النسبية الثقافية

JANUS

مقتطف من كتاب مفترق طرق الثقافات: مقالات عن الكريولية
تأليف: توماس هيلاند إريكسن
ترجمة: محيي الدين عبد الغني

    من المضحكات المبكيات أن نظريات “النسبية الثقافية” في علم الانثروبولوجيا، التي وضعت أساسا لمناهضة “الشوفينية” (chauvinism) والعصبية “القومية” (nationalism)؛ كان لها تأثير مضاد، ومعاكس تماما للهدف الذي وضعت من أجله. لكن ربما يكون ذلك أقل تناقضا مما يمكن أن يبدو، أو يُعتقد. ذلك لأن “القومية” و”النسبية الثقافية” لهما- في الحقيقة – نفس النشأة في “الرومانسية الألمانية”، ورجلها الأساسي “يوهان جوتفريد فون هردر”(Johann Gottfried Von Herder) (1744-1803). فعلى يد “هردر” – وبدرجة معينة كان معه مُعاصرة الفيلسوف الايطالي “جيامباتستا فيكو” (Giambattista Vico) – حصل العالم على نظرية محددة عن نسبية الثقافات. كان “هردر” – الذي كان يكتب بخلفية التوسع والتمدد الفرنسي، في مقابل التفكك الألماني– هو الذي نادى بأن الألمان لهم كل الحق في ألا يصبحوا فرنسيين. لقد عنىّ أن كل أمة لها ثقافتها الخاصة بها. وأن لها كل الحق في الحفاظ عليها: على لغتها، وأساليب حياتها، وحدود أرضها، وشخصيتها وروحها المتميزة. وتبعا لفهم “هردر”؛ فان ذلك الحق ينطبق أيضًا على مجموعات البشر الذين يطلق عليهم اليوم الأقليات. أو أيُ مجموعة بشرية صغيرة، يسيطر عليها مجموعة بشرية كبيرة (أغلبية).

بمقارنة “هردر” مع فلاسفة اجتماعيين آخرين، مثل الفيلسوف الألماني “كانت” (Kant) والرومانسي الفرنسي “روسو”(Rousseau)، فمن الممكن أن يوصف بأن “هردر”، كان نموذجًا للتسامح، ومن المعتقدين بالنسبية الثقافية. ففي هذه الفترة المبكرة، كانت القومية تعتبر إيديولوجية تقدمية، ومضادة للإمبريالية. لم يكن العالم قد شاهد- في ذلك الحين- نجاح محاولات “المقهورين” في أن يأخذوا دور”القاهرين”، لو سنحت لهم الفرصة بذلك. وبالتالي كانت مطالبهم بدت وكأنها صرخة للمطالبة بالعدل.

من أفكار “هردر”، التي تعتبر أن لكل مجموعة بشرية لها خصائصها المتميزة؛ انبثق خطان أساسيان مختلفان ومتعارضان. أحدهما ورِثهُ وطبقهُ “فرانز بواز” (Franz Boas) (1825-1942) في نظرية “النسبية الثقافية”، التي طورت مباشرة في القرن التاسع عشر، وأصبحت العمود الأساسي في علم الانثربولوجي الأمريكي لاحقا. “فرانز بواز” ولد في ألمانيا، ودرس الجغرافيا في مدينة “كيل” (Kiel)، وأرسل في بعثة إلى المنطقة القطبية في الشمال الأمريكي وكولومبيا البريطانية (British Columbia). ومن ثم تغيرت اهتماماته، واتجه إلى دراسة الأجناس، ثم الأنثروبولوجيا، وكان ذلك مما دفعه إلى الهجرة.

     كان “بواز” من الرافضين لفكرة أن الجينات هي المكونة للثقافة، ورفض نظريات “التطور الثقافي”، التي تربط بين “العرق” من جهة وبين “الثقافة” من جهة أخرى (Cultural evolution)، وتمسك بنظريته القائلة: يجب أن تعامل كل ثقافة من الثقافات، على أن لها طابع مميز خاص. ولكن، لها نفس القيمة مثلها مثل أي ثقافة أخرى. وبالتالي؛ لم تكن بحوثه التي أجراها على الثقافات المختلفة؛ بغرض ترتيبها على سلم ثقافي له درجات مختلفة، ولكن كانت بقصد دراسة كل ثقافة على حدة لمعرفة الخصائص المميزة لكل منها. لذلك كان من الواضح أن دراسته الحقلية لقبائل الإسيكيمو القاطنة في الشمال الأمريكي والمسماة “الإينكيتوت”، أو “اليانكي” (Inuktitut or Inuit)، كانت على أساس محاولة لفهم الواقع، وعلى اعتبار أنهم أمريكيون شماليون ويجب فهمهم على أساس أطرهم الفكرية الثقافية، وليس على أساس ثقافة الأمريكيين الآخرين.

