المادة الفيسبوكية – محط افتراضي وموجهات واقعية

fb_like_2

بقلم الأستاذة باشيخ أسماء – جامعة أدرار “دولة الجزائر”

 

إن حتمية التجمع البشري يقتدي بالضرورة المفترضة ذلك التفاعل المقصود وغير المقصود، الايجابي والسلبي الثائر والهادئ، الصريح والكامن…؛ حيث قد بات معلوماً تغير وسائط هذا التفاعل بمسيرة تسارعت حينا ورتبت حينا آخر، مما شكل فضاءا جزئيا داخله الذي كان لابد أن ينمو ويبرز بشكل أو بآخر ألا وهو الاعلام بكل ما يحمله في معناه الواسع (مؤسسات، آليات، رسائل…).

إلا أننا في هذا الاطار سنتجاوز الحديث عن الكثير من الوسائط المكرسة فيه لنلج مباشرة صوب الحديث حول المجتمعات الافتراضية، وعلى وجه الحصر المجتمع الفايسبوكي FACBOOK ؛ فما هو الفايسبوك أساسا وفق ما نراه متمثلا فيه؟

في حقيقة الأمر هو على الشرح البسيط عبارة عن تلاقي مشارب بشرية تختلف انتماءاتهم الفكرية والتعليمية والنوعية والعمرية و النفسية والجغرافية والدينية… في فضاء غير واقعي في جغرافيته إلا أنه يمارَس فيه ما يمارَس في الواقع الحقيقي من تجاذبات وتنافرات؛ كما أنهم محتكون فيما بينهم بآليات يُعتقد أنها تتيح لهم الحرية في كل شيء إلا أنها فعليا لا تنفك من مخالب القيد في جانبها الهيكلي، لأن المتفاعل الفايسبوكي مضطر الى اتباع تعليمات البرنامج ذاته فهو يتيح له وضع صور وملفات بحجم معين، وكذا مشاركات كتابية، ناهيك عن الرمزية المحددة أيضا والقابلة للتجديد و المتمثلة في ايماءات تأخذ حالات الانسان المعتادة (غضب، بكاء، حزن، ابتسامة، تعجب…) ليتيح للآخرين مشاركتك هذه المادة الفايسبوكية الخاصة بك والمنظمة بصفحتك الشخصية بآليتين محددتين أيضا وهما الاعجاب (like/J’aime) ، والتعليق (comment/commentaire).

مع العلم أننا وإن كنا نرى في التعليق الوضوح بمضمونه أي أننا نستطيع ملامسة انطباعات الآخرين بشكل سلس وشفاف من خلال الكلمات التي يعبرون لنا بها عن ما قدمناه في منشوراتنا، قد لا ينطوي ذات الأمر على زر الاعجاب، حيث هذا الزر يحمل بين طياته الكثير من الحالات النفسية المرتبطة بالفرد ذاته فالإعجاب قد يحمل الفرح وقد يحمل الألم كما قد يحمل الحنين والتذكر …وغيرها، إلا أنه في مجمل الكلام زر يعبر ضمنيا على أن هاته المادة الفايسبوكية قالت ما نود ايصاله للغير، أي أنها توافقت مع ما نحمله عندنا داخليا مما يدفعنا للإعجاب بها تحصيل حاصل.

هذا هو المسار المفترض أن يكون في عالم الفايسبوك، إلا أن مجتمعاتنا لا تتجرد (اعترفنا أو لم نعترف) من عاداتها واعتقاداتها وطبيعة علاقاتها الواقعية، حيث كثيرا ما لاحظنا صفحات الفايسبوك التي تعد مرآة عاكسة للفرد (هذا ما يسير في الإطار الطبيعي لأنه توجد أيضا حالات مخلة تماما كأن تفتح حساب لأنثى وأنت ذكر أو العكس….) فهي تعبر ولو جزئيا عن درجة وعي الفرد وبؤر اهتماماته وأسلوب تفكيره، فتجد من تعج صفحته بالكثير من الآثار الفكرية والعلمية والتثقيفية ومجمل الطروحات الراقية مهما كان مجالها وهناك من لا تنفك صفحته من الهزل الماجن وآخر الموضات لباسا و أشياء ناهيك عن الاستعمالات غير الأخلاقية أيضا…وغيرها كثير من الصور النمطية لصفحات الفايسبوك.

