القرابة و السلطة عند ابن خلدون

عبد الرحمن محمد بن خلدون.

القرابة و السلطة عند ابن خلدون :البذور الجنينية لأنثروبولوجيا سياسية

حمداوي محمد *

مدخل

لا تذهب هذه المداخلة إلى تقديم البينة على أن علم العمران البشري و الاجتماع الإنساني، كما ضمنه ابن خلدون مقدمته الشهيرة، عبارة عن أنثروبولوجيا سياسية كاملة النضج واضحة المعالم، بقدر ما تطرح إشكالية منفتحة على أجوبة عديدة تتخللها فرضية أن هذا العلم يندرج موضوعا و منهجا و مضمونا ضمن ما نطلق عليه اليوم الدراسات الأنثروبولوجية السياسية و لو في صورتها الجنينية. وعدم ذيوع هذا الاسم في عصر ابن خلدون ليس معناه عدم وجود مدلوله، كما أن علما قد يطلق عليه صاحبه اسما و يطلق على مضمونه الباحثون من بعده اسما آخر، كما فعل ابن خلدون نفسه حين أطلق على علمه المبتكر اسم علم العمران البشري والاجتماع الإنساني ليرى فيه الدارسون اليوم تاريخا و فلسفة تاريخ أو فلسفة سياسية أو علم اجتماع أو أنثروبولوجيا تاريخية..إلخ و مع ذلك، فإن المسمى واحد لم يلحق مضمونه أي تغيير.

كما ليس مفروضا حتى يكون علم العمران البشري أنثروبولوجيا سياسية، أن يطابق مضمونه مضمون الأنثروبولوجيا، كما هي عند هـ.س.مين. أو ل.مورغان أو ر.ليتس أو ج.بالوندييه. فالمعرفة التي أطرت فكر ابن خلدون هي غير المعرفة التي أطرت أفكار هؤلاء و الاجتماع الإنساني الذي أفرز ظاهرة الخلافة أو جعلها تتحول إلى ملك غير الاجتماع الذي أفرز الدولة الغربية و أجهزتها و مؤسساتها السياسية. على أن ذلك لا يعني غياب كل عنصر مشترك بين الظاهرة السياسية في الأماكن المختلفة و في المراحل التاريخية المتباينة. الأمر الذي يجعل موضوع الأنثروبولوجيا السياسية سابقا لمفهومها، و يجعل مضمونها محتمل الوجود في الكتابات الفلسفية والفقهية و السياسية و التاريخية حتى قبل أن تتأكد استقلاليتها كتخصص في العقد الرابع من القرن العشرين.

.I الأنثروبولوجيا السياسية في الفكر الغربي

1- بذور الأنثروبولوجيا السياسية في الفكر الغربي.

إذا كانت الأنثروبولوجيا السياسية بمفهومها الحديث لم تتأكد كتخصص إلا في الأربعينات من هذا القرن، على يد الأنثروبولوجيين الوظيفيين الإنجليز الذين حددوا لها هدفا ليس هو تحليل ظاهرة الدولة فقط، بل هو دراسة التنظيمات السياسية في تنوعها التاريخي و الجغرافي، و اكتشاف المؤسسات المختلفة التي تضمن الحكم ونظم الأفكار و الرموز التي ترسى قواعد السلطة السياسية، و تمنحها الشرعية، فإن البذور الجنينية لهذا التخصص تضرب بجذورها بعيدا في تاريخ الفكر الغربي [1].

فمنذ العصر اليوناني و الأفكار السياسية تبرز للوجود و تتزايد في تنوعها، مشكلة التراكم الذي على أساسه سوف تحدث الطفرة المؤدية إلى هذا التخصص الأنثروبولوجي الذي هو الأنثروبولوجيا السياسية. أو لم يبحث أرسطو في فلسفته السياسية عن الأسباب التي وراء تلاشي الدول القائمة، محاولا تحديد القوانين التي تتحكم في التغير السياسي و تبدل أحوال الظاهرة السياسية. و من جهته ألم ينبه فرنسيس بيكون إلى الأهمية الكبرى التي تكتسبها الشهادات المتعلقة بالمجتمعات المختلفة و أنظمتها السياسية، خصوصا منها المجتمعات “الوحشية” بوصفها أوساطا تعرف هي الأخرى أنواعا معينة من التنظيمات السياسية؟.

و في كتابه الأمير، الم يميز مكيافيلي بين نوعين من الدول التي تجسم مثلا مختلفة : الوراثية و السلطانية، واضعا بذلك تصنيفا أوليا للدول حسب طرق الحكم السائد فيها.

و مونتيسكيو، ألم يَصُغْ مقولة “الاستبداد الشرقي”، مبينا، أثناء تمييزه المجتمعات التي تحددها مقولة الاستبداد، التقاليد السياسية التي تجعل هذه المجتمعات مختلفة عن أوروبا، و حائزا على مكانته بين المفكرين الأوائل الذين وضعوا الأسس القاعدية للأنثروبولوجيا السياسية [2]؟

نعم تأكدت الأنثروبولوجيا السياسية كتخصص في النصف الأول من القرن العشرين في إنجلترا و على يد منظري الوظيفية، و لكن هذا التأكد ما هو إلا ثمرة تراكم الأفكار السياسية التي عالجها في كتاباتهم الفلاسفة منذ أفلاطون و أرسطو إلى هوبس وروسو[3].

لهذا أمكن القول أن الأنثروبولوجيا السياسية كعلم لما هو سياسي، يهدف إلى دراسة الإنسان بوصفه كائنا سياسيا، منذ اللحظة التي يَـنْـزَعُ فيها (بالطبع) إلى الاجتماع، و كعلم يهدف إلى استكشاف الخصائص المشتركة بين التنظيمات السياسية في تنوعها التاريخي و الجغرافي، و كعلم يهدف إلى اكتشاف القوانين التي تتحكم في حركة الظاهرة السياسية و تغير نظم الحكم، بدلا من البحث بصورة معيارية عن دولة المدينة الفاضلة، فإن الأنثروبولوجيا السياسية حاضرة بذروها الجنينية في التاريخ لدى الفلاسفة و المفكرين الذين تأملوا الإنسان ككائن مزود بنـزعة اجتماعية تنظيمية، أي بنـزعة سياسية.

