقليـة أو دولـة معينـة إلى ضغوط أو خطر خارجي، فإنها  تتوحد و تطالب أكثر بهويتها.

و هناك شكل آخـر من أشكال الهويـة تتمثل في الهوية العرقية، أي الرجوع إلى تاريخ أو أصل مشترك في شكل تعبير ثقافي مشترك، وهناك نظريات عديدة تدور حول الهوية تعرف بالنظريات الأولية، وهي ترى أن الهوية العرقية الثقافية هي هوية أساسية أولية لأن الانتماء للمجموعة العرقية هو أول الانتماءات الإجتماعية وأكثرها جوهرية، و تتحدد بروابط قائمة على السلالة المشتركة  في كنف الجماعة، حيث يتم تقاسم أعمق المشاعر و التضامنات و أكثرها قدرة على تحديد هيكل الجماعة، وبهذا تكون الهوية الثقافية بمثابة ملكيـة أساسية لازمة للجماعة، يتم نقلها عبر الأفراد( ).

إن تكوين الهوية فعل إجتماعي بنٌاء، يتم داخل الأطر الإجتماعية التي تحدد موقع الفاعلين وتوجه تصوراتهم و خياراتهم، وبذلك لا تكون الهوية مجرد وهم لأنها تتمتع بفاعلية اجتماعية ولها آثار اجتماعية حقيقية.

إن الهوية الجماعية  هي المشاركة الوجدانية الجماعية وهي أساس كل أنواع الهويات، لأنها تربي الشعور بالهوية من خلال الشعور بالانتماء أو الشعور بالقيمة المرجعيـة، الهوية الجماعية تعتبر عنصر تجانس و تماسك المجتمع، بحيث يجب أن يطغى ” نحن ” على ” أنا “.

وكما أشرنا سابقاً فالهوية الجماعية تبرز وبشكل حاد كلما حصل شعور بالخطر، فتدوب الهوية الفردية في الهوية الجماعية لمقاومة ما من شأنه المساس بخصائص الهوية، ويظهر ذلك جلياً فيما يحدث اليوم للعالم العربي الإسلامي على وجه الخصوص، حيث أدت ثورة الاتصالات والمعلومات وعولمة الإقتصاد و الثقافة و جميع مجالات الحياة التي شهدها العالم في نهاية القرن الماضي، إلى تغيرات ثقافية وقيمية تزداد وتيرتها كل يوم، وقد تفطنت الأمة العربية إلى هذه القضية و طرحتتها للمناقشة لأنها مطالبة بمواجهة تحديات عصر المعلوماتية، وخاصة فيما يتعلق بتعزيز روح المواطنة و المحافظة على الخصوصية و القيم الثقافية والأخلاقية، وكيف يمكن للأمة  العربية تعزيز روح المواطنة و الحفاظ على القيم الثقافية و الأخلاقية باعتبارهما جوهر الهوية العربية الإسلامية، وقد تأكد ذلك من خلال خطط التنمية الشاملة التي نادت بها العديد من الدول العربية وكذا في المؤتمرات والملتقيات العلمية الوطنية  والدولية بهدف نشـر الوعي والمحافظة على القيم الإسلامية، وتطبيق شريعة الله والعمل على ترسيخها و نشرها، وكذلك تنمية القوى البشرية.

و يمكن تعريف الهوية العربية الإسلامية بأنها جوهر و حقيقة و ثوابت الأمة العربية التي اصطبغت بالإسلام منذ أن دانت به غالبية هذه الأمة، فأصبح هو الهوية الممثلة لأصالة ثقافتها فهو الذي طبع و يطبع وصبغ و يصبغ ثقافتها بطابعه وصبغته … فعاداتها و تقاليدها وأعرافها وأداؤها وفنونها وسائر علومها الإنسانية  و الإجتماعية، وعلومها الطبيعية و التجريبية، و نظرتها للكون و الذات و للآخر، و تصوراتها لمكانة الإنسان في الكون من أين أتى ؟ و إلى أين ينتهي؟ وحكمة هذا الوجود و نهايته، و معايير المقبول و المرفوض و الحلال و الحرام، هي عناصر لهويتنا.( )

وكما نلاحظ في هذا التعريف للهوية الإسلامية هو تفرد الشخصية العربية الإسلامية بمجموعة من الصفات و الخصائص التي تميزها عن باقي الهويات الأخرى، والتي تتضمن اللغة والدين و العادات و التقاليد و القيم الأخلاقية، والتي اصطبغت بصبغة الإسلام و العروبة منذ زمن بعيد.

