العقل الثّقافي في مواجهة العقل الانتفاعيّ… حوار مع مارشال سالينز

مارشال سالينز
مارشال سالينز

بقلم: فرانسوا أرمانيه François Armanet وجيل أنكتيل Gilles Anquetil

ترجمة وتقديم : محمّد الحاج سالم

تقديم:

ولد الأنّاس مارشال دافيد سالينز سنة 1930 في شيكاغو، وعمل في الستّينات مساعدا للأنّاس الفرنسيّ كلود ليفي ستروس (ِClaude Levi-Strauss)، وهو حاليّا أستاذ إناسة متفرّغ في جامعة شيكاغو مختصّ في دراسة المجتمعات البولينيزيّة والاقتصاد البدائيّ. ويعتبر سالينز حاليّا أحد أبرز منظرّي البنيويّة الجديدة بعد أن كان في بدايته قريبا من النّظريّة الماركسيّة، ولعلّ الفضل في ذلك يعود إلى توجّهه نحو الإناسة الاقتصاديّة وسعيه بالخصوص نحو الكشف عن الإواليّات التي تتحّكم في سيرورات الاقتراض الثّقافي بين المجتمعات المؤدّية للتغيّر الاجتماعيّ. وفي هذه السّبيل، اختطّ سالينز منهجا خاصّا وفذّا ركّز فيه على تحليل “السّيرورات الثّقافيّة الصّغرى” التي تعيشها المجتمعات الصّغيرة في حجمها، وهو ما استدعى العمل بشكل دقيق على سبر أغوار المنطق الذي يحكم عمليّات التّواصل الاجتماعيّ في تلك المجتمعات. ورغم احتفاظه بمفهوم البنية، وخاصّة في وصف العلاقات الرّمزيّة القائمة داخل كلّ نظام ثقافيّ، إلاّ أنّ تحليلاته كانت تأخذ دوما مسألة التّاريخ بعين الاعتبار. “فبعض الأحداث التّاريخيّة (في معنى التّاريخ العامّ) قد لا يمكن فهمها إلاّ بوصفها تحقّقا لأسطورة مّا في الواقع المعاش، إذ أنّ الأسطورة بما هي منتج ثقافيّ، سابقة دوما لكلّ تاريخ، بل هي صانعته أيضا حين تحدّد المسارات الممكنة للأحداث والوقائع وتراتبها الزّمنيّ، وتسبغ عليها معناها الخصوصيّ” .
وقد كان هذا الاعتبار حاضرا في جميع مؤلّفات سالينز وخاصّة في أوّل أهمّ كتبه “اقتصاديّات العصر الحجريّ” (1972) الذي ترجم إلى الفرنسيّة تحت عنوان “العصر الحجريّ، عصر وفرة” (دار غاليمار، 1973)، إذ تساءل فيه عن طبيعة الاقتصاد البدائيّ، وطرح فكرة تبدو متناقضة في الظّاهر مفادها أنّ الاقتصاد البدائيّ هو الوحيد الذي استطاع إلى حدّ الآن خلق مجتمع وفرة حقيقيّ، وأنّ مجتمع الصّيد وقطف الثّمار لم يكن البتّة مجتمع إملاق، بل كان على العكس من ذلك مجتمع وفرة. وتنقسم الوفرة حسب سالينز إلى نوعين، يقوم أوّلها على تلبية الحاجات من خلال إنتاج وفير، بينما يقوم الثّاني على تقليل الرّغبات. وفي هذه الحالة، تنعدم الحاجة إلى كثرة العمل نظرا لمحدوديّة الحاجات، وقد كان هذا خيار المجتمعات البدائيّة.

وقد طوّر سالينز هذه الفكرة في كتابه الثّاني “الثّقافة والعقل العمليّ” (1976) الذي ترجم إلى الفرنسيّة تحت عنوان “في قلب المجتمعات: العقل الانتفاعيّ والعقل الثّقافي” (دار غاليمار، 1980) وسعى من خلاله إلى تقديم رؤية جديدة للصّراع المتجدّد دوما بين المادّية والمثاليّة يمكن تلخيصها بابتسار شديد في وجوب ألاّ يخضع العقل الثّقافي لمتطلّبات العقل الانتفاعيّ، بل لا بدّ للأوّل أن يكون وصيّا على الثّاني. ففي جميع المجتمعات، يعيش الإنسان “وفقا لنمط ذي دلالة صنعه بنفسه، وهو نمط لئن لم يكن يمثّل الاختيار الممكن الوحيد، إلاّ أنّه مستعص على كلّ حتميّة ماديّة”. وانطلاقا من هذا التصوّر للثّقافة، انتقد سالينز ما يطرحه منظّرو السّوسيوبيولوجيا وخاصّة ما جاء في كتاب إدوارد أوزبورن ويلسون (Edward Osborne Wilson) “السّوسيوبيولوجيا، تحليلات جديدة” (Sociobiology: The New Synthesis, Harvard University Press, 1975) وذلك ضمن كتابه “نقد السّوسيوبيولوجيا” (دار غاليمار، 1980). كما أدّى هذا التصوّر أيضا إلى إسهام سالينز في تقديم فهم جديد لظاهرة التّثاقف وبيان أنّ للثّقافة سلطة قاهرة في تشكيل أفعال النّاس واليد الطّولى في تشكيل تصوّراتهم. ورغم توجّه تحليلاته أساسا نحو شعوب المحيط الهادئ وخاصّة أهالي جزر فيجي وهاواي، إلاّ أنّ نضاله هو بلا شكّ ذو بعد عالميّ. فهو يناضل من أجل دحض فكرة الإنسان الاقتصاديّ (homo œconomicus) وإثبات خضوع المثل الثّقافيّة وأنساق التمثّل لعقل ثقافيّ يصنعه الإنسان بنفسه، هو ما يحدّد حاجاته المادّية وغير المادّية، وهذا ما يطلعنا عليه مرّة أخرى في كتابه قبل الأخير “اكتشاف البرّي الحقيقيّ، ومقالات أخرى” (دار غاليمار، 2007)، وهو كتاب أقلّ ما يقال فيه إنّه يلخّص المسيرة الفكريّة الطّويلة والزّاخرة للرّجل.

وفي سبيل فهم أفضل لطروحات مارشال سالينز ومنهجه الإناسيّ في دراسة المجتمعات “البدائيّة” وما يمكن أن نتعلّمه منها، اخترنا أن نقدّم للقارئ العربيّ هذا الحوار الذي أجراه معه فرانسوا أرمانيه (François Armanet) وجيل أنكتيل (Gilles Anquetil) ونشرته صحيفة لونوفال أبسرفاتور الفرنسيّة في عددها 2229 لسنة 2007، وهو حوار يكشف – إلى جانب العلم الغزير والمعرفة العميقة – أهمّ ما يتميّز به أكبر عالم إناسة أميركيّ لا يزال على قيد الحياة، ألا وهو احتفاظه بروحه المتمرّدة التي برزت خلال حرب فيتنام، وهو ذات التمرّد الذي مازالت جذوته حيّة إلى يومنا هذا رغم تجاوز صاحبه عتبة الثّمانين من العمر. ولعمري أنّ هذا وحده كاف لاحترام هذا العالم والمفكّر الكبير.