ومما هو ملاحظ أيضا أن هاته الصفحات في أحيان أخرى نجدها فضاء لإشباع بعض الاحتياجات النفس/اجتماعية لدى الأشخاص من محبي المظهرية بالماديات أو بغيرها بعرض ممتلكاتهم في فخامتها وثرائها      و كذا الذين يَشْكُون نقصا في الثقة بذواتهم نتيجة اصابات نفسية ما (الاكتئاب، الفشل، الخيانة…)، أو من يريدون صنع فضاء وهمي زاهر يحاكي فضاءهم الواقعي المهترئ، وكذا من لهم جمود فكري صارخ أو تزمت أو تطرف أو تحزب…وهلم جرا.

ثم لا ننسى التعليقات التي في كثير من الأحيان نجد فيها تواصلية لذلك التفاعل الواقعي فهي تمارس وفق مبدأ غريب ليعلق الصديق لصديقه بالمجاملة طولا وعرضا وفي كل المنشورات وإلا وقع بينهما شقاق، وفي المقابل يتهجم على عدوه طولا وعرضا أيضا وفي كل المنشورات.

وما حسبك عندما تستخدم هاته التعليقات كوسيلة لرد الاعتبار ! من حادثة ربما جرت في غابر الزمن بين طرفين ليستغل أحدها صفحة الآخر بالسخرية وتقزيم أعماله نكاية و جحودا له… ، بل وحتى اللاّتعليق قد يحمل ذات الدلالة، فقد يحجم عن التعليق على منشوراتك لتكريس اللاّهتمام أو التجاهل… ومن ناحية أخرى قد نرى أيضا التعليق للظفر بمصلحة من المعلق له وفور أخذها يكف عن ذلك !

مع العلم أن هناك من يعلق بموضوعية حقيقية، أي يضع تعليقا أو اعجابا حين يدخل المنشور فعليا في دائرة اهتمامه ولا يعلق في حال غير ذلك، وهو الأسلم لو احتكمنا للمنطق وللعلمية الحيادية….كما لا يمكن أن ننكر أولئك المهذبين أيضا والايجابين في لمساتهم التعليقية حتى ولو كان نقدا، فالنقد البناء بيّن والهدام بيّن.

فكما نلاحظ هنا أن الفايسبوك وان كان افتراضيا بالمسمى الشائع عنه فهو أيضا متشبث كل التشبث بمحركات الواقع، لكونه مجرد مسار استمراري لعلاقاته بنفس محتواها وتمثلها، بل هو مجرد منطلقات واقعية تسحب الى الافتراضي كون هذا الأخير يتيح مزايا تفاعلية لا يتيحها حيز المعاش الحقيقي.

أما اذا تحولنا صوب الحديث عن زاوية أخرى وهي المرتبطة بعلاقة الجندر بالتعليق الفيسبوكي commentaire/comment فنقول وبشهادة شخصية في أحد محاورتنا مع أحد أعضاء الفايسبوك من المثقفين حيث كان يندد أتم التنديد حول “فكرة كيف يكون اقبال الأفراد حول المنشورات وفق مبدأ التضادية الجندرية؟؟ فعندما يكون منشورا لأنثى ينكب الرجال على التعليق والاعجاب وعندما يكون المنشور من رجل ينكب النساء على الاعجاب والتعليق ؟؟” والغريب أنه بالرغم من تنديده لهذا إلا أنه يمارسه هو بذاته؟؟

فتساؤلت هل يمارسه سهوا بانقياد فطري أم أنه محسوب ومقصود منه، أم أنه انفصام لديه بين الفكر والممارسة أو ماذا؟ أين حماسته التنديدية تلك التي تملأ صفحته ومحادثاته؟ فأين الخلل؟

ألا نرى هنا عين الاستمرارية للقيم الاجتماعية الموجودة في الواقع لكون الطرفين (رجل/ امرأة) يعتقدان أنهما يحصلان على قيمتهما من تجمع الآخر حوله حتى في الفضاء الافتراضي… فلطالما سعى الفرد للشد الانتباه نحو الذين يخالفونه وليس نحو من يشبهونه، فالمكانة الحقيقية بحسب هذا الزعم تتكرس عندما يعترف لك الآخر وليس المثل؟!

