العنف والرابطة الاجتماعية : المجتمع الصحراوي نموذجا

د. مباركة بلحسن

كلية الحقوق جامعة وهران/ الجزائر

ملخص:

يعتبر العنف ضد المرأة كل فعل عنيف قائم على أساس التمييز الجنسي، بحيث يؤدي هذا الأخير إلى خلق معاناة جسدية، جنسية ونفسية تجعل المرأة في دائرة الجنس الضعيف والمظلوم، هذا الجنس الذي قد يخلق له هذا الوضع نوعا من الخوف من المجهول.

هذا بالنسبة للمجتمعات التي يمارس فيها العنف ضد المرأة، لكن ماذا عن المجتمع التي قد نعتبره “مجتمع بلا عنف” (نقصد هنا العنف ضد المرأة)؟ وما مفهوم العنف لدى أفراده ؟ وكيف استطاعت المرأة بالذات أن تحمي نفسها من العنف ؟ وما موقف هذه المرأة من الحداثة والعولمة والتحولات الاجتماعية ؟

تحاول هذه المداخلة إلقاء الضوء على مجتمع من مجتمعات الجنوب، والذي يعرف على أنه مجتمع يمنح المرأة مكانة خاصة وهامة، هذه المكانة التي تمكّن الباحث من أن يصنف

النساء في هذا المجتمع ضمن “النساء غير المعنّفات”، ويرى أن هذا المجتمع هو “مجتمع بلا عنف”، وللتحقق من هذه الافتراضات، تحاول هذه المداخلة أن تكشف عن حقيقة مكانة المرأة في هذا المجتمع، وعن علاقة المرأة بالرجل وبكل أفراد مجتمعها، وعن آليات التدخل الاجتماعي للنجاح في مواجهة العنف، وفي الأخير محاولة الخروج باستنتاجات عن تصور المرأة لمكانتها داخل هذا المجتمع، وعن مستقبل هذه المكانة في ظل العولمة والتطور الاجتماعي والتكنولوجي.

مقدمــة:

تثير إشكالية الحداثة وما ينجرّ عنها من تحولات اجتماعية وثقافية واقتصادية، مسألة جوهرية، وهي الخوف من خطر التأثر بالآخر وفقدان الهوية ، وهذا ما يجعل الحداثة في اصطدام دائم ومستمر مع الأصالة، ويؤدي إلى تصور الأفراد للتجديد على أنه خطر وعنف قد يهدد استقرار مجتمعاتهم ويضعف من هويتهم، ويجعلهم في تبعية مستديمة للآخر، ويدخلهم في مجتمع آخر قد يشكل لهم مجتمع المخاطرة.

فلماذا هذا الخوف المستديم من الحداثة ؟

لعل هذا السؤال قد يجد إجابة لدى الكثير من المفكرين من بينهم محمد آركون والذي يميز “بين نوعين من الحداثة: الحداثة المادية، والحداثة العقلية. والأولى تعني تحديث الوجود اليومي للبشر على صعيد الأكل والشرب واللباس والمسكن وتنظيم المدن والشوارع.. إلخ. وأما الثانية، فتعني تحديث الفكر نفسه، أي تحديث العقليات ونظرتنا إلى العالم والشعوب الأخرى. لكن هذا التمييز لا يعني الفصل بين الجانبين، على الأقل في ما يخص التجربة الأوروبية للحداثة. فهناك حصل تساوق بين التحديث المادي للوجود البشري وبين الحداثة الفكرية. وعلى هذا النحو جاءت الحداثة الأوروبية مكتملة أو متكاملة: أي تمشي على عكازين لا عكاز واحد. فالتقدم كان على الصعيد المادي والفكري في آن معاً”[1].

لكن ما يلاحظ في مجتمعاتنا هو تفوق الحداثة المادية على الحداثة الفكرية، الفلسفية والعقلية. فلقد استطاعت المجتمعات العربية الإسلامية الحصول على أحدث المخترعات التكنولوجية، بينما نجدها تقاوم من جهة أخرى كل ما هو حديث وجديد قد يواجه الدين والماضي.

فالحل الأوفق في رأيي لهذا التباين هو محاولة رؤية المسائل المتعلقة بالدين والماضي والتقاليد والأعراف بنظرة جديدة بدون المساس السلبي بهذه المقومات. وهذا ما يؤكده هاشم صالح عندما قال “أول شيء ينبغي أن نفعله للخروج من المأزق هو تأسيس مراكز للبحوث والترجمة في شتى أنحاء العالم العربي بمشرقه ومغربه. فالمكتبة العربية لا تزال فقيرة في المراجع الفكرية الموثوقة. لا توجد عندنا كتب عن تاريخ الأديان مثلاً، أو عن علم الاجتماع الديني، أو عن النظرة إلى الدين من زاوية تاريخية محضة. توجد عندنا فقط النظرة التبجيلية أو التواكلية التسليمية الموروثة أباً عن جد منذ مئات السنين. وهذه لم تعد كافية. إنما ينبغي أن نضيف إليها النظرة العقلانية. وإلا فلا يمكن أن نصبح حداثيين فعلاً. وهذا لا يعني التخلي عن ديننا وتراثنا العظيم. أبداً، أبداً. إنما يعني فهمه بطريقة أخرى والنظرة إليه بعيون جديدة. إنها تعني عقلَنته أو اكتشاف العناصر العقلانية فيه وتنميتها وتطويرها والبناء عليها”[1].

لنتجاوز هذا الخوف من التحديث يجب علينا الرجوع إلى ما أكدّ عليه آركون في كتابه “الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، 1998″، وهو أنه على المثقف العربي أو المسلم المعاصر أن ينخرط في استيراتيجية شاملة للتدخل العلمي من أجل فتح العقليات المغلقة وتحريرها، لعل هذه الاستراتيجة قد تقوده إلى النقد التاريخي للفكر العربي الإسلامي، وإلى البحث الأنثربولوجي وإعادة الإعتبار للموقف الفلسفي مع نقد الخطاب بصفة عامة.

ولعلني في مداخلتي هذه قد أركز في الجزء الأكبر منها على أهمية البحث الأنثربولوجي، لأننا حقيقة نعاني من نقص في البحوث الأنثربولوجية الثقافية، الاجتماعية والدينية، لأننا عندما نتحدث عن المجتمعات فإننا نتكلم في غالب الأحيان على عموميات، بدون أن ندعم هذه الآراء ببحوث تتعلق بمسائل العقائد والطقوس الحية والعادات والتقاليد.

فعندما نتكلم مثلا عن العنف ضد المرأة، وهو موضوع هذه المداخلة، فإننا نجد أنفسنا نتكلم عن قوة هذا النوع من العنف في الشمال الجزائري، بينما نتكلم في المقابل عن سلطة المرأة في الجنوب، دون محاولة البحث عن حقيقة هذه التصورات، والبحث عن الأسباب التي أدت إلى هذا التباين بين الشمال والجنوب.

يعتبر العنف ضد المرأة كل فعل عنيف قائم على أساس التمييز الجنسي، بحيث يؤدي هذا الأخير إلى خلق معاناة جسدية، جنسية ونفسية تجعل المرأة في دائرة الجنس الضعيف والمظلوم، هذا الجنس الذي قد يخلق له هذا الوضع نوعا من الخوف من المجهول. ولقد كانت قضايا المرأة من أهم القضايا التي اهتمت بها الحركات الإصلاحية في البلاد العربية الإسلامية، ومن أبرز روادها رافع رفاعة الطهطاوي، محمد عبده، قاسم أمين، أحمد بن أبي الضيّاف، وعبد العزيز الثعالبي والطاهر الحدّاد.

