الفر دانية في سوسيولوجيا ريمون بودون

العمق النظري والمرتكزات المنهجية

زهيـر بن جنـات[*]

ريمون بودون
ريمون بودون

مقدمة

تكمن أهمية سوسيولوجيا عالم الاجتماع الفرنسي ريمون بودون في نجاحها في تزعم حركة تجديديّة أصيلة في علم الاجتماع. فلا أحد بإمكانه أن ينزع عن كتابات بودون سبقها في إثارة مسألة على غاية من الأهمية في حقل علم الاجتماع والعلوم ذات الصلة ألا وهي مسألة الفردانية (L’individualisme). وبرغم تأكيد هذا السوسيولوجي الفرنسي المعاصر في مختلف كتاباته عن أصالة المقاربة الفردانية وتجذّرها في الإنتاج السوسيولوجي الكلاسيكي فإن كتاباته شكلت منحى موازيا لما تعورف عليه بالمسلّمات النظرية الكليانية في حقل علم الاجتماع. بل أكثر من ذلك، لقد خلَص بودون الفرد من ضيق أفق النظريات الكلاسيكية وخصَه بمقاربة منهجية جد شاسعة هي التي مكنته من ولوج أغلب البراديقمات السوسيولوجية اليوم.

1- الفر دانية في التراث السوسيولوجي الكلاسيكي

يعود اهتمامنا بسوسيولوجا بودون إلى رغبتنا في الإحاطة بمختلف ميكانيزمات التحليل السوسيولوجي من وجهة نظر فردانية. هذه الأخيرة، لا شك أنها ستطرح على أفق هذا التحليل تداعيات جديدة باعتبار المكانة المحورية التي تسندها للفرد لا فقط بوصفه الأحق بالملاحظة الميدانية بل وكذلك بوصفه مقولة التحليل الجوهرية التي لا يمكن الولوج إلى جواهر الظواهر الاجتماعية إلا من خلالها.

يجمع الباحثون على أن أصول المقاربة الفردانية تعود أساسا إلى أعمال كل من ماكس فيبر وفلفريدو باريتو. نجد في مؤلفات Boudon تأكيدا على هذا الأمر، وهو ما فتئ يعود إلى أعمال هاذين المفكرين ليبرهن على أصالة فكره وتجذّر مقاربته الفردانية في الفكر السوسيولوجي. فالتصنيف الفيبري المعروف للأفعال الإنسانية (الفعل التقليدي والفعل العاطفي أو الانفعالي والفعل العقلاني القيمي والفعل العقلاني الغائي) كما التمييز الباريتي المشهور بين الفعل المنطقي والفعل غير المنطقي(1) شكلا أساسا متينا بنا عليه رواد المقاربة الفردانية طروحاتهم.

إلا أن الملفت للانتباه في الطرح البودوني هو تفطنه إلى أن جذور المقاربة الفردانية تمتد حتى لعلماء الاجتماع المعروفون برواد المقاربة الكليانية (l’approche holistique) على غرار كارل ماركس وإيميل ديركايم. لقد انتهى بودون إلى أن كل التحاليل السوسيولوجية تحتوي بشكل ظاهر أو خفي على مبدأ الفردانية ويذكر في هذا الإطار أن الفردانية كانت موضوعا لتعاريف متعدّدة. فهي لدى ألكسيس دي توكفيل (Alexis de Tocqueville) نتاج اتساع المجال الخاص، ولدى ديركايم (Durkheim) انعكاس لتدعم استقلالية الفرد معياريا وأخلاقيا، وهي لدى جورج زمّل(G.Simmel)  وتالكوت بارسونز (T.Parsons) نتيجة لتطور العلاقات الاجتماعية، أما لدى ماركس (K. Marx) فهي نتاج المنافسة في السوق التي تدعم انعزال الأفراد(2).

