الهوية الثقافية

multiculturalism

د.عبد العليم محمد إسماعيل

تعد قضية الهوية قضية إشكالية، فهي محدد، وبشكل حاسم، لطبيعة العلاقة مع العالم الداخلي و الخارجي؛ فبناءً على التصورات الاعتقادية حولها يتحدد مسار الجماعة وتعاطيها مع الحياة الداخلية للذات ومع الآخر في ذات الوقت.
وتكمن إشكالية الهوية الثقافية في كونها تنطوي على مضاف( الهوية) ومضاف إليه (الثقافة)، وكل منهما يشكل قضية جدلية معقدة؛ ويزيد من تعقيدهما تلبسهما بالديني والسياسي والآيديولوجي والتاريخي واليومي…إلخ. ولوضع تصور عن الهوية الثقافية كان لا بد من توضيح مفهومي الهوية والثقافة، كلا على حدة.
الهوية
لم تشر المعاجم العربية إلى مفردة ( الهوية)؛ فهي مفردة جديدة دخيلة على اللغة العربية، وأقرب مفردة إليها، من الناحية الصوتية هي( الهَوية): البئر البعيدة المهواة .
هذا – وقد وردت مفردة ( الهُوية) ، باعتبارها مفهوما، عند بعض المتصوفة؛ فقد ذكر” الشريف الجرجاني” صاحب كتاب التعريفات أن ( الهُوية) هي: ( الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق ) .هذا التعريف مع أنه يصبغ على الهوية صبغة دينية إلا أنه يقبض على روح مفهوم الهوية؛ فابعاد الهوية تتأسس على حالة انطولوجية، إذ هي تجريد محض وخيال محض.
أما معجم الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا، فقد عرّفها بأنها: ( أحد أشكال العادة، أو نمط حياة ومنظومة قيم، أو مرجعية ذات شيفرة أخلاقية) .
وفي معجم مصطلحات الثقافة جاء تعريفها بأنها خيال يضفي نموذجا منتظما على التعقيد الفعلي والطبيعة الفياضة لكل من العوالم النفسية والاجتماعية، ويرتكز سؤالها على تأكيد مبدأ الوحدة والاستمرار في مقابل التعدد والتغيّر والتحول، وهي تمثل للجماعة أو الأفراد تعبيراً جوهريا، أو خصائص ذاتية طبيعية تصدر عن التطابق مع الذات أو الفرد أو الكيان الجمعي المكتفي .
وتذهب بعض الدوائر إلى أن الهوية هي كل ما يعبر عن تفرد المجموعات، وما يمنعهم من الصراع الفكري أو العملي، ويسمح ببقاء الحدود التي تفصل بين الجماعة، ويترجم العلاقات المتبادلة بين الحقائق العضوية والحقائق الدينية والجمالية والسياسية وحقائق النسب؛ فهي عملية تنتج عن التفاعل بين الإنسان والمؤسسات الاجتماعية التي يعيش في إطارها .
وتتسم الهوية بحالة من التعقيد في أبعادها وتأثيراتها؛ وتحديد المؤثرات التي تعمل على تشظيها، وذلك لأنها ترتبط بعدة محددات يصعب التحكم فيها، فمن أهم المحددات التي تجعل سؤال الهوية من أصعب الأسئلة:
1- التعدد: فالهويات ذات بنية تعددية، وأن أهمية هوية واحدة يجب ألا تتقاطع مع الأخريات، فيمكن أن يكون الفرد مواطنا سودانيا ومسلما أو مسيحيا، ويتحدث اللغة العربية، ويعمل في مهنة التدريس…إلخ. فالهوية حالة تشكلها عدة عناصر: الدين، العرق، اللغة، النسب، الأخلاق السائدة، التراكم التاريخي للخبرة الجماعية والذاتية…إلخ.