فلقد “طرحت في خضم هذه الحركية الفكرية والاجتماعية والسياسية، مسألة المزج بين القديم والجديد أو الأصيل والدخيل، والملاءمة بينهما في مختلف أوجه الحياة، وهي مسألة قديمة متجددة أثيرت منذ مطلع القرن التاسع عشر، مع أعلام النهضة في العالم العربي الإسلامي، شرقا وغربا. وقد احتشد النقاش في شأنها بصورة لافتة حول مسائل الأحوال الشخصية حيث المعادلة كأصعب ما تكون تبعا لصلتها الوثيقة بالدين والأعراف والواقع المعيشي لعموم الشعب، في ذات الوقت”[1].

فمنذ القرن التاسع عشر خصص معظم رواد الحركات الإصلاحية حيزا هاما من أبحاثهم لقضايا المرأة، هؤولاء المفكرون الذين تجرؤوا “على تحدي عصرهم حينما تصدّوا لمعالجة المواضيع المحرمة في المجتمع المحافظ : الأسرة والعلاقة بين الجنسين، كما ننسى المعارك التي خاضوها من أجل تعليم البنات والرفق بالنساء، وننسى أيضا موقفهم المعارض لتعدد الزوجات وللأعراف والتقاليد وللكثير من الممارسات (السلطوية) الأبوية التي تضع المرأة –عن قصد- في مرتبة دون الرجال”[1].

ولعل ما صعّب من مهمة هؤولاء المصلحين هو تركيزهم على قضايا الأحوال الشخصية وقضايا حقوق المرأة، هذه القضايا التي كانت تهم الدين والحياة، لأنها كانت بين القضايا الجوهرية التي تباينت في شأنها المواقف.

وترى الدكتورة فاطنة سرحان[1] أن كل المحاولت التي ناهضت وضع المرأة الدوني والمتأزم اعتبرت أنها مخالفة لأحكام الشريعة، وطالبت بالتأكيد على جذور حركة الاعتراض على أوضاع المرأة في المجتمعات الإسلامية من حيث أنها ليست وليدة تأثير المجتمعات الغربية، بل أن الجدل المجتمعي قد كان قائما منذ أن وعت النساء والرجال بمعاناة المرأة، وتؤكد على أن العاملين في هذا المجال (الطاهر الحداد، قاسم أمين، محمد عبده، علال الفاسي) كان لهم دور في التوعية بأهمية النهوض بأوضاع المرأة في هذه المجتمعات باعتبارها متطلبا لتحقيق التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

يؤكد كذلك أركون على أن الأحكام المسبقة، الإيجابية والسلبية، تمنعنا من رؤية المعطيات المشتركة للوضع النسائي في كل المجتمعات البشرية. ويرى أنّ “الأطر الثقافية التي تتم تربية الطفل داخلها (مع الفرق والتفاوت الهائل بين الولد والبنت) لا تزال متأثرة جدا الآن بالرؤيا الدينية، التي تفرضها الاحتفالات الجماعية والعلامات الرمزية المتنوعة الأخرى للهوية ‘الإسلامية’ التي أصبحت الموضوع المركزي لإيديولوجيات الكفاح السياسي اليوم”[1].

وتتأسس الهيمنة الذكورية، في نظر محمد أركون، من خلال مراقبة الجنس عن طريق المحظور وإخضاع المرأة لسلطة الرجل، فيكتب بصفة مركزة ودقيقة أن “ضبط الجنس والحياة الجنسية عن طريق المحرَّمات العديدة التي تحيط بالمرأة، ثم إخضاع المرأة إلى مكانة أدنى وإبقائها فيها، ثم الإمتيازات والسلطات الموكَلَة للرجل من قِبل القانون “الديني”، كل ذلك يتيح تكرار السياج الدوغماتي المغلق وإعادة إنتاجه عن طريق الطاعة المباشرة التي يقدّمها الإبن للأب، أو البنت للأخ أو للأب، أو المرأة للزوج، أو الصغير للكبير” (محمد أركون، 1998).

نحاول إلقاء الضوء على مجتمع من مجتمعات الجنوب، والذي يعرف على أنه مجتمع يمنح المرأة مكانة خاصة وهامة، هذه المكانة التي تمكّن الباحث من أن يصنفها ضمن النساء “غير المعنّفات”، ويرى أن هذا المجتمع هو “مجتمع بلا عنف”، وللتحقق من هذه الافتراضات، تحاول هذه المداخلة أن تكشف عن حقيقة مكانة المرأة في هذا المجتمع، وعن علاقة المرأة بالرجل وبكل أفراد مجتمعها، وعن آليات التدخل الاجتماعي للنجاح في مواجهة العنف، وفي الأخير محاولة الخروج باستنتاجات عن تصور المرأة لمكانتها داخل هذا المجتمع، وعن مستقبل هذه المكانة في ظل العولمة والتطور الاجتماعي والتكنولوجي.

مهما كانت المكانة الاجتماعية المعتبرة التي قد تحتلها المرأة، فهي دائما خاضعة جسديا وجنسيا، بينما الرجل يلعب دور السيد. ولا تملك المرأة حق التعبير عن متعتها أو لذتها الجنسية أو رغبتها في الحياة الجنسانية رغم إمتلاكها سلطة معتبرة في بيتها وخارجه.

إنّ هذا النوع من العنف الجنسي والمعنوي الذي يرتكب ضد المرأة معروف وشائع، لكن قد يراه البعض أنه سلوك فطري خاص بالإنسان ويخضع إلى قانون ديني، هذا القانون الذي يسمح للرجل بالتعبير عن رغباته الجنسية بكل حرية، بينما تبقى رغبة المرأة في دائرة المحظور، بالرغم من أنّ الدين الإسلامي لم يمنع المرأة من تحقيق رغباتها الجنسية في ظل ما هو شرعي (حلال)، ويعتبرها متساوية الحقوق مع الرجل في هذا المجال.

وما يجعل المرأة تعيش حالة حرمان وتبعية فيما يتعلق برغبتها وتلبية حاجاتها على المستوى الجنسي الحميمي تلك العادات التي كانت ضحية لها والمتعلقة بإجراء عملية ختان لبعض النساء. قد يثير هذا دهشة القارىء ويبدو له غريبا إلاّ أنّ هذا يعبر عن واقع عاشته بعض النساء في البيئة الحسّانية[1] في ماض قريب وتتكلم عنه نساء مسنّات بسبب إنعكاس هذا الختان على المتعة التي كنّ محرومات منها نتيجة بتر البظر الذي يعتبر العضو الذي تحقق من خلاله المرأة لذّتها.

ونجد هذه العادة في مناطق مغاربية أخرى كتلك التي تشير إليها سمية نعمان جسوس في كتابها بلا حشومة : “وقد اعتور الممارسات الاجتماعية بعض الانحرافات، التي أبعدتها عما يفرضه الدين، وصارت هذه المسافة تؤسس لما يمكن أن نسميه التقاليد، وقد خصت هذه التقاليد جنس الذكر وحده بالمتعة الجسدية، بينما سجنت المرأة المسلمة في غل من المحظورات، انحدرت بها إلى مجرد شيء تُطلب فيه اللذة الذكورية. ولم تفلت المرأة المغربية من هذه العملية الرامية إلى بتر أعضائها، وقد سعت التقاليد إلى حرمانها من هذه الإمكانية التي منحها لها الله تعالى، مثلما هيأها للرجل، ألا وهي الوصول إلى اللذة.”[1]

والغريب أن البعض ينسب هذه العادات إلى الإسلام، هذه العادات المجحفة في حق المرأة في تحقيق رغباتها وتحقيق ذاتها على المستوى الحميمي والجنسي رغم أن هذا الدين الحنيف لم يكن في يوم من الأيام معاديا لحياة المرأة الجنسية بل حلّلها، كما حلّلها للرجل، في الإطار الشرعي. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إذا جامع أحدكم فلا يتجرد تجرد الفرس وليقدم التلطف والكلام والتقبيل”. وحكمة ذلك في رأي محمد نجيب المولى في كتابه الإنسان والمقدس : “أن المرأة تحب من الرجل ما يحب منها فإذا أتاها على غفلة فقد يقضي حاجته قبل أن تقضي هي فيؤدي ذلك إلى تشويشها أو إفساد دينها، وهنا نرى اصطدام عدة سلطات قدسية : فسلطة الخطاب العرفي وهو ما أنتجه الناس حسب ظروفهم وحياتهم ومنه يؤدي إلى عدة مشاكل خلقية واجتماعية، فمثلا حق المرأة في اللذة الجنسية حتى في إطار الزواج الشرعي قد يكون في نظر العرف إثما والتعبير عن رغبتها في تجسيم هذا الحق قد يسمى بغير هذا الاسم فيصبح وقاحة (قلة حياء) وتنحدر المرأة بموجب ذلك إلى منزلة دونية، لذا فهي عادة ما تتجنب هذا الوضع المحرج فتجد في البرودة الجنسية ملاذا من هذا الإحراج.”[1]

لقد أصبحت قضايا الجنس طابوهات ومحرمات غريبة عن المتطلبات البيولوجية والاجتماعية للإنسان، مما يضع ارتباطا مبدئيا بين الجنس والخطيئة.