هكذا، وبرغم عزوف رواد المقاربة الماكروسوسيولوجية عن إيلاء الأهميّة المناسبة لمسألة الفردانية فإنهم لم ينكروا وجودها. ومهما تكن نتيجتها أو أسبابها فإن المهم بالنسبة لبودون هو أنها موجودة داخل نفس هذه المقاربات. إن عالم الاجتماع بالنسبة لديركايم مثلا “مدعوّ إلى تحليل أثر البيئة وتغيرات المحيط على الفعل الفردي. وبأكثر دقة، فهو يعتبر المحيط كمساهم في تحديد عنصرين هامين في الحقل الذي يتموقع فيه العون الاجتماعي (l’agent social) هما عامل الاختيارات المقدّمة له وقيمة الأهداف التي يقدمها”(3). بلغة أخرى، إن آثار البيئة والمحيط لا تقع في فراغ بل في وحدات مشكلة لهما وهذه الوحدات يمثلها الأفراد الذين يتموقعون بدورهم داخل البيئة والمحيط ولعل التعريف الذي قدمه ديركايم للواقعة الاجتماعية يتماشى وهذا الاعتبار إذ هي في نظره “تتعلق بطرق الفعل والتفكير والإحساس الخارجة عن الأفراد والمفروضة عليهم”(4).

فالعلاقة إذن جدلية دائمة، وحتى وإن يقر ديركايم- على سبيل المثال- بذلك باعتبار أن هؤلاء ليس لهم من إمكانية للاندماج الاجتماعي غير قبول إملاءات المجتمع، فإنه ترك مجالا شاغرا في عالم المفرد أسماه بالوعي الفردي يعيشه الفرد بالتوازي مع وعيه الجماعي وكلاهما مطالب بالتجاوب مع الآخر رغم المكانة الأكبر التي يوليها ديركايم للوعي الجمعي.

ولكن الملفت للانتباه في المقاربة الديركايمية هو أنها لم تجعل من الفرد عنصرا قادرا على الفعل والتأثير إلا في إطار المجتمع المعقد حيث يسود التضامن العضوي. وهكذا فمن الممكن أن نجد لدى ديركايم بعض الوعي بأهمية هذا الفرد في التحليل السوسيولوجي للظواهر الاجتماعية عبر ما يحمله في مرحلة التضامن العضوي من كفاءة وقدرة على التحرّر عن الجماعة العضوية التي ينتمي إليها وذلك عن طريق التخصص(5).

لقد أفاض Boudon في هذه المسألة كثيرا، بل أثبت بجدارة عمق و تجذّر المقاربة الفردانية في التراث السوسيولوجي الكلاسيكي. ولكن مع ذلك فإننا نجد في مختلف كتاباته نقدا  للمقاربات الكليانية التي “لم تنظر للفرد إلا بوصفه نقطة عبور للأفكار الجماعية حيث تحدّد طموحاته ورغباته عبر محيطه الاجتماعي”(6). هذا هو الفرد الذي سيجعل منه بودون أداة التحليل المركزية في أعماله، بل أكثر من ذلك لقد جعل منه إطارا للتحليل، وهو أيضا زاوية النظر التي سينظر منها وعبرها للظواهر الاجتماعية على نحو ما تقرّه الفردانية المنهجية.

2-  الفردانية كقضية منهجية

ما فتئ بودون يؤكد في مختلف كتاباته على خصوصية الظاهرة الاجتماعية ومن ثمة فهو يذهب إلى أن تحليلها يستوجب فطنة قد تفتقدها بعض العلوم القريبة من علم الاجتماع. فإذا كان بالإمكان مثلا تحليل الظاهرة الاقتصادية تحليلا ماكروسوسيولوجيا أي في ضوء العلاقة بين العرض والطلب، فإنه من الصعب جدّا تحليل نسب الانتحار مثلا في ضوء هذا النمط من التحليل (الماكروسوسيولوجي)، إذ تخضع هذه النسب لمنطق معقد – على خلاف الظواهر الاقتصادية – يتغير تبعا لتغير الأفراد(7). وهذا المنطق المعقد لا تنتجه البنى كما في سوسيولوجيا ماركس ولا المؤسسات كما في سوسيولوجيا  ديركايم مثلا، بل ينتجه الأفراد ومن ثمة وجب إيلاء هؤلاء الأهمية التي يستحقون.

إن خصوصية التحليل السوسيولوجي تكمن كما يقول بودون في أنه “يرنو إلى دراسة حالات فردية، لا من خلال براديقم استخراج المفرد (le singulier) من المفرد، بل من خلال نمط أو شبه نمط ممثل لبنية نظام التفاعل تنمو داخله الحالات التي سنفسّر” (8). ومهما تكن سلطة هذا النظام على الأفراد المكونين له من خلال تفاعلهم فإن لهؤلاء أيضا قدرة على الفعل والتأثير ومن ثمة على تغيير هذا النظام وهو ما يستوجب طرحا منهجيا مخالفا يعطي للأفراد أولوية في تحليل هذا النظام.