إن ما يميـز العلاقات الدولية المعاصرة هو اتساع رقعة الصراعات الدينيـة و المذهبية و الإقتصادية و السياسية، و انعكس ذلك سلباً على الأمة العربية خاصة، و أسفر هذا الصراع عن صدام حاد أثر سلباً هو الآخر على العطاء الحضاري وأضفى غموضاً كبيرا على القيم الإنسانية المثلى المشتركة.

و قد تعرض العرب و المسلمون للكثير من الأخطار و الضغوطات و التحديات التي لابد من مواجهتها، ليس للتغلب عليها فقط بل لضمان مقومات الإستمرارية في حركتنا إلى الأمام، وعلى المجتمع العربي أن يكافح باستمرار لاستعادة هويته بعد أن منيت بمزيد من التجزئة و التعقيـد.

إنه ليس في الإمكان مهادنـة تحديات هذا القرن الجديد للسير معها أو للعبور فوقها لأن المهادنة تعني الإنحراف معها و بالتالي نفقـد هويتنـا العربية الإسلامية و تسقـط قيمنا و مبادئنا الأصليـة وهو أمر لا يستقيـم ولا ينسجـم مع المبـادئ و المثل العليا التي تحكم المسلمين و تنظم علاقاتهم بينهم وبين خالقهم من جهة، و بينهم و بين الشعوب و الأمم من جهة ثانيـة.

إن التعقيد الناجم عن هذه الإشكاليـة يفرض على المسلمين أولاً وقبل كل شيء معرفة مدى تطابق قواعد الشرع الإسلامي مع الأسس التي تبنى عليها السياسات المعاصرة، كالإتجاه نحو العالميـة

و الانفتاح نحو الآخر و العولمة وحوار الحضارات … إلخ و الإجابة على الأسئلة الكبـرى المطروحة عليهم :

–          هل الدين الإسلامي هو دين الحوار و التواصل و التلاقي بين الحضارات العالمية المختلفة ؟

–          كيف يمكـن للمسلمين إقناع الغير بذلك ؟ و ما هي حججهـم في أن الديـن الإسلامي هو منهـج علمي شامـل، كامل و متكامل تتعامل و تتفاعل و تتعايش في ظله جميع الحضارات بعضها مع بعض ( )  .

الخصوصية الثقافيـة :

في الوقت الذي تتعرض فيه الأمة العربية الإسلامية لغزو شامل عسكرياً و ثقافياً و إعلامياً … إلخ تبدو الحاجة ملحة للتأكيد على الهوية و الخصوصية الثقافية لأمتنا خاصة بعد تفحص الموقف الحضاري المعاصر، و ما نلمسه من خطر يحدق بأمتنا العربية الإسلامية، و يتمثل في تهديد هويتها وطمس معالم شخصيتها الوطنية، و مصدر هذا الخطر يتمثل في سطوة و سيطرة العولمة.

ولكن التوجه إلى العولمة ليس شراً محضا و إنما السوء فيما تحمله هذه العولمة من شر، فهي كفكرة أو كنظام عام يشمل الإنسانية جمعاء، تتيـح للإنسان حقه في التميز و تحقيق الذات و فرص التمتع بالإنجازات و المزايا العالمية الإيجابية، إلاٌ أن هذه القيم في أسمى معانيها لا تتحقق من خلال ما تبشر به بعض الدول الغربية و خاصة أمريكا، وما تجنده من آليات و إجراءات سياسية و إقتصادية و ثقافية و إعلامية و تربوية … إلخ تحاول فرضها كنظام سياسي اقتصادي ثقافي على العالم، و تحاول بذلك إفراغ مفهوم الهوية و الخصوصية من أركانها الرئيسيـة و يبقى السؤال قائماً :