إنّ التنشئة الاجتماعية والجسدية، بالإضافة إلى تقسيم الأدوار بين الجنسين، هي التي رسخت التمايز الجنسي وجعلته عنصرا متجذرا في المخيال الاجتماعي.

وإذا كانت المرأة في المجتمعات العربية هي المسؤولة الأولى، في نظر البعض، عن حدوث الإضطرابات الجنسية والإختلال النفسي، فإنّها تمثل صورة العجز والعطوبية والمرض في الثقافة الغربية، لأنها تحمل الإرث الثقافي الذي يربطها بالمرض[1].

ولمعرفة حقيقة مكانة المرأة في المجتمع الحسّاني، وحقيقة عدم تعرضها إلى أي نوع من العنف من طرف أفراد مجتمعها، إرتأينا أن نسلط الضوء على بعض العادات والطقوس التي تمارسنها في حفل الزفاف، والتي تعبر من خلالها المرأة عن قوتها وصلابتها ومكانتها المرموقة داخل مجتمعها،  ومن بينها هذه العادات نذكر أهمها :

– ردود الفعل المصطنعة : تصطنع العروس بعض ردود الفعل خلال تحضيرها من طرف النساء المسنات لليلة الدخلة، حيث يُفترض أن تقاومهن بشراسة تعبيرا عن عدم رغبتها في الزواج، وعدم رغبتها في لقاء زوجها. ومن واجب العروس إظهار هذا الموقف مهما كانت عواطفها، كما أنّ عليها أن تبالغ في الصراخ وتقاوم من جاءت من النساء لإصطحابها عند خروجها من عتبة بيت أهلها.

وما هذه التصرفات إلاّ تصرفات شكلية ومصطنعة يفرضها المجتمع على المرأة لتأكيد عدم رغبتها في لقاء زوجها والدخول في علاقة حميمية معه لأن الرغبة من صلاحيات الرجل التي تجعله يبادر هو بها.

تأكّد لي هذا، بعد عدد من المقابلات وعند مرافقتي لإحدى الصديقات ليلة زفافها، حيث كانت في حالة خوف من ما قد يحدث ليلة الدخلة رغم إشتياقها إلى اللحظة التي ستجمعها تحت سقف واحد بزوجها. لكنها بدأت في الصراخ والنواح بمجرد دخول إحدى النساء المسنَّات، وكأنها ستُؤخذ إلى مجزرة، وابتسمت واسترخت بمجرد مغادرة هذه المرأة المسنة المكان.

– التَرْوَاغْ : وهي عادة خاصة بالمجتمع الحسّاني، حيث تقوم صديقات العروس، وبرغبة منها، بإخفائها الليلة الثانية من زفافها، ويقوم العريس وأصدقائه بالبحث عنها وبإعطاء هدية معتبرة لمن يبلغ عن مكان إختفاء العروس وصديقاتها. وتعبر العروس من خلال عادة “التَرْوَاغ” عن عدم مبالاتها بالدخول في العلاقة الحميمية، خلافا لرغبة العريس الظاهرة والمعلنة في لقائها وربط العلاقة الحميمية.

وما لعبة “الترواغ” إلاّ طقس من طقوس إثبات أهمية الرغبة والبحث عن المتعة المعبّر عنهما من طرف الذكر، بينما تبقى العروس في موقف إنفعالي لأنها لا تمثل إجتماعيا ورمزيا إلاّ الوسيلة التي يحقق بها الرجل متعته الجنسية.

هذه التصرفات الشكلية والمصطنعة مطلوبة اجتماعيا من الفتاة خلال ليلة الزفاف، وإلاّ يقال عنها أنها “أَعْرُوسْ مَتْڤَدْمَة”، وهي عكس العروس الخجولة، وهي تشير إلى “التقدم” لأن المرأة “المَتْڤَدْمَة” تنعت هكذا لإتهامها بالتعالي وعدم إتخاذ المواقف المحتشمة المطلوبة، فيقال: “ذِِيك لَعْرُوس مَاحْضَرْها”، وهي كلمة مشتقة من الحضارة والتحضُّر، لأن هذا النوع من المجتمعات المنغلقة نسبيا يرفض فيها الفرد كل ما هو دخيل وجديد على تقاليده وعاداته، فالمرأة المتقدمة والمتحضرة هي بالتالي المرأة التي تتخلى عن تقاليد وعادات قبيلتها، فهي بذلك تتمرد على العادات والتقاليد التي أفرزها تطور هذا المجتمع.

وتبدي بعض النساء المسنات بكل صراحة عن قلقهن من التحضر والتقدم، والذي أفرز الجمعيات الحقوقية النسوية، فهن يعتبرن أن هذه الجمعيات قد تؤدي إلى خطر تعميق قوة العنف ضد المرأة، ويضعف مكانتها أمام الرجل، فالمرأة يجب أن تكون أكثر صلابة في مواجهة المصاعب، كما يواجهها الرجال، فلا يجب عليها أن تظهر في “لباس الضعف” بل عليها أن تظهر “بلباس القوة”.

فالمرأة الحسّانية أدركت خطر التباين في الأدوار بين الجنسين، وأدركت كذلك مدى خطر عدم التساوي بين الجنسين، فأنتجت مظاهرا اجتماعية تعطيها هيبة ومكانة اجتماعية، ومن بين هذه المظاهر هو مواجهة التقاليد التي تمنعها من التعبير عن رغباتها الجنسية، ورؤيتها من الجانب الإيجابي، فتعبيرها عبر طقوس الزواج عن عدم مبالاتها بالمتعة الجنسية، وهروبها لفترة عن زوجها، يجعلها الأقوى، والأكثر قوة في مواجهة رغباتها، بينما الرجل يظهر على أنه الأضعف في مواجهة رغباته الجنسية، وهذا ما يجعله يلح عبر هذه الطقوس على الحصول على متعته بشتى الطرق.

وهذا لا يعني أنها تتخلى عن حقها في المتعة الجنسية، بل إنها ترى أنها قادرة على تلبية رغباتها عبر استراتيجيات خاصة بها، كما أن المجتمع الحسّاني وضع آليات تميزه عن باقي المجتمعات، والتي تجعله يضع كل فئات المجتمع في ميزان واحد، ولا يعطي السلطة لفرد على حساب فرد آخر، وهذا ما يجعل هذا المجتمع “مجتمع بلا عنف”.

إنّ تعبير العروس عن نزعتها الجنسية وإظهار رغبتها في العلاقة الحميمية تعتبران بمثابة عيب وعار، خلافا للرجل الذي يرى رغبته ونزعته إلى المتعة مُباحة ومشروعة، ولا حرج في أن يُظهرها عبر هذه الطقوس والعادات.