يعني مبدأ الفردانية المنهجية وفق Boudon “أنه على عالم الاجتماع أن يقيم قاعدة منهجية لاعتبار الأفراد أو الفاعلين الفرديين المنتمين إلى نظام تفاعل كذرات منطقية في تحليله”(9). تنبني هذه القاعدة المنهجية إذن على أساس اعتبار الأفراد المسؤولين المباشرين عمّا يطرأ من ظواهر اجتماعية داخل الأنظمة. وهو اعتبار يعيد ترتيب وحدات التحليل من جديد بما أنه يقطع مع المسلمات الكلاسيكية في علم الاجتماع، تلك التي تغالي من شأن البنى والأنظمة والوظائف وتجعل الفرد أسير ما يمليه عليه أحد هذه الوحدات المشكلة للمجتمع.

وفي الواقع تقوم الفردانية المنهجية كما نلاحظ في جلّ مؤلفات Boudon على نقد هذه النظريات التي يرى فيها غلوّا ومبالغة في هذا الجانب، بل هو يجعل مقاربته على طرفي نقيض مع ما يسمّيه بالوظيفية المغالية (Hyperfonctionnalisme) والثقافوية المغالية (Hyperculturalisme) والواقعية الكلية (10)(le réalisme totalitaire)

لم يكن الفرد في سوسيولوجيا بودون أداة التحليل الرئيسية إلا لكونه فاعلا واعتبارا لذلك أدرج مقولة الفردانية المنهجية في إطار براديقم الفعلانية (l’actionnalisme)، فالظاهرة الاجتماعية كيفما كانت هي نتاج لأفعال ومواقف ومعتقدات وسلوكات الأفراد(11). وهو الأساس الأول الذي يقوم عليه براديقم علم اجتماع الفعل (sociologie de l’action) أمّا الأساس الثاني فيتعلق في نظر بودون بضرورة البحث عن معنى السلوكات الفردية التي تشكل أساس الظاهرة الاجتماعية أي الإجابة عن السؤال لماذا؟ وهو ما يسميه فيبر بالفهم(12).

يرد استعمال بودون للفظ الفهم في إطار تأصيله لمقاربته الفردانية. هذه المقاربة التي تستمدّ جذورها – وكما ذكرنا سابقا- من الإرث السوسيولوجي وهو ما يتضح جليا من خلال إدراجه الفردانية المنهجية ضمن المقولتين الفيبريتين المشهورتين ألا وهما : التفسير والفهم “إن رسما من قبيل  P’ è P هو رسم تفسيري بالمعنى الفيبري في حين أننا إزاء رسم تفهمي عندما تكون P مستنتجة عبر تحليل سلوك الأفراد الذين يتحركون في ظروف P’ “(13). إن جوهر التحليل – وفق ما تقتضيه الفردانية المنهجية هو إذن الفهم. فهم سلوكات الأفراد قصد فهم خفايا الظاهرة والآليات المتحكمة فيها. غير أن ذلك لا يكون بمعزل عن ضغوطات الأنظمة المحيطة بالظاهرة والتي يتحرّك في إطارها الأفراد إذ “لا تقتضي الفردانية المنهجية أية تجزئة (atomie) بما أنها لا تقصي بأيّ شكل من الأشكال الظواهر العلائقية مثل التأثير والنفوذ. وتؤكد على أن يفهم سلوك الفاعل بالنظر إلى وضعية ما تتحدّد هي نفسها جزئيا بمتغيرات ماكرو سوسيولوجية(14).