——————–

أنت من أصل روسيّ، وولدت في شيكاغو التي تعتبر مهد إحدى المدارس الكبرى للإناسة الأمريكيّة. كيف انجذبت إلى هذا المجال؟

لقد كانت جامعة شيكاغو بالفعل مهد مدرسة كبيرة لعلم الإناسة، ولكن تلك الحركة كانت في أرذل العمر حين دخلت تلك الجامعة في عام 1973. والحقيقة أنّ إسنادها كرسيّ الأستاذيّة لرادكليف براون (Alfred Reginald Radcliffe-Brown) في الثّلاثينات، هو ما جعل جامعة شيكاغو مركزا طليعيّا أميركيّا للإناسة الاجتماعيّة البريطانيّة، ولم يخل ذلك من دفع ثمن تمثّل في عدد من التّرضيات تجاه الثّقافة المحليّة، كما هو الحال دائما في مثل هذه الوضعيّات الاستعماريّة. أمّا أنا، فعلاوة عن دراستي في مكان آخر، أي في جامعة ميشيغان ثمّ جامعة كولومبيا، فإنّ قدميّ لم تطآ أبدا جامعة شيكاغو قبل أن أتولّى التّعليم في رحابها. لقد كانت تقع في الجانب الجنوبي من شيكاغو، في حيّ يضمّ، بالإضافة إلى فريق البيسبول المنافس، بعض اليهود الألمان المتكبّرين، وهم أكثر تعليما وثراء من اليهود القادمين من أوروبّا الشّرقيّة الذين كانوا يعيشون في الجانب الغربيّ من المدينة. وكنّا لا نختلط. بل إنّي أسارع إلى القول بأنّني تلقّيت تعليما علمانيّا محضا في أسرة غير متديّنة، وذلك رغم أسطورتنا العائليّة التي تدّعي أنّنا من سلالة “بال شيم توف”( Bal Shem Tov) الصوفيّ الكبير في القرن الثّامن عشر ومؤسّس الطّائفة اليهوديّة الحسيديّة. وأنا ما زلت إلى اليوم أبدي اهتماما متزايدا بشأن ديانة الآخرين، وذلك رغم أنّني على استعداد للتّسليم بأنّ الإلحاد قد يكون أبسط حلّ لمشاكل العالم وأقلّها كلفة. أما بالنّسبة للسّياسة، فإنّ عائلتي لم تكن تنتمي إلى أيّ حزب، ولكنّ والدتي كانت معجبة بإيمّا غولدمان (Emma Goldman)، بل إنّها قامت خلال الانتفاضة الرّوسيّة عام 1905، وكانت لا تزال آنذاك طفلة، بتهريب منشورات ثوريّة في حقيبتها المدرسيّة!

لذلك كان يوجد تآلف بين هذا المجتمع المكوّن من مهاجري الغرب الأوسط اليساريّين، والنّظريّات الإناسيّة لليزلي وايت (Leslie Alvin White) الذي كان معلّمي في جامعة ميشيغان. لقد كان وايت واحدا من كبار “المثقّفين العضويّين” المتمرّدين الذين أنتجتهم أمريكا الأرياف والمدن الصّغيرة في النّصف الأوّل من القرن العشرين، والذين كان من بينهم ثورشتاين فيبلن (Thorstein Veblen) وكلارنس آيريس (Clarence Ayres) وتشارلز بيرد (Charles Beard) وتشارلز رايت ميلز (Charles Wright Mills). لقد كانوا إن جاز التّعبير “ملحدي القرية”: أكاديميّون هامشيّون ثائرون ضدّ المستغلّين والطّبقات المهيمنة والعقائد الإيديولوجيّة للمجتمع الأميركي. لقد كان وايت يزلزل قاعات المحاضرات بتحدّيه الله في أن ينازله وجها لوجه، وكانت نظرّياته حول التطوّر الثّقافي والحتميّة التّكنولوجيّة تنضح بنكهة أمريكيّة مميّزة، ومن ذلك “قانونه” الشّهير الذي ينصّ على أنّ “الثّقافة تتطوّر بنفس وتيرة ارتفاع كمّية الطّاقة التي يحصل عليها كلّ شخص سنويّا”. وكان لا يعجبه سماع طالب الدّكتوراه الشّاب الذي كنته وهو يحاججه في عدم صلاحيّة هذا القانون بالقول إنّ كميّة الطّاقة التي كان يحصل عليها كلّ شخص ظلّت ثابتة منذ العصر الحجريّ المبكّر إلى العصر الحجريّ الحديث، وأنّ مصدر الطّاقة الميكانيكيّة الوحيد المتاح طوال تلك الفترة (مع استثناءات نادرة) هو جسم الإنسان الذي يعمل بقوّة ثابتة تقدّر بحوالي 0,02 حصان في السّاعة !.

وبالمقابل، يوجد جانب آخر أساسيّ (ومتناقض) في تعاليم وايت، وهو ما لا أنكره البتّة، ويتمثّل في تعريفه الثّقافة بوصفها نظاما يتأسّس رمزيّا، ومخصوصا بالنّوع البشريّ. لقد كان واحدا من أندر علماء الإناسة الأمريكان في زمنه ممّن أشار إلى فرديناند دي سوسير (Ferdinand de Saussure) ونظريّته في اعتباطيّة الدّليل اللّغويّ. لقد كان يردّد دائما أنّ القرد لا يمكنه التّمييز بين ماء مقدّس وماء مقطّر، لأنّه لا يوجد اختلاف بينهما من وجهة نظر كيميائيّة؛ وما يميّز بينهما من حيث القيمة والاستخدام إنّما هو المعنى الذي يضفيه البشر على كليهما. ولقد كان بإمكانه أن يقول أيضا، على حدّ التّعبير الماركسيّ المعروف، إنّ الفأس الحجريّة تخلق نوعا معيّنا من المجتمعات، بينما يخلق مصنع الصّلب نوعا آخر من المجتمعات، لولا أنّ التّناقض يكمن هنا. فبالنّسبة لوايت، فإنّ الفأس، من وجهة نظر ثقافيّة، لم تكن مجرّد أداة بسيطة بل هي “فكرة” تشكّلت وفق معيار خصوصيّ محدّد بتقسيم معيّن للعمل ونظام معيّن للـ”ملكيّة”، وبالتّالي فإنّ صنع الفأس واستخدامها وانتقال ملكيّتها كانت تتمّ كلّها وفقا لتمايزات اجتماعيّة ذات دلالات معيّنة. وتبقى المفارقة النّظريّة لوايت، أي كون البنية التّحتيّة المادّية المحدِّدة هي في ذاتها نظام ذي مغزى ثقافيّ، مشكلة مستعصية على الحلّ عند جميع الباحثين في العلوم الإنسانيّة الذين يدعون إلى فصل الثّقافة عن الممارسة من خلال جعل الثّقافة النّظير المثاليّ الموازي للواقع المادي.