–          هل هناك إمكانية ليتغير واقع الأمة العربيـة الإسلامية، و لتحافظ على هويتها وخصوصيتها الثقافية في ظل التكالبات و الأنظمة العالمية الغربية وفي المقابل في ظل التشتت و الضعف العربي الإسلامي في جميع الميادين ؟

وقد تفطنت الكثير من الدول العربية إلى هذه القضية وطرحوها للنقاش في العديد من المؤتمرات نذكر منها المؤتمر الذي نظمته كلية الإقتصاد و العلوم السياسية بجامعة القاهرة في الفترة الممتدة من 11 إلى 14 سبتمبر 2006  بعنوان ( الخصوصية الثقافية نحو تفعيل التغير السياسي و الإجتماعي )، و يهدف المؤتمر إلى المحافظة على الهوية الوطنية و الخصوصية الثقافية في ظل سيـادة العولمة الذي من شأنه أن يطمس الهويات الثقافية لأمم مختلفة، وكذلك من خلال المؤتمر الثاني لوزراء التربية و التعليم و المعارف في الوطن العربي المنعقد في دمشـق سنة 2000 و ذلك لمناقشة التحولات و التغيرات المؤثرة لتشكيل مستقبل التعليم العربي، والمتمثلة في الثورة العلمية و التكنولوجية، و التغيرات في النمو و الحركة السكانية، و التوتر بين العولمة والعالمية و التغيرات الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و القيمية، باعتبار المؤسسات التربوية الخلية الرئيسية للحفاظ على الهوية و بعث الثقافة المحلية و القيم الدينيـة الإسلامية.

و يرى الدكتور معتز بالله عبد الفتاح بأن مفهوم الخصوصية الثقافية يتحدد من خلال خمسة أسئلة رئيسيـة :

1- سؤال يتعلق بالهوية و تعريف الذات و تحديد الإنتماء على أساس أركان الهوية ( اللغة، الدين، العرق، المصير المشترك، التاريخ ).

2- سؤال التراث: و يشمل الرموز التاريخية التي يعتز بها الأفراد، ويعتبر التمسك بالتراث أحد مكونات الهوية على عكس ما تروج له الثقافات الدخيلة ( الغربية) بأنه عبء ثقيـل لابد من تركه و التخلي عنه لمسايرة التقدم و الرقي.

3- سؤال الواقع : وهو تساؤل الأمم عن واقعها المعاش وعن مدى تخلفها أو تقدمها عن بقية الأمم ومعيار ذلك التقدم أو التخلف.

4- سؤال الفرصة البديلة : و يتعلق بالخيارات المطروحة ومدى التعارض بينها.

5- سؤال المستقبل: و يتعلق بتأثير الاستيراد الثقافي من الآخر على الهوية، فهو يطرح ردٌ فعل لكافة الأسئلـة السابقة و ربطها بعضها ببعض و تأثيرها في النهاية على سؤال الهوية.

أما بالنسبـة للخصوصية الثقافية الإسلامية فهي تعتبر مكون أساسي في الذات الحضارية الإسلامية تفرز من جهة جامعاً داخلياً كفيلاً بلم شمل كافة الملل و الأعراق و الطوائف، وكافة دوائر الإنتماء الفرعية، كما تفرز حدوداً تمنع من الذوبان في الآخر المغاير و فقدان الهوية والتبعيـة و الخضوع له.

و يرى الدكتور أنور عبد المالك أن الخصوصية تعني التأكيد على الإنتماء القومي، و الحفاظ على الشخصية القومية، وبذلك فإن التوجه نحو مستويات الإنتماء الأوسع ليس له أي تعارض ما دام هناك وعي بين الشعوب و القيادات للخصائص المختلفة لكل هذه المستويات المحددة للانتماءات، فالوعي بمستوى الانتماء هو أقرب السبل إلى تماسك الأمم داخلياً و بين بعضها البعض على مستوى الانتماءات الأعلى.

