الفكر الميثولوجي ليس أقل قوة من فكر العلماء

ميثولوجيا
حسونة المصباحي ٭

منذ سنة بالضبط، وتحديدا في الثاني والعشرين من شهر نونبر كان عالم الانتروبولوجيا الكبير كلود ليفي ستراوس صاحب كتاب «مدارات حزينة» قد بلغ من العمر 100 عام.

وهاهو يرحل أياما قبل إكماله السنة بعد قرن كامل من عمره المديد. ولأنه واحد من أعظم المفكرين الذين عرفهم العالم خلال القرن العشرين، ونظرا للدور الهام الذي لعبه في فتح آفاق جديدة أمام الانتروبولوجيا، وأمام الفلسفة الانسانية بصفة عامة، فإن فرنسا قد سبق وخصصت له احتفالات وندوات تعرّف بأفكاره، وبالقضايا الكبرى والاساسية التي عالجها في مجمل أعماله خلال مسيرته الفكرية الطويلة. وكانت البداية، صدور المجلد الأول من أعمال كلود ليفي ستراوس ضمن سلسلة «البلياد» الشهيرة المختصة في نشر أعمال عظماء الانسانية من الأدباء والشعراء والفلاسفة والمفكرين من مختلف اللغات والثقافات.

وقد قال المشرف على صدور المجلد المذكور: »إن دخول كلود ليفي ستراوس ضمن سلسلة «البلياد» يمثل الاعتراف به كاتبا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. ونحن نتعرف على نوع من الكتابة والأسلوب اللذين يندرجان ضمن لغة وأسلوب كل من بوسييه وشاتوبريان. ويعني هذا الدخول إلى «البلياد» أيضا أننا نرغب في توسيع معنى ومفهوم الأدب. وهذا الأدب لم يعد معنيا فقط باستكشاف الذات الانسانية، وإنما بمجالات أخرى مختلفة ومتعددة. ثم إن كلود ليفي ستراوس يشكل لنا نوعا جديدا من القراءة. وعندما نقرأ أعماله، فإننا نقوم بتجربة لشكل من أشكال الفكر، ونجد أنفسنا مجبرين على أن نجعل فكرنا يتفاعل مع أفكار الشعوب التي درس أحوالها وأوضاعها. بهذا المعنى يمكن القول إن كلود ليفي ستراوس يحتفظ بشيء من التجربة الخاصة بالأدب في القرن العشرين…».
ولد كلود ليفي ستراوس في بروكسيل ببلجيكا يوم 28 نونبر 1908. ومنذ الطفولة اهتم بثقافات الشعوب الأخرى، البعيدة بالخصوص. وكان أحيانا يحلم بالبرازيل، ذلك البلد الذي سحره فيما بعد، عندما نضج فكريا، فكتب من وحي رحلاته إليه، واقامته الطويلة فيه، عمله الفكري الرائع «مدارات حزينة».
وعند دخوله إلى الجامعة، فتنته نظريات فرويد في علم النفس وأيضا أفكار ماركس. وعن هذا الأخير، كتب في ما بعد يقول: »لقد حلّقت بي قراءتي لماركس بعيدا حتى أنني عقدت الصلة من خلالها مع التيار الفلسفي الذي يبدأ من كانط وينتهي بهيغل. وقد بدا لي أن عالما بأكمله انكشف لي. ومنذ ذلك الحين، لم يفارقني التحمس لأفكار ماركس. ونادرا ما كنت أنشغل بمسألة تتعلق بعلم الاجتماع أو بالاثنولوجيا من دون أن أقوم مسبقا بشحذ أفكاري من خلال قراءتي لصفحات من مؤلفاته مثل « 18 من برومير للويس بونابرت» أو «نقد الفكر الاقتصادي».
أما النظريات والفلسفات الميتافيزيقية مثل الفينومينولوجيا والوجودية، فلم تفتن المفكر الشاب الذي هو كلود ليفي ستراوس الذي اكتشف خلال السنة الفاصلة بين 1933 و1934، كتابا سوف يحدد مساره الفكري. ولم يكن هذا الكتاب إلا »المجتمع البدائي« لروبرت. ه. لويفي الذي ساعده على اكتشاف حياة وتقاليد البعض من المجتمعات البدائية، وجعله يشعر بأن فكره انفتح للمرة الأولى على «الهواء الطلق». وواصفا المشاعر التي هزت نفسه إثر قراءته للكتاب المذكور، كتب كلود ليفي ستراوس يقول في «مدارات حزينة»: «مثل حضري يطلق في الجبال، انتشيت بالفضاء في حين كانت عيني المنبهرة تعاين ثراء الأشياء وتنوّعها».