في عام 1965، قمت في خضمّ حرب فيتنام بإقامة أوّل “ندوة داخليّة” (teach-in) حول الموضوع في الولايات المتّحدة. هل لك أن تحدّثنا عن هذه التّجربة وعن الدّور الذي لعبه هذا الحدث في مسارك الفكريّ؟

في آذار / مارس 1965، أضحيت في جامعة ميشيغان مجرّد هامش سفليّ على إحدى صفحات كتاب التّاريخ. وأنا أعني ذلك حرفيّا، إذ ظهر ذلك الهامش في تقرير لجنة فرعيّة في مجلس الشّيوخ تحت عنوان “الاضطرابات ضدّ حرب فيتنام وحركة “النّدوات الدّاخليّة”: مشكلة الاندساس والاستغلال من جانب الشّيوعيّين”. وقد وصف هذا التّقرير بدقّة كبيرة الوقت الذي اقترحت فيه إقامة “ندوة داخليّة” في مواجهة المشروع الأصليّ لـ “النّدوات الخارجيّة” (teach-out) الذي أطلقه عدد من الأساتذة الذين دعوا إلى إلغاء الدّروس في الجامعات وتنظيم مناقشات خارجها بشأن الحرب في فيتنام. وفي مواجهة انتقادات شديدة من بعض الزّملاء، اقترحت احتلال قاعات التّدريس بعد انتهاء الدّروس وإقامة “ندوات داخليّة” ننتقد فيها الحرب حتّى مطلع الفجر.

والحقّ أنّني ربّما كنت ميّالا إلى التّعارضات الثّنائيّة، فقد كان الأمريكان خلال الستّينات متحمّسين لكلود ليفي ستروس. ولكن كانت هناك أيضا ظروف بنيويّة أعمّ، ومنها بالطّبع تلك الفجوة بين الأجيال التي بدأت حينها في التّعاظم: لقد بدأ الطلاّب، الذين كانوا حتّى ذلك الحين مجرّد بورجوازيّين قيد التّمرين، بتقليد الطّبقة العاملة: ليفي ستروس، الجينز، لا للكتب! بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن هناك سوى نوع واحد من الموسيقى الشعبيّة يلقى الرّواج في أمريكا، سواء في صفوف البالغين أو المراهقين، وفجأة ظهر المغنّي إلفيس بريسلي (Elvis Presley) وفرقة البيتلز (The Beatles) لإثبات أنّ كونفوشيوس وأفلاطون كانا على حقّ في انشغالهما بالعلاقة بين الموسيقى والتّناغم السّياسي. وفي الواقع، فقد وجدت بالفعل في صفوف الشّباب الأمريكي حركات رفض مضادّة للثّقافة جديرة بهذا الاسم حتّى قبل احتداد الصّراع في فيتنام في شباط / فبراير 1965. ولا يمكن إنكار أنّ “الحركة من أجل حريّة التّعبير” (Free Speech Movement) التي نشأت في بيركلي قد ألهبت بعض مشاعر “الغيرة تجاه الشّغب” في جامعة ميشيغان. ولكنّ الأهمّ من ذلك، هو ما كانت تلقاه “النّدوات الدّاخليّة” من أصداء خلال الاعتصامات ضدّ التّمييز العنصريّ التي كانت تنظّمها “لجنة التّنسيق الطّلابيّة اللاّعنفيّة” (S.N.C.C) في جنوب الولايات المتّحدة، والتي كانت بدورها تستلهم اعتصامات العمّال الذين احتلّوا مصنع فورد في مدينة فلينت (Flint) بولاية ميشيغان بين سنتي 1936 و 1937 أثناء الإضراب الأكثر شهرة في تاريخ الشغّيلة الأمريكيّة. وبإعادة تقييمي للدّور الذي لعبته في هذا الظّرف، توصّلت إلى استنتاج مفاده أنّ الدّور التّاريخي للأفراد مقيّد في حدّ ذاته ببنية، أي بوضعيّة داخل نسق، حتّى وإن كانت تلك الوضعيّة غير كافية لتحديد ما سيقومون بفعله. فالقوّة الجماعيّة يمكنها أن تتجسّد في فرد: إمّا من خلال مبادرة محظوظة تأتي في الوقت المناسب (كما في حالة النّدوات الدّاخليّة، التي شهدت نجاحا منقطع النّظير)، أو من خلال سلطة مسندة لفرد يتصرّف بوصفه قائدا معيّنا لجماعة منظّمة هيكليّا كي يعكس وينقل كلّ ما يمكن لشخص مثل جورج بوش أو أيّ سياسيّ آخر أن يفعله أو أن يتسبّب فيه. ولكن في أيّ حال، إذا ما كان الفرد هو من يحدّد مصير الجماعة، فإنّ الجماعة بالمقابل لا تحدّد في حدّ ذاتها فرديّته. وكما يقول سارتر (Jean Paul Sartre)، فإنّ الزّمرة مرغمة على التحقّق بنفس الطّريقة التي سمحت بها لنفسها أن تختزل في شخص واحد. لقد كانت معارضة حرب فيتنام بلا شكّ أمرا لا مناص منه في ربيع عام 1965، ولم تكن النّدوات الدّاخليّة سوى شكل عارض لها. ففي الأوقات العاديّة، ربّما تشنّ إضرابات، وقد تقوم على الأرجح مظاهرات أسبوعيّة، لكن من المؤكّد أنّه ستكون هناك عرائض موقّعة من قبل بعض الفلاسفة.

وبوجه أعمّ، فقد كان لحرب فيتنام، في خضمّ الحرب الباردة، تأثير سياسيّ كبير على جميع التخصّصات الأكاديميّة تقريبا في الولايات المتّحدة، بحيث كان محتّما الاختيار بين أمرين: إمّا التّعاون مع جنون العظمة الامبرياليّ الذي كان في عنفوانه، أو الانخراط في معارضته. وقد دفعت الاعتبارات السّياسيّة والإستراتيجيّة باتّجاه إجراء بحوث علميّة معيّنة، بل وأملت تعليم لغات محدّدة ودراسة مناطق بعينها من العالم. وغدا ما يمكن تسميته وظيفيّة السّلطة، الخطاب المعياريّ في العلوم الإنسانيّة التي سعدت بحصر خصائص المؤسّسات الاجتماعيّة في مفاعيلها السّياسيّة المفترضة، وهي الظّاهرة التي لم تخفت تأثيراتها إلى حدّ يومنا هذا. لذا، فإنّنا إن نظرنا إلى أيّ حدّ صبغت الحرب الباردة جميع مجالات التّفكير، فإنّ تلك الحقبة كانت مثاليّة لاستقبال فكر فوكو (Michel Foucault) الذي كان يرى هو أيضا السّلطة في كلّ مكان. وبشكل عامّ، فقد اختارت العلوم الإنسانيّة والآداب، وهذا ممّا شرّفها، محاربة السّلطات القائمة، وذلك بتطوير نقد مضادّ لتسلّط القوميّة، والامبرياليّة، والدّولة، والعنصريّة، والتّمييز الجنسيّ، وبقيّة الشّياطين الأرضيّة الأخرى. ولم يكن ذلك ليخلو من خطر وقوعها في تناقض حتميّ، لأنّها كانت من خلال التّركيز على سلبيّات الخطابات التحرّريّة المضادّة للبنية أو للتّفكيك، تقرّ ضمنا بعض خطابات الهيمنة كخطابات مؤسّسة لها، بما في ذلك طبعا النّسخة الفوكويّة منها. لكن إذا كان الدّرس المستفاد من الستّينات عند كثير من النّاس هو معارضة كلّ أشكال السّلطة، فإنّ درس فيتنام علّمني قبل كلّ شيء الاحتفاء بجميع أشكال الثّقافة. ولم يكن يحتمل مطلقا أن يؤدّي بي انتصار الفيتناميّين في مواجهة القوّة الأمريكيّة إلى الوثوق في الحتميّة التّكنولوجيّة التي تعلمّتها في الجامعة. لذلك، بدأت سلسلة من الدّراسات حول ما أسميته “توطين الحداثة”، في إشارة إلى الأساليب الثّقافيّة المختلفة التي استخدمتها شعوب الإسكيمو وغينيا الجديدة وبولينيزيا وغيرها من الشّعوب كي تجعل “نظاما عالميّا” غازيا ينخرط ضمن إطار أشمل منه، ألا وهو نظام عالمها الخاصّ.