2- المفهوم الحديث للأنثروبولوجيا السياسية

حسب كلود ريفيار فإن الأنثروبولوجيا السياسية لم تظهر كتخصص إلى مؤخرا، في الأربعينات في أحضان الأثنولوجيا الوظيفية البريطانية، متوخية ليس فقط تحليل الدول، بل التنوع التاريخي و الجغرافي للأنظمة السياسية، و اكتشاف مختلف المؤسسات التي تضمن الحكم، و كذلك أنظمة الأفكار و الرموز التي تقوم عليها السلطة السياسية و تستمد منها شرعيتها[4].

وحسب جورج بلاندييه، فإن الأنثروبولوجيا السياسية تحدد ميدان دراستـها في إطار الأنثروبولوجيا الاجتماعية أو الأنثروبولوجيا. و تركز اهتمامها على وصف وتحليل الأنظمة السياسية (البنيات، السيرورات و التمثلات) الخاصة بالمجتمعات المنظور إليها على أنها بدائية أو تقليدية، و تظهر الأنثروبولوجيا السياسية حسب نفس الكاتب على شكل مادة علمية تتفحص المجتمعات “القديمة” حيث الدولة غير مكونة بوضوح و المجتمعات حيث الدولة موجودة و ذات أشكال متنوعة جدا، متوخية معرفة الأشكال الأولية للدولة و أشكال تكونها[5]. كما تهتم الأنثروبولوجيا السياسية أيضا بالمجتمعات المجزأة المفتقرة إلى سلطة سياسية مركزية و التي هي موضوع جدال قديم و متجدد باستمرار[6].

و إذا كانت الأنثروبولوجيا العامة تشدد على ضرورة الشمول و الربط بين العلوم المختلفة، و تركز اهتمامها على كائن واحد، الإنسان، محاولة فهم جميع الظواهر التي تؤثر فيه، في حين تركز العلوم الأخرى اهتمامها على أنواع محدودة من الظواهر، فإن الأنثروبولوجيا السياسية التي يتحدد ميدانها ضمن الأنثروبولوجيا العامة، تركز على الإنسان ككائن سياسي.

نفهم من ذلك أن الأنثروبولوجيا السياسية تركز اهتمامها داخل إطار الأنثروبولوجيا العامة على أنظمة الحكم، و المؤسسات التي تقوم عليها السلطة السياسية و تستمد منها شرعيتها، فتدرس بنيتها و آلياتها و التمثلات التي يحملها الأفراد عنها، خصوصا في المجتمعات التقليدية المجزأة حيث السلطة السياسية غير مركزة أو في المجتمعات التي تأخذ فيها الدولة أشكالا متنوعة، و بصورة عامة تشدد الأنثروبولوجيا السياسية على الإنسان بوصفه كائنا سياسيا.. منتجا للمؤسسات السياسية و لأنظمة الحكم و للأفكار و الرموز التي تؤسس القاعدة للسلطة السياسية وتجعلها مقبولة من طرف المجتمع. كما تتوخى دراسة الخصائص المشتركة بين جميع التنظيمات السياسية في تنوعها التاريخي و الجغرافي.

أ- القرابة و السلـطة السياسية

تحتل القرابة مكانا مركزيا في دراسات الأنثروبولوجيا السياسية، و هو مكان يفرضه الإمكان الواقعي للمجتمعات التي هي ميادين بحث أنثروبولوجية. فالمواضيع التقليدية للبحوث الأنثروبولوجية مجتمعات تنتظم حول القرابة، و تقيم مؤسساتها على أساسها و تجعلها مصدرا لكل السلطات بما فيها السلطة السياسية. في هذه المجتمعات يترك مفهوم الوطن مكانه لمفهوم النسب، حيث يدين الفرد هنا لقبيلته التي هي حصيلة النسب أو الأنساب و حيث تعلو العلاقات القرابية فوق كل علاقة.

لذلك فإن الحقل السياسي، و إن كان يتحدد بالإقليم و القرابة معا، إلا أن هذه الأخيرة تحتل مكان الصدارة. و بخصوص السلطة السياسية فإن الإرتقاء إلى مراكز القرار، لابد في المترشح له من نسب صريح إلى الجماعة، و انتماء إلى قرابة قوية بملكيتها و أفرادها و تحالفاتها وولاءاتها. إن القرابة تلعب دور العامل المحدد في تعيين الحكام، كما هو معلوم، إذ لا أشياع لمن لا قرابة له. “و معلوم أيضا إلى أي حد يخدم الزواج (الذي هو توسيع لنطاق القرابة) [..] استراتيجيا المصالح السياسية للحكام سواء أتعلق الأمر بفرانسوا الأول، أو لويس الرابع عشر أو الملوك الزندية السودانية أو زعماء كاليدونيا الجديدة [7].

و لا غرابة لدى من يعلم هذا الدور الذي تلعبه القرابة، أن يؤدي تلاشي عرى القرابة وضعفها إلى زوال السلطة السياسية التي قامت على أساسها، و ظهور سلطة جديدة تدين بقيامها لقرابة قوية بتماسك أفرادها و جالبة للتحالفات و الولاءات بسبب هذا التماسك. و لا تستمد القرابة قوتها و تكسب لصالحها الأتباع بكثرة عددها و تماسك أفرادها فحسب، بل تستمد ذلك من ملكيتها الاقتصادية، إذ لا حسب لمن لا ملكية له، و إمكانية الملكية في المجتمعات التقليدية يمنحها النسب الصريح، الذي يكون جديرا بالأرض و بتكافل الجماعة، مما يؤهل الملكية للتكاثر، ويجعل ممكنا خدمة الجماعة، الأمر الذي يجعل تكاثر الأموال سببا في تكاثر الأشياع و بالتالي عاملا من عوامل الحصول على السلطة السياسية.