ليس هناك من مجال وفق Boudon لنفي أثر البنى في الفعل الفردي ولكن ذلك لا يعني أنه يتحدّد وفقها بل هي تساهم جزئيا في تحديد اختيارات الفاعل، وهو بالضبط ما يقرّه بودون بقوله: “إن الذرة المنطقية (l’atome logique) للتحليل السوسيولوجي هو إذن الفاعل الفردي وهذا الفاعل لا يتحرك في فراغ مؤسساتي واجتماعي ولكن مجرّد أن يكون فعله واقعا في سياق من الضغوطات أي من الوحدات التي يجب أن يقبلها كمعطيات مفروضة عليه لا يعني أنه يمكن أن نجعل من سلوكه النتيجة الحتمية لتلك الضغوطات”(15). فالبنى إذن موجودة وتجد متانتها في المؤسسات التي قد تتشكل وفق أطر وأنظمة ذات وظائف أيضا ولكنها لا محالة تعجز عن نفي قدرة الفرد كفاعل على الاختيار. ومن ثمة وجب على عالم الاجتماع أن يعود إلى جوهر الظاهرة لا إلى مظهرها الخارجي وذلك عبر البحث في دوافع الأفراد ومنطقهم في سلوكهم فعل دون آخر. وهكذا ،و”مهما تكن المسافة الفاصلة بين الملاحظ والفاعل مكانيّا وزمانيّا فإن الأول يستطيع دائما فهم الثاني شريطة أن يحصَل معلومات كافية حول الظروف المميزة للمحيط الاجتماعي للفاعل”(16).

3-  أثر التجميع والآثار غير المتوقعة

لقد سمحت مقاربة الفردانية المنهجية لريمون بودون أن يقدم جملة من الإضافات المفهومية للرصيد السوسيولوجي. وأهم المفاهيم التي نستحضرها هنا تتعلق بما أسماه “أثر التجميع” (effet d’agrégation) والآثار غير المتوقعة (effets pervers) وهما مفهومان يتخللان أغلب أعمال بودون.

يستجيب مفهوم “أثر التجميع” للحاجة النظرية والمنهجية التي تستدعها المقاربة الفردانية. فإذا كانت الظاهرة الاجتماعية هي التي تتشكل أمام الدارس وتستفزّه للبحث فإن المقاربة الفردانية لا تقوى على إشباع هذه الحاجة إلاّ متى أخذت بعين الاعتبار حجم هذه الظاهرة وظروف تشكلها، وهو بالضبط ما يحيل له مفهوم أثر التجميع الذي أورده بودون للإحالة إلى أصل تكوّن الظواهر ألا وهي الأفعال الفردية. هذه الأفعال تتجمع معا فتنتج أثرا ماكروسوسيولوجيا قابلا للملاحظة والفهم ولكن ذلك لا يعني أن الأفراد يتصرّفون عن قصد وبشكل معين لإنتاج ظاهرة ما، فهذه الأخيرة تنشأ لذاتها على اعتبار أن لا أحد من المساهمين فيها قد قصد إنتاجها، بل إن أثر التجميع لا ينشأ عن ترابط بعضهم بالبعض الآخر(17).

ويستخرج بودون من تحاليل ماركس مثالا واضحا على أثر التجميع ويتعلق بسلوكات رجال الأعمال المدفوعة بالرغبة في زيادة المرابيح حيث يسعى كل واحد منهم إلى زيادة إنتاجيته للتخفيض في الكلفة على اعتبار أن ذلك يؤدي إلى زيادة الفائض. ولكن الأمر المفارق ههنا يتعلق بالانخفاض المطّرد لمرابيحهم الذي يعود إلى أنه- ولكي يبلغ رجل الأعمال مبتغاه – فإن عليه أن يعيد استثمار مرابيحه بشكل متواصل وهو ما يؤدي إلى انبثاق أثر معين هو أنه عوض أن تزيد المرابيح فإنها تنخفض، ويظل الرأسمالي محكوما بهذه اللعبة شأنه شأن البقية رغم أن كل واحد منهم قد فكر بطريقة منعزلة ولم يطمح أبدا إلى إنتاج هذا الأثر(18.

هكذا إذن تنشأ الظواهر، ويقدمها بودون على أساس أنها حاصل تجميع أفعال متعدّدة لفاعلين متعدّدين يتفاعلون في ما بينهم ومع النظام فينتجون آثارا يلخصها بودون كما يلي :(19)

M = M(m)

M(m) = حاصل تجميع آثار فردية

M= أثر التجميع

m = الفعل الفردي

ومثلما هو ملاحظ من خلال هذه القاعدة، لا يعني أثر التجميع مجرّد عملية جمع بسيطة (addition) من نوع (A+B+C=X) بل تتشكل القاعدة على أساس تفاعل الأفعال الفرديّة الذي ينتج أثرا معيّنا تتم قراءته على أساس عملية ضرب (multiplication) من نوع ((AxB) x (AxC) x (BxC) = X) وهو ما حدا ببودون إلى استعمال مفهوم أثر التكوّن (effet de composition) أحيانا كمرادف لمفهوم اثر التجميع.