عملت بين سنتي 1968 و1969 في باريس مع ليفي ستروس. ماذا تعلّمت من تلك المواجهة؟

يستحيل عليّ أن أجمل كلّ ما تعلّمته أثناء وجودي في مختبره في الكوليج دي فرانس (Collège de France). لذا، فلتسمح لي بتلخيص تلك التّجربة. في عام 1969، قدّمت بحثا حول بعض أنظمة التّبادل التّقليديّة في أستراليا وميلانيزيا، مع إعلاني مسبقا أنّني لست بنيويّا، فأنا لم أكن أتحدّث عن تبادل للنّساء أو للكلام بل عن بنية تحتيّة حقيقيّة مادّية وملموسة، وهو ما اعترف ليفي ستروس بالفعل باستقائه من تحليلات ماركس. وخلال المناقشة التي أعقبت ذلك، أكّد لي ستروس أنّني لا أعدو أن أكون بنيويّا، وذلك لأنّ ما برهنت عليه بخصوص تلك التّبادلات المادّية يتوافق مع بعض بنى تبادل الزّوجات التي سبق أن وصفها في كتابه “البنى الأوّليّة للقرابة” (Les Structures élémentaires de la parenté). وقد اعترضت على ذلك مشيرا إلى ما أورده في كتابه “الفكر البرّي” حيث قال إنّ البنيويّة هي على وجه التّحديد علم للبنى الفوقيّة. وقد ردّ عليّ بالقول: “هذا صحيح، ولكن يجب أن تفهم أنّني تعلّمت الإناسة من فرانز بواس (Franz Boas) وروبرت لوي (Robert Lowie) من خلال حوارتهما مع هنود المحتشدات حول أعراف الأجيال السّابقة (كان يطلق على ذلك اسم “أركيولوجيا الحيّ” l’archéologie du vivant) وما كان أحد ليهتمّ بوجود الهنود المعاصرين”، وأضاف:” ولكن اليوم، لا بدّ لنا من توسيع البنيويّة لتشمل البنى التّحتيّة”. وقد أجبته بأنّني أعتقد أنّ حصره البنيوية في دراسة البنى الفوقيّة هي مسألة مبدأ علميّ، ولم أتمالك نفسي فسألته: “ما هي البنيويّة تحديدا؟”، فأجابني بقوله: “هي الإناسة الجيّدة”. وبالفعل، اقتنعت بأنّني كنت، حسب هذا المعيار، بنيويّا.

منذ متى وأنت مهتمّ ببولينيزيا وجزر فيجي؟ وكيف نفهم اختيارك النّياسة الوصفيّة التّاريخيّة المستندة على السجلاّت أكثر من اعتمادها العمل الميدانيّ؟ ماذا تعلّمت من هذه المجتمعات؟

لا شكّ أنّني كنت، على غرار عدد كبير من أبناء جيلي، ممّن اتّبع خلال مرحلة دراسته الإناسيّة -على تواضعها- خطى أوّل معلّم أميركي كبير، ألا وهو لويس هنري مورغان (Lewis Henry Morgan). فقد انضمّ هذا المحامي الشابّ من ولاية نيويورك خلال أربعينات القرن التّاسع عشر إلى صفوف أخويّة كان أعضاؤها يتنكّرون في هيئة هنود حمر ويتبادلون عبارات سخيفة مثل “الصّنوبر المعوجّ للغابة الكبيرة تكلّم بلسانه المتشعّب”. ولشعوره بعدم الرّضا تجاه تلك المهازل، قرّر مورغان القيام بدراسة ميدانيّة حول قبائل الإيروكوا (Iroquois) المحليّة، وبذلك دشّن التّقليد النّياسي الوصفيّ الأمريكيّ. وبالمثل، فقد قضيت طفولتي في لعب أدوار رعاة البقر والهنود وقراءة روايات الكاتب جيمس فينيمور كوبر (James Fenimore Cooper) التي كان أبطالها هنود مزيّفون (أي ما يعادل “الزّنجي الصّغير”)، وهو ما دفعني إلى القيام بدراسة ميدانيّة حول عشيرة هنديّة من نوع غير مألوف، إذ كانت عشيرة تراتبيّة ممّن يوصف عادة بـ”العشيرة مخروطيّة الشّكل”، أي من النّوع الذي وصفت به عشائر شعب الآزتك (les Aztèques) في الفترة ما قبل الكولومبيّة وقبل “أوّل اتّصال” [مع الأوروبيّين]. وقد أنهيت للتوّ دراسة عن التّراتبات السّياسيّة في بولينيزيا، فجزر فيجي تمثّل بحقّ ميدانا مثاليّا للقيام بدراسة نياسيّة وصفيّة لمثل هذا النّوع من التّراتب الهرميّ العشائريّ.