ب- المقدس و السلطة السياسية

مثلما أن هناك تداخلا بين القرابة و السلطة السياسية، فإن هناك تداخلا بين هذه الأخيرة و بين المقدس دينيا كان أو سحريا. و ليست الوحدة التي تؤلف بين رموز المقدس و السلطة إلا تعبيرا عن العلاقة التي كانت موجودة دائما بينهما و التي بعيدا عن أن يقطعها التاريخ لم يزدها إلا امتدادا [8]. و لا شك أن البدايات الأولى للعلاقة بين السلطة و المقدس قد رسمها زمن انبثاق الملك عن السحر و الدين. والأسطورة التي تؤكد تبعية البشر المزدوجة للآلهة و الملوك قد لعبت دورا رئيسيا في تحديد أطر هذه العلاقة.

واقع الحال، فإننا إذا توغلنا في التاريخ و وقفنا على النظام السومري أو البابلي أو الفرعوني تكشف لنا اللبس بين السلطة السياسية و الدينية. ذلك أن الملوك هنا يردون مصدر سلطتهم إلى الحق الإلهي و يحكمون بوصفهم تجسيما للإرادة الإلهية. و في المجتمعات المتدينة بديانات سماوية تستمد السلطة السياسية شرعيتها من الكنيس أو الكنيسة أو يكون الخليفة إماما.

أما في المجتمعات القبلية حيث تسيطر عبادة الأسلاف الأموات، فإن الزعيم السياسي هو أفضل مجسم لهمزة الوصل بين أرواح الأجداد و بين سلالة الأحياء، بوصفة الأكثر تمثيلا للقيم النهائية التي تحملها سلالة الأموات [9]. و لا شك في مثل هذا النظام أن التداخل بين السياسي و المقدس قوي و العلاقة أساسية.

تبدو السلطة السياسية في المجتمعات التقليدية فوق طبيعية، لأنها مراقبة من طرف الأسلاف الأموات، و الذين يملكون سلطة العقاب، و يلحقونها بمن يخرج عن قواعد النظام التي رسموها، و عن القيم التي سنوها لتبقى يتناقلها جيل عن جيل بحرص من الزعيم الممسك بزمام السلطة السياسية.

و يبدو صاحب السلطة الذي هو غالبا ما يشغل وظائف دينية مزودا بقدرات سحرية. فلا يترك بذلك مجالا للساحر الذي قد يضعف السلطة السياسية – الدينية بسلطته السحرية باستقطابه نصرة الجماعة التي بسحره يحقق لها الإشباع المادي والمعنوي و يفتح لتوقانها مجالات أوسع مما وعدتها به السلطة السياسية الدينية.

إن العلاقة بين مختلف مستويات الوجود الطبيعي و الكوني و البشري و الفوق-الطبيعي، هي نفسها التي يستوجب على السلطة السياسية تجليتها بوصف الحاكم كائنا يضمن بوجوده إعادة إنتاج نظام الكون مأخوذا بهذه الشمولية. فالملك الإله في المجتمعات البدائية تكون به خصوبة الأرض و تكاثر القطيع، و به يكون تحقيق إرادة الله فيعاقب الفوضى بوصفه المؤتمن من الله على القوة الإلزامية، إنه يمتلك سلطة الأمر و النهي و له بذلك اليد الطولي على حركية الكون و حركية المجتمع [10].

إن المقدس في المجتمعات التقليدية موضوع الأنثروبولوجيا السياسية يلعب بواسطة الأسطورة دور المقوي للبنيات السلطوية، و ذلك بمخاطبة التاريخ لمنحها تفسيرا وبمخاطبة الأخلاق لمنحها تبريرا.

و عموما يظهر دور المقدس الديني، إذا لم نقتصر إلا عليه بأشكال ثلاثة : فالدين،

– إما أنه يشكل القاعدة التي تقوم عليها مباشرة السلطة السياسية بوصفها مصدرها و هو ما يتجلى في الأنظمة الثيوقراطية.

– أو أنه يستخدم لتبرير شرعية السلطة السياسية من طرف النخبة الحاكمة.

– أو أنه يستخدم لبناء أنساق ذهنية و معتقدات و تقاليد يتسلح بها الطامحون إلى الوصول إلى السلطة السياسية[11].


.II علم العمران الخلدوني و بذور الأنثروبولوجيا السياسية

1- تصنيفات علم العمران الخلدوني

لقد أعفى ابن خلدون الباحثين من بعده من أن يعتبروا علمه الجديد علم سياسة أو خطابة، لالتقائه معهما في الموضوع، فميز بينه و بينهما، و بين أن علمه قائم بذاته موضوعا و أعراضا ذاتية و مسائل و مقدمات وفق خصائص العلم في عصره، موضحا انه وضع بذلك “معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه من أخبار [12]“.

و لكن الباحثين المعاصرين و إن لم يلتبس عليهم الأمر بين علم العمران و بين السياسة و الخطابة، قد وجد كل واحد منهم في المقدمة ما يبـرز العلاقة بينها وبين تخصصه، نظرا للثراء الفكري الذي تزخر به و الذي يجد منهله في التاريخ والفلسفة و السياسة وفقه الخلافة، و بصورة عامة في مجموع ما توصل إليه الفكر العربي الإسلامي في مجالات البحث المختلفة.

هكذا يرى إرنولد توينبي أن العمران البشري عبارة عن فلسفة تاريخ فيقول : لقد ” أدرك ابن خلدون و تصور و أنشأ فلسفة للتاريخ، هي بلا شك أعظم عمل من نوعه خلقه أي عقل في أي مكان و زمان [13]“.

و يرى روبرت فلينت أنه من جهة […] فلسفة التاريخ يتحلى الأدب العربي باسم من ألمع الأسماء. فلا العالم الكلاسيكي في القرون القديمة و لا العالم المسيحي في القرون الوسطى، يستطيع أن يقدم اسما يضاهي في لمعانه ذلك الاسم. إذا نظرنا إلى ابن خلدون […] كمؤرخ فقط وجدنا من يتفوق عليه حتى بين كتاب العرب أنفسهم. و أما كواضع نظريات في التاريخ، فانه منقطع النظير في كل زمان ومكان حتى فيكو بعده بأكثر من ثلاثمائه عام. ليس أفلاطون و لا أرسطو و لا القديس أو غسطين بانداد له. و أما البقية فلا يستحقون الذكر بجانبه. كان رجلا منقطع النظير بين أهل دينه و معاصريه، كما كان دانتي في الشعر و بيكون في العلم بين أهل دينهما ومعاصريهما [14]“.