2- الاختلاف: لا تتشكل الهوية لدى الذات إلا بافتراض وجود آخر مختلف في عدة أمور، ويوجد هذا الآخر حتى داخل الكيان السياسي الواحد؛ فإذا تحدثنا عن الهوية السودانية، مثلا، تبرز تقاطعات دينية وثقافية وإثنية تجعل مفهوم الوطن، باعتباره محدداً للهوية السياسية والقانونة، أمراً محل نزاع عنيف قاد إلى تشظي الدولة السودانية، فمفهوم الهوية يقوم، أساساً، على النظر إلى الفروق بين الذوات؛ وتحديد المسافات الفاصلة بين الذات والآخر؛ لذا فإن لم ينظر إلى الاختلافات باعتبارها تنوعا يثري الهوية فإنها ستنقلب إلى تناقضات تقود إلى حالات عنف مدمرة.
3- السياقية الاجتماعية والتاريخية: تتأسس الهوية، على الدوام، في سياق اجتماعي تاريخي محدد. وبما أن الزمان يهرب على الدوام، والمكان يعاد تشكيله، والعلاقات تتغير- فإن استجابات الناس ومراكمة خبراتهم وتطور وعيهم يؤدي، ضرورة، إلى تشعب التصورات والمسارات، الأمر الذي يقود إلى صراعات بسبب تعزيز المواقع، وبسبب الغبن الذي تؤدي إليه مجموعة من المارسات الاجتماعية والسياسية والقانونية الخاطئة؛ لذا لا بد من دور ملحوظ للسلطات الممثلة للأمم في اتخاذ مجموعة إجرائات تربوية وقانونية وسياسية وتنموية تؤدي إلى تحويل التناقضات إلى تباينات تصب في مصلحة الكثرة والتعدد مع الوحدة.
هذا – ويمكن أن تكون الهوية نواة لروابط متينة تساعد على تماسك النسيج الاجتماعي؛ لذا نجد أن معظم الدول قد ضمنت بنودا، في قوانينها ودساتيرها، تتناول قضية الهوية. كما نجد أنّ كبار صناع التاريخ والسياسيين– يحافظون على الهوية باعتبارها روابط حاسمة في تشكيل أفراد يتسمون بالتماسك الذاتي؛ ويمتلكون هويات أنضجتها صيرورة تاريخية محددة.
ومن جهة أخرى فإن الهوية قد تحمل بعداً مظلماً يقود إلى دمار هائل، فبعض الهويات تتعمد خلق الفواصل والحدود لكي تنأى بنفسها من التهديدات المتخيلة، وفي بعض الأحيان تتحول الهوية إلى حالة من العجب والإحساس بالسمو والنقاء؛ فتصبح حالة عدوانية.
فالهوية حالة إحساس جمعي يرتكز على مبدأ الوحدة، ثم يأتي التتابع والاستمرارية باعتبارهما محدداً ثان. إلا أن منطق الهوية، دائما، ينشد الكمال وتماسك الذات الجمعية، ويأتي تشكيل التصورات الجماعية بوصفها كيانا منسجما ومتجانسا؛ مشكلاً ما يعرف بالأمة ذات الأهداف والدوافع المشتركة؛ وغالباً ما يتشكل هذا التصور من مفهوم العائلة القومية والجسد الواحد والدم المشترك والوطن الجماعي؛ والإحساس بوحدة الثقافة والعقيدة، والاعتقاد بتواصل التاريخ والأجيال والقوة الأخلاقية للترااث .
الثقافة
وردت كلمة( الثقافة) في المعاجم العربية لتحيل إلى معني الحذق؛ فقد ورد في لسان العرب أن الثقافة تعني الحذق، وذاك عند القول: ثَقُف الرجل ثَقافة، صار حاذقاً خفيفاً .
أما الثقافة باعتبارها مفهوما فقد أُحيطت بعناية كبيرة من الباحثين في عدة حقول معرفية. فقد وردت إشارة في كتاب “نظرية الثقافة” إلى وجود اتجاهين في تعريف الثقافة :
الاتجاه الأول: ينظر إلى الثقافة على أنها تتكون من القيم والمعتقدات والمعايير والتفسيرات العقلية والرموز والآيديولوجيا وما شاكلها من المنتجات العقلية. والاتجاه الثاني: يعتبر أن الثقافة هي إشارة إلى النمط الكلي لحياة شعب ما، والعلاقات الشخصية بين أفراده وتوجهاتهم .