بعد اكتشافه للأنثروبولوجيا الأنجلو – أمريكية، اندفع الشاب كلود ليفي ستراوس لاكتشاف الثقافات البدائية وفي ذهنه قصة هندي تمكن من الفرار من القبائل الكاليفورنية (نسبة إلى كاليفورنيا) التي كانت لا تزال متوحشة. وعلى مدى سنوات، ظل هذا الهندي يعيش مجهولا من قبل سكان المدن الكبيرة، ناحتا الحجر، ليصنع منه رؤوس النبّال التي كان يصطاد بها. وشيئا فشيئا انقرضت الحيوانات والطيور التي كان يصطادها ليجد نفسه ذات يوم عاريا وجائعا عند مدخل المدينة الكبيرة. وقد انهى هذا الهندي حياته حارس عمارة في كاليفورنيا.
وفي ما بعد سيكتب ليفي ستراوس قائلا: »العالم بدأ من دون الإنسان، وسوف ينتهي من دونه أيضا. والمؤسسات والعادات والتقاليد التي كان عليّ أن أمضي الشطر الأكبر من حياتي في فهمها وفي استكشافها وإحصائها هي في حقيقة الأمر بداية تفتّح عابر لتكوين لا نملك تجاهه أي معنى، سوى السماح ربما للانسانية بأن تلعب فيها دورها«.
في عام 1935، وبعد أن درّس الفلسفة في المعاهد الفرنسية انطلق كلود ليفي ستراوس إلى البرازيل حيث عيّن أستاذا في جامعة ساوباولو التي ظل فيها حتى عام 1938. وخلال هذه السنوات، اقترب المفكر الشاب من القبائل البدائية في غابات »الامازون« وبدأ ينشغل بدراسة سلوكياتها، وعاداتها، وتقاليدها.
ومتحدثا عن اكتشافات كلود ليفي ستراوس في هذه المرحلة الحاسمة من مسيرته الفكرية، كتب أحدهم يقول: «إن أهم إسهام لكلود ليفي ستراوس هو مشاركته في ليّ عنق الرؤية الاثنولوجية المركزية للحضارات كما تم ترويجها من قبل فلسفة التاريخ لدى ماركس: ف «البدائيون» بحسب هذه الفلسفة يشكّلون مرحلة ثقافية متخلفة في التاريخ الانساني. واليوم، وقد أصبح تقييم الهويات والاختلافات الثقافية مبدأ، فإنه من الصعب علينا معاينة أهمية مثل هذا النقل. ومع ذلك، ومن دون أن نحترس، فإن عمق هذا المفهوم لم يختلف بعد، حتى على مستوى الفكرة العفوية التي تقول إن المجتمعات البدائية قد تكون «أقرب من الطبيعة» من المجتمعات المتحضرة.
فإن ننظر إلى غياب الحضارة كشائبة (ايديولوجية التقدم)، أو كفضيلة (نقد الحداثة)، فإن نفس الفكرة الغامضة حاضرة. وهذه الفكرة تقول إن البدائيين ينتمون إلى الطبيعة أكثر من انتمائهم للثقافة. وضد هذا ركز ليفي ستراوس نقده قائلا إن هذه المجتمعات لا تمثل مرحلة طفولية وسفلى في تاريخ الانسانية – كان ليفي برومل يتحدث عام 1910 عن «عقلية ما قبل المنطق» – وإنما هي مؤسسات معقدة لا رغبة له في ما نمتلكه نحن بحسب مقاييس ثقافية. وأشكال هذه الثقافة المتوحشة هي التي سيضع ليفي ستراوس أسسها في اتجاهين أساسيين: التحليل الانثروبولوجي لبنى الأبوّة والتحليل الايديولوجي للحكاية الميثولوجية، أي الحالات الاجتماعية العامة والخطب الجماعية التي ترافقها».