و من غير أن يجزم كسابقيه فيمنح علم العمران صفة فلسفة التاريخ، فإن الجابري يرى أن “نظريات ابن خلدون أو بعضها على الأقل، تبدو للباحث أقرب إلى فلسفة التاريخ منها إلى أي صنف آخر من الدراسات الاجتماعية، خصوصا وأن ابن خلدون نفسه يؤكد، […] على العلاقة المتينة بين علمه الجديد و الفلسفة” [15].

أما حول ما إذا كان علم العمران البشري علم اجتماع، فان كثيرا من الباحثين يرون أنه “ينطبق تماما على الدراسات الاجتماعية الحديثة المعروفة باسم “السوسيولوجيا” [16].

فبالإضافة إلى الاسم الصريح الذي أعطاه ابن خلدون لعلمه الجديد و هو “علم الاجتماع” متضمنا في عبارة علم ] العمران البشري و[ الاجتماع ] الإنساني[، فإن هناك توافقا تاما بين موضوع العلمين و منهجهما و الغاية منهما[17]. فموضوعه، مثل علم الاجتماع، الظواهر الاجتماعية، و منهجه مثله وصفى تجريبي، و غايته الكشف عن القوانين التي تسير بمقتضاها الحياة الاجتماعية.

بل إن على عبد الواحد وافي ذهب إلى أن كل باب من أبواب المقدمة هو عبارة عن قسم من أقسام الدراسات الاجتماعية الحديثة مثل أصول المدنية الحديثة و علم الاجتماع السياسي و المورفولوجيا الاجتماعية و علم الاجتماع الاقتصادي… الخ[18].

و يذهب الجابري و هو يرفض توأمة علم العمران البشري بعلم الاجتماع الحديث إلى القول بأن علم العمران أوسع من الناحية العمودية من علم الاجتماع، لأنه يتتبع “ظاهرة اجتماعية أساسية بعينها هي ظاهرة الدولة، خلال مراحل نشأتها و تطورها و الأحداث التاريخية و الاجتماعية المرافقة لها. و من هذه الزاوية يبدو علم العمران أقرب إلى التاريخ منه إلى علم الاجتماع[19].

و يتساءل نفس الكاتب “عما إذا لم يكن علم العمران نوعا جديدا من الدراسات الاجتماعية. إذ بما أنه يقع بين علم الاجتماع و فلسفة التاريخ، فلماذا لا يكون نوعا جديدا من هذه الدراسات، فيطلق عليه مثلا “سوسيولوجيا التاريخ” [20] و كما يصرح بذلك عنوانه، فان كتاب “انثروبولوجيا العالم البدوي التاريخية”، يحاول من خلال دراسات مجموعة من الباحثين أن يجعل من علم العمران البشري المضمون الجوهري الذي تنطلق منه و تتمحور حوله كل الدراسات التي تكون غايتها إقامة نظرية أنثروبولوجية للتاريخ، مخصصا للعلاقة بين القرابة و السلطة دراسة كاملة، و معتبرا النسب الطريق الموصل إلى فهم تاريخ الشعوب الإسلامية [21].

2. علم العمران الخلدوني كانثروبولوجيا

أن يكون علم العمران البشري و الاجتماع الإنساني أنثروبولوجيا، فإن هذا ما ليس ذكره بجديد. فلقد أشار محمد عزيز الحبابي منذ بداية السبعينات إلى “شمولية هذا العلم ] …[، و أنه في نظره، ليس بالسوسيولوجيا الضيقة، و لكنه الأنثروبولوجيا الواسعة المحتوية على كل الحياة الإنسانية السائرة حسب قوانين بدأت تكتشف من خلال عملية التركيب و التكامل بين مختلف العلوم الإنسانية”[22].

و بالمثل يرى ناصيف نصار بأن التقدم الذي حققه فكر ابن خلدون السوسيولوجي هو تقدم نحو تكوين انثروبولوجيا اجتماعية شاملة، متسعة لكل العلوم الاجتماعية ومهيأة لاستيعاب النتائج الجديدة التي تسفر عنها البحوث المتخصصة[23].

فإذا تجاوزنا هذين الاستنتاجين الصريحين لعالمين عربيين كبيرين إلى البحث انطلاقا من موضوع الأنثروبولوجيا عن ماهية العمران البشري لم نزد عن أن نوكدهما. فإذا كانت الأنثروبولوجيا تركز اهتمامها، حسب رالف لنتون، على كائن واحد هو الإنسان. و تحاول فهم الظواهر التي تؤثر فيه، فإن علم العمران البشري يعكس هذا الاهتمام بوضوح. ذلك أن الإنسان في فكر ابن خلدون كائن طبيعي اجتماعي تاريخي، تصح دراسته موضوعيا في جميع جوانب حياته الاجتماعية التاريخية، من الجانب الاقتصادي حتى الجانب الديني، مرورا بجوانب السياسة و الأخلاق و العلوم والصنائع، و في جميع أشكال الترابط و التجمع التي تطرأ في مجري التاريخ [24].

و ليس مهما هنا أن تكون نظرة ابن خلدون إلى الإنسان راجعة “إلى مفترضاته العقائدية و الفلسفية و إلى تحليلاته السوسيولوجية التي تتناول مجتمعات حددت تاريخيا موقفا معينا من التأمل العقلي في الإنسان و العالم” [25]بل نكتفي بكونه، ربط الإنسان بنشاطه و بثمرة هذا النشاط تماما مثلما تتوخى فعله الأنثروبولوجيا اليوم، وبين معتمدا على الملاحظة الميدانية أن “التغيرات التي تطرأ على الطبقات النفسية الاجتماعية في الطبيعة الإنسانية الثابتة. ] …[ و أن سلوك الإنسان نفسيا وأخلاقيا يتعلق بقدر واسع بنمط معيشته و بالمجتمع الذي ينتمي إليه ]…[ (و أن خصائصه) الحيوانية و استعدادته العميقة تتأثر بالطور الذي يجتازه العمران ] …[ وأن الملكات العقلية و الأخلاقية تنتج من التكرار المتواصل لأفعال تنتقل نماذجها من جيل إلى جيل بالتربية و التعليم، و أن العوائد تلعب دورا في توجيه السلوك (و) تبدو معه كأنها طبيعة ثانية[26]. كما بين خصوصا الدور الذي تلعبه العوائد ثمرة الاجتماع ونشاط الإنسان في تطور الملك، فذهب إلى أن “العادات و الأعراف والمؤسسات تتغير في الزمان و المكان بحسب معطيات النظام الاجتماعي الذي تسانده و تتحمل نتائجه”[27].