ولعل أشهر تعريف للثقافة هو تعريف الأنثروبولوجي ” إدوارد تايلور”؛ حيث ذهب إلى أن الثقافة هي الكل المركب الذي يضم المعرفة والاعتقاد والفن والأخلاق والأزياء، وكل الملكات الأخرى والعادات التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في المجتمع .
أما حسين مونس فقد ذهب إلى أن الثقافة هي ( طريقة الشعب في الحياة بكل ما تضمه حياة الشعب من تفاصيل تتصل بالطعام والشراب والمسكن والأساس والفرش والأقاصيص، وتنظيم حياة الأسرة ، وعلاقة أفرادها بعضهم ببعض أو علاقتهم بالمجموع.) .
وتلعب الثقافة دورا مهما في حياة الناس وعمليات التخطيط والتنمية. ويرى “ماكلارن” أن خلق الثقافة الأخلاقية التى تحتضن مجتمعات التفاهم- يجب أن تكون الأرضية التي تجري عبرها عملية التواصل؛ لذا يجب أن تبنى على قاعدة المساواة .
فالثقافة يمكنها أن تلعب دورا جوهريا في خلق بيئة إيجابية للتغيرات الاجتماعية؛ فهي أقوى داعم لتنفيذ الخطط وتحقيق الأهداف إذا ما خُلِّصت، كما تذهب أمارتيا صن، من وهم القدرية والمصير، كما أنها تستطيع إغناء فهمنا للعالم وطبيعة هويتنا .
وتتجلى الثقافة في عدة أشكال: اللغة، الأزياء، الفلكلور، الغذاء…إلخ، إلا أن الكلمة المنطوقة لعبت الدور الأبرز في مسيرة الثقافة؛ فقد حملت تراث الأمم، وكونت تصوراتهم عن الزمان والمكان؛ وصاغت قانونهم الوجودي والمادي، وأسست نمط علاقاتهم بالماضي البعيد وحاضرهم المعيش. وقد أفرزت التطورات التقنية الحديثة أدوات ثقافية قادت إلى تأثيرات قوية على مجمل معطيات الحياة الثقافية والنفسية في البيئة الحديثة؛ فمع تطور وسائل الإعلام المرئية أصبح للصورة الدور الأقوى في بلورة المفاهيم والتصورات الثقافية، وصياغة القيم والميول والاتجاهات الحياتية، وهو أمر أهملته الدراسات العربية كثيرا؛ الأمر الذي جعل من تحليل مفاهيم الثقافة والغزو الثقافي تفتقر إلى التحليل المعرفي المتعمق. فثقافة الصورة تمثل، كما يذهب الغذامي، انتقالاً من المقروء إلى المرئي؛ فأصبحت الصورة التلفزيونية هي اللغة الجديدة والخطاب الحديث الذي يحمل المفاجآت وسرعة المؤثرات وقوة التأثير وحرية الإرسال.
فثقافة الصورة تعد علامة حقيقية على التغير في معطيات الحياة المعاصرة؛ وهو تغير أوجد أنماطاً جديدة من الوعي والعلاقات، يقول الغذامي: ( لأوّل مرة في تاريخ البشرية الثقافي والاجتماعي نجد أنفسنا عاجزين عن رؤية أو تسمية قادة يقودون الناس ويؤثرون عليهم فكرياً وسياسياً وفنياً؛ ومع ذلك يتأثرون بشكل جماعي وبتوقيت واحد).
وتواجه الثقافات القومية والدينية، نتيجة لهذا التغير، موجة عاتية من التحديات، فجميع الثقافات البشرية تواجه أخطر لحظات تحولاتها؛ متمثلة في التحول الثقافي والاجتماعي وما ينجم عنهما، ولا مفر من السعي إلى إنتاج صورة جديدة انطلاقاً من مركزية الصورة في عالمنا؛ فالصور ثقافة إنتاج اقتصادي تكنولوجي، وهي لغة عصرية تمتاز بحضورها في عصرنا، وهي تستند إلى الطاقة الهائلة في تحريك الوجدان والعاطفة من خلال مطابقة القول للفعل .