هذا الأسلوب لفهم العالم على أساسه، يكَوّن اليوم المقررات الدراسية الأساسية في أقسام علم الأنثربولوجي في جامعات كل أنحاء العالم. والحقيقة أن فيه الكثير مما يمكن أن نتعلمه، ولكن لن يكون ذلك خاليا من المشاكل إذا ما طلبنا المشورة والهداية منه فحسب. فقبل كل شيء فإن نظرية ” بواز” في ” النسبية الثقافية” مبنية على فكرة أن الثقافات “محددة” و “منغلقة”، بمعنى أن العالم مكون من “جزر ثقافية” لكل جزيرة ثقافتها المميزة، والمختلفة، ولو أن الباحث الاجتماعي أراد أن يكون منصفا “كإنسان” في موضوع دراسته، فعليه، أو عليها؛ أن يبذل أقصى جهده أن  تُدرس جميع الثقافات وتُقَيم من منطلقاتها، وداخل أطرها الفكرية، بغض النظر عما إذا كان من الممكن تسميتهم ثقافة قائمة بذاتها أم لا. إحدى المشاكل الناتجة من اتخاذ نظرية “النسبية الثقافية” كقاعدة للدراسة، هي أننا تعودنا أن نتعامل مع الثقافات المختلفة وكأنها “أنظمة مغلقة”، تحتوى على عدد معين من البشر يتشابهون كلهم مع بعضهم البعض، ويختلفون عن كل من هو خارجهم، وبالتالي جسّدنا الثقافة، وتعاملنا معها كما نتعامل مع المادة.

بهذه الطريقة نشأ في العلاقات السياسية والأخلاقية؛ مصطلحان يبدوان مختلفان ومتضادان كثيرا،ً وهما:”النسبية الأخلاقية” (moral  relativism) و”السياسة العرقية”(ethno politic). ذلك لأن كلا من “هردر”، و”بواز”، نظرا إلى الثقافات على أن لكل منها خواصها المتميزة المتفردة، وأن لها منطقها الخاص بها، ولا يمكن أن تفهم إلا من داخل إطارها الخُلقي. هذه النظرة يمكن أن تقودنا بسهولة، إلى استنتاج أن كل الثقافات متساوية الجودة والقيمة. وبالتالي ما على الفرد – من أي أقلية- إلا أن يبرر سلوكه بقوله: أنا لست مذنبا، لأن كل ما فعلته مخالفا لنظامكم القانوني، لا يخالف قيم ثقافتنا، فهكذا نعامل النساء في ثقافتنا. وهذا بعينه ما يقوله البعض، المخالفون للقوانين، والنظم الاجتماعية.

هذا الأسلوب من التفكير الذي يتخذ “النسبية الثقافية” و” النسبية الأخلاقية ” كقاعدة في التطبيق لحل المشاكل الأخلاقية في واقع حياتنا العملية ؛ يجعل من المستحيل أن نحكم أخلاقيا على الثقافات، سواء كانوا من الذين يحرقون الأرامل، أو يئدون البنات، أو يمارسون عمليات الختان الفرعوني للإناث. ببساطة، يمكن أن نتفهم ذلك لو اعتبرنا، وأخذنا في الحسبان أطرهم الثقافية، وليس أطرنا نحن. ومن هنا تكون خطوة قصيرة حتى نصل إلى “النسبية الأخلاقية ” و”الثقافية” للفرد الواحد. فيستطيع كل فرد أن يقول: إن ثقافتي قد انتهكت، ويجب أن أعامل في إطار منطقي الثقافي. إذا فانه لا توجد حقيقة مطلقة، ولكن ثقافة نسبية. وتطبيقا لهذه النسبية الثقافية فليس من المهم – مثلا- أن أقدم البراهين، وأعطى الحجج، على أن الصحيح أن تطلب النرويج عضوية الاتحاد الأوروبي، لأن ذلك سيكون أفضل للإنسانية على المدى البعيد، ويكفي أن أقول: إن رأيي بُني على منطلقاتي الثقافية. وبالتالي فإن أيّ وجهة نظر أخرى، لأيّ فرد؛ ستكون أيضًا جيدة بنفس الدرجة، بشرط أن تتناغم مع إطار ثقافته هو.

