الميدان وأدوات الأنثروبولوجي

 

الميدان وأدوات الأنثروبولوجي[1]

موريس قودلييه[2]

ترجمة: مبروك بوطقوقة

 

لتحميل المقالة في صيغة Pdf أنقر هنا

الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا

تم استخدام مصطلح الأنثروبولوجيا في القرن 19 للإشارة للأنثروبولوجيا الفيزيقية التي كانت تستخدم لتصنيف “الأعراق البشرية”، لم تكن الأنثروبولوجيا الإجتماعية كما نسميها اليوم موجودة في ذلك العهد، كان يتم استخدام مصطلحات “إثنولوجيا” (Ethnologie)  و”إثنية” (Ethnie)، حيث يشير مصطلح “الإثنية” إلى مجموعة من الجماعات المحلية التي تنحدر من نفس السلالة ويتكلم أفرادها لغات عديدة ويتقاسمون مبادئ تنظيم المجتمع وتمثلات النظام الاجتماعي والكوني بالإضافة إلى القيم المشتركة، إلا أن الأنثروبولوجيا هي دراسة كل أشكال المجتمعات والثقافات وليس فقط الإثنيات.

انتشر مصطلح “أنثروبولوجيا” أولا في الولايات المتحدة الأمريكية ثم انتقل إلى فرنسا بفضل “كلود ليفي ستراوس” Claude Lévi-Strauss))[3]، واليوم أصبح يتم استخدام مصطلح “أنثروبولوجيا” بدلا من مصطلح “إثنولوجيا”، ولكن ضمن أية سياقات ولدت الأنثروبولوجيا كعلم؟

ولدت الأنثروبولوجيا في سياق التوسع الغربي المهيمن، أي أثناء استعمار الدول الأوربية للبلدان الأخرى سواء عبر التجارة أو عبر الاحتلال العسكري، إذ وجد الغرب نفسه فجأة أمام عشرات المجتمعات التي لا تتقن الكتابة، فوجب أولا تعلم اللغة للتمكن من إدارة شعوب تلك المستعمرات، وتعلم اللغة هو كذلك اكتشاف للعادات والتقاليد المختلفة لتلك الشعوب.

دون أن ننسى أنه في القرن التاسع عشر كان الاستعمار العسكري والتبشير المسيحي يسيران جنبا إلى جنب، لقد شكلت الاستعمار هيمنة عسكرية وثقافية، في ذلك الوقت كانت هناك حاجة موضوعية لتوطيد السيطرة الاستعمارية وهي معرفة الآخر، لم يكن العلماء حينها بالضرورة في خدمة الإمبرياليين الغربيين، كانوا يتعلمون اللغات ويدونون العادات وذلك ما شكل النواة الأولى للأنثروبولوجيا.

أما النواة الثانية، فتعود إلى سنوات 1850/1855 وشكلت فعليا قطيعة ابستيمولوجية، فقد تم تجميع الهنود الحمر في أمريكا في محميات، وبدؤا يعيشون حياة جديدة أشبه بحياة الغيطوهات، في هذا الوقت ظهر الأنثروبولوجيون الأوائل مثل لويس مورغان (Louis Morgan)[4] الذي لم يكن أنثروبولوجيا في بدايات حياته بل كان محاميا مهتما بالهنود، وكان واسع الثراء مما سمح له بالتوقف عن العمل، والترحال بين القبائل الهندية في شمال أمريكا، اكتشف مورغان أن الكثير من القبائل الهندية التي تتكلم لغات مختلفة لها نفس النظام القرابي، وأن النظام القرابي لعصبة الإيروكوا مثلا كان مستقلا عن اللغة التي يتحدثونها، وجد مورغان أن الكثير من المجموعات البشرية المختلفة تستخدم نفس نمط المصطلحات من أجل الإشارة إلى الأب، الأم، العم، الأخ،…إلخ، واليوم فإن جرد الأنظمة القرابية التي توجد في العالم أظهر أنه توجد سبعة أنماط كبرى للأنظمة القرابية فقط، و ولإعطاء مثال فإن نظام القرابة في أوروبا يدخل ضمنه النظام الذي يطلقه عليه الأنثروبولوجيون اسم “نمط الاسكيمو”.

بعد ذلك تطورت الأنثروبولوجيا في الميدان أكثر فأكثر، وأصبح من الضروري للاشتغال بالأنثروبولوجيا أن ينغمس الباحث في المجتمع الذي يدرسه لمدة طويلة، على عكس الصحفيين الذين يجمعون بياناتهم في وقت وجيز لا بد للأنثروبولوجي من الوقت الكافي ليتمكن من فهم مجتمع ما، وفهم الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمجموعة محلية.