ومن جهة أخرى فإن الصورة، إذا وُظِّفت بصورة واعية، ستقود إلى توحيد الوجدان القومي؛ وذلك من خلال تعميق الوعي بالآخر. فقد لعبت كرة القدم، باعتبارها نشاطا مرئيا أخترق الميديا، دورا كبيرا في توحيد الوجدان القومي؛ كما أنها امتصت كثيرا من الطاقات العدوانية العنيفة؛ وحولتها إلى عنف رمزي لا يتجاوز، في الأغلب، الإحساس السلبي بالنصر وهزيمة الخصم وسحقه.
الهوية الثقافية.
الهوية الثقافية هي تصور لحالة الثقافة الجمعية في الدولة التي تعتمد مبدأ القومية، وتصور عن حالة تعبيرية تصدر عن جماعة متخيلة؛ يربطها عامل الانتماء إلى الجماعة والثقافة المشتركة، وهي، كما يذهب “ميلر”، تساعدنا بأن تضعنا في صلب العالم؛ وذلك بتعريفنا من نحن، ومن أين جئنا وما قمنا به .
وهي، أيضاً، تعبير عن كيان معنوي؛ له حياته وحركته الدينامية التي تساعده على أن يتفاعل مع كيانات معنوية أخرى، وأن ينمو بسرعة أوببطء، وأن يواجه ما يعترض سبيله من مستجدات بأساليب مختلفة تتناسب مع ما يميزه من العناصر السابقة.
وتتجلى الهوية الثقافية في مجموعة خصائص لجماعة بشرية تربط بينهم أواصر عدة: التاريخ المشترك، الاجتماع، عمليات الترميز…إلخ. ومن خلال الخبرات المباشرة والسلوك العفوي تتجلى قدرة فكرية وثقافية وسلوكيات تفسر العالم ضمن المعطيات التأويلية للجماعة.
والهوية الثقافية قضية سياق اجتماعي؛ وليست مجرد عوارض جغرافية، فعلى الحدود القابلة للتفاوض والاحتكاك الناجم عن الاختلاف يُطرح سؤال الذات، ومن هنا تأتي الحاجة إلى الفضاء الثقافي والبلاغي الذي يسيّج الأساليب الخاصة لمجتمع ما، ويضع تصوراتهم في السياق العملي، ولا سيما في مواجهة قوى فرض التجانس في مجال الإدارة والسياسة؛ نتيجة لمقتضيات العولمة .
والمحك الحقيقي لاختبار فعل الهوية الثقافية، كما يذهب كلود ليفي شتراوس، يستند إلى أسس نفسية متينة؛ نظرا لأنه ينزع للظهور عندما نكون في موقع غير المنتصر، فينتج الرفض الكامل للأشكال الثقافية الأخلاقية والدينية والاجتماعية والجمالية البعيدة عن معتقداتنا . فالسياقات الزمانية والمكانية هي المسرح الذي تتحقق عبره الهوية الثقافية، فالإنسان لا يحقق طبيعته في إنسانية مجردة، فهو يتوكأ على ثقافات تقليدية لها القدرة على الاحتفاظ بأعرافها، في حركة التاريخ، أمام أخطر التحولات الثورية.
ومن جهة أخرى فإن الشخصيات العظمى تلعب دوراً مهما في بلورة مفاهيم الهوية، فعن طريقها، كما يذهب باركر، تنبني الأفكار الأخلاقية والميتافيزيقية، وتتحول النظريات إلى حالة مجسدة في العالم الاجتماعي؛ فالشخصيات العظمى هي المثل الأخلاقية للثقافة ؛ وإذا نظرنا إلى تاريخ البشرية وحضاراتها سنجد أنفسنا نتحدث عن شخصيات تجسد الوعي الكائن والممكن، فلن نفهم الثقافة اليونانية بعيدا عن شخصيات مثل: أرسطو، سقراط، أفلاطون…إلخ. وعندما نتحدث عن الحضارة العربية نستحضر شخصيات مثل: محمد(ص)، الخلفاء الراشدين…إلخ، فشخصيات أي ثقافة تعمل كمثل أو أيقونات اجتماعية أخلاقية؛ على هديها يستطيع بقية أعضاء الثقافة تعريف ذواتهم ووضعها، وتكتسب أفعال الجماهير العريضة معناها.
