المدرسة التطورية

المدرسة التطورية التاريخية كانت جزء من حركة الفكر التي تجذرت خلال القرن الثامن عشر وتقسم الى التطورية الكلاسيكية والتطورية المحدثة
وهي من اقدم النظريات التي استخدمت لتفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية ومن اهم رواد هذه المدرسة (هربرت سبنسر- لويس هنري مورجان- داروين- باخوفن- هنري مين- ماكلفن- ادوارد تايلر- جيمس فريزر)
وبهذا تكون الصلة بين التطورية البايولوجية والثقافية الناشطة في العقد السابع من القرن التاسع عشر وبين الاعتقاد في مفهوم التطور او التقدم في العقد السابع من القرن الثامن عشر كانت مستمرة دون انقطاع
وتتضح الصلة بين التراث الانثروبولوجي الماضي والحديث اكثر اذا تجاهلنا الحدود المصطنعة بين تيارات كتاب المرحلتين القدامى منهم سان سيمون وكونت وهيغل في العقدين الثالث والرابع من القرن التاسع عشر والمحدثين اما ما انتجته الفترة اللاحقة لعام 1860 من افكار فكانت معلومات اكثر توثيقا وافضل عرضا لاراء تورغو التي انضوت تحت مشروعه المسمى “التاريخ الشمولي للنوع البشري”
وعلى هذا لايصح اعتبار نظريات داروين الحافز المباشر الذي اطلق الطاقات العلمية الانثروبولوجية بهذا العنفوان الذي لمسناه بعد عام 1860 خصوصا بعد طبع كتاب “اصل الانواع” فنحن نعلم ان في المدة نفسها ظهر كتابان تطوريان بالغا الاهمية هما “حق الام” “للاستاذ باخوفن” و”القانون القديم” لهنري مين وكانا يعنيان بتطور الاسرة والتنظيم الساسي والقانون كلاهما يخلوان من أي دليل على تاثر المؤلفين اللذين كتباهما بافكار داروين والواقع ان كتاب “حق الام” كان قدمه باخوفن في سلسلة محاضرات قدمها في شتوتكارت في عام 1856 أي قبل طبع كتاب داروين “اصل الانواع” بثلاث سنوات وكانت افكار كتاب باخوفن تستند الى معلومات يونانية ورومانية قديمة اما كتاب هنري مين “القانون القديم” فيمثل محاولة محام لتفسير وشرح اصول مختلف المفاهيم القضائية والقانونية في ضوء توجهات المفكرين ادم فيغسون ومونتيسكيو اضافة الى استناده الى معلومات مستقاه من مصادر رومانية قديمة اضيفت اليها معلومات المؤلف الشخصية عن عدة مجتمعات تقليدية هندية وقوانين مستخدمه فيها وقد استطاع مين وباخوفن البرهنة على ان الاسرة الاوروبية الحديثة هي حصيلة التغيرات التطورية التي تعرضت لها اشكال القرابة القديمة وكانت تضم تلك الاشكال زعامة الاب ونسب الام كانا النسق القرابي الاقدم في تاريخ تطور الاسرة
توجد مسالة اخرى اشير حولها جدل واسع وهي اعتقاد التطوريين بان مراحل تطور الثقافات والمجتمعات تمثل تسلسل ثابت يخلو من الاختلاف والتنوع بمعنى ان المراحل هذه هي حلقات تتوالى في النسق نفسه واحدة بعد الاخرى في مسيرة كل التجمعات الانسانية دون ان يتقدم او يتاخر بعضها على بعضها الاخر وقد اطلق على هذا التتابع التطوري الثابت مصطلح التطور الخطي الواحد
ويعزي هذا المبدا الى ان التطورية الكلاسيكية التي سادت في القرن التاسع عشر ويلاحظ ان التطوريين اصحاب هذا المبحث اختاروا ثقافات متناثرة وصنفوها حسب اختلافاتها بحيث تتوزع على المراحل التطورية بشكل يدعم اتجاههم الفكري