إن هذه “النسبية الثقافية”، و”النسبية الأخلاقية” – لو طبقت بهذه الأسلوب – فسوف تؤدى إلى كلا من، الشلل السياسي، واضمحلال رؤية الفروق بين الأخلاق والقيم المختلفة. ذات مرة كتب الأنثروبولوجي النرويجي المعروف “أرنا مارتين كلاوزن” (Arne Martin Klausen) إن  فكرة “النسبية الثقافية والأخلاقية” أصبحت شائعة بين الأنثربولوجيون الاجتماعيون، لدرجة أنهم اتخذوها أسلوب وفلسفة حياة، بينما تكون “النسبية” صالحة حتى نقطة معينة – هذه النقطة يمكن تسميتها نقطة الصفر الأخلاقي- عندها يجبر المرء إلى اتخاذ موقف محدد واضح المعالم، للإجابة على سؤال أخلاقي، عندها نكون مجبرين على أن نختار “هذا أو ذاك” وليس “هذا و ذاك”.

كثير من “الإثنو- سياسيين (ethno-politcians) يطبقون أسلوب تفكير “هردر” و”بواز” بطريقة معاكسة تماما. يقولون لو كانت الثقافات كلها متساوية القيمة، إذا فثقافتنا مثل كل الثقافات الأخرى قيمة، وبالتالى يجب أن يُفرض احترامها، وان نحظى بإمكانية إتخاذها أساسا لإصدار القرار السياسي، وهلم جرا. بعد ذلك يبدءون في حشد الناس، واسترجاع كل ما هو قديم وعادات موروثة، التي تكون في الحقيقة قد نُسيت كليا أو جزئيا. وكثيرا ما يطالبون بما يسمونه حقوقا لغوية، ودينية، وفى كثير من الأحيان حدودية أيضاً. وبالطبع تلبس هذه المطالب ملابس قومية، وتؤدى تقوية النعرة القومية. هذا الأسلوب في التفكير لا يجب أن يضطرونا إلى مشاركتهم فيه، ففي عصرنا الحالي يكون للأقليات الحق – بل مضطرون –  في القول: “إن لنا أيضا ثقافة، ويجب أن تحترم، ولنا حقوق في المشاركة في الحياة السياسية.  فعندما قام الهنود في ” شيباز” (Chiapas) – وهى الدولة التي تقع جنوب المكسيك على الحدود مع جواتيمالا- بالثورة في أول يوم منذ عام 1994، حاول النظام الرسمي التركيز على أن سبب ثورتهم أنهم هنود، وليس لأنهم فقراء ومقهورون. فهل كان ذلك صحيحا أنهم ثاروا لأنهم هنود وليس لأنهم كانوا فقراء ومقهورين؟

هذه الثقافة الطائفية السياسية، أو الاجتماعية – التي نتوقع أن نراها في أيامنا الحالية- التي تعتبر أن المشاركة السياسية والاجتماعية هي فقط لمن هم أصلا داخل حدود البلاد، ولا يوجد مكان للذين جاءوا من خارج الحدود، سوف تخلق في المجتمع استبعاد وتميز بين “الهويات” و “الثقافات” المختلفة. الفريق (أ) سيكون ضد الفريق (ب)، ولن يسمح لأحد أن يختار الفريق (أب)، حينها سوف يصنف تلقائيا، بأنه، أو أنها، خائن، أو خائنة، من كلا من الفريق (أ)  والفريق (ب)، على حد سواء.

