الفترات الكبرى للقايدية – الجزء الثاني

pascon2

الفترات الكبرى للقايدية
بقلم: بول باسكون
تعريب:  زبيدة بورحيل

 الجزء الثاني

القايدية المخزنية:

إن المساندة التي قدمها الكلاويون لصعود مولاي عبد الحفيظ إلى العرش (مراكش-غشت/آب 1907) ومساهمتهم في دحر الجيوش العزيزية في زمران، قد كان جزاؤهم عنها تعيينهم في الجهاز المخزني .

مدني: صار قائدا للجيوش الشريفية سنة 1907 والوزير الأعظم سنة 1909 ومنه لقبه «الفقيه» وشمل حكمه كلاوة إلى أولتانة دمنات وفطواكة، ورهوجدامة، وتوكانة وكدميوة أمزميز. وقد خلفه ابنه الأكبر محمد العربي على رأس الجيوش الشرفية.

التهامي: سمي باشا على مراكش في يوليوز/تموز 1909 (ظل في هذا المنصب طيلة 47 سنة متواصلة) وبهذه الصفة كان يراقب كل القبائل المعروفة بالجيش.

حاسي: سمي خليفة للتهامي وقايد غيغاية الدايرة (قبائل صغيرة دير مثل الرحامنة وتدرارة وعرب).

علال: عين باشا على دمنات.

حمو بن محمد: زوج لالاحليمة بنت مدني، قايد كلاوة وكل الجنوب إلى زاكورة وتنغيرت وإلى جانب هذه المشاركة في المخزن الحفيظي تحالفت كلاوة مع الأسر المخزنية الكبرى.

لالاربيعة: بنت مدني أهديت زوجة للمولى حفيظ سنة 1910.

لالاخدوج: بنت التهامي تزوجت عبد السلام المقري وزير المالية وتزوج مدني زينب بنت المقري.

ثلاث بنات لمدني تزوجن بقياد الدير: وريكي، بن ادريس، درودوري.

التهامي: تزوج بنت الحاج المهدي المنبهي، وزير مولاي حفيظ سنة 1918 أي بعد إقالة الوزير القديم.

كانت إذن عائلة الكلاوي تبسط سلطتها المباشرة على 500000 نسمة و35 ألف كلم2 كما كانت تتصرف في كل التداول النقدي وتسيطر على كل الأسواق والمواصلات والمبادلات. ويستولي الباشا الكلاوي على التجارة المهمة متنافسا مع التجار الأجانب ويبعدهم من السوق. وهو الوسيط الوحيد بين المشترين الأوربيين والفلاحين الموجودين على أراضيه.

والمزاحمة بين الشركات الأجنبية والقياد الذين كانوا يجمعون هم الإنتاج الزراعي الفائض لم تتم دون تشكيل تحالفات، ودون انفتاح على «السياسة الكبرى». وقد حاول القياد إقناع الأوربيين بأن عليهم التعاون معهم لكي يسيطروا على النزعات «الفوضوية» التي تثيرها القبائل. ويشهد على ذلك الحديث الذي دار بين لاسالاس Lassallas والتهامي الكلاوي في 8 يناير/كانون الثاني 1909 وكتبها الأول في تقرير رفعه في نفس المساء في مراسلته مع الإدارة العامة للشركة المغربية:

الكلاوي: «إنا نرغب مثلكم في السير نحو التقدم، نأمل أن يتمتع بلدنا بنمو اقتصادي يناسب ثرواته، وبمساعدة فرنسا. وسنبذل مجهودنا لكي نصل إلى النتائج التي تودونها. غير أنه بما أنكم ترغبون في إصلاحات حقيقية وليس في تجارب لا جدوى منها مثل ما حدث في عهد مولاي عبد العزيز، فاتركوا لنا الفرصة لكي نصبح أولا أقوياء وتصبح القبائل طيعة، وسنعطيكم كل ما تطلبون، إذن لن يستطيع أحد بعد ذلك أن يعارض الإصلاحات التي سيفرضها المخزن» .

غير أن صعود الكلاوي في المخزن الحفيظي بشكل سريع ومدهش سيظهر هشا حين يضطر المولى عبد الحفيظ (أو ارتاح) تحت ضغط الممثلين الفرنسيين، إلى إقالة نفس الأشخاص الذين أتوا به إلى الحكم. فخلال بضعة أيام انتقلت السلطات التي كانت بيد الكلاوي إلى أيدي أخرى . وهكذا نهبت ممتلكات كلاوة أو على الأصح الأراضي التي كان يحتلها، والمزروعات، وقام بذلك المغامرون الذين ينتهزون كل هزيمة. وقام كلاوة بدورهم بنهب كل ما كان قريبا من قواعدهم . وينقل تقرير انجليزي في سنة 1911 الوضعية السائدة بكل دقة:

«إن السمسار المحمي الانجليزي لعزيز روزيليس (؟) جاء المقابلتي عدة مرات ليشكو لي أن الحبوب المزروعة في مسفيوة قد حصدها رجال الكلاوي. وحين تحادثت في هذا الشأن مع متوكي حاكم الحوز في ذلك التاريخ أجبت بأن ذلك كان رد فعل لكون السلطان أعطى كل حبوب المدني والحاج التهامي إلى إدريس ولد الحاج منو الذي كان حينئذاك باشا على مدينة مراكش» .

لقد وجهت الضريبة إلى كل العشيرة. وحمو وحده هو الذي احتفظ بكلاوة وآيت واوزكيت وقد قيل أن خروج المدني كان مثل خروج الغزواني من المخزن المريني. وقد أخبر أن السلطان لا يرغب في رؤيته فأجاب على ذلك: «خلاني الله يخليه!» . وانسحبت إلى قطاع تلوات لتتأمل حول تحول القوى والسلطة ولكي تفكر في مزايا الحماية الفرنسية.

والسلطات الفرنسية هي المسؤولة عن إقالة الكلاويين، لذلك لم تتوان عن إبداء ندمها على ذلك القرار وحاولت أن تتدارك الأمر. إذ تحت سوط الكلاويين اختلفت التوازنات السياسية الاجتماعية وحل بدلها نظام طغياني أكيد ولكن تسهل السيطرة عليه من طرف قوى أجنبية تشعر بمسؤوليتها تجاه مستقبل المنطقة. أضف إلى ذلك أن إدريس ولد منو أدرك الإيقاع الجامح لزمن السياسي وكان حينئذ منهمكا في تجميع الثروات وتبديدها في أشهر قليلة، ففتح باب المناقشة على مصراعيه ضد القوى الاستعمارية الأجنبية الأخرى على أراضي الحوز وخاصة ضد ألمانيا. وبذلك أصبح هو الوسيط الضروري للمكتسبات الجديدة.

وقد كتب مكريت Maigret، وهو موظف في القنصلية الفرنسية بمراكش إلى روبير دو بيلي R.De Billy الذي كان حينذاك سفيرا لفرنسا في طنجة:

«لقد علم أمس خبر إقالة الحاج التهامي وقد أثار هذا الخبر انفعالا عميقا لدى الأهالي ولدى الأوربيين. وقد استاء الجميع من اختيار السلطان الذي وقع على إدريس ولد الحاج منو. ويذكر الكل القسوة والجشع اللذين يتصف بهما الحاكم الجديد لمراكش الذي لم يكن سوى باشا على القصبة، بل نرى اليوم أن حتى أعداء الحاج التهامي الكلاوي قد استاؤوا هم أيضا لإقالته. وبعض الأوربيين وخاصة السيد لينوكس Lennox أشاروا إلى أن القرار الشريفي قد اتخذ بتحريض منا لكسر شوكة عدوين لدودين وبالتالي تبرير تدخل فرقنا العسكرية. وقد قابلت الحاج التهامي بهذا الشأن منذ الأمس، وقد بادرني بالتعبير عن دهشته وأسفه لتخلي السلطان عنه وتخلينا نحن عنه لصالح عدو من نفس أسرته. «لقد وعدتموني بتقديم حمايتكم لي فهل أعتمد على هذه الحماية أم يجب علي أن أدافع عن نفسي بنفسي؟».