ومما يجعل المرأة الحسّانية في موقف يمكّنها من مواجهة أزمات نفسية واجتماعية قد تحطم مصير حياة المرأة في بيئات أخرى غير البيئة الحسّانية، تلك المواقف والتمثلات الخاصة بفكّ الرابطة الزوجية والتي تحفظ لها مكانتها في المجتمع.

فهناك عادة خاصة بالمجتمع الحسّاني تجعل أهل المرأة المطلّقة يستقبلونها بدون تذمر ويحتفلون بالحدث عند نهاية عدّة الطلاق، فيقام لها حفل لا تقل حرارته عن حرارة حفل الزفاف، وذلك تعبيرا عن ما يُعتبر، في حالتها، تخلصا من حياة زوجية أصبحت غير مرغوب فيها.

وقد يكون الحفل الذي يُنظم بهذه المناسبة فرصة لإعلان أحد المعجبين بها عن رغبته في الزواج بها، لأن المرأة المطلّقة تبقى في نظر الرجل الحسّاني هي المرأة المفضّلة لخبرتها المكتسبة خلال الزواج الأول والتي تكون قد مكّنتها من التحرر من الخجل الذي تربّت عليه ومن الخوف الذي زرع فيها وهي فتاة.

ويرى المجتمع الحسّاني هكذا في المرأة المطلّقة إمرأة إكتسبت توازنا نفسيا وتجربة تجعلها ذات استقلالية ومكانة تمنحها حرية اختيار شريك لحياتها وتحمّل صلاحياتها في مجال الرغبة والتمتّع والتفاعل الجنسي.

وإذا كانت المرأة الحسّانية تدرك وزنها ومكانتها في مجتمعها، فإنها تعيش إنشغالا تعتبره أساسيا، بل مصيريا، يكمن في تحقيق رغبتها رغم أنّها تبقى في حدود الموروث المرتبط بالتنشئة والتربية التي قد تجد إمتدادا في تجربتها وخبرتها، إلاّ أنّها لا تفصل بين المكانة المعتبرة التي تحتلها داخل مجموعتها وفي المجتمع وإمكانية التعبير عن الذات وتحقيق رغباتها.

وبالرغم من هذا كله فإن المرأة الحسّانية لا ترى أن محدودية تحقيق رغباتها ومتعتها راجع إلى الدور السلبي للرجل، بل تربط ذلك بوضع طبيعي عام خاص بالمجتمع والعادات والتقاليد، حتى أنها تذهب إلى حد التعبير ليس فقط عن آلامها بل كذلك عن معاناة الرجل في حالة وجود نوع من الحواجز دون تحقيق متعة زوجته الجنسية معتبرة أنه هو نفسه جزء من هذا الوضع وضحية له أحيانا، أي أنه جزء من لعبة سلطة داخل العلاقات الإجتماعية المتعددة.

ويصل الباحث في أوضاع المرأة في المجتمع الحسّاني إلى إقتناع أنّ المكانة المتميزة التي تحتلها المرأة في وسطها تمنحها سلطة حقيقية وتجعلها تطمح إلى تحقيق ذاتها رغم شعورها بنوع من القمع والحرمان في حياتها الجنسية، ولا يتناقض هذا مع تواجدها القوي جسدا وهوية ورمزا في مختلف مستويات الحياة الاجتماعية.

وتسعى المرأة الحسّانية إلى المزيد من المعرفة فيما يتعلق بالذات وبالآخر لأن هذه المعرفة أصبحت ضرورية لاكتساب الفرد استقلالية تمكنه من تحقيق رغباته المختلفة والمتباينة ضمن مقتضيات المجموعة التي ينتمي إليها، وتحضى المرأة الحسّانية في هذا المجال بما تجده في الرجل من مسعى نحو التعبير عن الإعجاب بها والعمل على تلبية رغباتها وتطلعاتها، واقتحام ما تمثله من مجهول.

هكذا إذا، فإن ما يجعل المجتمع الحسّاني “مجتمعا بلا عنف”، هو الأهمية والمكانة المتساوية التي يعطيها لكل أفراده وفئاته المختلفة من طفل، رجل، إمرأة، طفلة، شيخ، شيخة، متزوج، متزوجة، مطلقة، مطلق…إلخ.

وما يهمنا كباحثين اجتماعيين هو أهمية الدراسات الأنثربولوجية الثقافية والاجتماعية في فهم مجتمعاتنا، فلو لم أدرس الطقوس في هذا المجتمع لما تمكنت من معرفة طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة في هذا المجتمع، هذه العلاقة التي تقوم على المساواة، لأننا في الغالب عندما نتحدث عن سلطة الرجل فإن ذلك قد يكون على حساب المرأة، وعندما نسمع عن مجتمع تكتسب فيه المرأة السلطة، فإن المتوقع أن هذه السلطة قد تكون على حساب الرجل.

استطعنا من خلال المقاربة الأنثربولوجية أن ندرك الآليات التي أوجدها هذا المجتمع من خلال الخبرة لمواجهة العنف ضد كل أفراده، رغم أن هذا المجتمع منغلقا نسبيا، لأنه يحاول مواجهة العديد من التكنولوجيات الجديدة وبعض مظاهر العولمة والتحول الاجتماعي، إلاّ أنّ أفراده يتميزون بفلسفة خاصة للحياة تجعلهم يعيشون في حالة إستقرار.

الهوامش

[1]. أنظر هاشم صالح، الشرق الأوسط، 10-07-2007، الموقع : http : //www.asharqalawsat.com/leader.asp ?

تاريخ معاينة الموقع : 27-01-2009.

[1] . نفس المرجع.

[1]. د. محمد الحبيب الشريف، “مجلة الأحوال الشخصية : بين الأصالة والحداثة”، مجلة الأحوال الشخصية : أصالة وحداثة، تونس، الكريديف، أوربيس للطباعة، 2006، ص 17.

[1]. رفاعة رافع الطهطاوي، تحرير المرأة المسلمة : كتاب المرشد الأمين في تربية البنات والبنين، تنقيح وتقديم: يحيى الشيخ، لبنان، دار البراق، 2000، ص 11.

[1]. د. فاطنة سرحان، “المرجعية الإسلامية هل تكون عائقا أمام النهوض بأوضاع المرأة في الأسرة”، ملتقى الآراء-1- قانون الأسرة في البلاد العربية الإسلامية قراءة للضوابط الدينية والقانونية، مؤسسة كونراد أديناور، تونس، 2005، صص 98 – 104.

[1]. د. محمد آركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ت. هاشم صالح، ط.3 ، لبنان، دار الساقي، 1998، ص 128.

[1]. المجتمع الحسّاني هو المجتمع الذي ينطق أفراده باللغة الحسّانية، ويشكل مجموعة متواجدة في كل من تندوف بالجنوب الجزائري، وموريتانيا، وجنوب المغرب، والصحراء الغربية، بحيث تعرف هذه المجموعة بثقافتها المتميزة، من لغة وشعر وغناء، وتعرف كذلك بالسلوك الثيابي المتميز، وبالأخص الزي النسائي. وتتميز هذه المجموعة بنظامها الخاص، نظام قبلي محافظ. أنظر : مباركة بلحسن : المرأة والجسد : مقاربة أنثروبولوجية في الوسط التندوفي، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في علم الاجتماع ، تخصص “التحول الاجتماعي والهوية”، جامعة وهران، 2004.

[1] . سمية نعمان جسوس، بلا حشومة. الجنسانية النسائية في المغرب، ترجمة عبد الرحيم خزل، المركز الثقافي العربي، الطبعة 11، 2001، ص 11-12.

[1] . محمد نجيب عبد المولى، الإنسان والمقدس، تونس، دار محمد علي الحامي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1994، ص 93.

[1]. Bruno Remaury, Le beau sexe faible. Les images du corps féminin entre cosmétique et santé, Paris, Grasset et Fasquelle, 2000, p. 71.