تطورت الانثروبولوجيا تطورا سريعا منذ بداية القرن التاسع عشر إلى غاية الحرب العالمية الثانية، بعدها دخلت مرحلة انهيار مؤقت، في البداية كانت الأنثروبولوجيا شأنا غربيا يرتبط دائما بالغرب وتوسعه لكن هذا لا يعني أن كل الأنثروبولوجيين كانوا يعتنقون الإيديولوجيا الغربية.

وقد ساهم حدثان مهمان في تغيير مكانة الأنثروبولوجيا، الأول اختفاء الإمبراطوريات الاستعمارية، والثاني اختفاء الدول الاشتراكية، وابتداء من تلك اللحظة تغيرت وضعية الغرب بالنسبة لبقية العالم، واليوم تدرس الأنثروبولوجيا كل أنواع الوقائع الاجتماعية، وقائع لم تعد مرتبطة بالغرب أو بالإمبراطوريات الاستعمارية، لقد أصبحت الأنثروبولوجيا اليوم تخصصا معرفيا يقوم بتحليل الظواهر الاجتماعية، باستخدام مناهجه الخاصة (انغماس طويل في الميدان، الملاحظة بالمشاركة…إلخ)

 

الميدان: من اليومي إلى الطقوس

أعتبر نفسي منتوجا صرفا للأنثروبولوجيا الكلاسيكية، بعد حصولي على إجازة في الفلسفة درست الرياضيات الاقتصادية، كنا نقوم بمقارنة النماذج الاشتراكية المركزية والنماذج الرأسمالية اللامركزية، وبعد سنة قررت الذهاب لدراسة الاقتصاد في عين المكان، في الميدان، في ذلك الوقت – عمري اليوم واحد وثمانون سنة- كان أولئك الذين يذهبون لرؤية الأمور في عين المكان، في الميدان هم الأنثروبولوجيون، الأنثروبولوجيون هم الذين يذهبون عند الآخرين، لذا فقد ذهبت إلى مالي وغينيا الجديدة لعدة سنوات، وهو ما جعل مني أنثروبولوجيا من المدرسة القديمة، وليس “أنثروبولوجيا معاصرا” يدرس على سبيل المثال سوق الخضر في باريس أو تنظيم العمل في ثكنة رجال الإطفاء….إلخ

عندما تحل عند الآخرين يجب أن يتم قبولك أولا، عليك أن تفهم أنك لست مدعوا، حين تصل عليك أن تشرح للناس أنك قادم من أجل العيش معهم وفهم من هم وكيف يعيشون. بعد أن تصل إلى الميدان ويتم قبولك من طرف السكان تبدأ بالقيام بـ “الملاحظة بالمشاركة”، ماذا يعني هذا؟ ماذا ألاحظ؟ كيف ألاحظ؟ من ألاحظ؟ أشارك في ماذا؟ مع من؟ إلى أي مدى؟.

كل يوم تتكرر حياة الآخرين حولك، أول حقل للملاحظة هو حياة الناس اليومية، لكن أحيانا يمرض بعضهم ويموت البعض الآخر، هل تمت دعوتك للجنازة؟ بأي طريقة ستتصرف؟ وكيف ستلاحظ أولئك الأشخاص الذين تجمعوا حول الميت؟ هل هذا هو الحقل الثاني من الحياة الذي يتبدى أمامك، إنه ليس المعيش اليومي المتكرر لكنه ذلك المحتمل.

المجال الثالث الذي عليك دراسته يتشكل من الطقوس والممارسات الجماعية، في فرنسا مثلا تحوز احتفالات 14 جويلية على اهتمام المجتمع الفرنسي بكامله، أما قبائل الباروياس (Baruyas)[5] في بابوا غينيا الجديدة فيقيمون كل ثلاث سنوات حفلات كبيرة لطقوس العبور للرجال والنساء، يشارك فيها الجميع مهما كانت القرية التي يسكنون فيها أو النسب الذي ينتسبون إليه.

كما ترى فإن حقل الحياة يمنحك ثلاثة مجالات للملاحظة، تستطيع من خلالها حسب مهاراتك في التعاطف والملاحظة، الدخول إلبها واكتشاف طبيعتها، طبعا يتطلب هذا أن تقوم بتعلم اللغة المحلية شيئا فشيئا، وأن يكون بحوزتك دفتر الملاحظات الذي تسجل فيه ملاحظاتك،  فأنت تشبه التلميذ، كم مرة قيل في الميدان: “موريس، لقد شرحنا لك هذا الأمر منذ ثلاث سنوات، يبدو أنك لا تفهم شيئا…”، وفي الحقيقة فإن فهم الآخرين وطقوسهم ليس بالأمر الواضح، لأنني نشأت وترعرعت وكنت نتاجا لقافة أخرى.