وبانتقالنا إلى بحث سمير أمين، نجده قد تناول البعد الثقافي بخصوصيته الظاهرة، وعلاقته بالعولمة التي تحكم الأمور السياسية والاقتصادية في مجتمعات العالم المعاصر، وما ينتج عن ذلك من تعارض قائم بين هذه الخصوصية والعولمة، وحين يتحدث الباحث عن الخصوصية الثقافية وتعارضها مع العولمة فإنه ينطلق بذلك من المجتمع العربي بالتحديد ومن الإسلام بوجه عام، وهو وإن كان يعد ثقافة العولمة نتاجا حتميا للرأسمالية، وبسببها همشت الخصوصية المحلية وأصبحت لا معنى لها إلا من خلال الثقافة المعولمة، فإنه في الوقت ذاته يتهم تلك الثقافة بالقصور والجفاف وعدم التجانس، وتعاني من التناقضات الداخلية، مما يسبب إضطرابا وقلقا للشعوب العربية الإسلامية على وجه الخصوص.(

وقد بدأت التساؤلات تطرح في الوطن العربي حول هذه المسألة، وسبل الوقوف في وجه التغيرات التي تحدثها العولمة في مختلف جوانب الحياة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والثقافية تحت قيادة ثورة تكنولوجية ومعلوماتية هائلة، فهل العولمة هي خطر فعلي يترصد الأمة العربية، أم الخطر يكمن في غياب مشروع حضاري عربي يستجيب لمتطلبات العولمة وخصوصا أن المواجهة بين طرفي المعادلة غير متكافئة نهائيا.

كيف يمكن الحد من الغزو الثقافي ومظاهر الإختراق الثقافي ؟

هذا المفهوم –الإختراق الثقافي- الذي إقترن بالتطور التقني في مجال الإتصالات والمعلومات ويعبر عن مجموعة من الأنشطة الثقافية والإعلامية والفكرية التي توجهها جهة أو عدة جهات نحو مجتمعات وشعوب معينة، بهدف تكوين أنساق من الإتجاهات السلوكية والقيمية وأنماط وأساليب من التفكير والرؤى والميول لدى تلك المجتمعات والشعوب، بما يخدم مصالح وأهداف تلك الجهة أو الجهات التي تمارس عملية الإختراق، ونحن نقصد به في هذه الورقة هيمنة الثقافة الغربية على الثقافة العربية الإسلامية في محاولة لتغيير ملامحها، وتكوين مجموعة من الإتجاهات السلوكية والقيمية والرؤى والميول بما يخدم مصالح أصحاب الثقافة الغربية.

ونحن في هذا العصر الذي تتكاثر فيه التطورات وتتضاعف فيه التحديات، وتزداد الحاجة إلى الفعل والعمل على تغيير واقع الأمة العربية وفق مهج علمي عملي وسلوكي، ولا تبقى ساكنة إنعزالية عن المجتمع العالمي، وعلى غرار التحركات التي ميزت الكيانات الكبيرة لمواجهة مشروع العولمة من أجل الحفاظ على هويتها وحضارتها، ينبغي على البلدان العربية أن تقفز فوق التناقضات فيما بينها، وتحاول الوصول إلى صيغة تؤمن لها التجمع والوحدة وتسمح لها بمواجهة التحديات المختلفة التي تواجهها، حفاظا على قدراتها المادية والبشرية( ).

وتأسيسا على هذه المعطيات يمكن لنا أن نتساءل إلى أي مدى يمكن أن تسمح المعطيات الثقافية والحضارية والسياسية والإقتصادية المحلية للبلدان العربية أن توازن بين واقع ينشر جذوره يوما بعد يوم ويفرض سياسة الإلحاق والإدماج بالرأسمالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال عمليات الإختراق الثقافي والتغيير التدريجي لأنساق القيم الثقافية والسلوكية من جهة، وأن تبحث وبكل جدية عن الثوابت والمحددات الفعلية الخاصة بها، إنطلاقا من ثقافتها المحلية وعاداتها وتقاليدها، وقيمها المنبثقة من الدين الإسلامي لمواجهة تحديات العولمة.