ومع ذلك، كنت قاب قوسين أو أدنى من التّراجع عن مهمّتي أثناء “أوّل اتّصال” مع الأهالي لولا تدخّل أحد الزّعماء البارزين في الحكومة لفائدتي، وهو ما جعل سكّان جزيرة موالا (Moala) التي اخترت العمل فيها، يخرجون عن بكرة أبيهم لاستقبالي رسميّا. وفي ذروة طقس الاحتفال بالمناسبة، قلت لعريف الحفل بأنّني جئت لفهم عاداتهم، فأجابني بالقول: “حسنا، نحن جميعا هنا. ماذا تريد أن تعرف؟ “. لقد كان بلا شكّ سعيدا بفكرة أنّ ذلك سيجعلني أغادر الجزيرة في اليوم التّالي. وحين سألت من أين جاء شعب الموالا، كان الجواب: “من تنجانيقا، عبر مصر، ومن ثمّ غينيا الجديدة وجزر سليمان، وعلى ورقة من شجر الخبز”. وقد استغرقت وقتا طويلا للتغلّب على نزعتي التّاريخانيّة المنكرة لهذه القصّة باعتبارها جزءا من الأدب الاستعماريّ الهابط. ولم أكتشف إلاّ لاحقا، حين بات في حوزتي عناصر جديدة، الخطوط العريضة للتّقاليد القديمة الخاصّة بالزّعامات الفيجيّة. لقد عرفت أنّ تلك القصص كانت تنتمي لتمدّد صوريّ للبنى المحلّية لكي تتوافق مع النّظام العالميّ الجديد والتّراتبيّة السّلطويّة الجديدة التي فرضها الأوروبيّون. ولا تقتصر هذه الظّاهرة على جزر فيجي، كنا أنّها غير مرتبطة بالضّرورة بالاستعمار الأوروبيّ. لقد “اكتشف” العديد من السّلاطين المسلمين في ماليزيا وسومطرة، وهذا ما يعكس توسّع التّجارة التّركيّة والعربيّة في القرن الخامس عشر، أنّهم أحفاد الإسكندر الأكبر الذي يصوّره القرآن بطلا فاتحا. ولو كان بوسعي أن أسألهم حول هذا الأمر، فلربّما أجابوا بأنّ أجدادهم كانو من “الرّوم” (القسطنطينيّة).

وبالمثل، فإنّ بحثي اللاّحق في جزر فيجي لا يعطي الأولويّة للوثائق على حساب العمل الميدانيّ، بل هو بالأحرى يستخدم النّياسة الوصفيّة لفكّ رموز التّاريخ. لقد كنت أعمل كامل أيّام الأسبوع في دار المحفوظات الوطنيّة للأرخبيل، باستثناء عطلات نهاية الأسبوع التي كنت أقضيها في زيارة القرى، وهذا ما مكّنني من خلال معايشتي بعض الممارسات القديمة التي ما تزال حيّة، من الوقوف على أهميّة العلاقات السّياسيّة والعلامات الخارجيّة للثّروة وغيرها من العناصر النّياسيّة التي كانت تلعب دورا هامّا في المجتمع حسب ما تقول نصوص القرن التّاسع عشر. كما أنّ من محاسن العمل الميدانيّ أيضا أنّه يمكّن من تصحيح بعض تحريفات السجّلات المحفوظة، بما فيها النّصوص المكتوبة باللّغة الانكليزيّة والمستندة بالطّبع على قواعد اللّغة الفيجيّة. ومن ذلك مثلا ما يذكره أحد المبشّرين من أنّ زعيما قال له يوما: “بنادقكم حقيقيّة، وقواربكم حقيقيّة، وبالتّالي فإنّ مسيحيّتكم لا بدّ أن تكون حقيقيّة”. إلاّ أنّ عددا لا يحصى من الطّقوس المعاصرة تؤكّد أنّ الرّجل الفيجي “الحقيقيّ” هو مرادف للمانا، أي القوّة المقدّسة الخفيّة. فخلافا للمظاهر النّاجمة عن اللّغة الانكليزية، فإنّ هذا الزّعيم لم يكن ماركسيّا يتحدّث عن تحديد الأسس الاقتصاديّة للبنية الفوقيّة، وإنّما العكس تماما !.

لماذا كتبت أنّ العرف في مجتمعات المحيط الهادئ يمكن أن يكون وسيلة تغيير؟

منذ القرن الثامن عشر، قام سكّان جزر المحيط الهادئ بإدراج قوى التدخّل الغربيّ بجميع أشكاله ضمن إطار التصوّر الذي يقيمونه حول ذواتهم باعتبارهم كائنات اجتماعيّة، وهو ما مكّنهم من أن يظلّوا فاعلين في تواريخهم الخصوصيّة ومحرّكين لها بالقدر الذي كان يسمح به بقاء مجتمعاتهم على قيد الحياة. ولتلاحظ أنّني استخدمت عن قصد لفظ تواريخ في صيغة الجمع، وذلك لأنّ تلك الشّعوب إنّما استمدّت مواردها من ثقافاتها في المقام الأوّل كي تظلّ فاعلة في تواريخها: لقد أصبح العرف أداة توفيق بين التحوّلات التي تعيشها ومقياسا لها.

ويكفي أن ننظر إلى مثالين للتّنصير مختلفين كلّ الاختلاف، رغم قيامهما على نفس النّموذج البروتستانتيّ المتشدّد: لدينا من جانب أوّل شعب “أورابمين” (Urapmin) في غينيا الجديدة التي لم يتوان أفراده عن معرفة أنّهم ملوّثون بوزر الخطيئة الأصليّة، وبالتّالي تنصرّوا جملة (عن طريق الاتّصال مع الشّعوب الأخرى في غينيا الجديدة) حتّى قبل أن يروا مبشّرا أوروبيّا واحدا؛ ولدينا من الجانب الثّاني أهالي هاواي، وخاصّة الرّعاع منهم الذين ظلّوا “على الكفر” وقاوموا محاولات تنصيرهم طوال عشرات السّنين بسبب أنّهم كانوا، كما لاحظ عدد كبير من المبشّرين الأميركان، “يفتقرون إلى كراهيّة الذّات”. واسمحوا لي أن أقتصر على ذكر بعض العناصر الثّقافيّة لتفسير هذا الاختلاف. ولنبدأ بالطّابع المركزيّ الشّديد لمجتمع هاواي المتأسّس على مبدأ تراتبيّ يرى أنّ وجود العامّة من النّاس وسعادتهم يتوقّفان على تصرّفات زعمائهم. وقد كان عامّة النّاس يكرّرون على مسامع المبشّرين اليائسين أنّ اعتناقهم المسيحيّة لم يكن عن اقتناع، بل لأنّ زعيمهم قد فعل ذلك. ولكن نظرا للقيمة السّياسيّة والمادّية للعلاقات الإباحيّة في هذا النّظام – بوصفها “روح ألوها” (aloha) [اسم الله في اللّغات البولينيزيّة- م] االتي تحكم مصير الزّعماء كما العوامّ – كان من الصّعب إقناعهم بممارسة العفّة وإماتة الجسد التي يرى فيها البروتستانت علامة النّعمة الإلهيّة. وقد عبّر أحد المبشرّين عن أسفه لوجود عشرين لفظ مختلف في لغة هاواي لوصف الزّنا: فإذا ما كان عليه أن يختار أحدها لترجمة الوصيّة السّابعة، فإنّهم سيعتقدون حينها أنّ غيرها من أشكال الزّنا لا يزال مشروعا. وفي المقابل، فإنّ شعب الأورابمين، وقد قام جويل روبنز (Joel Robbins) بدراسته في الآونة الأخيرة، يتشكّل من مجموعة صغيرة من الأفراد المتساوين نسبيّا لا يتجاوز عددهم 360 شخصا يتزاوجون فيما بينهم، وهو ما يجعلهم ينشئون علاقات قرابة متبادلة معقّدة ومكثّفة، ومتعارضة في كثير من الأحيان. ويمكن للمرء أن يقول في إطار ذاك النّظام التّقليديّ، أنّ كلّ فعل حسن هو في ذات الوقت فعل قبيح، إذ أنّ اختيار العيش مع شخص يعني إهمال شخص آخر لا يقلّ قرابة عن الأوّل؛ فتقديمك هدايا للبعض، سيكون معناه تلقّي اللّوم بسبب خرقك التزاماتك تجاه الآخرين. لذا، فلا غرابة في ترجمة شعب الأورابمين للمفهوم المسيحيّ للخطيئة بمصطلح “الدَّيْن” [بفتح الدّال]. إلاّ أنّهم كانوا مخطئين حين اعتقدوا الخلاص في المسيحيّة، وذلك لأنّهم لم يكونوا قادرين على التخلّي عن ثقافتهم التّقليديّة ببساطة، وهو ما زاد حالتهم تعقيدا، لأنّ ثقافتهم تتعارض جملة وتفصيلا مع المثل العليا للمسيحيّة.