هذا- والهويات الثقافية لا تقف بمعزل عن عدة تأثيرات تنتج عن تصوراتنا، فالعامل الثقافي والطبقة والعنصر والنوع والمهنة والسياسات…إلخ – تعد ركائز أساسية للهوية الثقافية التي لا تقف بمعزل عن إدراك الجماعة والعمل الاجتماعي والمؤثرات الاقتصادية للمعطيات الخارجية والثقافات الأخرى. فالخلفيات الثقافية هي أقوى المؤثرات في الاحساس بالهوية وإدراك الانتماء إلى عضوية الجماعة.
ومن جهة أخرى فإن التنويعات داخل الوسط الثقافي العام تقضي على فكرة التجانس؛ الأمر الذي يقتضي حسن إدارة هذا التجانس الذي إذا فلت أمره سيقود إلى التفتت والحروب؛ وستنتج الحدود والفواصل التي تقود إلى تفتت الهوية حتى داخل الدولة الواحدة.
والهوية الثقافية ليست كياناً ساكناً وقاراً؛ فعبر مسيرة الجماعات في التاريخ تصادف ثقافاتها مجموعة من الفرص والتحديات؛ فغني أي ثقافة، كما يذهب ليفي شتراوس، يعتمد على الفرص التي تصادفها أثناء تطورها التاريخي. وأن التآلفات التي تحدث نتيجة تلاقيها مع ثقافات عدة؛ تسهم في إخصابها، وتمنحها المناعة. وإذا تأملنا الثقافة العربية فسنجد أن الإسلام قد شكل أهم المنعطفات في تاريخها، فقد أخرجها من أفق الصحراء الضيق إلى آفاق عالمية رحبة، ومن المشافهة إلى الكتابة، ومن الارتجال إلى التفكر، ومن التنقل إلي الاستقرار والتمدن؛ وذلك عبر مسيرة طويلة أفادت فيها من عدة تنويعات ثقافية وظفتها في جسدها عبر عمليات التبييء الاجتماعي والتعريب اللغوي والتوطين البشري، إذ لا نجد مسارا من مسارات الثقافة العربية قد تطور بعيدا عن هذه الفرضية: علم النحو، الأدب، الإدارة، تنظيم الدولة، هندسة المدن، علوم الطب، الهندسة، الرياضيات …إلخ؛ فجميعها قد أسهمت الفرص التاريخية إسهامات واضحة في إنجازها وبلورتها، وهو أمر يجعلنا ندلف إلى بعض المفاهيم المتعلقة بقضايا الهوية الثقافية والمؤثرات الخارجية.
تتأثر الهويات الثقافية بعدة عوامل خارجية، ففكرة الهوية تتحدد بوجود آخر له رؤيته ومعطياته المادية التي يسعى، من خلالها، إلى تعميم نموذجه وكوننته، ويتجسد هذا الطموح في فلسفة متماسكة تمتلك من عناصر القوة ما يؤهلها للانتباه إليها باعتبارها وجودا فاعلا يصلح للتعميم، لذا عندما تُكّون هوية ثقافية ما فلسفة بهذا الشمول فإنها تستطيع التغلغل، كما يذهب “ستوارت باركر”، في نسيج الرؤية العالمية العامة للثقافة، كما أن نفوذها ينسرب خفية في الثقافات الأخرى؛ لأنها تمتلك النفوذ الذي يجعل من أجندتها ومفرداتها معيارا لتحديد ماهو طبيعي وسوي ومعتدل، وما هو مسلّم به ولايجوز التعرض له بالنقد.
هذه الرؤية التي ذهبنا إليها نجدها قد تحققت لدى هويات ثقافية عدة عبر المسيرة البشرية؛ فاليونان قد حققت هذا التفوق، فصارت ثقافتها أداة معايرة للمنجز العالمي، وقد وظفها العرب الذين استطاعوا، بدورهم، إنجاز هذا الشرط؛ فخرجت الحضارة العربية، تحت راية الإسلام، من جغرافية محدودة إلى أقصى بقاع العالم، فأثّرت في عدة هويات، وغيرت مسار عدة شعوب.