العولمة والخصوصية الثقافية:

العولمة من الموضوعات التي تحتاج إلى قدر كبير من الفهم لعمقها وجوهرها، والإدراك لبعدها وغايتها،

والوقوف للتمكين لها بشتى الطرق ومختلف الوسائل، وقد أجمعت الدراسات المعاصرة أن نظام العولمة أصبح يشكل اليوم نظاما وظاهرة إجتماعية كونية وفكرة العالم قرية كونية واحدة، فهل يعني هذا أن العولمة تذويب حدود الأمم وثقافتها وتراثها أم بقاؤها على تراثها؟  وكيف ندرك عولمة بين تناقضات وإختلاف الأمم؟

تعدد مفهوم العولمة حتى صار من المفاهيم المعقدة والمبهمة أحيانا، المثيرة للجدل دائما، ذلك أن للعولمة وجوها متعددة، فهي عولمة إقتصادية، عولمة إعلامية، عولمة علمية، عولمة تكنولوجية، عولمة دينية، عولمة ثقافية…إلخ والغريب في الأمر كله أن لاوجه من هذه الوجوه ينفرد بنفسه، بل إنها متماسكة ومتشعبة، فعلى سبيل المثال لاعولمة ثقافية بدون عولمة سياسية أو إقتصادية تمهد لها السبيل وتفرضها فرضا.( )

ومن هنا كان لابد أن نفهم العولمة بإعتبارها منظومة من المبادئ السياسية والإقتصادية ومن المفاهيم الإجتماعية والثقافية ومن الأنظمة الإعلامية والمعلوماتية، ومن أنماط السلوك ومناهج الحياة، وذلك هو العمق الفكري والثقافي والإيديولوجي لنظام العولمة.

وهناك شبه إتفاق تام على أن العولمة تستلزم تحطيم المسافات من خلال تطور تقنيات الإتصال التي تقرب  الأماكن من بعضها الآخر.( )

وبهذا المعنى فإن العولمة تعني جعل الشيئ على مستوى عالمي أي نقله من المحدود إلى اللامحدود الذي ينأى عن كل مراقبة.

أما العولمة من المنظور العربي الإسلامي فالبعض يعرفها بأنها إجتياح الشمال للجنوب، أي إجتياح الحضارة الغربية المتمثلة في النموذج الأمريكي للحضارات الأخرى ….إنها القسر والقهر والإجبار على لون من الخصوصية يعوله القهر ليكون عالميا.( )

فالعولمة عملية تهدف إلى هيمنة الفكر والثقافة الغربية على الثقافات الأخرى بدعوى التعاون والتواصل وإزالة الحدود والمسافات بين الدول والشعوب، ولديها قدرات إستثنائية للتغلغل وبالتالي للتأثير، من الشهادات التي تؤكد هيمنة العولمة على مقدرات الشعوب ما جاء في كلمة للرئيس الفرنسي جاك شيراك ألقاها بمناسبة اليوم الوطني الفرنسي في 14 جويلية 2000 » إن العولمة بحاجة إلى ضبط لأنها تنتج شروخا إجتماعية كبيرة وهي إن كانت عامل تقدم، فهي تثير أيضا مخاطر جدية ينبغي التفكير فيها جديا، ومن هذه المخاطر ثلاث أولها أنها تزيد الإقصاء الإجتماعي وثانيها تنمي الجريمة العالمية، وثالثها أنها تهدد أنظمتنا الإقتصادية«. وهذه شهادة حية من ممثل دولة غربية تشترك في عدة خصائص وسمات مع باقي الدول الغربية وخاصة مع أمريكا، فما بالك بالدول العربية الإسلامية التي تختلف في هويتها دينا ولغة وعقيدة ومنهجا وسلوكا عن تلك الدول.

فالمجتمع العربي الإسلامي هو نتاج ثقافته الموروثة، ويعد الدين الخريطة التي تحدد مساراته في الحياة، ويحدد أوضاعه الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والثقافية والعلمية والعملية…إلخ.

والحق أنه ما من فكرة أو قضية أو نظام أو منهج يتصل بحياة البشر، إلا وله وجوه متعددة، على إعتبار أن الفكر الإنساني ذو نزعة مزدوجة من خير وشر من خطأ وصواب، وهي العناصر الكامنة في الفكر الإنساني.