نهاية الثلاثينات من القرن الماضي عاد ليفي ستراوس إلى فرنسا، غير أن اندلاع الحرب الكونية الثانية جعله يسرع بالرحيل إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليعيش هناك سنوات طويلة التقى خلالها بعدد كبير من المفكرين والمبدعين والفنانين والفلاسفة. كما التقى العالم اللغوي الشهير رومان جاكوبسون الذي كان أول من ساعده على وضع الأسس الأولى لما أصبح يسمى ب «البنيوية» التي ستصبح العدوة اللدودة لوجودية سارتر «هذا الطفل المدلل وغير المحتمل الذي شغل طويلا المشهد الفلسفي، مانعا كل عمل جدي مطالبا الناس بأن يكونوا منتبهين له هو فقط». بعد الحرب، أصبح ليفي ستراوس مستشارا ثقافيا في السفارة الفرنسية في الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد ظل في هذا المنصب حتى عام 1948. وعند عودته إلى فرنسا، عمل في التدريس وفي الآن نفسه انشغل بتأليف واحد من أعماله الأساسية، أعني بذلك »البني الأولية للقرابة« الذي كتب في نهايته يقول: «لقد لاحظنا هكذا أن قواعد معتمدة واعتباطية في الظاهر يمكن أن تختصر في عدد صغير: ليس هناك إلا ثلاث بنى قرابة ممكنة تتشكل بمساعدة موضوعيْ تبادل يتعلقان بطابع مفارقة وحيد، هو الطابع المتطابق أو المتفاوت للنظام المدروس». وخلال الخمسينات من القرن الماضي، انشغل كلود ليفي ستراوس بما سماه «وضع قليل من النظام داخل العلوم الانسانية».
وقد كتب يقول في »الانسان عاريا« الذي أصدره عام 1971: «لقد نجحت الفلسفة ولوقت طويل في أن تحبس العلوم الانسانية داخل حلقة وذلك بعدم السماح لها بأن تدرك بالنسبة للوعي أي موضوع آخر للدرس غير الوعي ذاته (..) وما تريد الماركسية استكماله بعد روسو، وماركس، ودوركهايم، وسوسير، وفرويد هو الكشف عن موضوع آخر للدرس من غير الوعي. وإذن جعله في مواجهة الظواهر الانسانية في وضع مشابه للوضع الذي نجحت فيه العلوم الفيزيائية والطبيعية في أن تثبت أنه الوحيد القادر على السماح للمعرفة بأن تعمل وبأن تكون«.
وعندما كان المثقفون الفرنسيون منشغلين بالقضايا السياسية، خصوصا خلال حرب التحرير الجزائرية، رفض كلودليفي ستراوس الانضمام إلى صفوفهم وأبدا لم يُمض على أية عريضة من تلك العرائض التي طالبت باستقلال الشعوب المستعمرة (بفتح الميم). وكان يقول: «نحن لا نستطيع أن نقيّم مجتمعا انطلاقا من نظام معيّن. واي مجتمع هو قبل كل شيء مصنوع من ماضيه، ومن عاداته ومن ممارساته: مجموعة من العوامل اللاعقلانية ضدها تتكالب الأفكار النظرية». وكان يقول أيضا: »من الأفضل أن أواصل العمل بكتمان، وأن أحاول لأحل المشاكل الكبرى لمصير الانسان أو لمستقبل المجتمعات، وإنما تجاوز صعوبات صغيرة لا أهمية لها في الوقت الراهن. وقد اخترتها لأنني أعتقد أنه باستطاعتي معالجتها بطريقة دقيقة لا تقدر عليها تلك العلوم التي تسمى بالعلوم الانسانية وذلك عندما تتصدى منذ البداية لمواضيع جدّ معقدة على أمل أن تساهم ولكن على مدى طويل في بلورة فهم أفضل لأولويات الحياة الاجتماعية ولنشاط الفكر الانساني«. من عام 1959 وحتى عام 1982، وهي السنة التي تقاعد فيها، عمل كلود ليفي ستراوس استاذا في «الكوليج دوفرانس». وفي عام 1973 أنتخب عضوا في الأكاديمية الفرنسية. عن كلودليفي ستراوس، كتب اللغوي والفيلسوف تودوروف يقول: «يجسد كلود ليفي ستراوس بالنسبة إليّ راهنا امكانية تجاوز الفصل التقليدي بين العالم والفنان. فقد عرف كيف يبيّن أن الفكر الميثولوجي ليس أقل قوة من فكر العلماء. وقد أثبت ذلك في جميع كتبه التي لا يقل جمالها عن جمال الروايات».
(٭) كاتب وأديب تونسي، خصنا مشكورا بمقالته هذه بعد رحيل ستراوس..

جريدة الاتحاد الاشتراكي