ما هو دور الثّقافة في بحوثك الإناسيّة؟

الثّقافة عندي هي كلّ شيء. فمن خلال أشكالها وتحوّلاتها، ودورها في تاريخ المجتمعات وتنظيم الأفراد، فإنّ الثّقافة هي الموضوع النّهائيّ لكلّ معرفة إناسيّة.

ولعلّ أفضل طريقة لتوضيح هذا اليقين قد تكون في اعتراضنا على فولكلور الحتميّة الجينيّة التي أصبحت موضة رائجة في أمريكا: فهذه الحركة تزعم إرجاع كلّ شكل من الأشكال الثّقافيّة إلى “طبيعة إنسانيّة” شاملة قائمة على المصلحة الذّاتيّة وروح التّنافس. وبالاشتراك مع النّظريّات الاقتصاديّة لـ”الخيار العقلانيّ”، وهي من نفس الطّينة، ناهيك عن “الحسّ السّليم” و”الحكمة الشّعبيّة”، فإنّ بعض الفروع العلميّة المبسّطة مثل السّوسيو بيولوجيا وعلم النّفس التطوّري بصدد القيام حاليّا بإنشاء علم إنسانيّ متعدّد الاستخدامات، ألا وهو علم “الجين الأنانيّ”. وبطبيعة الحال، فإنّه من السّهل أن نتعرّف من خلال هذه الطّبيعة الإنسانيّة المزعومة على الذّات البورجوازيّة العتيقة. ولا يزال كثير من الأميركيّين مقتنعين بأنّ “النّوع البشريّ هو أنا”.

ومع ذلك، وكما يتّضح من الأبجديّات الأساسيّة للإناسة، فإنّ عيشنا في وفاق مع الثّقافة يسمح لنا بإمكانيّة تلبية ميولنا الطّبيعيّة بأسلوب رمزيّ، حسب تحديدات دلاليّة لذواتنا ومحيطنا وعلاقاتنا وإنتاجنا، بل وإدراك حاجتنا إلى جميع ذلك. ومن هنا، فإنّ الثّقافة الإنسانيّة هي أقدم بكثير من طبيعتنا بوصفنا نوعا، ذلك أنّها تعود إلى ما لا يقلّ عن مليوني سنة خلت، في حين ظهر الإنسان العاقل منذ مائتي ألف سنة، من خلال وضمن سياق ثقافيّ سمح بتجدّد البشريّة. فلئن كنّا تطوّرنا بيولوجيّا، فإنّ ذلك تمّ تحت ضغط الانتخاب الثّقافيّ، أي الحاجة لتثقيف حيوانيّتنا. وهذا لا يجعل منّا أو من أجدادنا صفحات بيضاء خالية من كلّ حاجة بيولوجيّة، ولكنّي أقصد أنّ ما تمّ انتخابه خصّيصا للجنس البشريّ هو القدرة على تحقيق تلك الحاجات بآلاف الطّرق المتعدّدة والمختلفة وغير المعروفة، ولكنّنا نستدلّ عليها من خلال التّاريخ والإناسة.

ولعلّ أنسب مثال لفهم العلاقة بين الثّقافة والطّبيعة البشريّة، ليس القول (على سبيل المثال) بوجود ممارسات جنسيّة في جميع الثّقافات، بل حضور الثّقافة في جميع الممارسات الجنسيّة. فالدّوافع الجنسيّة يعبّر عنها ويتمّ قمعها بطرق مختلفة وفقا لتعريفات محدّدة خاصّة بكلّ ثقافة، يحدّد بمقتضاها الشّركاء والظّروف والأماكن والأوقات، وصولا إلى الأوضاع الجسميّة الملائمة. بل إنّ البعض قد تكون له ممارسات عبر الهاتف. ومثال آخر عن التّلاعب (اللّعب بالكلمات مقصود) المفهوميّ هي الإجابة الشّهيرة لبيل كلينتون: “أنا لم أنم مع هذه المرأة”. وعلى العكس من ذلك، فنحن نتسامى بحياتنا الجنسيّة عامّة بطرق مختلفة، بما في التّعالي عليها وتفضيل العفّة، وهو ما روّج له الفكر المسيحيّ. وهذا ما يثبت وجود أساليب أكثر إقناعا للوصول نحو تحقيق الخلود من تلك الاستعدادات غير القابلة للقياس لجينات لاواعية (والخلود هو في نهاية المطاف ظاهرة رمزيّة تماما، ولا شيء آخر). ولنقل نفس الشّيء عن العدوانيّة: يمكننا أن نلعب لعبة الحرب فوق مروج كمبردج، وأن نولع النّار في كتاب أحد أعدائنا الجامعيّين، أو حتّى أن نردّ على الطّريقة النيويوركيّة عن قول أحدهم “اقض يوما لطيفا” بعبارة “أنا لا أتلقّى الأوامر منك”!. فمهما كانت احتياجاتنا، ودوافعنا الغريزيّة، وميولنا الفطريّة، سواء كانت من طابع عدوانيّ أو أنانيّ أو غذائيّ، من طابع اجتماعيّ أو مؤثر للغير، فهي جميعا تمتح من تعريف رمزيّ، وبالتّالي من النّظام الثّقافيّ. فالبيولوجيا عند البشر، هي محدِّدٌ (بالكسر) محدَّد (بالفتح) ثقافيّا.