هذه النتيجة المحزنة يمكن ربطها بالخط الرئيس الذي تطور من نظرية “هردر”، وهو أن الثقافات لكل منها طابعها وصفاتها المميزة، وهذا بالضبط ما يسمى في الواقع ب”القومية العرقية”. في الأساس؛ نشأت هذه النظرية وتطورت في المناطق الناطقة بالألمانية كأيديولوجية دفاعية. فالمتحدثون بالألمانية كانوا في الواقع – في ذلك الحين – منقسمين سياسيا، ووقعوا تحت تهديد طارئ آت من الغرب، “نابليون” (Napoleon). لقد كان كلا من “هردر” والمفكرين الألمان الآخرين ببساطة مصممين على أن الألمان من حقهم أن يكونوا “ألمانا”. وانه ليس من الضروري أن تكون العالمية الفرنسية، والإمبريالية المقنعة بالفلسفة العلمية، هي أسلوب التطور والخطوة للأمام، ولو أعدنا قول ذلك باستخدام المصطلحات الحديثة فسوف نقول: إن “هردر” طالب بحق الناس في تقرير مصيرهم، لكن تلك الأفكار أخذت نصف قرن لكي تتحقق في الواقع العملي السياسي على يد “بسمارك” (Bismarck). وعلينا أيضا أن نتذكر، أن نمو الشعور القومي كان في مراحله الجنينية، ولذا بدا وكأنه “الإنسانية المثالية”. فسواء “هردر” أو “مازينى” (Mazzini) – الأخير كان قوميا إيطاليا متشددا- لم يكونا ” شُفينيون” ينظرون إلى الأمور بعين واحدة ويطالبون بأن شعوبهم هم فقط الذين يستحقون حق تقرير المصير، بل طالبوا أيضا بأن القوميات الأخرى لها نفس الحق. بالطبع كان ذلك فكر رائع ومثالي، لكنهما في ذلك الحين لم يعايشوا اعتداءات لا معنى لها، ولكنها بُررت بأن بعض الشعوب يطالبون بأرض، يقولون أن لديهم حقوق تاريخية فيها، وأنهم يملكون الأدلة التاريخية على ذلك، بالرغم من أن هناك آخرين يقولون بنفس الحقوق. لقد عبر عن ذلك الكاتب والصحفي النرويجي “بيتر نورمان فوجا” (Peter Normann Waage) بالطريقة الآتية : القومية (Nationalism) عبارة عن ثلاجة معكوسة. فالثلاجة هدفها أن تولد برودة بالداخل، ولكن في سبيل ذلك؛ تولد بعض الحرارة في الجو المحيط خارجها. وهدف القومية أن تولد حرارة داخل المجتمع، وحتى يتم ذلك تنتج أيضاً برودة خارجها.

في أيامنا هذه، فان معظم البشر يعتدون بأنفسهم وثقافتهم. وكما قال أحد مواطني جزيرة مالطة، وعبر عن ذلك بأسلوبه لأحد الأنثروبولوجين الأوروبيين:”لو لم يكن لنا عادات وتقاليد (Kastom =  Custom) وأسلوب حياة خاص بنا؛ لتشابهنا تماما مع الرجل الأبيض”. وبتعبير آخر، فإن “القومية” كانت “ثقافة نسبية” قبل أن تحول لبرنامج سياسي( ومؤخرا أصبحت إستراتيجية تسويقية، خلال ما سمى بصناعة التراث)، بينما “النسبية الثقافة” من ناحيتها سوف تتشابه مع “القومية” لو وضعت في إطار سياسي، والفضل يرجع لبدء إيقاظ الوعي السياسي عند كلا من الأقليات المهاجرة وأصحاب البلد الأصليون. هل سيعجب احد إذاً من أن “ارنست جيلنر” (Ernest Gellner)(1925 – 1995) الفيلسوف والأنثربولوجي المعروف، وهو احد أكثر المتخصصين والمدافعين عن “القومية ” (nationalism)؛ يصف نفسه بأنه ضد “القومية السياسية”، لكنه “قومي ثقافي”؟ لقد كانت إجابته ودفاعه عن ذلك؛ بأنه من الممكن أن نتمسك بلغة، وعادات، وتقاليد، وهوية، دون أن نحولهم إلى برنامج سياسي. فلو صنعنا برنامج سياسي من ثقافة ما؛ فربما يصبح كل الواقعين خارج إطار هذه الثقافة، ضحايا، سواء كانوا مهجنين، أو أقليات أجانب مهاجرون وقادمون من أنحاء العالم.