و قبل ذلك كله، فإن ابن خلدون وعى الفائدة من معرفة الإنسان و الطبيعة البشرية فرأي أنها تكمن في “تلبية حاجة موجودة (فيه) إلى الإدراك، و في العون على تحسين بعض الصنائع المفيدة في الحياة المادية و في تدبير أمور المجتمع”[28].

و لا يهمنا هنا إذا كان ابن خلدون قد أدرك ماهية الإنسان الحقيقية عن طريق التجربة الواقعية أم أنه كان يحمل تصورا عن الإنسان قبل إبداع علم العمران، بقدر ما يهمنا أنه جعله مركز اهتمامه، فسجل بذلك تقدما على المعرفة التي كانت سائدة في عصره.

و إذا كان ابن خلدون لم يبلور تصوره للإنسان، بحسب المعرفة المتوافرة لدينا عن الإنسان، فلا يجوز لنا أن نواخذه على النقص أو التقصير، و لا أن تنتظر منه فكرا أنثروبولوجيا متسما بالعمق و الوضوح، كما لو أنه كان يملك معرفة عصرنا لدراسة إنسان و مجتمع عصره.

إن نقاد ابن خلدون الذين يتهمونه بالنقص و التقصير و يسمون فكرة بسمة السطحية و الإبهام يرون أن الوجهة التي اعتمدها “لم تكن مؤدية إلى البحث عن القيم بل إلى مجال الأنثروبولوجيا العلمية الفسيح”[29]، و أنها وجهة أنثروبولوجية صريحة، و أن ابن خلدون لم يكتف بوصف الحياة الاجتماعية وصفا تجريبيا، بل حاول ربط وصفه بالمعالم البارزة في الطبيعة و الإنسان. فإذا كانت هذه هي الوجهة العامة التي تنتظم فكر ابن خلدون، فإن ذلك قرينة أخرى على أن علم العمران البشري عبارة عن أنثروبولوجيا.

3- موضوع علم العمران الخلدوني : القرابة و السلطة

أ- القرابة و العصبية

تظهر العلاقة بين القرابة و السلطة منذ اللحظة التي يبدأ فيها تعصب الجماعة القبلية لدفع خطر خارجي يهددها أو لجلب منفعة من الغير بالهجوم و المطالبة ويكون التحام أفراد القبيلة أولا على مستوى القرابات التي تكونها، ذلك “أن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل، و من صلتها النعرة على ذوي القربى و أهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو يصيبهم هلكة فان القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العدا عليه و يود لو يحول بينه و بين ما يصله من المعاطب و المهالك نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا [30]” هكذا فان التعصب إنما يكون أولا داخل القرابة، ثم ينطلق منها ليشمل جماعات أخرى خارج الأقارب. إذن، فالتعصب يشتد أو يخف بحسب درجة القرابة، بحيث يكون أشد كلما كانت الوصلة ظاهرة لكون النسب قريبا، فإن النسب القريب يشكل قاعدة النسب البعيد، و يقوم على أساس ذلك الحلف و الولاء. وإذا كان يتصور أن بعد النسب يشكل عصبية ضعيفة غير قادرة على المدافعة أو المطالبة، فإن هذه العصبية قابلة للاشتداد بالدعوة الدينية الخادمة لصالح الجماعة المكونة من أقارب بعيدين أو حلف أو ولاء.

إن النسب الحقيقي هو ذلك الانتماء الفعلي إلى جماعة معينة و المعاشرة لها وربط مصالحها بها و الدفاع عنها وجلب المنافع. و واضح أن النسب مهما كان بعيدا فإنه يضم النسب القريب و يجعل العصبية الخاصة كفاعلية و نشاط للجماعة المكونة من الأقارب قابلة إلى التحول إلى عصبية عامة قائمة على النسب البعيد.

إن القرابة إذن هي قاعدة العصبية الخاصة التي تمثلها الجماعة القبلية، التي تكون أحيانا مطابقة للقرابة، و إلا فإنها مكونة من قرابات لابد فيها من قرابة أقوى ماديا و بشريا تلتف حولها الأنساب و تكون منها الرئاسة على القبيلة بوصفها، حسب تعبيرنا اليوم، السلطة المحلية. فإذا اجتمعت للقبيلة العصبية والرئاسة كان توقانها إلى السيطرة على العصبيات الأخرى كبيرا و كانت غايتها القصوى هي التحول إلى عصبية عامة بحكمها تكون الدولة، بعد أن تتحول السلطة المحلية إلى سلطة مركزية أي بعد أن تصبح الرئاسة ملكا.


ب- العصبية و الرئاسة

تبدأ السلطة و ازعا على مستوى القبيلة البدوية تتركز في يد المشايخ لما وقر في قلوب الناس لهم من احترام، و تتجسم هذه السلطة المحلية في استنفار فتيان القبيلة عند المدافعة أو المطالبة، ممثلين القرابة وهي تتحول إلى يد تبطش غايتها الملك، إذا ما احتدم الصراع القبلي. و الملك هو التغلب و الحكم و القهر، و هو يتوق دائما إلى أن يكون ملكا تاما، أي أن يكون سلطة لا تخضع إلى سلطة فوقها أو، بتعبير ابن خلدون، إلى أن تكون سلطة في يد صاحب الدولة ممثل الأسرة الحاكمة، يستعبد الرعية، و يحبي الأموال و يبعث البعوث، و يحمي الثفور، ولا تكون فوق يده يد قاهرة.

و ما دام مطلوبا فيمن يتولى الرئاسة على المستوى القبلي أن يكون ذا نسب صريح وذا حسب شريف و ذا إتباع وأشياع، فإن منصب الرئاسة ليس بفائز به إلا من كان ذا قرابة دموية قوية ذلك أنه حتى يكون النسب الصريح متوافرا لا بد من هذه القرابة أن تكون ممتدة خلال أجيال في الزمان، مما لا يدع شكا لدى أفراد القبيلة في أن المؤهل للرئاسة مرتبط بالقبيلة أبا عن جد، و أن مورفولوجيا القبيلة ذاتها تقدم من خلال أضرحة أمواتها الأدلـة القاطعة على ذلك.