وفي زاوية أخرى كثيرا ما سمعنا مما يشيع اللغو حوله أن منشورات المرأة يُتفاعل معها أكثر من غيرها توددا لها؟؟ هنا يمكن أن أقول أن المسألة سيان، فالرجال يلاحظون هذا والنساء يلاحظن عكس ذلك تماما، فحسبهن أن منشورات الرجال يُتفاعل معها من طرف النساء أكثر من غيرهم، وذلك لكون التضاد هو الحاصل فالرجل له القابلية في التفاعل مع منشورات الطرف الآخر ونفس الشيء بالنسبة للمرأة (دون أن نعمم لأن هناك استثناءات تأخذ حيزا عريضا أيضا) .

الأمر الذي لو نعود فيه الى البيئة الاجتماعية لوجدنا ذلك مرده الى عدة اعتبارات كالرغبة في تحين المكانة لدى الآخر، أو لإبراز صفة النوع (رجولة/ أنوثة)، أو لإظهار الاهتمام الضمني الذي تختلف أغراضه باختلاف هذا الشخص، بل حتى أننا في الحالات الواقعية المعاشة كثيرا ما يكون الرجل جديرا بفك بعض الصعوبات اذا ما كان الفاعل أمامه امرأة، وكثيرا أيضا ما تستطيع المرأة فك بعض الصعوبات اذا ما كان الفاعل أمامها رجلا ، في حالة من عرض الخدمة التي يكون لها أبعادها – كما سبق الذكر – النفسية والاجتماعية والثقافية وغيرها.

بل حتى أننا نجد الأمر يطال حالات فيسبوكية أخرى غير قضية التفاعل مع المنشورات كحالة طلبات الصداقة التي تأخذ ذات المنطق حيث تتوافد على المرأة طلبات صداقة التي هي في سوادها الأعظم من صنف الرجال والعكس بالعكس، أما الشق الآخر وهو الشق السلعي لصورة المرأة فهو أمر لا ينحصر في المجتمعات الافتراضية فحسب وانما كل وسائل الاعلام على عمومها، بل حتى أن الصورة لا تختلف كثيرا باختلاف وسيلة الاعلام وذلك لكون المنتج المروج له مهما كان هو يسعى الى ابراز بعد الجمال والجذب فيه وهو ما يعتقد أنه مجسد في كيان المرأة على وجه الخصوص؛ وبطبيعة الحال يزداد الجذب بازدياد العري والكشف مما يجعل هاته الصورة السلعية حول المرأة هي الوحيدة التي يخال المروجين أنها الأنجع لهم، فيسعون الى تكريسها كلما احتاجوا لذلك فلا يهم هنا مكانة المرأة بقدر ما يهم كساد المنتج.

بهذا نرى أن فكرة فصل المجتمعات الافتراضية عن أواصر الواقع المعاش فعليا ضرب من السذاجة والفوقية، فكلمة “افتراضية” لا تتحقق أتم التحقق الا في هيكل التفاعل وليس في مضامينه وأهدافه، بل حتى أن القول بانكباب الأفراد نحو المجتمعات الافتراضية هروبا من الواقع وقيوده فكرة باتت لا تروق لي كثيرا، لأنه في أحيان أخرى يكون هذا الهروب ليس من الواقع نحو الافتراضي بل الهروب مع الواقع الى الافتراضي….




كاتبة المقال :

الأستاذة باشيخ أسماء:

أستاذة بقسم العلوم الاجتماعية بجامعة أدرار ـ دولة الجزائر.

حاصلة على شهادة التفوق العلمي لسنة 2010 من الجامعة الافريقية (أدرار) الأولى على مستوى الجامعة.

مختصة في علم اجتماع ( حاصلة على دبلومين: دراسات عليا في سوسيولوجيا التنظيم والعمل/ ودراسات عليا في سوسيولوجيا التربية والدين).

حاصلة على شهادات في التنمية البشرية والتدريب والاستشارة.

مشاركة في عدة مؤتمرات دولية ووطنية وكذا المشاركة في النشر العلمي بعدة مقالات في مجلات محكمة وفي مجلات الكترونية.

الاهتمام العلمي: قضايا التنظيم والعمل والمانجمنت،القضايا المنهجية، القضايا الأنتروبولوجية وقضايا الفكر العربي والثقافة المشرقية.

الايميل: [email protected]

رأيان حول “المادة الفيسبوكية – محط افتراضي وموجهات واقعية”

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.