بعد حوالي مائة سنة بعد “هردر”، تُبنيت فكرة حق القوميات المختلفة في “تقرير المصير”على نطاق واسع. هذه المرة خلال “مبادئ ويلسون” (Wilson – doctrine) المشهورة، والتي عقبت الحرب العالمية الأولى. لقد كان الرئيس الأمريكي الديمقراطي “وودرو ويلسون” (Woodrow Wilson) أيضاً رجلا صادقا، وذهب إلى أن كل البشر لهم الحق في أن يديروا شئونهم بأنفسهم. لقد اعتنق الرئيس “ويلسون” في الحقيقة – وهذه ملاحظة مشوقة – مفهوما يتطابق تقريبا مع مما كان يعتبر جديدًا وثوريا، عندما طوره “هردر”. وهو أن المجتمع العالمي، يتكون من مجموعات بشرية، لكل مجموعة منها خصائصها، وأسلوبها المميز، ويجب أن يكون لهم حقوق معينة. ولكن مباشرة بعد “مبادئ ويلسون” بعامين فقط من الزمان؛ يبدو أن العالم قد رأى أن مبدأ تقرير المصير كان ناتجًا عن قصر نظر. ففي مباحثات السلام نُسى الأكراد، أو ربما اعتقد المتباحثون أن الأكراد لايمثلون “قومية” وأن لهم حق في تقرير مصيرهم. ولم يمضى القرن العشرون حتى أصبح الكثير من البشر، قد أهملوا، ونُسوا، عندما قسمت حقوق تقرير المصير لأول مرة. واعتنقها الكثير من الدول بدرجات شديدة التفاوت.

في الواقع، فإنه بدون شك أن ” ويلسون” والآخرين الذين اعتنقوا مبدأ حق تقرير المصير للبشر، لم ينتبهوا إلي تعدد “الشعوب”، أو قل “الثقافات”، الموجودة على أرض الواقع في مختلف الأوطان في أنحاء العالم المختلفة. ولم يعرفوا درجة صعوبة تحديد ما يمكن أن يطلق عليه “شعب” أو مجموعة من البشر لها ثقافة واحدة. وأنه – تقريبا- لا يوجد مجموعة من البشر لها حدود خاصة بها وحدها. وبالتالي لا يستطيع احد عمليا، أن يخلق أو يصنع “قومية لطيفة ودودة “، بمعنى أنها لا تجور على الأقليات. لقد كانت قومية الأغلبية، وأيديولوجية الأرستقراطيون النبلاء القبيحة، هما السائدتان عمليا، في الفترة ما بين الحربين العالميتين. الأمريكيون السود والهنود (الحمر)، كانوا مستبعدين تماما من أفكار “ويلسون”، عندما تحدث عن حق تقرير المصير. ونفس الشيء ينطبق على خمسمائة مجموعة عرقية، لكل منها لغتها الخاصة بها، وعاداتها، وأسلوبها الخاص فى الحياة، وهم الذين يعيشون على مرتفعات جزيرة “غينيا الجديدة” (New Guinea)، الواقعة في الجنوب الغربي من المحيط الهادئ، بين اندونيسيا واستراليا. هذه المجموعات اعتبرت خارج النطاق، في فترة “ويلسون”.

أسلوب التفكير الذي تحددت معالمه في “مبادئ ويلسون”، مبنى على أن الثقافات المختلفة منغلقة، وتمثل وحدة واحدة متجانسة. ولكن نظرتي، وما ازعم أنه صواب، هي أنه لا يمكن تجاوز”القيم النسبية”، أو “القومية الشوفونية ” العوراء؛ إلا إذا تعلمنا التفكير والتعامل مع “الثقافة” و” الهوية ” بأسلوب وطريقة مختلفة.

مما علم حديثا؛ أن العديد من المجتمعات خارج أوروبا، لم تكن أبداً ثقافات منفصلة معزولة عن بعضها. لقد كانت دائما متعددة الثقافات الإنسانية، تعددا ربما يخلق حدودا وتمايز بين البشر، لكنها حدود متغيرة وليست جامدة، وفي الحقيقة تعتبر أكثر مرونة من تلك الحدود التي تبنى على نظريات “ميتافيزيقية” عن الثقافة.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.