والرابطة الاجتماعية : المجتمع الصحراوي نموذجا

د. مباركة بلحسن

كلية الحقوق جامعة وهران/ الجزائر

ملخص:

يعتبر العنف ضد المرأة كل فعل عنيف قائم على أساس التمييز الجنسي، بحيث يؤدي هذا الأخير إلى خلق معاناة جسدية، جنسية ونفسية تجعل المرأة في دائرة الجنس الضعيف والمظلوم، هذا الجنس الذي قد يخلق له هذا الوضع نوعا من الخوف من المجهول.

هذا بالنسبة للمجتمعات التي يمارس فيها العنف ضد المرأة، لكن ماذا عن المجتمع التي قد نعتبره “مجتمع بلا عنف” (نقصد هنا العنف ضد المرأة)؟ وما مفهوم العنف لدى أفراده ؟ وكيف استطاعت المرأة بالذات أن تحمي نفسها من العنف ؟ وما موقف هذه المرأة من الحداثة والعولمة والتحولات الاجتماعية ؟

تحاول هذه المداخلة إلقاء الضوء على مجتمع من مجتمعات الجنوب، والذي يعرف على أنه مجتمع يمنح المرأة مكانة خاصة وهامة، هذه المكانة التي تمكّن الباحث من أن يصنف النساء في هذا المجتمع ضمن “النساء غير المعنّفات”، ويرى أن هذا المجتمع هو “مجتمع بلا عنف”، وللتحقق من هذه الافتراضات، تحاول هذه المداخلة أن تكشف عن حقيقة مكانة المرأة في هذا المجتمع، وعن علاقة المرأة بالرجل وبكل أفراد مجتمعها، وعن آليات التدخل الاجتماعي للنجاح في مواجهة العنف، وفي الأخير محاولة الخروج باستنتاجات عن تصور المرأة لمكانتها داخل هذا المجتمع، وعن مستقبل هذه المكانة في ظل العولمة والتطور الاجتماعي والتكنولوجي.

مقدمــة:

تثير إشكالية الحداثة وما ينجرّ عنها من تحولات اجتماعية وثقافية واقتصادية، مسألة جوهرية، وهي الخوف من خطر التأثر بالآخر وفقدان الهوية ، وهذا ما يجعل الحداثة في اصطدام دائم ومستمر مع الأصالة، ويؤدي إلى تصور الأفراد للتجديد على أنه خطر وعنف قد يهدد استقرار مجتمعاتهم ويضعف من هويتهم، ويجعلهم في تبعية مستديمة للآخر، ويدخلهم في مجتمع آخر قد يشكل لهم مجتمع المخاطرة.

فلماذا هذا الخوف المستديم من الحداثة ؟

لعل هذا السؤال قد يجد إجابة لدى الكثير من المفكرين من بينهم محمد آركون والذي يميز “بين نوعين من الحداثة: الحداثة المادية، والحداثة العقلية. والأولى تعني تحديث الوجود اليومي للبشر على صعيد الأكل والشرب واللباس والمسكن وتنظيم المدن والشوارع.. إلخ. وأما الثانية، فتعني تحديث الفكر نفسه، أي تحديث العقليات ونظرتنا إلى العالم والشعوب الأخرى. لكن هذا التمييز لا يعني الفصل بين الجانبين، على الأقل في ما يخص التجربة الأوروبية للحداثة. فهناك حصل تساوق بين التحديث المادي للوجود البشري وبين الحداثة الفكرية. وعلى هذا النحو جاءت الحداثة الأوروبية مكتملة أو متكاملة: أي تمشي على عكازين لا عكاز واحد. فالتقدم كان على الصعيد المادي والفكري في آن معاً”[1].

لكن ما يلاحظ في مجتمعاتنا هو تفوق الحداثة المادية على الحداثة الفكرية، الفلسفية والعقلية. فلقد استطاعت المجتمعات العربية الإسلامية الحصول على أحدث المخترعات التكنولوجية، بينما نجدها تقاوم من جهة أخرى كل ما هو حديث وجديد قد يواجه الدين والماضي.

فالحل الأوفق في رأيي لهذا التباين هو محاولة رؤية المسائل المتعلقة بالدين والماضي والتقاليد والأعراف بنظرة جديدة بدون المساس السلبي بهذه المقومات. وهذا ما يؤكده هاشم صالح عندما قال “أول شيء ينبغي أن نفعله للخروج من المأزق هو تأسيس مراكز للبحوث والترجمة في شتى أنحاء العالم العربي بمشرقه ومغربه. فالمكتبة العربية لا تزال فقيرة في المراجع الفكرية الموثوقة. لا توجد عندنا كتب عن تاريخ الأديان مثلاً، أو عن علم الاجتماع الديني، أو عن النظرة إلى الدين من زاوية تاريخية محضة. توجد عندنا فقط النظرة التبجيلية أو التواكلية التسليمية الموروثة أباً عن جد منذ مئات السنين. وهذه لم تعد كافية. إنما ينبغي أن نضيف إليها النظرة العقلانية. وإلا فلا يمكن أن نصبح حداثيين فعلاً. وهذا لا يعني التخلي عن ديننا وتراثنا العظيم. أبداً، أبداً. إنما يعني فهمه بطريقة أخرى والنظرة إليه بعيون جديدة. إنها تعني عقلَنته أو اكتشاف العناصر العقلانية فيه وتنميتها وتطويرها والبناء عليها”[1].

لنتجاوز هذا الخوف من التحديث يجب علينا الرجوع إلى ما أكدّ عليه آركون في كتابه “الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، 1998″، وهو أنه على المثقف العربي أو المسلم المعاصر أن ينخرط في استيراتيجية شاملة للتدخل العلمي من أجل فتح العقليات المغلقة وتحريرها، لعل هذه الاستراتيجة قد تقوده إلى النقد التاريخي للفكر العربي الإسلامي، وإلى البحث الأنثربولوجي وإعادة الإعتبار للموقف الفلسفي مع نقد الخطاب بصفة عامة.

ولعلني في مداخلتي هذه قد أركز في الجزء الأكبر منها على أهمية البحث الأنثربولوجي، لأننا حقيقة نعاني من نقص في البحوث الأنثربولوجية الثقافية، الاجتماعية والدينية، لأننا عندما نتحدث عن المجتمعات فإننا نتكلم في غالب الأحيان على عموميات، بدون أن ندعم هذه الآراء ببحوث تتعلق بمسائل العقائد والطقوس الحية والعادات والتقاليد.

فعندما نتكلم مثلا عن العنف ضد المرأة، وهو موضوع هذه المداخلة، فإننا نجد أنفسنا نتكلم عن قوة هذا النوع من العنف في الشمال الجزائري، بينما نتكلم في المقابل عن سلطة المرأة في الجنوب، دون محاولة البحث عن حقيقة هذه التصورات، والبحث عن الأسباب التي أدت إلى هذا التباين بين الشمال والجنوب.

يعتبر العنف ضد المرأة كل فعل عنيف قائم على أساس التمييز الجنسي، بحيث يؤدي هذا الأخير إلى خلق معاناة جسدية، جنسية ونفسية تجعل المرأة في دائرة الجنس الضعيف والمظلوم، هذا الجنس الذي قد يخلق له هذا الوضع نوعا من الخوف من المجهول. ولقد كانت قضايا المرأة من أهم القضايا التي اهتمت بها الحركات الإصلاحية في البلاد العربية الإسلامية، ومن أبرز روادها رافع رفاعة الطهطاوي، محمد عبده، قاسم أمين، أحمد بن أبي الضيّاف، وعبد العزيز الثعالبي والطاهر الحدّاد.