هل الفكر البرّي الحقيقيّ هو فكر الرّأسماليّة المعاصرة؟

ليس بالمعنى المباشر. وإن شئنا الدقّة، فإنّ الرّأسمالية المعاصرة تستتبع نفس المنطق الثّقافيّ للملموس تحت شكل قيم استخدام، وهي القيم التي حين تُوَثَّن بوصفها أسعارا ويتمّ استخدامها لأغراض ربحيّة، تؤدّي بلا شكّ إلى نفس النّتائج التي يؤدّي إليها فكر برّي غير منضبط. وهذا ما تعتّم عليه معقوليّتنا النّقديّة التي يعزّزها نظام كامل من القيم الثّقافيّة المفعّلة التي تجمع بين الموضوعات والأشياء، وبالتّالي بين تفضيلات ومنتجات، وفقا لسماتها المميّزة. وبطبيعة الحال، فإنّ هذه الحقيقة محجوبة عن أعين البورجوازيّين – الذين يعيشون في الغالب قيمهم الثّقافيّة بوصفها من باب العادة ودون إيلائها أيّ اهتمام- وعن أعين رجال الاقتصاد الذين يقصرون الأشكال الثّقافيّة، بعد أن حدّدوا مجالهم المعرفيّ بأنّه عقلانيّة متبصّرة، على العوامل “البرّانيّة” إن لم تكن “غير العقلانيّة”. فالمستهلكون الأمريكان، على سبيل المثال، يلخّصون بعض العلاقات بين تشريح الحيوانات المأكولة والسّياق الذي تؤكل فيه بصيغة بسيطة: رقاقة اللّحم بالنّسبة للهمبورغر هي مثيل الطّبخ الرّاقي بالنّسبة للوجبات السّريعة. إنّنا لا ندرك أنّ خياراتنا عقلانيّة – لا يمكن تقديم الهمبورغر لضيوف نحترمهم- وتستند إلى مدوّنة قيميّة لا علاقة لها بالطّابع الغذائيّ، بل بدلالة الاعضاء والعضلات المحبّذة في الأكل، وباللّحم و”الأحشاء”، وبالمقصوص والمفروم، وبالوجبات المطبوخة والسندوتشات، وما إلى ذلك. وبالمثل، فليست الصّفات الملموسة للملابس هي ما يفسّر الاختلاف في نمط اللّباس الذي يظهر التّمايز الاجتماعي الحاليّ بين الرّجال والنّساء، وبين العمل والتّرفيه، ورجال الأعمال ورجال الشّرطة، وحفلات الصّغار والعلب اللّيليّة: وحسبنا التّفكير في جميع الدّلالات التي تنضح بها الملابس كما تعلّمنا من رولان بارط (Roland Barthes). ومن الواضح أنّه من السّابق لأوانه الاحتفال بانتصار النّزعة الطّبيعيّة منذ القرن السّابع عشر باعتبارها “فكّا للسّحر عن العالم”. ففي الواقع، نرى أنّ المجتمع الغربيّ هو المسحور بالعالم، أعني من خلال القيم الثّقافيّة للجسد بدلا من العقل. ونحن اليوم نعيش في عالم مسحور بأشياء مبنيّة دلاليّة ونسبيّة ثقافيّا مثل الذّهب والحرير، وأخشاب الكروم السّوداء، والنّفط، ورقائق لحم البقر، والطّماطم النّادرة، ومياه جزر فيجي النقيّة. إنّنا نشهد بناء للطّبيعة من خلال أنماط ثقافيّة محدّدة تاريخيا، ولكنّ صفاتها الرّمزيّة محرّفة بفعل المضاربات إلى كمّيات نقديّة، ومصادرها الاجتماعيّة منسوبة لرغبات فرديّة، وإشباعها الاعتباطيّ متنكّر في زيّ اختيار يحسب رشيدا على المستوى العالميّ.

إلاّ أنّ ذلك السّحر يولّد، من خلال الدّفع به نحو المنافسة من قبل المصالح الماليّة، مجموعة متنوّعة لا تحدّ من الأشياء طالما أمكن تحويل الفروق الاجتماعيّة للأفراد وللأشياء إلى سلع مربحة. وكما قال أرسطو منذ زمن طويل حين عبّر عن معارضته محدوديّة الأشياء (بوصفها قيم استخدام) اللاّزمة للعيش :في رفاهيّة، فإنّه “لا حدّ لثروة الإنسان”. وبالتّالي لا يوجد حدّ أيضا لمنطقنا الثّقافيّ لما هو محسوس، طالما ظلّ ينتظم في بحث دائم عن احتياجات لا نهائيّة وتحقيق مكاسب ماليّة.

أنت لا تتردّد في إجراء مقارنات بين حضارات متباعدة جغرافيّا وتاريخيّا، وبين الحروب البيلوبونيزيّة التي رواها ثيوسيديد وحروب فيجي. ما فائدة مثل هذه النّظرة المتقاطعة؟

استمرّ الصّراع بين مملكتي باو (Bau) وريوا (Rewa) في فيجي (وحلفائهما) من سنة 1843 إلى سنة 1855 في ما اعتبر أكبر حرب شهدتها البحار الجنوبيّة قبل الحرب العالميّة الثّانية. وقد كانت باو (على غرار أثينا) قوّة بحريّة امبرياليّة وريوا (على غرار اسبرطة) قوّة أرضيّة عجوز، وقد ألهمت حرب بولينيزيا بالفعل الزوّار الأوروبيّين في منتصف القرن التّاسع عشر مقارنتها بالحرب البيلوبونيزيّة. وقد تعلّمت من هذه المقارنة عبرا كثيرة، أهمّها أنّ الفهم الجيّد للتّاريخ لا يقتصر على فهم السّيرورات المتزامنة للحوادث بل يتطلّب استكمالها بفهم حركيّة الاختلاف التّزامنيّ. والأكيد أنّ مثل هذا الكشف لا يمثّل شيئا جديدا، فقد سبق لأرسطو في كتابه السّياسة أن قال إنّ الأضداد تولّد الأضداد، حتّى وإن كان هو نفسه لم يستغلّ هذا المبدأ في كتابته التّاريخيّة، إذ بحث في جزيرة كريت، وفقا لمنهج نسابيّ، عن مصدر الدّستور الإسبرطيّ، متجاهلا تناقضه مع الدّيمقراطية الأثينيّة. ولعلّه من حسن الحظّ أن يكون لدينا طريقة أخرى لقراءة نسابة الممالك الفيجيّة. وما تكشف عنه تلك الممالك، بمصطلحات القرابة المحلّية، هو أنّ اختلاف البنية السّياسيّة بين “باو” و”ريوا” ناشيء عن علاقة متبادلة، على غرار العلاقة بين قرابة الدّم وقرابة التّصاهر (عن طريق الزّواج)، وهو ما يجعلنا نعتقد أنّ الفيجيّين أنفسهم كانوا واعين بتعاكس البنيتين وتضادّهما. وعلى هذا المثال، كانت أثينا واسبرطة تمثّلان نمطين متضادّين بنيويّا وتاريخيّا: تضادّ على التّوالي بين عالميّة الأولى وكراهيّة الأجانب عند الثّانية، بين قوّة بحريّة وقوّة برّية، بين التّجارة والاكتفاء الذّاتي، بين مترف ومقتصد، بين الدّيمقراطيّة وحكم الأقليّة، بين الحضريّة والقرويّة، وبين المحلّية والمهاجرة… ويمكننا مواصلة الثّنائيّات إلى ما لا نهاية. وهذا ما يذكّرنا بأمر جدير بالاهتمام ذكره ليفي ستروس في كتابه العرق والتّاريخ: “علينا أن نحذر النّظرة التّجزيئيّة لتنوّع الثّقافات البشريّة، لأنّ هذا التنوّع لا يتولّد من انعزال الجماعات المختلفة عن بعضها البعض، بقدر ما يتولّد عن تواصلها”. وبما أنّ هذا المبدأ قد تمّ تأكيده مرارا وتكرارا في كتاب ليفي ستروس الأسطوريّات، فإنّنا نميل إلى استنتاج أنّ البنيويّة على الرّغم من تمسّكها بمسألة التّزامن، هي كذلك تاريخانيّة كأشدّ ما يكون.