وقد ذكرته، في كلمات قليلة، أن أول واجب عليه هو الخضوع لأمر السلطان، والاستمرار في إدارة المدينة والحفاظ على النظام فيها إلى أن يصل خلفه. وإن هذه فرصة أخرى لكي يبرهن على إخلاصه لفرنسا أن اتبع نصيحتنا. وأنه بذلك سيخدم المستقبل. وقد أكدت له أن مفوضية بعثتنا لن تنسى خدماته الجليلة، ولكنه أفهمته في ذات الوقت أن موقفه إذا لم يطابق ما ننتظره منه فسيجلب له ذلك عواقب وخيمة.

وقد صارحني الحاج التهامي بأنه إذا كان محميا فرنسيا فلن يتردد: سيقبل القرار الشريفي، وسيخضع لنا كلية لندافع عنه في حالة ما إذا هدده الباشا الجديد لمراكش في شخصه أو أسرته أو في أملاكه الخاصة.

وقد تلقيت في هذا الصباح البرقية التالية من الدار البيضاء من مفوضيتكم: «إن السلطان بعد إجراء استعلامات جادة ينوي أن يقبل أعضاء أسرة وزيره الأعظم. قل للتهامي الكلاوي: إننا لن ننسى تعهداتنا إذا لم يضطرب النظام في مراكش» .

وأخيرا اختارت أسرة الكلاوي الحماية الفرنسية كطريقة وحيدة لوقاية وضعيته ولم يكن ذلك الاختيار سهلا كما يبدو اليوم في وقت قام الأدعياء في كل جهة في البلاد وكان الهبة ابن ماء العينين قد أعلن الجهاد وقدم من الجنوب واستقر كسلطان بمراكش بتاريخ 17 غشت/آب 1912. وقد استطاع الكلاوي رغم إقالته أن يلم حوله كل الذين كان يخفيهم الهبة بمن فيهم أنصار مولاي حفيظ وعدوه اللدود إدريس ولد منو. وقدموا للهبة مبايعة زائفة وكانوا في نفس الوقت يتسترون على رجال القنصلية الفرنسية واستدعوا الجيش الفرنسي وساعدوه بتقديم المعلومات فأدى ذلك إلى هزيمة الصحراويين .

وإذ ذاك عين الكلاوي من جديد باشا على مدينة مراكش وظل كذلك إلى استقلال المغرب .

القايدية العقارية: بين القطاع والحجز:

أول عملية قام بها الباشا الحاج التهامي هي تفكيك الشبكات التي حاربته وذلك بمبادرة لصالحه الفردي كل أراضي أعدائه التي استحوذوا عليها . وكان احتلال الأراضي يتم في غالب الأحيان بالعنف والرعب وبصفة خاصة أراضي مسفيوة. فكانت تنزع الملكية بشكل لا رجعة فيه من كل معارض أو رافض لدفع الضريبة. وفي ظرف بضعة أشهر استولى السيدان المنتصران الكلاوي والعيادي على آلاف الهكتارات وعلى الحقول الشاسعة المزروعة بالقمح طواعية أو بالإكراه .

لكن إذا كانت ظاهرة الاحتلال الفيزيائي العنيف لحقول القمح الشاسعة منذ 50 سنة خلت، هي القاعدة التي أصبحت تفرض نفسها تدريجيا وبوضوح في الحوز كنتيجة للعنف وللسطوة السياسية، فإن ما هو جديد ابتداء من 1912 هو جعل تلك المكتسبات مشروعة وضمان دوامها وحماية تلك الملكيات من طرف جيش دولة حديثة كما سنرى في الفصل التالي.

إن الجشع الكبير الذي أبداه كبار القياد على العقارات ونما في بداية القرن 19 ليصل إلى أقصى مداه في الحوز في السنوات الأولى بل الأحرى الشهور الأولى لدخول الفرق الفرنسية، ليستحق التحليل كخاصية أساسية لمرحلة القايدية هذه.

يجب أن نتساءل أولا لماذا تخلت الملكية العقارية الفردية وملكية المياه التي يمكن اعتبارها هي أيضا عقارا تلك الأهمية القصوى الفجائية بالنسبة للقياد وذلك حوالي سنة 1900. من المؤكد أن أعيان النظام والشخصيات المخزنية، طيلة القرن 19، كانت توفر وتكدس العقارات المهمة في الحوز، ولكن كان من المألوف أن إقالة وذهاب المستفيد يتضمن عودة الأراضي إلى الدولة لأن المسؤولية المخزنية هي وحدها التي يمكن أن تكون مصدر الإثراء. إن آخر إثراء هو الذي تم حين أصدر المولى عبد العزيز سنة 1900 أوامره بالحجز، واهتز لذلك الرأي العام في الحوز وانشغل به الناس لفترة طويلة، على ممتلكات باحمد عقب وفاته. ويظهر أنه كان يرمي بذلك الرفع من قيمة الحوز وتغذية بيت المال أكثر مما يرمي إلى الزيادة في المساحات التابعة للمخزن، وعلى كل فتلك الأراضي المحتجزة كانت ملكيتها تنتقل من شخص إلى آخر دون أن يتغير المستغلون للأرض بالمشاركة ودون تغيير نوع المزروعات. ونقصد أن تلك الأراضي أشبه ما تكون تابعة لمسؤولية المخزن. ولا نبالغ فندعي أنها كانت تشكل دخلا يعترف به المسؤولون الوزاريون أو القايديون، وإنما كانت تضمن في الواقع، نصيبا لا يستهان به من ذلك الدخل. وفي مجتمع يحرص أكثر على تقرير الحق ويؤكد مشروعية هذه المبالغ المالية مقابل القيام بالمهام، فمن غير شك أننا كنا سنسميها «اقطاعات terres d’apanges». غير أن من خاصيات المجتمع القايدي تفادى إقرار الحق ذلك أن التبرير القانوني لذلك الحق سيصعب غالبا إعطاؤه، وسيخلق سوابق ستقيد من حرية تصرف الأمير .

وانتقال القطاعات من الحائز القديم إلى الجديد يتم حسب ثلاثة أشكال:

1-الحجز عليها من طرف الدولة وبيعها في مزادات عمومية لصالح بيت المال .

2-حجز الدولة للمتلكات وبيعها إلى المستفيد الجديد.

3-دفع ديون الموظف المطرود، يدفعها المستفيد الجديد على أن يتحمل تغطية ممتلكات الأول لصالحه .

إن ما أصبح تدريجيا مجرد شراء للوظائف المخزنية لم يكن في البداية سوى مسطرة لتغطية الدولة لديون الموظفين المعزولين بواسطة مصادرة ممتلكاتهم التي غالبا ما اكتسبوها عن طريق استخدام السلطة والنفوذ.

والتعاقب السريع لموظفي المخزن عن طريق التوالي السريع لعمليات العفو، والإقالة لم يتح للمخزن الاحتفاظ بسجل مضبوط لملكياته العقارية ابتداء من سنة 1905.

ومن جهة أخرى فإن عبارات الاتفاقات حول الديون المغربية من الخارج تجعل من ملكيات المخزن إحدى الرهائن الأكثر ضمانة للدين، مع الجمارك، ولا تشجع المخزن على الإعلان على الملكيات التي حصل عليها بطريق المصادرة. أضف إلى ذلك أن التطور تم في اتجاه ترك حرية التصرف للماسكين على زمام السلطة المخزنية الجدد، في الاستفادة هم أنفسهم من أراضي الأشخاص المقالين.