فلقد “طرحت في خضم هذه الحركية الفكرية والاجتماعية والسياسية، مسألة المزج بين القديم والجديد أو الأصيل والدخيل، والملاءمة بينهما في مختلف أوجه الحياة، وهي مسألة قديمة متجددة أثيرت منذ مطلع القرن التاسع عشر، مع أعلام النهضة في العالم العربي الإسلامي، شرقا وغربا. وقد احتشد النقاش في شأنها بصورة لافتة حول مسائل الأحوال الشخصية حيث المعادلة كأصعب ما تكون تبعا لصلتها الوثيقة بالدين والأعراف والواقع المعيشي لعموم الشعب، في ذات الوقت”[1].

فمنذ القرن التاسع عشر خصص معظم رواد الحركات الإصلاحية حيزا هاما من أبحاثهم لقضايا المرأة، هؤولاء المفكرون الذين تجرؤوا “على تحدي عصرهم حينما تصدّوا لمعالجة المواضيع المحرمة في المجتمع المحافظ : الأسرة والعلاقة بين الجنسين، كما ننسى المعارك التي خاضوها من أجل تعليم البنات والرفق بالنساء، وننسى أيضا موقفهم المعارض لتعدد الزوجات وللأعراف والتقاليد وللكثير من الممارسات (السلطوية) الأبوية التي تضع المرأة –عن قصد- في مرتبة دون الرجال”[1].

ولعل ما صعّب من مهمة هؤولاء المصلحين هو تركيزهم على قضايا الأحوال الشخصية وقضايا حقوق المرأة، هذه القضايا التي كانت تهم الدين والحياة، لأنها كانت بين القضايا الجوهرية التي تباينت في شأنها المواقف.

وترى الدكتورة فاطنة سرحان[1] أن كل المحاولت التي ناهضت وضع المرأة الدوني والمتأزم اعتبرت أنها مخالفة لأحكام الشريعة، وطالبت بالتأكيد على جذور حركة الاعتراض على أوضاع المرأة في المجتمعات الإسلامية من حيث أنها ليست وليدة تأثير المجتمعات الغربية، بل أن الجدل المجتمعي قد كان قائما منذ أن وعت النساء والرجال بمعاناة المرأة، وتؤكد على أن العاملين في هذا المجال (الطاهر الحداد، قاسم أمين، محمد عبده، علال الفاسي) كان لهم دور في التوعية بأهمية النهوض بأوضاع المرأة في هذه المجتمعات باعتبارها متطلبا لتحقيق التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

يؤكد كذلك أركون على أن الأحكام المسبقة، الإيجابية والسلبية، تمنعنا من رؤية المعطيات المشتركة للوضع النسائي في كل المجتمعات البشرية. ويرى أنّ “الأطر الثقافية التي تتم تربية الطفل داخلها (مع الفرق والتفاوت الهائل بين الولد والبنت) لا تزال متأثرة جدا الآن بالرؤيا الدينية، التي تفرضها الاحتفالات الجماعية والعلامات الرمزية المتنوعة الأخرى للهوية ‘الإسلامية’ التي أصبحت الموضوع المركزي لإيديولوجيات الكفاح السياسي اليوم”[1].

وتتأسس الهيمنة الذكورية، في نظر محمد أركون، من خلال مراقبة الجنس عن طريق المحظور وإخضاع المرأة لسلطة الرجل، فيكتب بصفة مركزة ودقيقة أن “ضبط الجنس والحياة الجنسية عن طريق المحرَّمات العديدة التي تحيط بالمرأة، ثم إخضاع المرأة إلى مكانة أدنى وإبقائها فيها، ثم الإمتيازات والسلطات الموكَلَة للرجل من قِبل القانون “الديني”، كل ذلك يتيح تكرار السياج الدوغماتي المغلق وإعادة إنتاجه عن طريق الطاعة المباشرة التي يقدّمها الإبن للأب، أو البنت للأخ أو للأب، أو المرأة للزوج، أو الصغير للكبير” (محمد أركون، 1998).

نحاول إلقاء الضوء على مجتمع من مجتمعات الجنوب، والذي يعرف على أنه مجتمع يمنح المرأة مكانة خاصة وهامة، هذه المكانة التي تمكّن الباحث من أن يصنفها ضمن النساء “غير المعنّفات”، ويرى أن هذا المجتمع هو “مجتمع بلا عنف”، وللتحقق من هذه الافتراضات، تحاول هذه المداخلة أن تكشف عن حقيقة مكانة المرأة في هذا المجتمع، وعن علاقة المرأة بالرجل وبكل أفراد مجتمعها، وعن آليات التدخل الاجتماعي للنجاح في مواجهة العنف، وفي الأخير محاولة الخروج باستنتاجات عن تصور المرأة لمكانتها داخل هذا المجتمع، وعن مستقبل هذه المكانة في ظل العولمة والتطور الاجتماعي والتكنولوجي.

مهما كانت المكانة الاجتماعية المعتبرة التي قد تحتلها المرأة، فهي دائما خاضعة جسديا وجنسيا، بينما الرجل يلعب دور السيد. ولا تملك المرأة حق التعبير عن متعتها أو لذتها الجنسية أو رغبتها في الحياة الجنسانية رغم إمتلاكها سلطة معتبرة في بيتها وخارجه.

إنّ هذا النوع من العنف الجنسي والمعنوي الذي يرتكب ضد المرأة معروف وشائع، لكن قد يراه البعض أنه سلوك فطري خاص بالإنسان ويخضع إلى قانون ديني، هذا القانون الذي يسمح للرجل بالتعبير عن رغباته الجنسية بكل حرية، بينما تبقى رغبة المرأة في دائرة المحظور، بالرغم من أنّ الدين الإسلامي لم يمنع المرأة من تحقيق رغباتها الجنسية في ظل ما هو شرعي (حلال)، ويعتبرها متساوية الحقوق مع الرجل في هذا المجال.

وما يجعل المرأة تعيش حالة حرمان وتبعية فيما يتعلق برغبتها وتلبية حاجاتها على المستوى الجنسي الحميمي تلك العادات التي كانت ضحية لها والمتعلقة بإجراء عملية ختان لبعض النساء. قد يثير هذا دهشة القارىء ويبدو له غريبا إلاّ أنّ هذا يعبر عن واقع عاشته بعض النساء في البيئة الحسّانية[1] في ماض قريب وتتكلم عنه نساء مسنّات بسبب إنعكاس هذا الختان على المتعة التي كنّ محرومات منها نتيجة بتر البظر الذي يعتبر العضو الذي تحقق من خلاله المرأة لذّتها.

ونجد هذه العادة في مناطق مغاربية أخرى كتلك التي تشير إليها سمية نعمان جسوس في كتابها بلا حشومة : “وقد اعتور الممارسات الاجتماعية بعض الانحرافات، التي أبعدتها عما يفرضه الدين، وصارت هذه المسافة تؤسس لما يمكن أن نسميه التقاليد، وقد خصت هذه التقاليد جنس الذكر وحده بالمتعة الجسدية، بينما سجنت المرأة المسلمة في غل من المحظورات، انحدرت بها إلى مجرد شيء تُطلب فيه اللذة الذكورية. ولم تفلت المرأة المغربية من هذه العملية الرامية إلى بتر أعضائها، وقد سعت التقاليد إلى حرمانها من هذه الإمكانية التي منحها لها الله تعالى، مثلما هيأها للرجل، ألا وهي الوصول إلى اللذة.”[1]

والغريب أن البعض ينسب هذه العادات إلى الإسلام، هذه العادات المجحفة في حق المرأة في تحقيق رغباتها وتحقيق ذاتها على المستوى الحميمي والجنسي رغم أن هذا الدين الحنيف لم يكن في يوم من الأيام معاديا لحياة المرأة الجنسية بل حلّلها، كما حلّلها للرجل، في الإطار الشرعي. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إذا جامع أحدكم فلا يتجرد تجرد الفرس وليقدم التلطف والكلام والتقبيل”. وحكمة ذلك في رأي محمد نجيب المولى في كتابه الإنسان والمقدس : “أن المرأة تحب من الرجل ما يحب منها فإذا أتاها على غفلة فقد يقضي حاجته قبل أن تقضي هي فيؤدي ذلك إلى تشويشها أو إفساد دينها، وهنا نرى اصطدام عدة سلطات قدسية : فسلطة الخطاب العرفي وهو ما أنتجه الناس حسب ظروفهم وحياتهم ومنه يؤدي إلى عدة مشاكل خلقية واجتماعية، فمثلا حق المرأة في اللذة الجنسية حتى في إطار الزواج الشرعي قد يكون في نظر العرف إثما والتعبير عن رغبتها في تجسيم هذا الحق قد يسمى بغير هذا الاسم فيصبح وقاحة (قلة حياء) وتنحدر المرأة بموجب ذلك إلى منزلة دونية، لذا فهي عادة ما تتجنب هذا الوضع المحرج فتجد في البرودة الجنسية ملاذا من هذا الإحراج.”[1]

لقد أصبحت قضايا الجنس طابوهات ومحرمات غريبة عن المتطلبات البيولوجية والاجتماعية للإنسان، مما يضع ارتباطا مبدئيا بين الجنس والخطيئة.