ماذا يمكن أن تفيدنا الحروب البيلوبونيزيّة في رؤيتنا لحرب العراق اليوم؟

باستبداله ميتوس هيرودوت باللّوغوس، اغتصب ثوقوديدس (Thucydide) منه لقب “أبي التّاريخ” وليكتسب مكانة أثيرة عند انتفاعيّي العلاقات الدّوليّة وبقيّة مناصري السّياسة الواقعيّة. ومن المرجّح أنّ سمعته ستظلّ على حالها بين منظّري العقلانيّة والمصلحة الذّاتيّة، حتّى ولو كانت حرب بوش في العراق بلا ريب أكثر الأخطاء السّياسيّة لاعقلانيّة منذ غزو صقلّية من قبل الأثينيّين. ولكن التّطابق الأشدّ وضوحا مع ما يجري في العراق قد يكون في الحرب الأهليّة الفوضويّة (stasis) التي عصفت بمدينة كورفو (Corcyre)، حيث وجد الاسبرطيّون والأثينيّون أنفسهم متورطّين في صراع داخليّ كان يدور بين القلّة المحليّة الحاكمة والشّعب من أجل السّيطرة على المدينة. وقد كان لهذا النّزاع انعكاسات كبيرة على الفلسفة السّياسيّة الغربيّة، إذ أتاح وصف ثوقوديدس للفوضى التي عمّت كورفو لتوماس هوبز (الذي كان أوّل من ترجم كتاب ثوقوديدس إلى الانكليزيّة) نموذجا لـ”حالة الطّبيعة “كما كان يتصوّرها.

ففي كورفو كما هو الحال في العراق، حين فقدت مؤسّسات الدّولة كلّ شرعيّة، أصبح العنف أفضل نهج لكلّ القضايا الحزبيّة، وغرقت القيم المقدّسة والعدالة والأخلاق والدّين في الدّم ومزّقت شرّ ممزّق. وكان أفلاطون قد لاحظ ذات مرّة أنّ كلّ مدينة (polis) إنّما تتكوّن في الواقع من عدّة مُدَيْنَات (poleis) بسبب انقسامها إلى حيّ للأغنياء وآخر للفقراء يحاربان بعضهما، وكلاهما منقسم بدوره بين عدّة فصائل متناحرة. وحين تتعزّز الخلافات المحلّية بدعاوى دوليّة وتدخّل قوى أجنبيّة – من قبيل هيمنة الأثينيّين على كورفو أو تعارض الدّيموقراطيّة والأصوليّة الإسلاميّة في العراق – فإنّ الأمر سيبدو وكأنّنا نشهد انهيار النّظام الثّقافيّ وظهور الطّبيعة البشريّة في أكثر أشكالها وحشيّة. يصف ثوقوديدس كورفو بقوله: “حتّى الكلمات نفسها اضطرّت إلى التخلّي عن معناها المعتاد والرّضى بما يفرض عليها من معاني”. وهكذا غدا الإعتداء المبيّت “دفاعا شرعيّا عن النّفس” والاعتدال “تخاذلا” والتعقّل “جبنا”. ومردّدا بعض حجج السّفسطائيّين ممّن يقيمون تعارضا بين الطّابع السّطحيّ للثّقافة (nomos) والطّابع القاهر للطّبيعة (physis)، يؤكّد مؤرّخنا القديم أنّ مثل هذا السّيل من النّفاق والظّلم إنّما سبيله أن يحدث كلّما اصطدمت الرّغبة الطّبيعيّة في السّلطة والرّبح مع التّوافقات الهشّة للنّظام الاجتماعيّ. ونحن لا نزال نجد أصداء هذه الإيديولوجيا في تعليق دونالد رامسفيلد (Donald Rumsfeld) على الفوضى التي أعقبت الاحتلال الأمريكي لبغداد: “عاجلا أم آجلا، كان هذا سيحدث”، وهي نسخة مصحّحة من “عاجلا أو آجلا، كنّا سنضرط !”.

إنّ الخلط بين الطّبيعة والثّقافة عيب طالما رمى به الغربيّون الشّعوب الأخرى، إلاّ أنّهم ليسوا بمعزل منه. وسواء تعلّق الأمر بكورفو أو بالعراق، فإنّه كان لا بدّ من ترادف مجموعة هائلة من الأسباب الأخلاقيّة والسّياسيّة النّزاعيّة من أجل إنتاج حالة الطّبيعة المزعومة تلك. وعليه، فإنّه يعسر علينا تصديق ثوقوديدس حين يقول إنّ الكلمات فقدت معانيها في كورفو: فاستخدام الكلمات لخداعهم والكذب السّافر عليهم هو بالأحرى ما أشعل غضب النّاس. وعندما نعيش مثل الأميركيّين، في إطار نظام يتمّ فيه، باسم “محافظة رحيمة” (لاحظ التّناقض بين المصطلحين!)، زيادة ثروة كبار الأغنياء على حساب المجتمع، فمن المشكوك فيه أن تنجح هذه الوقاحة حقّا في تغيير معنى كلمة “الرّحمة”: إنّها لا تقوم سوى بفضح أكاذيب أولئك الذين يلوون عنق اللّغة ويحرفون الكلمات عن معانيها. وليس من قبيل المصادفة أن يكون جورج دبليو بوش أكثر رؤساء الولايات المتّحدة كراهيّة عند النّاس منذ… فلنقل، منذ كلينتون. أمّا أن ننسب الفوضى التي خلقها هذا التعسّف في استخدام اللّغة إلى استعدادات بشريّة طبيعيّة وما قبل لغويّة، فهو لعمري ممارسة عبثيّة لنفس نوعيّة الكذب اللّغوي الذي نزعم فضحه. ففي كورفو كما في العراق، أعطى تدخّل عوامل خارجيّة قويّة قيمة جديدة ومطلقة للانشقاقات الدّاخليّة في المدينة، وجعلها مستعصية على الحلّ بقدر ما جعلها مجرّدة وإيديولوجيّة. إنّنا نقاتل الآن مع أو ضدّ عموميّات: “الحريّة”، “العبوديّة”، “الدّيمقراطيّة”، “الإسلام”، “الاستبداد”، “الإرهاب”، “الامبرياليّة”. وهذا ما يثبت بكلّ بساطة أنّه لا بدّ من كثير من الثّقافة من أجل خلق حالة طبيعة.

*****

النصّ الأصلي للحوار:

Marshall Sahlins :Les Fidji et moi, Le Nouvel Observateur, n°2229 – jeudi 26 juillet 2007

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.