كما لم يثنهم ذلك عن بسط أيديهم ليس فقط على ممتلكات السابقين المقالين، بل أيضا على ممتلكات الأشخاص الذين كانوا يساندونهم –لأن المناطق أصبحت منقسمة إلى أعداء وأصدقاء- بل حتى على أراضي جيرانهم، وذلك نظرا لانعدام سجل المساحة ومسطرات الأحكام المستقلة. وهكذا ارتفعت مساحات الأراضي المصادرة في الحوز حتى أصبحت تغطي كل المجال الواقع خارج القطاعات الأولى المسقية بصفة دائمة. فكان الطرد من الأراضي –وقد طبق مرتين ضد مسفيوة ولصالح الكلاوي- هو وحده الكفيل بإفراغ البقع الأرضية ونزع الحقوق في المياه بشكل كاف حتى يهتم بها القائد. والعمليات التخريبية مثل اقتلاع أشجار الزيتون، وحرق البيوت، التي قام بها كلاوة سنة 1894 وخاصة سنة 1907 في مسفيوة لم يكن الهدف منها فقط قمع التمردات بقيادة المخزن بل تهجير مسفيوة غير أنهم لم ينجحوا في ذلك نجاحا تاما.

السبب الثاني للاهتمام الجديد الذي أبداه القياد نحو الملكية العقارية يظهر أنه يعود إلى محاكاة سلوك الأجانب. فقد تعدد الاتصال بينهم وبين رجال الأعمال الأوربيين ، الذين يهتمون بشكل خاص بتملك الأراضي. والمعلومات المستقاة من المهاجرين الجزائريين والعائدين من الحج ، حول التطور الاجتماعي والسياسي في الجزائر، أقنعت المتبصرين أن ضمان الملكية هو وسيلة للإثراء وخاصية من خاصيات الأزمنة الحديثة. غير أن هذا لم يدركه كل الناس وخاصة الطيب الكوندافي الذي ظل إلى النهاية محتفظا، في سذاجة، بصورة سيد الحرب رغم أنها لم تعد تماشي العصر. وقد أرسلته الحماية باتفاق مع الكلاوي إلى حملات بعيدة في وقت كان فيه القياد الحذقون يتقاسمون الحوز .

حول هذا الموضوع يمكن أن نقابل كومتين من الأدلة تحاول أن تثبت من ناحية أقدمية الملكية العقارية ودقة تشريعها ومن ناحية أخرى كيف أن الملكية العقارية كانت عابرة وموضوعا لحجوزات دائمة وضمانها زائف بعقود لا تحمل محمل الجد إلا حسب القوة التي يمكن أن تسخر لها.

غير أنه في نهاية القرن 19 يظل أمرا صحيحا أن ما يكفل الإثراء السريع هو السلطة السياسية، والقوة والعنف، وحوزة سلاح حديث. إن المصدر الزراعي لهذا الإثراء إنما كان بدرجة أولى السلطة الممارسة على الرجال الذين يفلحون الأرض مهما كانت وضعية ملكيتها. فقد اكتسب أسياد الحرب نفوذا وثروات من خلال مصادرة الفائض الزراعي، وفرض ضرائب قاسية، وبحصاد الحقول لا بفلاحتها، وحين كانوا يقولون: «أراضي ملكي» فذلك كان يعني: «هذه مقاطعتي» ولنقل الكلمة: «هذه اقتطاعتي» (Mon fief).

إن ما تغير ابتداء من سنة 1912 هو الشعور بأن ملكية الأراضي أصبحت هي القاعدة الجديدة التي تضمن السلطة والنفوذ والثراء. وهذا قلب كامل للرؤيات التي عاصرها المتنازعون. فالمحظوظون حينئذ كانوا هم الذين يتوفرون على مواقع ممتازة. ولنتخيل مثلا دخول الفرق الفرنسية إلى مراكش في أبريل/نيسان 1911. فقد كان من المفروض أن يكون المتوكي هو القوة الكبرى إذ ذاك، ذلك أنه في ظروف مماثلة لظروف الكلاوي في سنة ونصف بعد ذلك، كان هو الذي سيحبك الدسائس مع الأجانب. ولو تم دخول الفرنسيين بضع سنوات من قبل لكان الكوندافي هو الذي سيقوم بهذا العمل إذ كان في تلك الفترة في أوج صعوده.

إن سكان الحوز الذين تابعوا باندهاش التوالي الغريب لعدد من الأسياد وربما اعتقدوا أن من الصعب تجاوز ذلك وأملوا أن لا يحدث تغيير في الوضع، قد شاهدوا فجأة قيام ثروات عقارية جد ضخمة واستقرارها، لصالح الأشخاص المقالين من مهامهم والذين كانوا قد فقدوا كل شيء بضعة أشهر قبل هذا.

وفي سنة 1918 حين توفي المدني الكلاوي عين التهامي الكلاوي خلفا له ولم يكن قد طرأ سوى تعديل بسيط على التوزيع الجديد للقبائل التي كان يحكمها. وقد رد المارشال ليوطي بلهجة حادة على الجنرال «دو لاموث de Lamothe الذي دعا إلى ضرورة انتهاز تلك الفرصة للحد من سلطة عشيرة الكلاوي:

«إن الوضعية في أوربا وفي جنوب المغرب جد مضطربة ترغمنا على الاعتماد على أشخاص لهم وزنهم، أذكياء ونشيطين ويمكن الاعتماد عليهم. والتهامي أحد هذه الرجالات فهو الوحيد من كلاوة الذي تتوفر فيه كل هذه الشروط. ولكن يجب الاعتماد على تعاونه معنا دون تحفظ. ذلك أني متأكد أنه لن يوافق على التخلي عن حكمه على مدينة مراكش. يجب ألا يغيب عن أذهاننا كل ذلك العنف الذي سبغ التنازع على هذه الباشوية سنة 1912 حتى ندرك جيدا إلى أي حد كان هذا المنصب محط اهتمام القياد الكبار في الجنوب. باختصار نحن الآن في حاجة إلى كلاوة أكثر من أي وقت مضى وخاصة التهامي. ولا تسمح لنا الظروف الحالية بأن نبخل عليه بإسناد هذا المنصب له. يجب إذن أن نتابع المسير. وسنرى بعد الحرب…» .

والحقيقة أنه بعد الحرب كان من الضروري أن يتسع مجال حكم الباشا ليشمل عددا من القبائل الأخرى بمناسبة «الحركة التي حدثت في تودغة وتافلالت. وقد أخذت إدارة الحماية سنة 1924 تحاول زعزعة قيادات الطيب الكوندافي ، وعبد المالك المتوكي والتهامي الكلاوي، وذلك لقلقها من تزايد قوة كبار القياد. وقد عهدت بهذه العملية إلى ضابط فرنسي هو أورتليب ORTHLIEB الذي سجل في حيثيات تقريره:

«إن الباشا وابن أخيه سي حمو قد تقمصوا الآن بجد أدوارهم كأسياد كبار، لقد أصبحوا يعيشون حياة مترفة يوفرها لهم دوام مداخيلهم المالية الناجمة عن التنظيم الحالي أي الاستغلال المكثف للقبائل. ويعلمون أن مراقبتنا ستحد من إمكانيتهم في هذا المجال ولذلك يفعلون كل شيء ليعوقون كل تحسين لطريق تلوات وإقامة الخط التلفوني وإلحاق ضابط من الجيش» .

ويبدو أن السلطات المحلية للحماية تحاول الحد من نمو سلطة الكلاوي، دون أن تكون متأكدة من أن الدوائر العليا لها نفس الموقف. ذلك أن كل تقرير يبلغ يبعث به ضابط من ضباط الشؤون الأهلية إلى الرباط ينقل فيه مطالب هذه القبيلة المضطهدة أو تلك، يرد عليه بطريقة متأففة بحجة ربح الوقت أو إثارة وضعيات مؤقتة صعبة. وقد تراكمت إرساليات الاحتجاج المتعلقة بالابتزازات والتمردات، والقمع الضروري والنزوح من القرى بل بالأحرى دفع بأفخاذ بكاملها إلى الإفلاس . وقد قدم أورتليب إلى المارشال ليوطي بتاريخ 12 يوليوز/تموز 1924 تقريرا واقتراحات محددة لجعل حد للطغيان الذي يمارسه الحاج التهامي الكلاوي. وقد وافق المقيم العام على الحيثيات واستنتاجات التقرير، غير أن حرب الريف قامت إذ ذاك بحيث أخرت وسمحت للكلاوي من جديد بأن يلعب دور المنقذ الذي لا يستغنى عنه.

