الممارسة praxis

سليمان الضاه

الممارسة praxis، ينطوي مفهوم الممارسة على معنى المداومة وكثرة الاشتغال بالشيء، وهو في استخدامه اللاتيني practice من أصل يوناني «براكتيكوس»، ويعدّ واحداً من المفاهيم التي شاع استخدامها في الفكر الفلسفي من ذلك الحين، وقد استخدمت للدلالة على النشاط المستمر الذي توضع من خلاله مبادئ العلوم موضع التطبيق، ومنه قولهم: ممارسة الطب، وممارسة الغناء، وممارسة السياسة، كما تستخدم للدراسة على المداومة في النشاطات العقلية، كأن يقال ممارسة التفكير، وممارسة التأمل، وغيرها، ولكنها بصورة عامة أكثر مرادفة للنشاط العملي activité pratique ،ومنها جاء تعبير ممارسة praxis المشتق من اليونانية أيضاَ، ويراد منه أن يكون مقابلاً للعلم النظري والتأمل.

ويستحوذ موضوع الممارسة على أهمية كبيرة عند المعنيين بموضوع المعرفة الإنسانية، فهي تشكل عندهم الأساس الذي تبنى عليه نظرية المعرفة، فلا يمكن التوصل إلى فهم حقيقي لكيفية معرفة الإنسان للأشياء المحيطة به دون الإلمام بموضوع الممارسة التي تغني المعرفة وتنميها، ودون الممارسة لا يمكن للمعارف البشرية أن تنمو وتزدهر.

وبما أن الممارسات التي يقدم عليها البشر رهن بظروaفهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهي تختلف بينهم باختلاف هذه الظروف فمن الطبيعي أن تأتي معارفهم على درجات كبيرة من التباين أيضاً بمقدار تباين الظروف نفسها، ولهذا يربط أنصار التحليل الماركسي الوعي الإنساني بظروف تشكله، وليس العكس كما ذهبت إلى ذلك مجموعة من الفلاسفة المثاليين منذ أفلاطون [ر] Plato، وحتى هيغل [ر] Hegel، وشيلنغ Schelling.

إن الممارسة – في التصور الماركسي- تدل على مجموع النشاطات التي تهدف إلى تغيير الطبيعة والمجتمع، «لقد آن للفلسفة أن تعمل على تغيير العالم، لا أن تقتصر على تفسيره وتأويله»، فهي، – أي الممارسة – المبدأ العام، والقوة المحركة لتطور الإنسانية، سواء على صعيد المجتمع أم على صعيد الوعي، وهي واحدة من أنواع النشاط الإنساني الموضوعي الحسي مثل الإنتاج والتربية والفن والإدارة… غير أن شكلها الأساسي هو النشاط البشري الهادف إلى إنتاج الخيرات المادية «العمل»، ومن ثم تغيير النظام الاجتماعي، وتغيير العلاقات الاجتماعية، فالحياة الاجتماعية في نظر ماركس يجب أن تكون عملية practical في جوهرها.

كما ينطوي المفهوم أيضاً على معان أخرى، فهو يدل على مجموع النشاط الإنساني أو الخبرة الكلية للإنسانية في تاريخ تطورها، فهي تراكمات للتاريخ العالمي المعبر عن تنوع علاقات البشر المتبادلة مع الطبيعة، ومن ثم علاقاتهم ببعضهم في عملية الإنتاج المادي والروحي.

وعلى طرف آخر، تعبر الممارسات الاجتماعية عن وحدة النشاط المعرفي للإنسان في التاريخ، وهي مصدر المعرفة العلمية، وقوتها المحركة، ولهذا فهي تقدم المعرفة المادية الحقيقية لوضع النظرية، ومبدأ التعميم، كما أنها تحدد مضمون النظام المعرفي لدى البشر وتوجهه، وهي في الوقت نفسه معيار الحقيقة الذي يُظهر مدى صحة المعارف البشرية أو خطئها.

وعلى الرغم من أهمية الممارسة في التحليل الماركسي بوصفها معياراً للحقيقة، ليست ذات طابع مطلق، فالبرهنة على الحقيقة العلمية بصورة نهائية تجري في أثناء الممارسة الاجتماعية، لا في التجربة المعزولة، ولما كانت الممارسة مؤكدة لدرجة تكفي لتمييز الحقيقة الموضوعية من الخطأ، وتأكيد صدق المعرفة، فإن الممارسة هي في الوقت نفسه عملية متطورة تحدها في كل مرحلة معينة الشروط الاقتصادية والاجتماعية لعملية الإنتاج، وطبيعة العلاقات الإنتاجية في كل مرحلة من مراحل التطور.

كما تتصف الممارسة بأنها ذات طابع نسبي، فلا يسمح تطورها بتحويل الحق إلى عقيدة جامدة، أو إلى مطلق ثابت، و إلا زالت كل الفروق بين الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية، ولكن الممارسة البشرية المتطورة تاريخياً تمثل في جملتها معياراً مطلقاً للحقيقة، فقيمة المعرفة تكمن في مقدار تلبيتها للحاجات الضرورية المادية منها والروحية في المجتمع الإنساني، وهي ليست موضوعاً مجرداً في صيغ لغوية بقدر ما هي إبداعات ثقافية ومادية.