كذلك، فإن الحسب الشريف الذي معناه التمتع بالخلال الحميدة التي تخدم الصالح العام للقبيلة لا يتوفر عليه إلا من كان ذا قرابة دموية قوية بافرادها وبامتلاكها الوسيلة التى تخدم بها هذا الصالح العام. زد على ذلك أن الدفاع عن مصلحة الأقارب يسبق الدفاع عن أي مصلحة أخرى بايعاز من التقاليد القبيلة والأحكام الدينية. فلا بد من ثمرة الدفاع أن يكون جنيها عائدا على الأقارب بالدرجة الأولى، لأنهم في آخر التحليل أتباعه و إشياعه الأولون يدفعونه إلى السلطة حتى يتحقق لهم الجاه والرفاه على المستوى المحلي فتصل فائدته إلى بقية القبيلة فيدافعون عنها و الأقارب الأكثر عددا و الأسهل التحاما هم السباقون إلى الدفاع عن المصلحة أو المطالبة بها، فلا يبقى من بد غير الالتحام بهم فتكون العصبية، فإن اتسع نطاقها وأخضعت غيرها لسلطاتها قويت شوكتها بما ضمت من عصبيات لها، فتحولت الرياسة كسلطة محلية إلى الدولة كسلطة مركزية، بتحول العصبية من خاصة إلى عامة.


ج- من الرئاسة القبليه إلى السلطة السياسية.

لاشك أن التحول من العصبية الخاصة إلى العصبية العامة و ارتقاء صاحب الرئاسة إلى الملك يعبر عن حركية القبيلة دينامية عصبيتها و يتطلب مؤهلات خاصة لدى قرابة معينة، هي هذه القرابة التي تمكنت من جعل قرايات قبيلتها تلتف حولها و تلتحم في عصبية مدافعة أو مطالبة يلوح لها في الآفاق الملك غاية لابد لها من الوصول إليها. فإذا كان الحكم حاجة طبيعية في الإنسان، فإن العصبية لا تتجاوز الرياسة إلا بالملك. ذلك أن الرئاسة و إن كانت سوددا و كان صاحبها مبتوعا، إلا أنه ليس له على غيره قهر في أحكامه، على خلاف الملك الذي هو التغلب و الحكم بالقهر. “وصاحب العصبية إذا بلغ رتبة السؤدد و الاتباع ووجد السبيل إلى التغلب والقهر لا يتركه لأنه مطلوب للنفس، و لا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعا، فالتغلب الملكي غاية للعصبية”[31] فإذا “حصل التغلب بتلك العصبية على قومها طلبت بطبعها التغلب على أهل عصبية أخرى بعيدة عنها فإن كافأتها أو مـانـعـتها كـانـوا أقتالا و أنظارا و لكل واحدة منها التغلب على حوزتها و قومها (…) وإن غلبتها واستتبعتها التحمت بها أيضا وزادتها قوة في التغلب إلى قوتها وطلبت غاية من التغلب و التحكم أعلى من الغاية الأولى و أبعد و هكذا دائما حتى تكافئ بقوتها قوة الدولة فإن أدركت الدولة في هرمها و لم يكن لها ممانع من أولياء الدولة أهل العصبيات استولت عليها وانتزعت الأمر من يدها وصار الملك أجمع لها”[32]. إن الشرط الذي تقطعه القبيلة بين تكونها كعصبية وتحولها إلى دولة، إذ يستتبع العصبيات الأخرى إنما يحصل كامتداد في المكان وخلال فترة زمنية تمتد هي الأخرى من وقت تكونها إلى وقت سقوطها. وليست الدولة غير حكم العصبية الغالبة و قد طال مواقع جغرافية محددة و استغرق سنين معينة. و لا بد حتى يستتب الأمر للعصبية الغالبة أن تكون قد عرفت صراعات شتى و معاهدات شتى و اتفاقات أحلاف ولاءات، وأن خصم اليوم يصبح نصيرا على خصوم جدد، و أن مصالح هذه القبيلة التي تجعلها اليوم تدافع عنها ضد مصالح قبيلة أخرى تتحد جميعا لتصبح مطالبة به عند قبيلة أخرى…و هكذا. ولا ينتهي تضارب المصالح و الصراع إلا بسيطرة عصبية غالبة قاهرة تسلمها العصبيات المغلوبة أمرها و تخولها الدفاع عن مصالحها معترفة بالسلطة التي تمثلها داخل العصبية الغالبة الأسرة (أو القرابة) الحاكمة، إذن ينتهي أمر الصراع العصبي إلى أن تصبح قرابة ما هي الحاكمة تتدرج تحتها، ضمن هرم الدولة، القرابات من أقواها إلى أضعفها، حتى تكون القاعدة لا تشكلها إلا القبائل المستضعفة التي لا وزن لها في حلبة الصراع، وهي في تفرقها أكبر عددا، لا تتجاوز ضعفها إلا بالتلاحم والتعصب و الالتفاف حول أسرة من بينها تكون أهلا للرياسة و القيادة تولبها لتكون أقوى في صراع جديد غايته الملك.

4 . علم العمران الخلدوني : البذور الحنينية لأنثروبولوجيا سياسية.