وفي العصر الحديث استطاعت الحضارة الغربية إقامة فضاءٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ وعسكريٍّ وتقنيٍّ- جمع بين الإغواء والردع، فقد أقامت الحضارة الغربية، كما يذهب “شتاوس” جنودها ومؤسساتها ومزارعها ومبشريها في جميع بقاع الأرض، وتدخلت في حيوات ثقافات عدة؛ فبتدخلها في حياة السكان الملونيين عملت على قلب نموذجهم رأسا على عقب؛ سواء بفرض نموذجها، أو بإقامة الشروط التي تؤدي إلى انهيار الأطر القائمة دون استبدالها بشيءٍ آخر.
ولما كان خطاب الهوية، كما يرى علي حرب، منطقة تتعرض للغزو والاختراق والاكتساح والمحو، فإن الهويات الثقافية تواجه، في العصر الحديث، تحديات كبرى وتحولات جذرية في القيم والمفاهيم والمشروعات والمهمات والقوى والمؤسسات والوسائل، وهو أمر ولّد ممارسات معرفية تجاوزت ما كان سائدا في عالم الأمس القريب، ونتج هذا التحول، في تقدير علي حرب، عن العولمة التي برزت على سطح المشهد العالمي بكل حمولاتها التقنية والبشرية. ومن هنا تصبح مشكلات الهوية الثقافية ليست في تهديد العولمة الأمريكية لهذه الهويات، وإنما في عجز أهل تلك الهويات المخترقة عن إعادة ابتكار هوياتهم وتشكيلها في سياق الأحداث والمجريات.
ففي ظل التيارات الثقافية العابرة للقوميات تعرّضت الهويات إلى خلخلة في هياكلها المستقرة والراسخة. وفي ظل التطور السريع في ميادين التواصل، والتبدلات العميقة في الأفكار والتصورات– كان لابد لكل هوية ثقافية من طرح أسئلتها في عصر السرعة والتسليع؛ ففي المكسيك، كما يذكر حسين مونس، استطاعت بعض فروع قبيلة( الأزتيك) أن تحتفظ بهويتها الثقافية وملامحها الجوهرية، وهذا ما ساعدها على تفجر ثورتها عام 1910م؛ واستمرت إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية.
وعلى العكس من ذلك فإن جزر الهاواي قد تحولّت إلى ولاية أمريكية؛ فتلاشت ثقافة الأهالي، ولم تبق منها إلا مؤشرات رمزية تفيد اقتصاد السياحة. كذلك تبدلت حياة الهنود الحمر نتيجة الغزو المستمر الذي ولّد أمريكا؛ فقد وصفت عجوز هندية هذه التبدلات في قولها: ( جلبتم المرض فمات المئات منا. أين قوتنا؟ كنا أشداء في غابر الأزمان… نأكل طعام الأبيض فيصيبنا الهزال، نلبس ثياب الأبيض الثقيلة فتضعف قوانا… نعم نحن نعرف حين تجيئون، نموت نحن)
هذا- وقد أدت العولمة إلى زعزعة اليقينيات القديمة؛ لتحل محلها عوالم سطحية من اختيار المستهلك، وخيارات الهوية الجاهزة، فالعولمة في أحد أبعادها مؤشر على أزمة جوهرية للهوية فجميع الثقافات ليست بمنأى عن التأثر بعمليات العولمة، فداخل الثقافات تتحرك عمليات العولمة، وتعمل على تنشيط الثقافة وتنميتها وتمزيقها في الوقت نفسه. . وفي مظلة العولمة لا بد من النظر إلى الفاعلين الأساسيين؛ بقدراتهم وإمكاناتهم الاقتصادية والسياسة والاجتماعية، مثل: تكنولوجيا المعلومات، اتصالات الميديا، المنظمات دولية، الحكومات الوطنية، الرأسمالية وقوتها البرغاماتية العقلانية التي تدفعها.