وعلى هذا الأساس وإنطلاقا من حقائق الأشياء، فالعولمة تمثل خطرا مدمرا على الشعوب والأمم التي تفتقر إلى ثوابت ثقافية، والشعوب الضعيفة إقتصاديا والمتخلفة تنمويا، فهذه لا تملك أن تقاوم الضغوط الثقافية، أوتصمد أمام الإغراءات القوية لتحافظ على نصاعة هوياتها، وطهارة خصوصياتهاعلى عكس تلك التي تملك رصيدا ثقافيا وحضاريا غنيا، والتي تملك التنمية الإقتصادية والإجتماعية، في موازاة مع العمل من أجل تقوية الإستقرار وترسيخ قواعده على جميع المستويات، وهنا يجب أن نشير أنه لا يجب التركيز فقط على الجانب الإقتصادي والسياسي للعولمة إلى درجة يجعل الكثير من المفكرين يغفلون عن الجوانب الأخرى وخاصة فيما يتعلق بالناحية الثقافية والإيديولوجية والدينية، ويحق لنا أن نتساءل:

–          هل العولمة أمر واقع لابد من الإعتراف بها حتى وإن كان البعض غير مقتنع بها؟

–          هل يمكن إحداث عولمة في ظل التنوع الثقافي؟

–          هل تعيد الدول العربية الإسلامية النظر في تراثها الثقافي من هذا المستجد » العولمة « قصد التكيف بل حتى المشاركة بإنتاجها الثقافي حتى لا تنساق إلى الإنزواء؟

وما نقوله بصراحة أن طبيعة المجتمعات الغربية لا تقبل الثقافة العربية الإسلامية، ونحن مسؤولون

عن ذلك بنسبة كبيرة، لأن نظرة الغرب إلى العالم الإسلامي مستندة إلى واقعه وأخلاقه وسلوكه، فعلى الدول العربية أن تغير واقع الأمة وفق منهج عملي وقواعد وسلوك وليس كلمات نتغنى بها، إذا ماأرادت تجنب خطر العولمة، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال القيام بالإصلاحات الضرورية في المجالات ذات الصلة بحياة المواطنين، بحيث تنتقل هذه المجتمعات من مرحلة التخلف إلى مرحلة القدرة والتقدم في إطار قيمه، ولتقوية المناعة الثقافية وتعزيز قدرة المجتمع على الإحتفاظ بخصوصياته والنجاة من مخاطر العولمة وتجاوز سلبياتها.

وحسب إعتقادي فإن الحل يكمن في عملية التغيير، تغيير شامل على كل المستويات » إن الله لا

يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم « خاصة فيما يتعلق بالناحية التعليمة والتربوية والمحافظة على القيم الإسلامية وتطبيق شريعة الله، والعمل على ترسيخها ونشرها، ونستطيع ذلك من خلال الإهتمام بالمؤسسات التربوية بدءا من الأسرة والمدارس والجامعات والمساجد، لننتقل إلى المجتمع الأعلى، ونستطيع ذلك من خلال تحسين وإعادة النظر في النظام التعليمي العربي، فبدونه لا يمكن أن نواجه التحديات والمخاطر التي تحدق بالهوية العربية الإسلامية، من خلال طرح نموذج جديد لمدرسة المستقبل تكون كفيلة بتعزيز الإنتماء الديني والقومي والولاء لدى الأجيال العربية في سياق التواصل الحضاري والإنساني، وبما يمكن من التصدي الواعي للغزو الثقافي وحماية الهوية الدينية والثقافية والحضارية للأمة العربية الإسلامية.

فالمجتمعات العربية بحاجة إلى صياغة حديثة لنظرية تربوية إسلامية تكون في مواجهة التحديات والمخاطر، وهذه السياسة لابد أن تقوم على مبدأ التعلم المستمر مدى الحياة، وعملية بناء مستمرة لشخصية الإنسان، ولمعارفه وإستعداداته تشمل الإنسان في مراحل حياته بدءا من الطفولة ، وتشمل كل الأنشطة التي تتيح لكل إنسان أن يكتسب معرفة ديناميكية بالعالم وبالآخرين وبنفسه، ويحاول أن يسترجع المجتمع العربي مقوماته الأساسية المتمثلة في اللغة والدين والعادات والتقاليد والأخلاق والتفاعل التي فقدها أو فقد جزءا منها خلال مسيرته الحضارية التاريخية الطويلة.( )

وفي المقابل يحاول إستغلال نظام العولمة والتقدم التكنولوجي والإعلامي والإتصال…إلخ في خدمة وتطوير والحفاظ على هذه المقومات.