ومثلما يفيد مفهوم أثر التكوّن نفسه فإننا نجد أن مجرّد تغير أيّ عنصر من العناصر المساهمة في نشوءه يغير بالضرورة هذا الأثر على النحو الذي رسم عليه بودون مفهوم أثر التجميع حيث لاشك أن غياب أو تغير أي فعل فردي مساهم في نشوء ظاهرة معينة يؤدي إلى تغير هذه الأخيرة أي نتيجة تجميع أفعال فردية مغايرة للأولى.

ويعود بودون إلى عالم الاجتماع الأمريكي Robert Merton الذي كان  وفق بودون-  سباقا في تفسير أزمة 1929 الشهيرة بطريقة مخالفة لما قدّمه علماء الاقتصاد آنذاك. إذ بيَن Merton أن هذه الأزمة تستثير في التحليل السوسيولوجي ضرورة طرق النتائج غير المتوقعة (effet pervers) للأفعال الإنسانية أي ضرورة فك رموز ما أسماه بآثار التشكّل. لقد بيّن ميرتن أن ليست مواقع الأفراد تحدّد  دائما السلوك الفردي على نحو ما قدّم ماركس بل لا يمكننا توقع مدى تأثير البنية الاجتماعية على النظام التفاعلي  (le système d’interaction) بين الأفراد إذ يمكن أن نكتشف مثلا أنه في بعض الأحيان تكون الإشاعة خالقة لنظام تفاعل غير مطابق لما كنا نتوقع على نحو ما وقع سنة 1929 حيث لجأ الحرفاء إلى سحب إيداعاتهم لمجرد مرور إشاعة حول اختلال وشيك للنظام البنكي بالولايات المتحدة الأمريكية(20)

وعلى أساس هذا الطرح وطروحات أخرى مماثلة ينتهي بودون إلى أن الآثار غير المتوقعة تحتل حيّزا هاما في حقل الواقع. فهذا الأخير ينفلت عن مختلف التوقعات ويتشكل في عديد الأحيان وفق ما ينتج عن أفعال الأفراد رغم أنهم يتحرّكون باستمرار بطريقة منعزلة عن بعضهم البعض. فإذا تحسّنت مثلا حظوظ كل فرد من أفراد المجموعة يمكن أن ينتج عن ذلك تزايدا في عدم الرضا الجماعي(le mécontentement collectif)  إذ يصبح كل فرد – وإن اختلفت وضعيته عن البقية- يطمح إلى أكثر مما يمكن أن يجني(21) وبرغم أنه لا أحد من هؤلاء قد اختار –بوعي- أن يصل إلى هذه النتيجة فإن ما نتج هو مخالف لما كان متوقعا.

على هذا النحو اختار بودون في مختلف تحاليله طريقا مغايرة تولي العناية اللازمة لما هو غير منتظر ولا مطابق لما برمج له مسبقا. والأساس الذي تنبني عليه هذه الفكرة أمر لم يكن له من حسبان في الأعمال الموازية لأعمال بودون وهو أسـاس يقوم على مفاهيـم جدّ مثيرة في علم الاجتماع على غـرار الشـاذ   (le pervers) والصدفة (le hasard) وأثر الانبثاق (effet émergent)… وهي مفاهيم لم يكن لها من معنى في علم الاجتماع وحتى وإن وجدت فإنها كانت تفتقد إلى الدقة العلمية والصرامة في افتراض وجودها وهو ما افتقدته أعمال كل من باريتو و فيبر مثلا رغم الدور الإلهامي الذي قامت به أعمالهما في نشأة وتطوّر الفكر البودوني.