ولما كانت العولمة ترتبط بمركزية غربية، وكانت أمريكا وبريطانيا اللاعبين الأبرز في صياغة العالم- فقد لعبت الثقافة الانجليزية، ولا سيما في وجهها الامريكي، الدور الأكبر في التأثير على الهويات الثقافية، الأمر الذي أدي إلى وصف الدعوة إلى ثقافة كونية بأنها محاولة ساعية إلى أمركة العالم أو غربنته؛ وهي دعوى تجد سندها في الحالة التاريخية للاستعمار الأوروبي، وقيام بعض الأوربيين بفرض مؤسساتهم وممارساتهم الخاصة على رعاياهم من المستعمرين، وتجلّت هذه الهيمنة الثقافية في انتشار اللغة الانجليزية. ولما كانت اللغة أحد أهم عناصر مكونات الهوية الثقافية، فقد أدى انتشار اللغة الانجليزية إلى تهجين ثقافي واضح على مستوى العالم، وإلى التبشير بثقافة كونية. فقد جهدت أمريكا في نشر مفاهيم التنوع الثقافي؛ وذلك أمر اقتضاه الواقع الهجين للمجتمع الأمريكي؛ فاستطاعت أمريكا أن تدير هذا التنوع وتوظفه إيجابا في تطور المجتمع الأمريكي، وسعت، من جهة أخرى، إلى عولمته. بينما فشلت بعض الدول في إدارة هذا الاختلاف وتوظيفة؛ فأدى إلى حروب إثنية وطائفية ومذهبية قاتلة.
هذه البيئة المعاصرة التي اخترقت أقصى المناطق المحصنة ثقافيا وأكثرها عزلة – قلبت العالم والحيوات والمؤسسات والقيم والأذواق والاتجاهات والعلاقات رأسا على عقب، الأمر الذي يتطلب من سياسات التخطيط في الدول أن تعتمد الدراسات العلمية في التعامل مع اللغة باعتبارها ركيزة الهوية الثقافية، فقد أثبتت تجارب دول عدة أن انتقالهم إلى مجتمع المعرفة قد تم عبر توظيف لغات أقلّ شأنا من اللغة العربية.
وإذا كان الشرط الحضاري الذي نعيشه اليوم يقتضي التفكير في هذا التنوع الثقافي، فيجب النظر إليه في إطار عالمية القضايا الإنسانية المشتركة، مثل: نشر ثقافة السلام والتسامح والعدالة والإخاء. أما الدعوة إلى الثقافة العالمية تحت شعارات العولمة التي تتأسس على ( لا توازن القوى)- فإن ذلك سيقود حتما إلى إلى تشوه كامل في الهويات الثقافية. فقد ورد في تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2009م أن هذا التقابل بين الهويات الثقافية المتنافرة في عالم سريع التعولم؛ يدعو إلى الاهتمام ببعض الظواهر المنتشرة في أكثر من مكان؛ داخل صيرورة العولمة التي تتحرك في اتجاه رباعي: التضخم المتواصل لرأس المال المعلوماتي، التطور المتسارع للكشوف التقنية، إدارة القوة السياسية الهادفة إلى السيطرة على العالم، وضع العالم في قالب ثقافي واحد، حيث تقوم بذلك ثورة تقانة المعلومات.
ففي ظل هذا الوضع، المتعولم بسرعة، تنامى الأحساس لدى الجماعات البشرية ذات الإطار القومي بأن سياج هوياتهم قد صار يتعرض لتحديات مهمة؛ فقد تنامى الإحساس بأن المجتمعات صارت تزداد تجزئة؛ وذلك بسبب المساعي لإضفاء التجانس في أسواق العولمة. وبحسب على حرب فإن هذا الوضع العالمي جعل الإنسان منقسما إلى ثلاثة عوالم: العالم القديم المرتكز على التصورات الدينية الماورائية، والعالم الحديث ذو المنحى الوضعي التجريبي العلماني؛ بتعميماته للقيم الجمالية والفردية، والعالم الذي نعيشه اليوم؛ وهو عالم ما زال في طور التشكل؛ عالم الفضاء السبراني والإعلام والإنسان العددي والمواطن الكوكبي. إلا أننا نرى أن هذا الفصل الحاد بين العوالم عبارة عن عملية ذهنية؛ فالحقيقة الماثلة هي العالم الذي نعيشه اليوم؛ وهو عالم تتقاطع فيه عوالم الدين والتقنية والفضاءات السبريانية، ويصبح سؤال التوفيق بين هذه العوالم قضية تخضع للتصورات التي يحملها كل فرد عن الدين والتكنولوجيا والإعلام، إذ نرى ألا تقاطع بين هذه العوالم؛ فالدين قضية اعتقادية والتقنية تكتسب قيمتها الجمالية والأخلاقية من مبدأ التوظيف وليس المعتقد.