إنّ التنشئة الاجتماعية والجسدية، بالإضافة إلى تقسيم الأدوار بين الجنسين، هي التي رسخت التمايز الجنسي وجعلته عنصرا متجذرا في المخيال الاجتماعي.

وإذا كانت المرأة في المجتمعات العربية هي المسؤولة الأولى، في نظر البعض، عن حدوث الإضطرابات الجنسية والإختلال النفسي، فإنّها تمثل صورة العجز والعطوبية والمرض في الثقافة الغربية، لأنها تحمل الإرث الثقافي الذي يربطها بالمرض[1].

ولمعرفة حقيقة مكانة المرأة في المجتمع الحسّاني، وحقيقة عدم تعرضها إلى أي نوع من العنف من طرف أفراد مجتمعها، إرتأينا أن نسلط الضوء على بعض العادات والطقوس التي تمارسنها في حفل الزفاف، والتي تعبر من خلالها المرأة عن قوتها وصلابتها ومكانتها المرموقة داخل مجتمعها،  ومن بينها هذه العادات نذكر أهمها :

– ردود الفعل المصطنعة : تصطنع العروس بعض ردود الفعل خلال تحضيرها من طرف النساء المسنات لليلة الدخلة، حيث يُفترض أن تقاومهن بشراسة تعبيرا عن عدم رغبتها في الزواج، وعدم رغبتها في لقاء زوجها. ومن واجب العروس إظهار هذا الموقف مهما كانت عواطفها، كما أنّ عليها أن تبالغ في الصراخ وتقاوم من جاءت من النساء لإصطحابها عند خروجها من عتبة بيت أهلها.

وما هذه التصرفات إلاّ تصرفات شكلية ومصطنعة يفرضها المجتمع على المرأة لتأكيد عدم رغبتها في لقاء زوجها والدخول في علاقة حميمية معه لأن الرغبة من صلاحيات الرجل التي تجعله يبادر هو بها.

تأكّد لي هذا، بعد عدد من المقابلات وعند مرافقتي لإحدى الصديقات ليلة زفافها، حيث كانت في حالة خوف من ما قد يحدث ليلة الدخلة رغم إشتياقها إلى اللحظة التي ستجمعها تحت سقف واحد بزوجها. لكنها بدأت في الصراخ والنواح بمجرد دخول إحدى النساء المسنَّات، وكأنها ستُؤخذ إلى مجزرة، وابتسمت واسترخت بمجرد مغادرة هذه المرأة المسنة المكان.

– التَرْوَاغْ : وهي عادة خاصة بالمجتمع الحسّاني، حيث تقوم صديقات العروس، وبرغبة منها، بإخفائها الليلة الثانية من زفافها، ويقوم العريس وأصدقائه بالبحث عنها وبإعطاء هدية معتبرة لمن يبلغ عن مكان إختفاء العروس وصديقاتها. وتعبر العروس من خلال عادة “التَرْوَاغ” عن عدم مبالاتها بالدخول في العلاقة الحميمية، خلافا لرغبة العريس الظاهرة والمعلنة في لقائها وربط العلاقة الحميمية.

وما لعبة “الترواغ” إلاّ طقس من طقوس إثبات أهمية الرغبة والبحث عن المتعة المعبّر عنهما من طرف الذكر، بينما تبقى العروس في موقف إنفعالي لأنها لا تمثل إجتماعيا ورمزيا إلاّ الوسيلة التي يحقق بها الرجل متعته الجنسية.

هذه التصرفات الشكلية والمصطنعة مطلوبة اجتماعيا من الفتاة خلال ليلة الزفاف، وإلاّ يقال عنها أنها “أَعْرُوسْ مَتْڤَدْمَة”، وهي عكس العروس الخجولة، وهي تشير إلى “التقدم” لأن المرأة “المَتْڤَدْمَة” تنعت هكذا لإتهامها بالتعالي وعدم إتخاذ المواقف المحتشمة المطلوبة، فيقال: “ذِِيك لَعْرُوس مَاحْضَرْها”، وهي كلمة مشتقة من الحضارة والتحضُّر، لأن هذا النوع من المجتمعات المنغلقة نسبيا يرفض فيها الفرد كل ما هو دخيل وجديد على تقاليده وعاداته، فالمرأة المتقدمة والمتحضرة هي بالتالي المرأة التي تتخلى عن تقاليد وعادات قبيلتها، فهي بذلك تتمرد على العادات والتقاليد التي أفرزها تطور هذا المجتمع.

وتبدي بعض النساء المسنات بكل صراحة عن قلقهن من التحضر والتقدم، والذي أفرز الجمعيات الحقوقية النسوية، فهن يعتبرن أن هذه الجمعيات قد تؤدي إلى خطر تعميق قوة العنف ضد المرأة، ويضعف مكانتها أمام الرجل، فالمرأة يجب أن تكون أكثر صلابة في مواجهة المصاعب، كما يواجهها الرجال، فلا يجب عليها أن تظهر في “لباس الضعف” بل عليها أن تظهر “بلباس القوة”.

فالمرأة الحسّانية أدركت خطر التباين في الأدوار بين الجنسين، وأدركت كذلك مدى خطر عدم التساوي بين الجنسين، فأنتجت مظاهرا اجتماعية تعطيها هيبة ومكانة اجتماعية، ومن بين هذه المظاهر هو مواجهة التقاليد التي تمنعها من التعبير عن رغباتها الجنسية، ورؤيتها من الجانب الإيجابي، فتعبيرها عبر طقوس الزواج عن عدم مبالاتها بالمتعة الجنسية، وهروبها لفترة عن زوجها، يجعلها الأقوى، والأكثر قوة في مواجهة رغباتها، بينما الرجل يظهر على أنه الأضعف في مواجهة رغباته الجنسية، وهذا ما يجعله يلح عبر هذه الطقوس على الحصول على متعته بشتى الطرق.

وهذا لا يعني أنها تتخلى عن حقها في المتعة الجنسية، بل إنها ترى أنها قادرة على تلبية رغباتها عبر استراتيجيات خاصة بها، كما أن المجتمع الحسّاني وضع آليات تميزه عن باقي المجتمعات، والتي تجعله يضع كل فئات المجتمع في ميزان واحد، ولا يعطي السلطة لفرد على حساب فرد آخر، وهذا ما يجعل هذا المجتمع “مجتمع بلا عنف”.

إنّ تعبير العروس عن نزعتها الجنسية وإظهار رغبتها في العلاقة الحميمية تعتبران بمثابة عيب وعار، خلافا للرجل الذي يرى رغبته ونزعته إلى المتعة مُباحة ومشروعة، ولا حرج في أن يُظهرها عبر هذه الطقوس والعادات.