لكننا نشك في التهمة الموجهة للتطورية والتي تدعي ان التطوريين انكروا الخصوصيات الثقافية والتاريخية للمجتمعات البشرية كما نبدي تحفظنا ازاء الادعاء بان التطورية اهملت الثقافات التي لا تطابق مواصفاتها منهجها التطوري الواسع فالعالم مورجان اشار بوضوح الى ان التجارب التطورية البشيرة عبر التاريخ الانساني الطويل اجتازت قنوات مشابهة تقريبا واكد ايضا ان الحاجات البشرية في الظروف المتشابهة تميل الى التماثل الى مدى بعيد كل هذا يظهر ان مورجان وهو من ابرز التطوريين الكلاسيكيين لم يعمم التطور الخطي على جميع المجتمعات بل طرح شروط ضمنية تعني ان التماثل في حركة التطور ليست مطلقة بالنسبة للامم والشعوب كلها ان هذه الملاحظات قد تغافل عنها معارضو التطورية مما جعل الصورة عن هذه الحركة مشوهة على الرغم من ان تلامذتها لم ينكروا وجود اختلافات ثقافية واجتماعية بين المجتمعات على الرغم من تاثرها بقانون التطور ولو اخذنا المفكر مورغان بالذات نلاحظ انه عبر في اكثر من مناسبة عن حقيقة الاختلافات في ثقافة بعض المجتمعات والامم في الفترة ذاتها تظهر ولا يجوز انكارها كما هي الحال في الاختلافات بين النصف الغربي والشرقي للكرة الارضية الا ان مورجان عزا هذه الاختلافات الى تفاوت الملكات والاستعدادات الذهنية والذكائية للسكان في هذين الجزئين من العالم لكن الشيء الذي يلاحظ في كتابات مورجان هو انه اهتم باوجه التماثل بين الثقافات البشرية ولم ياكد كثيرا على اختلاف المجتمعات وعلى اساس اوجه التشابه هذه حاول مورجان وكبار التطوريين اقامة علم للتاريخ الشمولي الانساني لا شك ان محاولة تاسيس علم طموح كهذا تستحق الاعجاب لكن النتائج التي ادت اليها تلك المحاولات على صعيد الواقع العلمي الموضوعي لم تكن موفقة تماما ولا يخفى ان الخطوة الاولى على طريق تطور العلوم هي محاولة اكتشاف العموميات المتناسقة عن الظواهر التي تبحث وضعها في صيغ ترقى بها الى مستوى القوانين مع ذلك فقد اعلن مورغان في عدة بحوث ومؤلفات ان هناك استثناءات لقانون التطور الخطي لا تسمح بفرض هذا القانون على مسيرة جميع المجتمعات البشرية بصورة مطلقة ويرى موغان ان هذه الاستثناءات لا تضعف قوة هذا القانون لقلتها وان انكار وجودها هو الاخر لا يدعم التطورية ايضا
ونلمس روح التحفظ الجزئي ازاء عمومية التطورية كفلسفة لدى تايلر الذي يوافق على تصنيف الشعوب والامم الى درجات او مراحل متباينة على سلم التطور من ذلك تصنيفه التطوري الذي درج فيه الاستراليين والتاهيتيين والازتكس والصينيين والايطاليين من الاسفل الى الاعلى غير ان تايلر حذر من الاندفاع في تعميم قانون التطور بشكل جامد لا يعترف باتلاف المجتمعات التي تدخل في مجال الاستثناءات غير الخاضعة لهذا القانون ومن اهم ملاحظات تايلر التي تعكس رؤيته الدقيقة تنبيه الى ان الثقافة الصناعية والثقافية الفكرية لا يتطوران بصورة متساوية او متشايهة في فروعهما المتعددة
وعندما ناتي الى الحديث عن سبنسر لا نجد أي شبه بين رايه عن التطور ورايه عن النموذج التطوري الخطي وفي الواقع ان هذا المفكر على الرغم من اعتقاده القوي بالتغير الاجتماعي الثقافي الا انه ابدى مرونة عالية لقبول تعددية التحول الحاصل في المجتمعات الانسانية بدلا من الاصرار على نسقية هذا التحول وفقا لمراحل التطور الخطي المستقيم ويعبر سبنسر عن هذا الموقف بكل وضوح عندما يقول ان التطور هو حقيقة حتمية تنطبق على البشرية بشكل عام مع ذلك يؤيد هذا المفكر ان بعض المجتمعات لا تخضع لهذه الحتمية وان بعضها الاخر تستبعد حتى من احتمال خضوعها لها
*****************************
من كتاب مدارس الانثروبولوجيا للدكتور قيس النوري

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.