وقد أصبح الحاج التهامي الكلاوي سنة 1930 قوة مالية. وإذا كانت قوته السياسية قد أتاحت له غداة 1912 اغتصاب مجالات مالية كبرى وأهم أراضي الاقتطاعات apanage في الحوز فإن ما حدث هو العكس وذلك فيما بين الحربين العالميتين: فالمجالات التي كان يملكها أتاحت له اهتمام رجال الأعمال بها وكذلك رجال السياسة وبالتالي ضمان وتوسيع تطلعاته السياسية .

ب-ثورة الباشا:

كان من الصعب دائما تقدير ملكية الحاج التهامي الكلاوي وهو على قيد الحياة. وقد حاولت مصالح الحماية ذاتها عدة مرات ورغم السرية التي كانت تتحراها، أن تضع جردا لملكياته غير أنها لم تستطع قط أن تنهي ذلك العمل نتيجة للضغوط القوية التي مورست عليها لصرفها عن ذلك. وقد عرفت فقط الملكيات العقارية التي صرح بها الباشا كضمان لهذا الرهن أو ذاك القرض. وإثر مصادرة أمواله سنة 1958 كنا نأمل في أن نحصل على بيان تام على الأقل فيما يخص الملكيات العقارية، غير أن ذلك لم يحدث: إذ انه بين وقت وفاة الباشا ونشر ظهير مصادرة ممتلكاته وإنشاء سجل لها ، مرت فترة طويلة بحيث استولت على جزء من ممتلكاته غير المسجلة الشخصيات المهمة المحلية أو أفراد الجماعات التي اغتصبت ممتلكاتها في السابق .

وقد قدر مستشارو الكلاوي الألمان ديونه بحوالي 50 مليون فرنك، سنة 1931، «وبهدف التعامل مع دائن واحد وتوضيح وضعيته، ويطلب من الدولة إقراضه هذا المبلغ مقترحا إعطاء ملكياته الموضوعة في الرهن مقابل قيمة مماثلة» .

فأنجز إحصاء لثروته العقارية وقدرت قيمتها حينذاك بـ 139 مليون (70 مليون فرنك 1974) موزعة كالتالي:

مراكش المدينة 16%

حوز مراكش 26%

الرباط 21%

الدار البيضاء 19%

طنجة 18%

ولم يأخذ في الحسبان في هذا السجل التقديري سوى الملكيات التي لها رسم عقاري.

وبمناسبة هذا البيان الذي كان الغرض منه تغطية القرض وضع أيضا سجل تقديري للملكيات المنقولة وخاصة في الميدان المنجمي . وقد كان التهامي الكلاوي يملك في الواقع أسهما في مناجم بوعزير Bouazzer (الكوبالت والسيانور) مشاركة مع جماعة CTM Epinat. وقد ارتفعت حصة الأسهم من مليون سنة 1936 إلى 53 مليون فرنك سنة 1953 . (تقريبا 500000 فرنك 1974). وقد كان الباشا يحصل على مداخيل تقدر بـ 2 مليون فرنك سنة 1940 و38 مليون سنة 1953 (حوالي 800000 فرنك 1974) وذلك من مناجم ايميني (المنغنيز) التي تستغلها شركة موكتا الحديد MOKTA EL HADID. وفي الحوز ذاته كان الكلاوي يملك ثلاث معصرات للزيت حديثة و4 معامل للحلفاء النباتية.

الملكيات العقارية

لقد سبق القول أن الأراضي التي يلكها الكلاوي قد اغتصبت كلها تقريبا منذ الشهور الأولى للحماية. ولكن هذا المجموع أصبح ملكية خاصة له خلال فترتين: أولا في السنوات 1918-1924 فوضع رسوم الملكية على الأراضي التي ورثها عن أخيه والأراضي التي كانت في يد القبائل، وبعد ذلك بين 1947 و1950 سجل في اسمه عقارات الدومين الخاص للدولة Domaine Privé de l’Etat التي كان يحتلها بصفتها اقطاعات منذ سنة 1912.

وأساس الثروة العقارية للكلاوي في الحوز يأتي من ثلاثة مصادر: طرد مسفيوة من أراضيها، أراضي اقطاعات الجيش، وراضي الدول Domaine de l’Etat.

وأراضي كلاوة لا تنفتح شمالا على حوز مراكش، إذ كان مدني يرغب منذ البداية في تحطيم مسفيوة ليضمها مع توكانة في القطاع الكلاوي بحيث يكون في حوزته شريط من الأرض متصل إضافي يمتد من ورزازات إلى مراكش.

وفحص الخريطة الموجودة خارج النص أن عائلة الكلاوي قد نجحت عمليا في الاستيلاء على أهم المساحات الكبرى خارج مخروط مسفيوة ووصلت إلى أسوار الجنوب الشرقي من المدينة. ونلاحظ أن المجالات الواقعة خارج السطوح الأولى لمخروطات وريكة –رحمات من ناحية، ومن ناحية أخرى الزات، كلها متفرقة ومساحتها كبيرة، وبعكس ذلك القطع الأرضية الصغيرة (رقم 22) متجمعة وتقع داخل نفس المخروط.

وبغض النظر عن الاعتبارات الخاصة بظروف اغتصاب كل ملكية فإن دوافع توزيع الملكية في المجال يمكن أن نعرضها كما يلي:

أ-إن السطوح الأولى من المخروط قد احتلت في زمن قديم من طرف سكان أكثر كثافة. اقتسموا فيما بينهم قطاعات «السقية» في أجزاء جد صغيرة، تقسم الأرض إلى تلال معقدة مصرف المياه، والطرقات والحواجز والجدران الصغيرة.

ب-إن هذا المجال لا يمكن أن يهم الملكية الكبرى. فمن الصعب إجلاء السكان العديدين عنها، والذين لا مورد للعيش لهم سواها وبالتالي فهم متمسكون بها بكل قوة. أما في السطوح المرتفعة أو خارج المخروط فالأمر بعكس ذلك. إذ لم يستطع السكان الأقدمون إقامة ري قوي. كما أن تلك الأراضي كانت تحتلها أساسا المواشي الصغرى (الغنم والماعز). فكان من السهل طرد الرعاة منها وجعلها مسلكا خاصا.

ج-وأخيرا فلا قيمة للأرض في الحوز إلا إذا كانت مسقية. وبديهي أن الملكيات الكبرى تتطلب قسطا وافرا من الماء. واغتصاب الأراضي الموجودة في أعلى المخروط أو خارجه يتضمن مصادرة ضخمة لحقوق المياه ولا يمكن القيام بها إلا ساقيات مختلفة. وبالتالي غالبا ما تقع الأراضي على مجالات مختلفة.

وبعكس ذلك، فرغم قوة الكلاوة باشا مراكش، ورغم شدة رغبته في إقامة ضيعة كبيرة بالقرب من آيت ورير في السطح الأول من الزات، يشرف عليها القصر الذي كان يملكه، فإنه لم ينجح في أن يستولي على أكثر من 30 هكتار في عشرة بقع أرضية.

واحتلال الكلاوي للأراضي في حوض نفيس قد استخدم إستراتيجية مخالفة. فأولا بما أنه كان باشا على مدينة مراكش فقد اقنع إدارة الحماية بضرورة دمج الدائرة القديمة لباشا المدينة مع باشا القصبة. وبهذا ضم قيادة دائرة مراكش الضاحية مع باشوية مراكش. ثم طبق ما يمكن تسميته بـ Guichisation أي إرجاع تلك الدائرة تابعة لأراضي الجيش يعني تغيير الوضعية القانونية للسكان المقيمين في نفيس لإدخالهم في إطار سياسي قانوني جد مائع. والباشا وحده فقط، يستطيع الفصل في الأمور في مراكش. وفي سنة 1914 بعد أن كانت أراضي الجيش جزءا من أملاك الدولة ، أبعدت النصوص التشريعية هذا القانون العقاري من مسطرات التدبير، بحيث لا نعرف وضعية الجيش سوى عن طريق النفي: نعرف أنها ليست أراضي جماعية ، وليست أراضي الدومين وطبعا ليست أراضي ملك بما أنه لا يجوز التصرف فيها .