بعد مدة معينة، وحين يتم قبولك كفاية من طرف الناس، عليك مثلا أن تطلب منهم إن كان من الممكن أن تذهب معهم يوميا إلى حقولهم وأخذ القياسات وأن تحاول أن تفهم من يمتلك هذا الحقل أو ذلك، وكيف يعملون فيه ومع من. سيكون من الصعب جدا القيام بمثل هذه الدراسة في فرنسا لأن ذلك سيتطلب منك أن تذهب لكل العائلات واحدة تلو الأخرى وأن تسأل الناس “من أبوك؟ من جدك لأبيك؟ من جدتك لأبيك؟ من جدتك لأمك؟” الخ…, من شأن ذلك التحقيق أن يسمح لك ببناء شجرة الأنساب، وبتوسيع دائرة التحقيق بالذهاب من قرية إلى قرية، ستتمكن من دراسة التركيبة الديمغرافية لمجموعة ما.

 من الملاحظة بالمشاركة إلى الملاحظة النظامية

الأنثروبولوجيا علم اجتماعي شامل ليس للأنثروبولوجي حقل دراسة ضيق، فلا يستطيع مثلا أن يدعي أنه مختص في الطقوس فقط، أتذكر أن مجموعة من الأمريكيين قدموا إلى المكان الذي كنت أقيم فيه، قالوا أنهم قدموا من “أجل العثور على رجال من العصر الحجري وتصوير طقوسهم”، قلت لهم “هل تظنون أنهم يقضون أيامهم في القيام بالطقوس” وأضفت بحزم “لن يقوموا بها لسواد عييونكم في الوقت الراهن، لأنهم في الحقول”، ثم قلت لهم “اسمعوني، إذا أردتم القيام بشيء جيد، صوروني أنا، وهكذا سترون مما يتكون عمل الانثروبولوجي”، وكنت كل يوم آخذهم معي وقد صوروا فلما مهما.

بعد الملاحظة بالمشاركة التي لا تتوقف أبدا، تأتي الملاحظة النظامية، ستجد أنك بعد أن قمت خلال سنة كاملة بتحقيقات حول العائلات، وقمت بدراسة العمل في الحقول، قد بدأت تحصل على بيانات ذات نوعية جيدة “موضوعية”، عليك أن تقوم بعمل تقاطع لهذه البيانات المختلفة، إذن هناك مرحلتان أساسيتان، الأولي هي ملاحظة تقوم خلالها بالمشاركة في الحياة الاجتماعية، في نفس الوقت الذي تقوم فيه بملاحظة الآخرين، أما في الثانية فتقوم فيها بمساعدة سكان القرى ببحوث نظامية تكون نتائجها مركبة، لكن على الناس أن يقبلوا مساعدتك.

ذكريات من الميدان: عند البارويا

في البداية كنت أقيم وحدي في الجبل مع خزنة غذائية بين قريتين على ارتفاع 2000 إلى 2300 م عن سطح البحر، كان أطفال القريتين من شعب البارويا يأتون يوميا لزيارتي، فقد كنت بالنسبة لهم نوعا من اللهو، كنت ذلك الأبيض المضحك، كنت أتحدث لغة “بيدقين”  (Pidgin)الميلانيزية[6] التي تعلمتها في مخبر بأستراليا قبل مجيئي إلى غينيا الجديدة، وبالتالي كنت قادرا على التحدث مع بعض الأطفال الذين يعرفون قليلا من هذه اللغة وكنت أسألهم: “هل تستطيعون أن تطلبوا من أبائكم وأمهاتكم إن كنت أستطيع القدوم للعيش معهم”، لمدة شهر كامل كان حولي كل الأطفال، كان أكثرهم من الذكور، بدأت اطرح عليهم بعض الأسئلة من قبيل “ما اسم أبيك” وأسئلة أخرى، وبعد ستة أشهر كنت قد استقريت جيدا في القرية، حيث أخذني ثلاث رجال للعيش معهم، رويت لهم المعلومات التي حصلت عليها من الأطفال، فقال لي الكبار: ” كل ما أخبروك به خاطيء، أحدهم قال لك إن فلانا أباه لكنه ليس كذلك، إنه جده” إلخ…

لقد كانت تلك بداية دراستي، كانت كل شيء خاطئ، لذا قلت لنفسي “من غير المعقول أن يدفع لي المركز الوطني للبحوث العلمية راتبا للقيام بمثل هذا العمل” وأردت العودة لباريس.