ومما يجعل المرأة الحسّانية في موقف يمكّنها من مواجهة أزمات نفسية واجتماعية قد تحطم مصير حياة المرأة في بيئات أخرى غير البيئة الحسّانية، تلك المواقف والتمثلات الخاصة بفكّ الرابطة الزوجية والتي تحفظ لها مكانتها في المجتمع.

فهناك عادة خاصة بالمجتمع الحسّاني تجعل أهل المرأة المطلّقة يستقبلونها بدون تذمر ويحتفلون بالحدث عند نهاية عدّة الطلاق، فيقام لها حفل لا تقل حرارته عن حرارة حفل الزفاف، وذلك تعبيرا عن ما يُعتبر، في حالتها، تخلصا من حياة زوجية أصبحت غير مرغوب فيها.

وقد يكون الحفل الذي يُنظم بهذه المناسبة فرصة لإعلان أحد المعجبين بها عن رغبته في الزواج بها، لأن المرأة المطلّقة تبقى في نظر الرجل الحسّاني هي المرأة المفضّلة لخبرتها المكتسبة خلال الزواج الأول والتي تكون قد مكّنتها من التحرر من الخجل الذي تربّت عليه ومن الخوف الذي زرع فيها وهي فتاة.

ويرى المجتمع الحسّاني هكذا في المرأة المطلّقة إمرأة إكتسبت توازنا نفسيا وتجربة تجعلها ذات استقلالية ومكانة تمنحها حرية اختيار شريك لحياتها وتحمّل صلاحياتها في مجال الرغبة والتمتّع والتفاعل الجنسي.

وإذا كانت المرأة الحسّانية تدرك وزنها ومكانتها في مجتمعها، فإنها تعيش إنشغالا تعتبره أساسيا، بل مصيريا، يكمن في تحقيق رغبتها رغم أنّها تبقى في حدود الموروث المرتبط بالتنشئة والتربية التي قد تجد إمتدادا في تجربتها وخبرتها، إلاّ أنّها لا تفصل بين المكانة المعتبرة التي تحتلها داخل مجموعتها وفي المجتمع وإمكانية التعبير عن الذات وتحقيق رغباتها.

وبالرغم من هذا كله فإن المرأة الحسّانية لا ترى أن محدودية تحقيق رغباتها ومتعتها راجع إلى الدور السلبي للرجل، بل تربط ذلك بوضع طبيعي عام خاص بالمجتمع والعادات والتقاليد، حتى أنها تذهب إلى حد التعبير ليس فقط عن آلامها بل كذلك عن معاناة الرجل في حالة وجود نوع من الحواجز دون تحقيق متعة زوجته الجنسية معتبرة أنه هو نفسه جزء من هذا الوضع وضحية له أحيانا، أي أنه جزء من لعبة سلطة داخل العلاقات الإجتماعية المتعددة.

ويصل الباحث في أوضاع المرأة في المجتمع الحسّاني إلى إقتناع أنّ المكانة المتميزة التي تحتلها المرأة في وسطها تمنحها سلطة حقيقية وتجعلها تطمح إلى تحقيق ذاتها رغم شعورها بنوع من القمع والحرمان في حياتها الجنسية، ولا يتناقض هذا مع تواجدها القوي جسدا وهوية ورمزا في مختلف مستويات الحياة الاجتماعية.

وتسعى المرأة الحسّانية إلى المزيد من المعرفة فيما يتعلق بالذات وبالآخر لأن هذه المعرفة أصبحت ضرورية لاكتساب الفرد استقلالية تمكنه من تحقيق رغباته المختلفة والمتباينة ضمن مقتضيات المجموعة التي ينتمي إليها، وتحضى المرأة الحسّانية في هذا المجال بما تجده في الرجل من مسعى نحو التعبير عن الإعجاب بها والعمل على تلبية رغباتها وتطلعاتها، واقتحام ما تمثله من مجهول.

هكذا إذا، فإن ما يجعل المجتمع الحسّاني “مجتمعا بلا عنف”، هو الأهمية والمكانة المتساوية التي يعطيها لكل أفراده وفئاته المختلفة من طفل، رجل، إمرأة، طفلة، شيخ، شيخة، متزوج، متزوجة، مطلقة، مطلق…إلخ.

وما يهمنا كباحثين اجتماعيين هو أهمية الدراسات الأنثربولوجية الثقافية والاجتماعية في فهم مجتمعاتنا، فلو لم أدرس الطقوس في هذا المجتمع لما تمكنت من معرفة طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة في هذا المجتمع، هذه العلاقة التي تقوم على المساواة، لأننا في الغالب عندما نتحدث عن سلطة الرجل فإن ذلك قد يكون على حساب المرأة، وعندما نسمع عن مجتمع تكتسب فيه المرأة السلطة، فإن المتوقع أن هذه السلطة قد تكون على حساب الرجل.

استطعنا من خلال المقاربة الأنثربولوجية أن ندرك الآليات التي أوجدها هذا المجتمع من خلال الخبرة لمواجهة العنف ضد كل أفراده، رغم أن هذا المجتمع منغلقا نسبيا، لأنه يحاول مواجهة العديد من التكنولوجيات الجديدة وبعض مظاهر العولمة والتحول الاجتماعي، إلاّ أنّ أفراده يتميزون بفلسفة خاصة للحياة تجعلهم يعيشون في حالة إستقرار.

الهوامش

[1]. أنظر هاشم صالح، الشرق الأوسط، 10-07-2007، الموقع : http : //www.asharqalawsat.com/leader.asp ?

تاريخ معاينة الموقع : 27-01-2009.

[1] . نفس المرجع.

[1]. د. محمد الحبيب الشريف، “مجلة الأحوال الشخصية : بين الأصالة والحداثة”، مجلة الأحوال الشخصية : أصالة وحداثة، تونس، الكريديف، أوربيس للطباعة، 2006، ص 17.

[1]. رفاعة رافع الطهطاوي، تحرير المرأة المسلمة : كتاب المرشد الأمين في تربية البنات والبنين، تنقيح وتقديم: يحيى الشيخ، لبنان، دار البراق، 2000، ص 11.

[1]. د. فاطنة سرحان، “المرجعية الإسلامية هل تكون عائقا أمام النهوض بأوضاع المرأة في الأسرة”، ملتقى الآراء-1- قانون الأسرة في البلاد العربية الإسلامية قراءة للضوابط الدينية والقانونية، مؤسسة كونراد أديناور، تونس، 2005، صص 98 – 104.

[1]. د. محمد آركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ت. هاشم صالح، ط.3 ، لبنان، دار الساقي، 1998، ص 128.

[1]. المجتمع الحسّاني هو المجتمع الذي ينطق أفراده باللغة الحسّانية، ويشكل مجموعة متواجدة في كل من تندوف بالجنوب الجزائري، وموريتانيا، وجنوب المغرب، والصحراء الغربية، بحيث تعرف هذه المجموعة بثقافتها المتميزة، من لغة وشعر وغناء، وتعرف كذلك بالسلوك الثيابي المتميز، وبالأخص الزي النسائي. وتتميز هذه المجموعة بنظامها الخاص، نظام قبلي محافظ. أنظر : مباركة بلحسن : المرأة والجسد : مقاربة أنثروبولوجية في الوسط التندوفي، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في علم الاجتماع ، تخصص “التحول الاجتماعي والهوية”، جامعة وهران، 2004.

[1] . سمية نعمان جسوس، بلا حشومة. الجنسانية النسائية في المغرب، ترجمة عبد الرحيم خزل، المركز الثقافي العربي، الطبعة 11، 2001، ص 11-12.

[1] . محمد نجيب عبد المولى، الإنسان والمقدس، تونس، دار محمد علي الحامي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1994، ص 93.

[1]. Bruno Remaury, Le beau sexe faible. Les images du corps féminin entre cosmétique et santé, Paris, Grasset et Fasquelle, 2000, p. 71.