وباختصار، احتل باشا مراكش بصفته قائدا للجيش كل الأراضي المعروفة بأنها أراضي اقطاعات، ولكي لا يخلق مشاكل مع الجماعات المعنية فقد قبل الاستيلاء على الدومين الخصوصي للدولة الواقع في الضفة اليمنى لنفيس على «سقية» سعادة .

وفيما بين 1923 و1929 تنازلت الدولة للكلاوي عن العقارات التالية وذلك حسب ما ورد في التقرير الذي أشرنا إليه في الهامش:

سنة عقار هكتار آلاف الفرنكات سنة 1929 فرنك/هكتار 1974
1923 سعادة 2300 150 30
1925 سويهلة 500 40 40
1926 تاملالت 1500 100 33
1928 كولف وحانوت البقال 1000 800 400
المجموع 5300 1090 200

وينتهي كاتب التقرير إلى أن هذا التنازل حدث مقابل دفع المبالغ السنوية «التي لم تكن تمثل حتى القيمة الإيجارية لتلك الأراضي».

بالإضافة إلى «عمليات الشراء» من الدولة فقد منح الباشا حق التمتع مجانا بـ 980 هكتار على ساقية «اجديدة وتامسكفلت باسم أنها إقطاعة لصالح قايد الجيش على سنة 1949 أي التاريخ الذي وضع فيه رسوما لهذه الأراضي في اسمه هو بكل بساطة.

وأخيرا حسب ما يعرف رسميا كان الباشا مؤجرا لأكدال الكبير وأكدال باحمد أي 150 هكتار مقابل مبلغ 150 ألف فرنك (سنة 1932) أي أراضي تعتبر في مراكش علامات السيادة والجاه.

وفي موازاة الممتلكات العقارية للكلاوي استطاع خدامه خاصة الحاج ايدر والحاج محمد البياز أن يستوليا على مساحات معادلة لمساحات الكلاوي إن لم تكن تفوقها وذلك تحت حماية سيدهم. فمثلا استطاع البياز أن يضع في اسمه رسوما لما يقرب من 5000 هكتار .

حقوق الكلاوي في الماء:

رغم الطابع المدهش لتمركز أراضي الحوز في أيدي عائلة وأقرباء الكلاوي وحاشيته فلم يكن له أي إجراء مشترك مع اغتصاب المياه.

ففي حوض الزات استطاع الكلاوي سنة 1953 أن يستحوذ بمفرده على الحق المطلق في توزيع المياه، أولا برفضه حق التقدير حتى لا تتدخل الإدارة في تقنين وتوزيع المياه على شاكلة ما كانت تفعله في أحواض أخرى (نفيس، غيغاية، أو ريكة).

وفي بحث أجراه ب.روش P.Roche وفي عهد الحماية أظهر أن الكلاوي كان يصادر المياه في أعالي واد زات ويوزعها بشكل مخالف:

كان يستعمل جزءا منها لتوفير أفضل ري لملكياته الواقعة في مسفيوة، خاصة أراضي الساقيات المعنية:

بالرغم من سقي ملكياته سقيا جيدا خاصة التي فيها الأشجار كان يتبقى له الماء الكافي لسقي الملكيات الواقعة في أسفل الواد خارج مسفيوة . وقد تسبب هذا في مشاكل النقل التي يتغلب عليها بطريقة غريبة ماكرة بل اقتصادية إذا تصورنا مدى ندرة وقيمة الماء. ولنذكر هنا حالة أخذ الماء من واد زات يصل حتى يسقى به ملعب الكولف وحدائقه الواقعة على بعد كيلومترات من الأبواب الجنوبية الشرقية لمراكش. وحتى يتم ذلك يسير الماء في مجرى معقد يناهز طوله 50 كلمترا. فينطلق الماء من الساقية الأولى الناجمة عن فيضان واد زات ثم يعبر واد الحجر في ساقية فيضان هذا الواد ثم بعد تعرجات كانت تشمل مصارف المياه العارية في قنوات بعد خروجه من الأرض يصل إلى الكولف. ولنا أن نتصور مقدار ما يضيع من المياه بفعل التبخر ومدى التسرب في المجاري التي تكون عادة جافة لأنها ساقيات تتكون بفعل الفيضان. بالإضافة إلى ذلك كان يحدث شيء من نوع آخر: فمرور المياه في مجرى طويل كهذا كان يثير أطماع الذين لم يروا قط مياها جد قريبة من حقولهم، وهذا أمر مفهوم. وكان الكلاوي ينذرهم بواسطة وضع حراس «ثقاة» من رجاله في كل الأماكن التي يمكن تصريف الماء منها. وخلال النهار كان الماء يصل إلى هدفه المحدود إما في الليل فكان أولئك الحراس هم أول من يبيع ذلك الماء إلى المستعملين الشرعيين الذين تقع أراضيهم بالقرب من ممر المياه.

وكان الكلاوي يؤجر جزءا من مياهه إلى مزارعي مسفيوة الذين كان هو نفسه قد نزع أملاكهم منهم. ولم يكن الأمر في الحقيقة سوى ضمان الحصول على ضريبة مقابل ماء النهر. ومعنى ذلك أنه كان يقوم بما لم تستطع إدارة الحماية القيام به بما أنها كانت تعترف بالملكية الشخصية التي تنقص من مقادير المياه بالنسبة للأملاك المخزنية (السابقة 1914).

وأخيرا كان يؤجر المياه إلى مستفيدين خارج مسفيوة خاصة في الرحامنة، شمال وشمال غرب شبكة واد زيت. ونفس مشاكل النقل المذكورة سابقا كانت هنا موضوعة أيضا.

ونلاحظ هنا أن سحب الماء من أسفل النهر على حساب أعلاه يتجاوز إطار الاحتياجات في حالة الكلاوي: لقد أصبح عنصرا مهما في نسق استغلال مصادر المياه في الحوز الذي أصبح يوفر مداخيل مهمة بواسطة عقود الإيجار. ولم يعد يطرح أي مشكل من حيث أعلى أو أسفل النهر بما أن الماء كان يمر من صهريج إلى آخر عابرا حوض النهر حتى ولو كان جافا.

وحل آخر كان يمكن في إجبار الجماعات الواقعة على أعلى النهر والتي لها أسبقية طبيعية من حيث حقها في السواقي على التخلي عن تلك الحقوق إلى المالك الذي تقع أراضيه في أسفل النهر. وهذا معناه الاحتفاظ بأسبقية أعلى النهر بكاملها على حساب أسفله وذلك باغتصاب تلك الأسبقية وتطبيقها لصالحه.

وكان هذا المبدأ غالبا مدعما ومساندا على هذه الشاكلة: فلم يكن يكتفي باقتطاع كمية الماء اللازمة لري زراعات قطاعه الخاص من الساقية، بل يزيد في قوتها بإعادة حفرها وتوسيعها حتى يوصل الماء إلى الأراضي الواقعة في أسفل النهر.

ونجد نموذجا مماثلا على واد نفيس حيث كان الكلاوي يستعمل ساقية تاركة كان يملكها المخزن ثم المعمرون لكي يجلب الماء بمقدار إجمالي يصل إلى 130/ل/ث تروي 600 هكتار التي كان يملكها في قطاع السعادة.

ونموذج آخر جد معبر تمدنا به ساقية تازمورت أول ساقية تنبع من واد غدات في مدخله إلى السهل، ومصرفها يقع على الضفة اليسرى، في أراضي قبيلة كلاوة. وكانت تلك الساقية ملكا خاصا للكلاوي .