وفي الأخير أنقذت دراستي لأنني قلت لنفسي: “بما أنك تهتم بالأنثروبولوجيا الاقتصادية -وكان قد تم تعييني أستاذا محاضرا بواسطة فرناند بروديل (Fernand Braudel)  [7] في أول كرسي للأنثروبولوجيا الاقتصادية- وبما أنك قدمت تعليما نظريا، إذن ابدأ التطبيق الآن”، وهكذا بدأت في الذهاب إلى الحدائق مع الناس يوميا، وبدأت بتعلم أسماء النباتات المزروعة، ونوعية التربة، وحراثة الأرض، كنت أتعلم بطريقة ملموسة، وكان الناس فخورين بشرح الأمور لي: “هل ترى الذرة والبطاطا الحلوة، تضعها هناك، لا تمش هناك موريس، لأنها نبتة سحرية، لا تذهب إلى هناك مطلقا” إلخ…، وهكذا كان يتم تدريبي، ولأكثر من ستة أشهر كنت أقوم بهذا العمل، وقام السكان بإدماجي في حياتهم بفضل هذا الحضور اليومي والعملي، بعد أن كنت أقضي اليوم في أخذ عينات من الحقل، كنت أدون الملاحظات في كل سهرة، وبعد ذلك استطعت المشاركة في طقوس العبور.

العلوم الاجتماعية والتاريخ للجميع

منذ عشرين سنة ينتابني أسف شديد من كتب التاريخ المدرسية، وطالبت على الأقل لعشر مرات بإدخال إصلاحات عليها,  لا يمكن في عصر العولمة اختصار الهند في تاج محل، مع صور جميلة تحتها بعض التعليقات المختصرة كما أن الخطوط الكبرى لتاريخ الصين يجب أن تكون معروفة.

يجب أولا إعادة كتابة التاريخ من وجهة نظر غير متمركزة حول الغرب، وتبقى الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا هي رأس الحربة في التعليم في العلوم الاجتماعية، لأنها تخصصات تقوم على البحث الميداني ويتم ممارستها من خلال الاحتكاك بالناس، وترتكز على أبحاث تتم على مر الزمن، بعد ذلك يجب إشراك التاريخ لأن ممارسة الأنثروبولوجيا دون معرفة التاريخ أو دراسة التاريخ دون الرجوع إلى الأنثروبولوجيا لا معنى له، إن الجمع بين الأنثروبولوجيا والتاريخ أو تخصصات أخرى أمر أساسي، كما يجب أن يتم أخذ الفلسفة بعين الاعتبار، كنت مجازا في الفلسفة حين كنت شابا لكنني اليوم لست فيلسوفا، غير أنني احتفظت منها ببعض الممارسات، حينما أفكر في مناهجي، في مفاهيمي، في نتائجي، فإنه فعل انعكاسي، إنه نوع من التماسف والتقييم النقدي، لذا بطريقة ما نحن جميعا فلاسفة.

الهوامش

[1]– Maurice Godelier. “Le terrain et les outils de l’anthropologue”, dans “L’Anthropologie pour tous: Actes du colloque d’Aubervillies”, 6 juin 2015, pp. 33-38.

[2] – موريس قودلييه ( Maurice Godelier) : (28 فيفري 1934) أنثروبولوجي فرنسي، درس قبائل البارواس في بابوا غينيا الجديدة واهتم بشكل خاص بالمجتمعات التي لا توجد فيها الذبقات الاجتماعية ولا الدولة، مزج بين البنوية والماركسية وقدم إسهامات هامة في الأنثروبولوجيا الاقتصادية خاصة.

[3] – كلود ليفي ستروس (Claude Lévi-Strauss): 28 نوفمبر 1908 – 30 أكتوبر 2009، عالم اجتماع وأنثروبولوجي فرنسي من أهم البنيويين المعاصرين وأكثرهم شهرة.

[4] – لويس هنري مورغان (Louis Morgan): 1818-1881، محام وأنثروبولوجي أمريكي من رواد المدرسة التطورية، اهتم في بداية حياته بدراسة هنود الايروكيز وغيرهم من سكان الشمال الشرقي الأمريكي الأصليين.

[5] – البارواس (Baruyas): قبيلة بدون طبقات في بابوا غينيا الجديدة، يقوم نظامها الاجتماعي على الهيمنة الذكورية للرجال.

[6] – لغة مختلطة ناتجة عن الاتصال بين اللغة الإنجليزية ولغات السكان الأصليين في الشرق الأقصى، وتعمل كلغة تواصل احتياطية دون أن تشكل اللغة الأم لأي مجتمع.

[7] – فرناند بروديل (Fernand Braudel): 1902-1985، مؤرخ فرنسي ينتمي لـ “مدرسة الحوليات” ويعود له الفضل في تطوير مفاهيم “المدة الطويلة” و”قواعد الحضارات”.

 

المصدر:  

  1. الميدان وأدوات الأنثروبولوجي“، موريس قودلييه، ترجمة: مبروك بوطقوقة، مجلة أنثروبولوجيا، عدد 4، 2016، ص ص 161-170.