ويلخص بودون ما سبق في قوله : “يتم اعتبار الصدفة (le hasard) في العلوم الاجتماعية عموما كمأوى غير محبّذ. إنه موجود في كل مكان ولكننا نتعسّف في الغالب لإزاحته وتناسيه ونكران وجوده. تختلف المواقف حول نمط وجوده ولكن الغالبية يريدون اعتباره نتاج جهلنا: إنه فقط لأننا لم نتناول كل المتغيرات المحدّدة لظاهرة ما نرى أنها غير محددة جزئيا، ولكن إذا كانت المواقف حول نمط وجود الصدفة متغيرة فإن هناك نقطة يمكن أن نلاحظ نوعا من شبه الاتفاق حولها في العلوم الاجتماعية ويمكن أن تكون داخل دوائر أوسع وهو أن الصدفة لا تمثل أيّة أهمية من زاوية نظر المعرفة”(22). وعلى النقيض، إن الإقرار بوجودها قد يتنافى ونكران أهميتها معرفيا. إذ كيف لنا أن ننفي الأهمية العلمية لمتغير نقرّ بوجوده؟ وهكذا يجب علينا اعتبارها – كما يقول بودون- مادة أو متغيرا أو مجموعـة من المتغيرات بل بوصفها بنية خصائصية (structure caractéristique) لمجموعة من الحلقات السببية مثلما تظهر للملاحظ. وفي كل الحالات، يمكن تحليلها بشكل مغاير للشكل الذي يعتبرها مفهوما سلبيا فارغا وبالتالي دون أهمية علمية(23).

إن الميزة الأساسية للإضافات المفهومية لريمون بودون تكمن في نظرنا في متانة العلاقة بين المنهج والمضمون وبين الفرضية والمفهوم. هذه الميزة التي جعلته ينفرد بجملة من المفاهيم تتوالد فيما بينها وتتواصل بواسطة خيط جدّ رفيع. فالمقاربة الفردانية فتحت الآفاق لإيلاء الفرد المكانة الأهم في التحليل السوسيولوجي، وهذا الاعتبار النظري – المنهجي جعل بودون يستلهم مفاهيم “أثر التجميع” و”أثر التشكل” و”الآثار الشاذة” و”الصدفة” و”أثر الانبثاق”… وهي كلها مفاهيم تتكامل فيما بينها لتنتج مقاربة جدّ مخصوصة في حقل علم الاجتماع ما فتئت تستثير الباحثين وتستنهض هممهم لإعادة قراءة التراث السوسيولوجي أولا وطرق أبواب أخرى للتحليل العلمي الاجتماعي ثانيا.

تتأتى أهمية إعادة قراءة الإرث السوسيولوجي مما يحتويه من فرضيات بقيت معلقة نظرا لعدم تفطن علماء الاجتماع اللاحقين لها، وهو الأساس الذي تقوم عليه أبحاث بودون في قسم كبير منها. أما ضرورة فتح آفاق أخرى للتحليل السوسيولوجي فتستوجبها المستجدات المتعاقبة على مختلف أوجه الحياة الاجتماعية وهو أمر يبدو – وفق بودون– أن علماء الاجتماع المعاصرين لم يحصّلوا بعد الوعي الكافي بأهميته. ففي بعض الحالات تظهر السوسيولوجيا المعاصرة بمثابة السوسيولوجيا التي تفتقد موضوعا : إن الإنسان الاجتماعي المتناول في إطارها (homo-sociologicus) يتم وصفه على أساس أنه مبرمج (programmé) عن طريق البنى الاجتماعية أو عن طريق أصوله ومكانته الاجتماعية(24).

وبالمقابل، فإن العقلانية – كما يوردها بودون- يجب ألا ينظر لها كإقرار أنطولوجي بل كمبدأ منهجي يسمح لنا بمقاربة سلوك الفاعل. والبحث في العقلانية التي تحكم سلوك الفاعل إنما يعني البحث في الأسباب التي تحكمه، ويكون السلوك كذلك في كل الحالات التي بإمكاننا وفقها إقامة تفسير على النحو الآتي: ” إذا قام الفاعل (x) بسلوك معين بالطريقة (y) ويكون هذا السلوك قابلا للفهم (compréhensible) فإن هذا الفاعل (x) كانت له في وضعيته تلك أسباب معقولة للقيام بالفعل(25)(Y). وبالرغم من الأهمية المسندة لمقولة العقلانية في هذا الطرح، فإن بودون لم يجعلها خاصية أساسية للفاعل، بل إن القسم الأكبر من الأفعال إنما تنبني على غير هذا الأساس رغم ما يبدي أصحابها من عقلانية وتخطيط. هكذا، لم يعد احترام الفاعل للعادات مثلا من قبيل الاحترام غير المشروط أي الميكانيكي (كما في السوسيولوجيا الكليانية)، بل أساسا لأنها لا تتعارض مع معطيات الوضعية تلك أي لأنها عقلانية من وجهة نظر الفاعل(26).