لقد عولج النشاط العملي وعلاقته بالمعرفة في تاريخ الفلسفة منذ وقت طويل. فقبل الفلسفة الماركسية، عندما كان مدخل المادية لفهم العالم تأملياً، نقد أفلاطون الفلاسفة الطبيعيين الذين أكدوا الوجود الحسي الواقعي، وطرح «المثل» مبدأ تأملياً إلهياً، أسهم في استمرار المثالية التي أقرت في العصور اللاحقة بوجود المبدأ الفعال الميتافيزيقي، وحاول أرسطو [ر] Aristotle تبيان الأسباب المادية للظواهر الطبيعية، وانتهى إلى أن العلة الأخيرة أو الغاية هي الموجهة للحركة في الجسم، وبهذا يعد مؤسس اللاهوت، واعتماداً على اللاهوت الأرسطي، حاولت الفلسفة السكولائية Scolastic في العصور الوسطى البرهنة على وجود الإله (الفيزيائي- الديني)، فالمبدأ الفعال في المعرفة تطور مثالياً، إذ إن المثالية حصرت النشاط والإبداع والممارسة في الروح. ووفقاً لهيغل فإن الممارسة هي حقيقة النشاط الإرادي للفكرة، والمثاليون الذاتيون يفهمون الممارسة على أنها النشاط المرتبط فقط بالإرادة والحدس والمبدأ الوجداني.

وقد نهج وليم جيمس [ر] William James المدافع عن البراغماتية Pragmatism الطريقة نفسها إذ يرى أن الممارسة هي «التجربة الدينية» أي النشاط الروحي المحض. إن بعض محرفي الماركسية، وتبعاً للتأثر بالمثالية ينظرون إلى الممارسة بوصفها النشاط الذاتي الحر الخلاق، ويعدونها كالنموذج الأوحد للواقع، فتصور وجود النظام والفوضى في الطبيعة مسألة ذاتية، إذ لا يوجد في الطبيعة نظام أو فوضى، إنما يظهر النظام من خلال التلاؤم بين أحاسيسنا، وتظهر الفوضى من خلال ما يخالف هذه الأحاسيس.

إن مثالب الفهم المادي للممارسة ينحصر في الممارسة النظرية الروحية، وسيطرة الميتافيزيقا الروحية المثالية على النشاط العملي الحسي، ويعود الفضل إلى ماركس [ر] Marx الذي يعد أول من أدخل مفهوم الممارسة في نظرية المعرفة، فما دام النشاط العملي يحمل طابعاً معرفياً، فإن المبدأ الروحي يجعل من الممارسة مرحلة ضرورية لابد منها، والمادية الجدلية (الديالكتيكية) [ر] وفق هذا التصور تميز بين الممارسة النظرية (الثقافة الروحية) والممارسة العملية المادية، وأكدت أن هذين الشكلين للممارسة يؤلفان وحدة متكاملة لا تناقض فيها، فالمعرفة والتغيير العملي للطبيعة والمجتمع هما جانبان مشروطان، يتوقف كل منهما على الآخر على نحو تبادلي لعملية تاريخية واحدة، بيد أن هذا لا يعني أن النشاط الروحي هو الذي يحدد الممارسة العملية. إن النشاط العملي يتحقق بالوسائل المادية التي تؤدي إلى معرفة المنتجات المادية، وهذا ما يحصل في الممارسة الاجتماعية لاستعمال النماذج والمفاهيم التي تكوّن الصور والأفكار.

إن النشاط النظري، وعملية معرفة الواقع، لا ينفصلان عن الممارسة، فمن خلال التأثير العملي المباشر الذي يمارسه الإنسان على العالم تتكشف قوانينه أمام الإنسان، وتتجلى صحة المعارف البشرية المحصلة، لذا فإن مستوى تطور الممارسة الاجتماعية، أي درجة سيطرة الإنسان على العالم الخارجي تتحدد بحجم المعارف المكتسبة وبطرائقها وطابعها، وفي الوقت نفسه فإن النشاط العملي ذاته يستند دوماً إلى معارف معينة، وإلى مقدمات نظرية، ذلك أن الناس يتصرفون عن وعي، فيسترشدون بما لديهم من تصورات عن الواقع، ويضعون نصب أعينهم أهدافاً محددة، وعليه فإن النظرية المرتبطة بالممارسة تؤثر بصورة فعالة في نشاط البشر العملي، فالنجاح في هذا النشاط يتطلب الارتكاز على نظرية حقة، ففي وحدة النظرية والممارسة (النظر والعمل) يتحقق النشاط المادي المتكامل، ويتم استيعاب الناس للعالم استيعاباً نظرياً وعملياً.

ويمثل مفهوم الفكرة أحد التعارضات بين النظر والعمل، والفهم الماركسي للفكرة يخالف من ناحية أولى المثالية الموضوعية التي تعزل الأفكار عن الموضوع والذات، ويخالف من ناحية أخرى المادية الميتافيزيقية التي تعد الأفكار نسخاً من الواقع ميتة وسلبية، إن الفكرة هي أساس النشاط العملي الناجح، فالإنسان يصنع الشيء الضروري له في صورة فكرة أول الأمر، ومن ثم يصنعه وفقاً لهذه الفكرة على أرض الواقع، وعلى صعيد الممارسة تساعد الفكرة – عن الانتقال من أشياء إلى أخرى – على خلق صور ذهنية للأشياء المقبلة.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.