إن علم العمران البشري الذي يحتوي نظرية العصبية و الدولة، بوصفه نظرية سياسية في الاجتماع الإنساني مختلف عن النظريات السياسية القديمة سواء منها اليونانية أو الإسلامية، و هو يجد أساسه الأول في النظرية السنية للخلافة متجاوزا النظر في الأسس التي يجب أن يكون عليها الحكم و الطريقة التي تكون بها سياسة المجتمع إلى النظر في الطريقة التي مورست بها السلطة السياسية فعلا مستنطقا التاريخ و جامعا منه المادة الأولية لنظريته السياسية و التاريخ بالنسبة لابن خلدون معرفة بقدر ما هو أحداث. ذلك أنه لم يأخذ التاريخ كما حدث مكتفيا بالأحداث لذاتها، بل تساءل حول الطبيعة التي تخص كل حدث في ذاته و ما يعرض له من الأحوال، و بذلك تجاوز التاريخ، انطلاقا منه، إلى علم العمران، متوخيًا تفسير الظاهرة العمرانية ككل، مركزا على معرفة السبب الذي يجعل الدول تقوم، ثم تزدهر، ثم يداخلها الانحلال، تحت ضغط عوامل موضوعية، لا تملك الإرادة الإنسانية أن تطالها بالمنع و التغيير. و كما تجاوز ابن خلدون مهمة المؤرخ، في جعل التاريخ، لا أحداثا فقط،بل أحداثا و معرفة، تجاوزه في اعتبار الدولة صورة للعمران تعين مادته التي هي الاجتماع، و ليس مجرد محور ينتظم حوادث التاريخ، لذلك درس الدولة بوضعها الجهاز الذي يمنح العمران البشري كماله و يعين وجوده[33] فلم يغفل عن ما يربط السلطة السياسية بمؤسسات المجتمع و نظمه، بل ظل مستحضرا شمولية العمران و ترابط بناه ترابطا عضويا ضروريا لممارسة وظائف الاجتماع.

و لقد اهتم ابن خلدون خصوصا بالامتداد الزماني لحكم العصبيات الغالبة أي بأطوار الدول، مادام ذلك هو الذي يمكنه من البرهان على العلاقة بين العصبية كمحدد لقيام الدول سقوطها، سواء كدول شخصية أو كلية.

فبوصفها دولة شخصية، فإنها تمر، حسب رأيه بخمسة أطوار هي : طور الظفر بالملك، و طور الاستبداد و الانفراد بالملك، وطور الفراغ و تحصيل ثمرات الملك، وطور القنوع و المسالمة، وطور الإسراف و التبذير. و هي أطوار بعدها ينتهي حكم شخص ينتمي إلى عصبية ليبدأ حكم شخص آخر من نفس العصبية. أما بوصفها دولة كلية أي حكم عصبية أكملها و بمجموع ملوكها، فإنها تمر بثلاثة أطوار هي : طور التأسيس و البناء و طور العظمة و المجد و طور الهرم و الاضمحلال.

بالإضافة إلى ذلك، فإن ابن خلدون يفرق بين أنواع السلطات السياسية أو الحكم، فيذكر الملك الطبيعي و “هو حمل الكافة على مقتضى الغرض و الشهوة”[34] و الملك السياسي و هو” حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار[35] و الخلافة الدينية” و هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية و الدينية الراجعة إليها [36].

ولما كانت الدولة التي تهم ابن خلدون دراستها هي الدولة العربية الإسلامية فلقد حاول تصنيفها إلى أحد أنواع الملك هذه فوجدها مركبا بينها جمعيا “قوانينها (…) مجتمعة من أحكام شرعية وآداب خلقية و قوانين في الاجتماع طبيعية و أشياء من مراعاة الشوكة و العصبية ضرورية” [37]و بحسب تعبير الجابرى، فإن الدولة العربية الإسلامية، كما درسها ابن خلدون، كانت” في جوهرها، أعني في هيكلها وتركيبها و ديناميتها الداخلية، دولة طبيعية” دولة الشوكة و العصبية، أما مظاهرها فكانت دينية بهذه الدرجة أو “تلك” [38].

فإذا لم نكتف إلا بهذه الأفكار من نظرية العصبية و الدولة عن ابن خلدون مبرزين العناصر المشتركة بين نظريته و بين النظريات الغربية التي اعتبرت رحما لبذور الأنثروبولوجيا السياسية، ألا نقف على تعسف و إجحاف في حق ابن خلدون من طرف المؤرخين لهذا التخصص الأنثروبولوجي. إذ كيف يكون أفلاطون أنثروبولوجيا سياسيا، لأنه بحث عن أسباب تلاشي الدول، و حاول تحديد قوانين التغير السياسي، و يكون فرنسيس بيكون كذلك لأنه نبه إلى الشهادات الموقفة على اختلاف الدول وانظمتها السياسية، ويكون مكيافيلي كذلك لأنه بين نوعين من المبادئ التي تحدد بها السلطة السياسية، ويكون مونتيسكيو كذلك لأنه أبدع مفهوم الاستبداد الشرقي مميزاً بين نظام الحكم في أوربا و في غيرها من الدول، ولا يكون ابن خلدون أنثروبولوجيا سياسيا و هو الذي تطرق إلى هذه المواضيع كلها مستفيدا من الثقافتين اليونانية و العربية الإسلامية، وبانيا ملاحظاته السياسية والاجتماعية ضمن (…) القوالب الإرسطية – الأصولية التي كرستها (…) طريقة المتكلمين والفقهاء (…) و التي تميزت بدمج المنطق الأرسطى و المفاهيم الأرسطية في الدراسات الإسلامية الكلامية و الفقهية” [39]. أضف إلـى ذلك فإن ابـن خلدون ربط دراسة الدولة بمواضيع مركزية في الأنثروبولوجيا السياسية : القرابة والدين و الحياة الاقتصادية و عالج أفكاره بمفاهيم مازالت الأنثروبولوجيا السياسية الحديثة تعيد صياغة نظرياتها نسبيا بها، معتمدا في كل ذلك على الإمكان الواقعي وعلى التجربة الحسية واستقصاء الأخبار من مصادرها الشفوية والمكتوبة بالصورة التي تقرها موضوعية عصره و ثقافته.

مع ذلك، يـمنعها التحفظ من القول بأن علم العمران البشري أنثروبولوجيا سياسية مكتملة الملامح ذات مضمون و منهج هما في نفس نضج مضمون الأنثروبولوجيا الحديثة و مناهجها، لأن ابن خلدون لم يكن يتصور الدولة كما ننظر إليها اليوم، ولم يكن يمتلك المعطيات الميدانية التي يتوافر عليها الباحثون اليوم عن التنظيمات السياسية في تنوعها الجغرافي و التاريخي، ولم تكن ثقافة عصره لتسمح لعقله بالفصل بين المعرفة العلمية و المعرفة الدينية عند ملاحظة الظواهر و عند تفسيرها.