ولم تكن تلك الساقية، في زمن سابق، سوى مصرف بسيط لري مزرعة زيتون كان يملكها الكلاوي وتقع على مقربة من زاوية سيدي رحال غير أن قوتها زادت بشكل محسوس منذ سنة 1914 على حساب ساقيات أسفل النهر. وبما أن الماء لم يعد في الإمكان استخدامه كله في مزرعة الزيتون فقد زيد في طول الساقية. ونتج عنها مباشرة قناة أخرى تخترق ساقية أفياد بواسطة قناة، بعد أن تمر في مطاحين الكلاوي، تصب في واد غدات الذي خرجت منه في نقطة أعلى. ثم يؤخذ الماء ثانية في أسفل النهر بواسطة ساقية تاخيارت الواقعة على الضفة اليمنى، ولكنه لا يدخل ضمن تقسيم مياه هذه الساقية (رغم أنه يزعج المستعملين): بل كان يستعمل لسقي أراضي الكلاوي أو يؤجره لآخرين. وقبل أن يصب الماء في الواد فقد تطلب نقله أشغالا كبيرة لكي يخترق التضاريس الصعبة الموجودة في سفح الجبل (حيطان للتدعيم، أنفاق، سواقي مرتفعة عن سطح الأرض).

وكان تركيز الكلاوي للمياه في واد نفيس أمرا ملحوظا. فبينما كانت الملكيات العقارية تغطي 8% من المساحة المزروعة في مخروط واد نفيس، كان الباشا يستولي على 15% من مجموع منسوب تدفق مياه النهر كملكية شخصية، و3% كإقطاعة على «الجيش» أي 18% من مجموع المياه .

أما على مياه واد وريكة فقد توصل الحاج التهامي الكلاوي سنة 1918 إلى أن يجعل إدارة الحماية توافق على أن يستولي هو على ثلثي مياه تاسولتانت، وهي ساقية ممتازة. ولم يكن ذلك بلادة من طرف الإدارة بل لأن موظفيها كانوا «يرفعون أيديهم… عاجزين» أمام قدرة الكلاوي على غلبة كل معارضيه. وإلا ما القول؟ فحين أخذت الإدارة العامة للفلاحة والاستعمار تضع جردا لحقوق المياه على وريكة، اكتشفت أن الكلاوي كان يملك ثلثي منسوب هذه الساقية. ولكنها نجحت في جعل الكلاوي بصفته «أميرا شهما» يقبل التعويض الذي أعطته إياه ويجعل الشركاء الذين لهم الحق أن يخلوا المكان. ولكنها اكتشفت بعد عدة شهور أن حقوق الكلاوي على تاسولتانت لم تكن تبلغ 3/2 ولكن ثلثا واحدا. وأن الثلثين الباقيين هما ملك لمسفيوة التي يجب التفاوض الآن معها… بواسطة الباشا بالطبع! مسخرة حقة قام بها الطرفان بجدية وبكل الحيثيات المتبعة: «إن حقوق الماء في قطاع تاسولتانت ستكون غير مهمة، بدرجة محسوسة، ثمل ما كان عليه الأمر من قبل، اعتمادا على المعلومات التي أوردها في 9 ماي/أيار 1922 مراقب الأملاك المخزنية الذي أكد أن تاسولتانت تتوفر على 3/2 منسوب مياه واد وريكة في الصيف.

«وهذا التشريع الذي طبق طيلة المدة التي كان للباشا فيها حق الانتفاع ببلاد تاسولتانت لن يعترف به الآن من طرف المستعملين في أعلى النهر خاصة من طرف القائد الوريكي قريبه. وسيقدم هؤلاء رسوما تثبت أن كمية المياه من واد وريكة التي لهم الحق فيها، في المتوسط وفي حالة انخفاض مستوى المياه ستعكس. أي أن تاسولتانت لن تستفيد سوى من ثلث الكمية أي نصف ما كان موجودا ».

وبعد بضعة أيام قام أحد رجال الإدارة العامة للفلاحة والاستعمار بالإدلاء برأيه في مذكرة سرية تحمل تاريخ 30 أبريل/نيسان 1924:

إن المخزن يستولي على ثلثي مياه الصيف وتستولي قبيلة وريكة على الثلث وإذا استطاعت هذه الأخيرة ببعض المراوغات والحيل أن تأخذ أكثر من ثلث منسوب الواد فذلك الواقع لا يعني حقا، ولكن تعسفا يجب أن يوقف عند حده. ولا جدوى من الاعتقاد أن قبل إقامة الحماية، وباعتبار شكل وروح الحكومة الشريفة القديمة، كانت قبيلة وريكة تأخذ ثلثي منسوب الواد والمخزن الثلث فقط بل العكس هو الذي كان يحصل أي أن المخزن كان يستولي على منسوب المياه التي يرغب فيها حتى ولو أدى الأمر إلى جفاف النهر. وإذن فإذا تمسكنا بممارسات رجال المخزن فإن مجموع مياه واد وريكة كانت تسحبها ساقية المخزن حال ارتفاع مستوى المياه. غير أن قيادة واحدة انتصرت ضد هذا التعسف فقبل ضمنا أن الوريكيين لهم الحق في ثلث مياه النهر أثناء فصل الحرارة.

وهذه الحالة التي وجدناها سنة 1912 قد استمرت إلى يومنا هذا.

ذلك أن بلاد تاسولتانت بما أنها كانت إقطاعة للباشا الكلاوي فمن الصعب الاعتقاد بأن هذا المؤجر سيسكت عن المساس بحقوقه والمساس بالعرف الجاري به العمل.

«فمن العبث أن نعارض هذه الوضعية الفعلية الموجودة قبليا والتي تولدت عنها وضعية الحق بالعقد الموثق بتاريخ 4 رمضان 1333 الذي ينص على أن الوريكيين لهم الحق في الثلثين والمخزن في الثلث».

«فلصالح الأخلاقية الإدارية من الأفضل أن لا نعير اهتماما لهذه الوثيقة لننتظر أن يؤكد عكس ذلك الأشخاص الذين سيعينون كممثلين للدولة».

وأنا كشاهد على هذه الحقبة أتذكر أننا في قرارة أنفسنا كنا نعتبر دائما أن القضية قد سويت على أساس عقد 4 رمضان 1333 بأن نسبة الثلثين هي للمخزن والثلث هو للوريكيين. ونعترف حقا أننا لم نحصل قط على النسخة الأصلية للعقد.

ثم ما قيمة هذا العقد؟ وفي أي شيء يلزم الدولة؟ ولكي يمكن معارضة الإدارة به كان لا بد أن تثبته هي».

والواقع أنه في كل تلك الإجراءات نشعر أن الإدارة لم يكن أمامها طريق سوى ما يرغب فيه الباشا الذي يدفع دائما شركاءه ثم مسفيوة ثم الوريكيين وأخيرا صهره القايد الوريكي وفي كل مرة كان هو الحكم الذي تبعثه العناية الإلهية وهو وحده القادر على أن يعرف العرف، وينقد الإدارة من المأزق الذي وضعها هو نفسه فيه من جراء فرض الحلول التي يريدها هو.

ويجب أخيرا أن نسرد استخدام الوسائل الأكثر سرعة والتي غالبا ما تثار في التحريات، تلك الوسائل التي يمكن في الإلقاء بالحائزين على حقوق المياه في جوف الأرض (المطمورات) إلى أن يأتي أهاليهم بعقود الملكية .

وبديهي أنه ليس لنا أي دليل على هذه الممارسات غير أننا مقتنعون بأنها تظهر متلائمة مع نظام الاغتصاب والتطاول على القايدية.