كل هذا التشظي الحادث في الحياة المعاصرة؛ من تذويب للهويات، وتسليع للقيم، فإن الدعوة إلى إيجاد طرق جديدة للحياة، كما يذهب ” باركر”، تصبح عملية شرطية لبناء ركائز الهوية الذاتية، طرق يمكن أن تصدقها المجتمعات أولاً، وتبدع الحلول بتفصيل الالتزامات والمعتقدات والآمال والمخاوف، وتصوغ شخوصها وأبطالها الطابع الأخلاقي للتواصل الاجتماعي.
*د.عبد العليم محمد إسماعيل علي-أستاذ جامعي- السودان- ت:00249122351899

الهوامش:
1- لسان العرب، ابن منظور، ط1. دار صادر- بيروت،2000م، مج15،ص116
2- كتاب التعريفات، علي بن محمد الجرجاني، مكتبة لبنان- بيروت، 1985، ص278
3- معجم الأثنولوجيا والأنتربولوجيا، بيار بونت وميشال إيزار،ت. مصباح الصمد، ط1.المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2006م، ص 990
4- مفاتيح اصطلاحية جديدة: معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع. طوني بينيت وآخرون، ت. سعيد الغانمي، ط1. المنظمة العربية للترجمة. توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت – لبنان،2010م، ص700-702
5- مصطلحات أنثروبولوجية- الهوية، شبكة النبأ المعلوماتية(www.annabaa.org).
6- انظر معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع، ص701-702
7- لسان العرب،مج3، ص28
8- نظرية الثقافة، تأليف مجموعة من الكتاب، ترجمة علي سيد الصاوي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، كتاب رقم223، ص23.
9- عن معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع، ص232
10- الحضارة( دراسة في أصول وعومل قيامها)، حسين مؤنس(دكتور)، سلسلة عالم المعرفة- المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب -الكويت،كتاب 1،1987، ص 331
11- التربية في عالم ما بعد الحداثة، ستوارت باركر، ترجمة سامي محمد نصار، ط1.الدار المصرية -اللبنانية، 2007م ص 112
12- الهوية والعنف( وهم المصير الحتمي)،أماريتا صن، ت.سحرت توفيق، سلسلة عالم المعرفة، كتاب رقم352، ص101
13- الثقافة التلفزيونية( سقوط النخبة وبروز الشعبي)، عبدالله الغذامي،ط2. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،2005م، ص 24
14- المرجع السابق، ص26
15- المرجع السابق، ص45
16- معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع، ص707
17- أزمة الهوية الثقافية في عصر العولمة، فتحية محمد إبراهيم، مجلة جامعة الملك سعود، 1423ه، م15،ص120.
18- التربية في عالم ما بعد الحداثة، ص316
19- العرق والتاريخ، كلود ليفي شتراوس، ت. سليم حداد، ط. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص 13
20- التربية في عالم ما بعد الحداثة، ص66
21- الهوية والعنف، ص 104
22- العرق والتاريخ، ص 63
23- التربية في عالم مابعد الحداثة، ص 103
24- العرق والتاريخ، ص 41
25- انظر كتاب حديث النهايات، 21- 25
26- الحضارة، حسين مونس، ص 330
27- نصوص هنود أمريكا الشمالية، جون إليوت، ت. صبحي حديدي، مجلة الكرمل،، قبرص، ع3، 1992م، ص86.
28- نحو فهم للعولمة الثقافية، ص 11
29- المرجع السابق، ص14
30- انظر تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2009، ص 40.
31- حديث النهايات( فتوحات العولمة ومآزق الهوية)،علي حرب، ط2.المركز الثقافي العربي،الدار لبيضاء- المغرب، 2004م، ص12
32- التربية في عالم ما بعد الحداثة، ص317

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.