الخاتمة

وبالخلاصة، فإن ما يعنينا في المقاربة الفردانية المنهجية – على ثرائها وتنوع حقول تدخلها- هو طرحها “الجريء” لمسألة الفرد. هذا الفرد الذي يعلو – مع بودون- فوق كل الأنظمة والبنى فيغير مسار الأحداث – كفاعل – ويطبع حقل الواقع بطابع خاص يحمل أثره كفرد وكمجموعة وينأى به عن التحديدات المسبقة وعمليات البرمجة والتخطيط. هنا بالضبط تنكشف أهمية سوسيولوجيا بودون في إضافتها المنهجية والمفاهيمية حيث تحولت الظاهرة الاجتماعية إلى مجال للفعل والحركة وصار الفرد جوهرها ومبعث وجودها. وعلى هذا الأساس انبنت الفردانية لا فقط كنظرية صلبة في علم الاجتماع نحتاجها باستمرار ونعود لها بوعي منا أو بدونه، بل وكذلك كمقاربة منهجية ما فتئت البحوث السوسيولوجية الحديثة تؤكد جدواها عبر استدعائها الدائم لها كمقابل للمقاربات الكليانية التي قد تنجذب لها السوسيولوجيا المعاصرة تبعا للدعايات الإعلامية والسياسية المرتبطة بظاهرة العولمة.

[*] أستاذ و باحث في علم الاجتماع. كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس (تونس)

قائمة المصادر والمراجع

(1)          للتعمق راجع كتب كل من:

– Raymond ARON : Les étapes de la pensée sociologique. Gallimard. Paris. 1967

– George GURVITCH : Traité de sociologie. PUF. Paris. 1967

– Guy ROCHER : Introduction à la sociologie générale. L’action sociale. Ed MHM. Ltée. Paris. 1968.. .

(2)          Raymond BOUDON et François BOURRICAUD : Dictionnaire critique de la sociologie. PUF, 2ème édition, 1982. P305

(3)          Raymond BOUDON : La logique du social, introduction à l’analyse sociologique. Hachette / Pluriel, Paris, 1997. p 270

(4)          Emile DURKHEIM : De la division du travail social (1893). PUF, Paris, 1994 P46

(5)          المصدر السابق. ص325 وما يليها

(6)          Raymond BOUDON: Individualisme et holisme en sciences sociales. Dans : Pièrre Birnbaum et Jean Leca (S/D): Sur l’individualisme. Ed. PFSP. Paris. 1991. p49

(7)          Ibid p45

(8)          BOUDON  (R): La logique du social. Op.Cit . p80

(9)          Ibid. P82

(10)      Raymond BOUDON: Effets pervers et ordre social ; quadrige/ PUF .1989.pp236-242

(11)      Raymond BOUDON: Traité de sociologie. PUF. 1992. p22

(12)      Ibid. p 30

(13)      BOUDON  (R) et Bourricaud (F): Dictionnaire critique de la sociologie. Op. Cit. p308

(14)      Raymond Boudon: La place du désordre, quadridge/PUF. 1984. p 66

(15)      BOUDON  (R): La logique du social. Op. Cit. p52

(16)      BOUDON  (R): la place de désordre. Op. Cit. p65

(17)      BOUDON  (R): La logique du social. Op. Cit.p119

(18)      Ibid. pp 122-123

(19)      BOUDON  (R): La place du désordre.. Op. Cit. p69

(20)      BOUDON  (R): Effets pervers et ordre social. Op. Cit. p218

(21)      BOUDON  (R): La place du désordre. Op. Cit. p 68

(22)      Ibid. p 184

(23)      Ibid. p 189

(24)      BOUDON  (R): Effets pervers et ordre social. Op. Cit. p 187

(25)      BOUDON  (R): Individualisme et holisme. Op. Cit. p58

(26)      BOUDON  ( R): Traité de sociologie. Op. Cit. p 35

* مجلة علوم إنسانية www.uluminsania.net السنة الثالثة: العدد 28: مايس (مايو) 2006 – 3rd Year: Issue 28, May:

رأيان حول “الفر دانية في سوسيولوجيا ريمون بودون”

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.