مداخيل الباشا:

بما أن الحاج التهامي الكلاوي يكون نموذجا متطرفا للقايد الكبير في حوز مراكش يبدو أنه من المفيد بحث أصول مداخيله على حسب المستطاع معرفته من مصادر موثوقة أي قبل أن يصبح قويا ويمنع كل تحري حوله ويخفي كل معلومة. وبفضل التقارير المحفوظة في أرشيف وزارة الحربية وأخرى محفوظة في إدارة الشؤون السياسية (مصلحة الاستخبارات العامة الفرنسية) ، استطعنا أن نلقي بعض الأضواء على عالم من الممارسات الخفية الفعالة استطاع بواسطتها الباشا أن يصبح ثريا عن طريق الاقتراض. وقد كان من الممكن أن لا تعطي هذه الدراسة سوى إفادة من قبيل الحكايات وبالتالي مظاهر تبعث على الغثيان لو لم تكشف لنا الوسائل المستخدمة نموذجية تحريف الأعراف والمعاملات القديمة وتقنين ذلك بقوانين عصرية حتى تعطي صبغة المشروعية للامتيازات القايدية. رغم شهرة الباشا بهذه الممارسات لم يكن هو المحتكر الوحيد لها! ففي الحقيقة كان كل قايد وكل تابع له يتوفر على قسط من النفوذ في النظام القايدي، يستفيد من الامتيازات كل حسب إمكاناته .

 

بنية المداخيل:

راتب عن الوظيفة 2% من مجموع الدخل

تخفيضات ضريبية 20%

أرباح وإعفاءات من الضرائب 4%

ابتزازات «وضريبة الحرب» 14%

مداخيل عقارية حضرية 8%

مداخيل عقارية قروية 20%

مداخيل من المناجم 32%
ـــــــــــــــــــــــــ
100

ومن الممكن تقدير المجموع سنة 1953 بـ 5 مليون فرنك (1974) والتخفيضات الضريبية التي تكون فصلا مهما من المداخيل هي من خاصيات آثار «القايدية الضريبية» وهي فترة كانت أهم المداخيل تتكون من ضريبة الحرب أي «الفريضة» أي «المساعدة الواجبة اتجاه السيد لكي يغطي نفقات مسؤوليته، على جميع السكان الرعايا. (الغير المعفاة من الضريبة بظهير خاص. انظر تامصلوحت) وهذه «الفريضة» السيادية تحولت إلى الفرض أو ضريبة الرؤوس في عهد الحماية .

ولم يعرف أبدا مبلغ الفرض الذي كان يؤدي للباشا. وتدور مختلف التقدريات حول مليون فرنك (1974). ونعلم هذا فضل التسوية التي تمت بين الباشا وإدارة المالية سنة 1931 لإيجاد حل لضمان تغطية أقساط القرض. فقد قدر الفرض سنة 1935 مثلا بـ 1.8 مليون فرنك (أي 1.3 مليون فرنك سنة 1974): كان الحاج التهامي يحتفظ بـ 10% منه (أي 180 ألف فرنك) ويؤدي مليون فرنك كتقدير لتأدية ضرائبه إلى قباضة مراكش، والباقي لتغطية الأقساط السنوية للقرض. وإذا كان المبلغ المستحق لضرائبه أقل من مليون، يحتفظ له بالفرق .

وقد أثارت قضية الفرض عدة مراسلات ذلك أن الباشا رغم انه لم يكن وحده المستفيد رسميا من اقتطاع يوصف بأن مخالف للعصر وأنه «فيودالي»، فقد كانت تصرفاته فيما يخص الضرائب تثير أعصاب كل المصلحين. وقد قام المحامي زروق المنتدب في المجلس الثالث يعارض الحكومة في العبارات التالية:

«من البديهي أنه يجب التخلي عن نظام النسب المائوية المقتطعة في ظروف غامضة ويجب منح القياد والشيوخ، خدام الدولة مرتبات حسب المهام التي يؤدونها. ففي ذلك ضمان لهم وللملزمين بدفع الضريبة. فهناك 560 قايد يتقاضون 180000 مليون أي في المتوسط 327000 فرنك لكل واحد، و3000 شيخ يتقاضون 120 مليون أي في المتوسط 40 ألف فرنك لكل واحد سنويا. وهذه الأرقام كافية للدلالة على عدم جدوى هذا النظام إذ لا يمكن أن يصدق أحد أن الشيخ مهما كانت حالته متواضعة يستطيع أن يعيش بمرتب 40 ألف فرنك سنويا يكاد يعادل ما يتقاضاه رئيس فرقة عمال» .

وبالإضافة إلى الفرض والتخفيض من الترتيب كان الحاج التهامي يستفيد من تأدية إجمالية تبلغ 45000 فرنك يتقاضاها عن مدينة مراكش كتعويض عن الإعفاء القديم الذي كان يستفيد منه مقابل الرخصة (مكوس وحقوق الإخلاء) وري مجاني لكل حدائقه وملكياته الواقعة في المدينة.

ولائحة الابتزازات والضرائب الخصوصية طويلة وبدون شك ناقصة. فداخل مدينة مراكش ذاتها كان الباشا يتقاضى باسم شرطة الليل والحراسة مبالغ نعتبر أنها شكلا من العصابات أو الشرطة الخصوصية . وكان يقتطع ضرائب خاصة أخرى غير محدودة يأخذها من أصحاب الدكاكين والخرازين وبائعي الزيوت والدباغين وبائعي الفواكه الجافة والصباغين وسوق الحبوب والموازين والكيالين والبغايا .

أما في البادية فقد كان الباشا يفرض على سكانها الاعتراف به كخليفة حقيقي للسلطان وكان يتشدد في المطالبة بتقديم نفس الاحترام ونفس الانحناءات التي تقدم حركيا وماديا، والتي كانت تقدم للمثل السابق للسلطان في مراكش. فكان يتلقى «الهدية» في كل احتفال كبير، وكانت تعبيرا عن مبايعته وتطور ذلك تدريجيا نحو الاعتراف بسيادته.

وتلك الهدية التي كانت في السابق احتفاء عينيا أصبحت بعد ذلك تأدية إجبارية نقدية. فبعد حصاد 1937 نظم الباشا جولات في الجنوب لاستلام المبالغ الضرورية له ولحاشيته للقيام بزيارة ودية إلى أوربا وعند نهاية هذه الحملة عاد بمبالغ ضخمة من المال ولكن في نفس الوقت ملأ سجنه الخصوصي في تلوات بمآت من المتمردين .

وبالإضافة إلى «الهدية» و«المونة» «التموين»، كان الباشا يتلقى نصيبا من الأغنام في فصل الربيع وآخر في عيد الأضحى (كان كل شيخ يوجد في مقاطعته يعطي خروفا). أما حوالات التخفيض على «الترتيب» التي كان يتمتع بها رسميا الشيوخ فقد كان هؤلاء يتسلمونها ويعطونها لرجال الباشا إجباريا وبهذا كان يستولي على مجموع التخفيضات. وكان المؤجرون في تاسولتانت وأغواتم الذين توسط لهم الحاج التهامي ولم ينجح في الحصول على وقف تنفيذ إجلائهم من أراضيهم بغرض توزيعها لصالح الاستعمار، قد حصلوا على تعويض، مقابل ذلك الإجلاء، لكن دفعوا نصفه إلى الباشا ليعبروا عن امتنانهم له على تدخله لصالحهم. وفي القطاع الذي كان تحت مراقبته كان الباشا يتمتع حسب ما يقتضيه الحال، بحق اقتطاع أربعة أيام عمل دون أجر من كل أسرة (كلفة) حتى يعتنوا بزراعاته الخاصة . والمحاصيل لم تكن فقط تحصد وتنقل إلى أماكن الدرس مجانا وكأشغال شاقة ولكن السيد كان يفرض على القبيلة أن تنقل المحاصيل على نفقتها الخاصة إلى أماكن التخزين أي إلى تلوات ومراكش . ونجد في هذا التقرير المجهول المصدر ما يلي:

«يملك الباشا أغلبية الأراضي الصالحة للزراعة المحيطة بتازرت . والقائم عليها من مهمته توفير اليد العاملة اللازمة، فكان يسوق أربعين أو خمسين رجلا يعملون بالإكراه بحيث أن كل فرد كان يجد نفسه يؤدي يوما كاملا من العمل كل أسبوع دون أجر. ومن يرفض الخضوع لذلك كان يزج به في السجن . وطبعا كان العديد منهم يرفض أن يعامل كالعبيد فكانوا يهاجرون تازرت ويتوجهون إلى الدار البيضاء أو الرباط أو أماكن أخرى. وقد غادرت 100 أسرة تازرت منذ صيف 1935. وبذلك انخفض عدد العمال إلى عشرة أو 15. ويبدو أن تازرت تمثل نموذجا كاملا لقصر إقطاعي محاط برجال السخرة التابعين له. ويتناقل الناس أنه من المستحيل الإقامة بتازرت إلا بشرط القيام بكل الأشغال الشاقة التي يفرضها السيد وهؤلاء لا يحاولون حتى تقديم الشكوى لأنهم متأكدون أن سلطات المراقبة ضعيفة».