و لكن هذا التحفظ إذا كان إنصافا في حق الأنثروبولوجيا السياسية الحديثة، فإن الأنصاف في حق صاحب علم العمران البشري يضطرنا إلى القول بأنه ليس كثيرا على ابن خلدون، بعد كل ما سبق تبيانه أن نصف علمه بالأنثروبولوجيا السياسية في صورتها الجنينية على الأقل، تشكل الأساس الذي لابد أن ينطلق منه كل مشروع لأنثروبولوجيا سياسية خاصة بالمغرب العربي و الدول الإسلامية. وليس كثيرا على ابن خلدون القول بأنه يستحق مكانه بين المفكرين العالميين الأوائل الذين أرسو قواعد الأنثروبولوجيا السياسية، بصورة لا يجوز معها إغفاله عند التاريخ لهذا التخصص الذي أخذ مركزه بقوة ضمن العلوم الاجتماعية.

* أستاذ بمعهد علم الاجتماع – جامعة وهران، باحث بمركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية و الثقافية – وهران –


المصادر و المراجع :

1- بالعربية :

ابن خلدون.- مقدمة العلامة ابن حلدون.- بيروت، دار و مكتبة الهلال، 1988.

الجابري، محمد عابد.-فكر ابن خلدون، العصبية و الدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي.- بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط6، 1994.

الجابري، محمد عابد.- ما تبقن من الخلدونية، مشروع قراءة نقدية لفكر ابن خلدون، في : ابن خلدون و الفكر العربي المعاصر.- تونس، الدار العربية للكتاب، 1980.

الجابري، محمد عابد.- نظرية ابن خلدون في الدولة العربية.-بيروت، مجلة الفكر المعاصر، العددان 27،28، 1983.

بلاندييه، جورج.- الاتثروبولوجيا السياسية، ترجمة ابي صالح جورج.- بيروت المركز القومي للانماء، 1986.

مزيان، عبد المجيد.- النظريات الاقتصادية عند ابن خلدون.- الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، ط2، 1988.

نصار، ناصيف.- الفكر الواقعي عند ابن خلدون.- بيروت، دار الطليعة، ط2، 1985.

2- بالفرنسية

BALANDIER, F..- Anthropologie politique.- Paris, PUF, 4ème Ed., 1984.

BONTE, P. ; CONTER, E. ; HAMES, C. ; Al-ANSAB.- La quête des origines anthropologie historique de la société tribale arabe.- Paris, Maison des Sc. de l’homme, 1991.

RIVIERE, C..- Introduction à l’Anthropologie.- Paris, Hachette, 2ème Ed., 1996.

الهوامش

[1] . أنظر :

RIVIERE, C..- Introduction à l’anthropologie.- Paris, Hachette, 2ème Ed. 1999.- p.96.

[2] . أنظر BALANDIER, G..- Anthropologie politique.- Paris, PUF, 4ème Ed, 1984.- p.10

[3] . أنظر : RIVIERE, C..- Idem

[4] . أنظر نفس المرجع

.[5] ALANDIER, G..- Idem.- p.16.

[6] . نفس المرجع.- ص.17.

.[7] RIVIERE, C..- Idem.- p.100.

[8] . أنظر : بالانديية، جورج.- الأنثروبولوجيا السياسية، ترجمة أبي صالح، جورج.- بيروت، المركز القومي للانماء، 1986.- ص.83.

[9] . أنظر : نفس المرجع.

[10] . أنظر

RIVIERE, C..- Idem.- p.102.

[11] . أنظر نفس المرجع.- ص.103.

[12] . ابن خلدون في محمد عابد الجاري، ما تبقى من الخلدونية مشروع قراءة نقدية لفكر ابن خلدون في ابن خلدون و الفكر العربي المعاصر.- تونس، الدار العربية للكتاب، 1980.- ص.287.

[13] . توينبي، إ.ر في محمد عابد الجابري.- فكر ابن خلدون، العصبية و الدولة معالم نظرية خلدونية في التاريخ الاسلامي.- بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط.6، 1994.- ص.130.

[14] . فلينت.- في نفس المرجع.- ص.131.

[15] . الجابري، محمد عابد.- نفس المرجع.- ص.131.

[16] . نفس المرجع.- ص.128.

[17] . أنظر.- نفس المرجع.

[18] . أنظر.- نفس المرجع.- ص.129 (هامش 7)

[19] . نفس المرجع.- ص.130.

[20] . نفس المرجع.- ص.132.

[21] . أنظر :

BONTE, P. ; CONTER, E. ; HAMES, C. ; Al-ANSAB.- La quête des origines anthropologie historique de la société tribale arabe.- Paris, Maison des Sc. De l’homme, 1991.

[22] . مزيان، عبد المجيد.- النظريات الاقتصادية عند ابن خلدون.- الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، ط.2، 1988.- ص.11

[23] . ناصيف، نصار.- الفكر الواقعي عند ابن خلدون.- بيروت، دار الطليعة،ط.2، 1985.- ص.283.

[24] . نفس المرجع.- ص.284.

[25] . نفس المرجع.- ص.282.

[26] . أنظر : نفس المرجع.

[27] . نفس المرجع.

[28] . نفس المرجع.- ص.281.

[29] . نفس المرجع.- ص.279.

[30] . ابن خلدون.- مقدمة العلامة ابن خلدون.- بيروت، دار و مكتبة الهلال، 1988.- ص.89.

[31] . نفس المرجع.- ص.96.

[32] . نفس المرجع.

[33] . الجابري، محمد عابد.- نظرية ابن خلدون في الدولة العربية.- بيروت، مجلة الفكر العربي المعاصر، العددان 27، 28، 1983.- ص.220.

[34] . ابن خلدون.- في نفس المرجع.- ص.226.

[35] . ابن خلدون.- في نفس المرجع.

[36] . ابن خلدون.- في نفس المرجع.- ص.ص. 226،227.

[37] . ابن خلدون.- في نفس المرجع.- ص.227.

[38] . الجابري، محمد عابد.- نظرية ابن خلدون في الدولة العربية.- مرجع سابق.- ص.227.

[39] . الجابري، محمد عابد.- ما تبقى من الخلدونية.- مرجع سابق.- ص.289.

 

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.