خـاتمــة:

إن البلدان العربية الإسلامية في حاجة إلى نهضة حقيقية وإرادة قوية، وبصيرة ثابتة تمكنها من فهم حاضرها وتعي حقيقة وجودها، هذا الفهم وهذا الوعي لا يمكن أن يكون إلا وفق منهج علمي وعملي سليم يتجاوز المحلية نحو العالمية، نحن بحاجة إلى تغيير شامل لواقع الأمة العربية الإسلامية تغييرا جذريا وجادا، ولنبدأ من الهياكل والمؤسسات الأساسية التي بواسطتها نستطيع التأثير والتغيير، فالحل في إعتقادي يكمن في قيام المؤسسات التربوية بدورها المنوط لها بدءا من الأسرة فالمدرسة فالجامعات، إذن دعونا نغير بيوتنا وتعليمنا، دعونا نتوحد ونتجمع في شكل كيانات قوية تمكننا من التعامل مع الكيانات الأخرى من موقع المحاور وليس من موقع المنفذ الذي تملى عليه السياسات من الخارج، وبدلا من الإنسياق والتساؤل دائما عن كيفية اللحاق بالغرب، لماذا لا تنهض هذه المجتمعات العربية بمشروعات حضارية، تنطلق من التمسك بثوابت الأمة والتأكيد على الهوية الثقافية والدينية للعالم العربي الإسلامي.

الهوامش

()  تركي الحمد : الثقافة العربية في عصر العولمة، دار الساقي، بيروت، لبنان، ط1، 1999، ص 91.

() محمد مسلم : مقدمة في علم النفس الإجتماعي، دار قرطبة للنشر و التوزيع،  الجزائر، 2007، ص 153.

( ) نور الدين بومهرة : العولمة و إشكالية الهوية ( الهوية العربية نموذجا )، الجزائر و العولمة، منشورات جامعة منتوري قسنطينة، 2001،

ص212.

() نبيل المتولي : الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية في مدرسة المستقبل، انظر الموقع :

www.informatics.gov.sa/ebook/book/nabil metwalli

ORIO.M :  Les  identité collectives en question ,  in bulletin IDERIC, 1989 , p 8.                                    (4)

(1 ) دوني كوشي : مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ت. قاسم المقداد ، منشورات  اتحاد الكتاب العرب ، دمشق، 2002، ص ص 95، 96

() نبيـل المتولي ،  مرجع  سابق .

() مجلة كلية العلوم الإسلامية للبحوث و الدراسات الإسلامية المقارنة، الصراط، السنة الثالثة، العدد السادس، رجب 1423، سبتمبر 2002

(1) برهان غليون، سمير أمين: ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، دار الفكر، دمشق سوريا، ط1، 1999.

(*)  لمزيد من الإطلاع أنظر: المؤتمر الثاني لوزراء التربية والتعليم والمعارف في الوطن العربي المنعقد في دمشق سنة 2000، لمناقشة التحولات والتغيرات المؤثرة في تشكيل المستقبل التعليمي العربي.

() نور الدين بومهرة: مرجع سابق، ص216.

(  )  سعيد السبع: المتميز في الفلسفة، دار الكتب العلمية للطباعة والنشروالتوزيع الجزائر، 2007 ص132.

(  )  غسان منير حمزة وآخرون: العولمة والدولة والوطن والمجتمع العالمي، دار النهضة العربية، بيروت لبنان،ط1، 2002  ص22.

(  )  نبيل متولي: مرجع سابق.

(14) حسن علي خاطر: المجتمع العربي المعاصر، دار الشروق للنشر والتوزيع، الأردن، ط1، 2001، ص18.

رأي واحد حول “الهوية العربية الإسلامية و تحديات العولمة”

التعليقات مغلقة.