وقد تذكر الكلاوي مسؤوليته بصفته مزواري فقام بتحديث الاستعمال القديم لعادة «البادي»: فهو الأول الذي له الحق في بيع محصوله من الزيتون والمشمش واللوز والنعناع. ويشتري بأثمان أقل من الثمن العادي وليس لأحد الحق في أن يبيع لآخرين غيره حتى يشتري الكلاوي القدر المطلوب من الصنف المرغوب فيه. وقد كان يحتكر وحده سنة 1938 تجارة اللوز في وازكيت. والمقرضون في مراكش يقدمون للكلاوي مبالغ كتسبيق لشراء اللوز في الشجر.

وفي ظرف بضعة أسابيع يشتري مجموع محصول اللوز، في سكتانة (الجانب الجنوبي) والحوزية وأوتلين. وبالتالي فكل لوزة تحمل إلى السوق تكون في ملكية الكلاوي، ثم يسلم اللوز إلى القياد والمقرضين الذين يبيعونه ثانية أثناء الأعياد الإسرائيلية وطيلة شهر رمضان والأرباح يتقاسمها مناصفة الباشا والقياد والمقرضون.

غير أن أكبر حصة من الابتزازات حسب أقوال الذين عرفوا الكلاوي والتي لا يمكن التأكد من صحتها، كانت تأتي من تسوية الأمور القضائية. فباسم التحكيم والعدالة التي أصبحت من شأن الخواص، اخذ النظام القايدي يحول لفائدته الأعراف القديمة والغرامات والصدقات التي كانت من حق الجماعة ، وقد صور بعض الإداريين الكلاوي على أنه عدو لدود للقضاء العرفي لأن «شراء فقيه هو أسهل بكثير من شراء الجماعة» غير أن هذه الحجة واهية إذ يجب التمييز، كما هو الشأن بالنسبة لكل عمل يقوم به الكلاوي، بين الأراضي التي تبدو له أنها جزء من أراضيه وبين الأراضي الأخرى التي يسيطر عليها. ففي كلاوة رغم أنه لم يكن ليترك للجماعة أي استقلال ذاتي، فقد كان يحترم الأعراف والعادات: وتدخل الشرع فيها ضعيفا. أما بالنسبة للجماعات الأخرى فقد كان القضاء يمارس باسمه الخاص أكثر مما يمارس باسم الشرع، غير أنه كان يبرر إلغاء العادات بضرورة تطبيق الشرع.

وعلى هذا المنوال كانت شمولية القوة والنظام القايدي الذي ترك الكلاوي عليه طابعه في الحوز إلى درجة أن نفسية سكان الحوز ومراكش ما زالت متأثرة إلى حد كبير بذلك الطابع وإلى يومنا هذا رغم أن كل ذلك أصبح في طي التاريخ.

إن السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا والذي طرحه معظم الإداريين في مراكش هو مدى الحتمية والاحتمال في ظاهرة القايدية. ونظل مشدوهين أمام قوته ومعارضته للعصر إذ ذاك. وبعبارة أخرى، هل كان القضاء على النظام الكلاوي سيؤدي إلى الفوضى كما حلا لبعض القول؟ هل كان النظام القائدي ضروريا وحتميا لدعم النظام الاستعماري؟ أم العكس هو الصحيح بحيث كانت الإدارة الفرنسية في تلك المنطقة غير مباشرة فعلا، ولم يكن المغاربة محكومين إلا من طرف مغاربة آخرين؟

ومع ذلك فلم ينكر بعض المراقبين الاستعماريين لسياسة القياد الكبار، أن الكلاوية كانت شرا لا بد منه. نجد في مذكرة مجهولة الكاتب: «لقد ندمنا لكوننا قضينا على القياد في بعض المناطق دون أن نعوضهم».

«ولم يعد أمامنا سوى شذرات لا تأثير لها لأنه لم يعد لدينا الوسائط المسموح بها بيننا وبين الأهالي. إن السكان لم يعد لهم من يؤطرهم ويتحتم علينا أن نوفر لهم تلك الأطر» «لم يعد لنا أي سند لدى الشاوية (الجزائر) بما أننا قضينا على كل شيء وأصبح الكل مسوى اجتماعيا. لقد حطمنا هناك القيادات الكبرى كما ورد ذلك في «المذكرة البربرية» وكما هو مطابق لسياستنا المتعلقة بالأهالي، غير أننا لم نبال بضرورة تعويض القوة التي أزلناها بوسائل عمل أخرى جديدة» .

ونفس الموقف عبر عنه بعد ذلك في عبارات لا تختلف عن سابقاتها: «كيف أن نظاما (قايديا) يمثل في صفائه شكلا من الإدارة والسياسة يصعب على فكر ليبرالي أن يتقبله أو يتصف شيئا ما بالعدالة، يمكن أن يحافظ على رصيد من النفوذ وذلك خلال تطور ذكي وتكيف مع سلطة مركزية لا تجيزه إلا بصعوبة، وسيكون من اللامجدي بل من الخطير التضحية به، وسيؤدي إلى جعل الشكل الجديد من السلطة التي قد نقيمها عوضا عنه أمرا تافها ».

كما يجب أن نلاحظ جيدا الاستمرارية التي لا جدال فيها لنفس السياسة التي استخلصت بعض العبر من المغامرة الاستعمارية في الجزائر وقد قامت بكل تبصر بتقوية أو العمل على خلق النظام القايدي وذلك منذ صدور تعليمات ليوطي سنة 1912 ، التي تهدف إلى مجرد الاقتصاد في الوسائل الحربية إلى أن خلع ونفي محمد الخامس بحجة محاربة الحركة الوطنية واحتجاج البرجوازية الحضرية.

وفي الوقت الذي حصرت فيه الحماية السلطان الشرعي للمغرب في قصره داخل بلده، أعطت حرية كبيرة في العمل والحركة للكلاوي الذي كان غالبا ما يسافر إلى الخارج بدون أن يحتاج لأي إذن رسمي بذلك، ويتصل بمختلف الشخصيات السياسية الدولية الفرنسية والانجليزية على وجه الخصوص، ويتمتع بحياة مترفة فخمة وله أملاك تفوق ممتلكات السلطان نفسه ويمنح نفسه تسميات وكأنه رئيس الدولة .

ولا شك أن فئة كبيرة من القادة الاستعماريين التي بدأت تتقوى شيئا فشيئا قد كانت ترغب منذ البداية في أن تمنح الكلاوي مكانة سياسية أهم من مكانة السلطان.

والضربة القاصمة التي تمت سنة 1953 إنما كانت بذورها تعود إلى سنة 1936: إنها لم تكن حصيلة اختيار شخص معين ولكن اختيار مجتمع معين.

وفي الحوز، وحتى لا نتعدى هذا المجال الذي استطعنا أن نجمع وثائق عنه يبدو أنه مما لا جدال فيه أن الحماية قد اختارت تدعيم النظام القايدي الذي كان الكلاوي أكبر ممثل له ويتمتع بالحماية الفرنسية، وكانت ترمي من وراء ذلك جعل نظامه نموذجا للسيطرة على المجتمع لسيطرة على المجتمع المغربي بكامله.

يتبع…..

 

المصدر:
المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع تصدرها جمعية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية والإحصائية، تحت إشراف المعهد الجامعي للبحث العلمي

العدد الخامس والسادس/1981

ص ص: 67 إلى 149

 

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.