الرواة الشعبيون كنوز بشرية

الرواة الشعبيون كنوز بشرية.. وحفظ التراث يحتاج تقنية متطورةفي ورقة للباحث إبراهيم سند عن الحكايات الشعبية بالبحرين:
الرواة الشعبيون كنوز بشرية.. وحفظ التراث يحتاج تقنية متطورة

استعرض الباحث إبراهيم سند في ورقة عمل، تقدم بها إلى ملتقى الحكاية الشعبية والذي استضافته أخيراً إمارة الشارقة، جملة من المعوقات التي تعترض هذا الجنس الأدبي، من خلال ورقة عمل تقدم بها تحت عنوان «الحكايات الشعبية في البحرين.. صراع الأخيار والأشرار والنهايات السعيدة للأحداث».
ولفت سند في هذا الصدد إلى عدم وجود المراكز البحثية المتخصصة والمهتمة بدراسة وتوثيق التراث الشعبي والمحافظة عليه من الاندثار والضياع، وأغلب الجهود المبذولة في الجمع والتوثيق هي جهود تتحرك بفعل الدافع الذاتي والاهتمام الفردي.
وقال إن «أكبر مشكلة يقع فيها الكثير من الباحثين في جمعهم للحكاية الشعبية هو عدم معرفتهم التمييز بين أجناس الحكاية الشعبية، وصعوبة التصنيف بين لونٍ وآخر – وهناك خلط واضح بين الحكاية الخرافية والقصة الواقعية والسير الذاتية، وقصص الحيوان والنوادر والمعتقدات»، داعياً إلى «ضرورة تسلح الباحث بمنهج علمي يساعده في عملية البحث والتوثيق، إضافة إلى التمرن باستعمال الفهارس المختصة بالحكاية الشعبية مثل فهرست الحكايات الشعبية للعالِم الفنلندي آرني أو الاستعانة بغيره من التصنيفات العالمية المختصة بالحكاية الشعبية».
وطالب سند في ورقته بـ «العناية والاهتمام بالرواة الشعبيين باعتبارهم كنوزاً بشرية ينبغي توجيه الدعم والمساندة الدائمة لهم، وإعطائهم الدور الذي يستحقونه، وإبرازهم إعلامياً، وتقديم المكافآت المجزية لهم، إضافة إلى تشجيعهم على تدريب الجيل الحديث في التعامل مع الموروثات الإبداعية، خصوصاً عالم الحكايات الشعبية».
كما أشار إلى «الاهتمام بإعداد الكوادر البشرية المؤهلة للتعامل مع التراث الشعبي عن طريق إقامة الدورات التدريبية والملتقيات والورش التثقيفية، واستخدام التقنيات التكنولوجية الحديثة في مجال المأثور الشعبي».
وشدد سند في ورقته على «تشجيع المؤسسات الرسمية التربوية على تضمين المناهج الدراسية بمواد تراثية، من أهمها الحكايات الشعبية في مراحل التعليم الأساسي. وقد بادرت بعض الدول العربية بإدخال بعض مواد التراث الشعبي ضمن المناهج الدراسية، لكن تلك المبادرات لاتزال في البدايات الأولى وتحتاج إلى مزيد من الدفع باتجاه تبني مواد الثقافة الشعبية، واختيار الأصوب والأصلح منها في تعليم وتدريس النشء الحديث».
توظيف الموروث في الفنون الإبداعية
واعتبر سند أن «الجانب الأكثر أهمية هو تشجيع الأفراد والهيئات والمؤسسات حول كيفية توظيف الموروث التراثي والحكايات الشعبية في شتى الفنون الإبداعية بحيث تشمل فنون الدراما والسينما والمسرح والفنون التشكيلية والفنون الخاصة بأدب الأطفال».
وقد استهل سند ورقته بمقدمة عن الحكاية الشعبية، حيث تعتبر من أهم عناصر المأثور الشعبي، وهي اليوم محط اهتمام باحثي علم الفولكلور نظراً إلى ثراء مادتها وارتباطها بالقيم الفنية والجمالية التي يعكسها الوجدان الشعبي والإبداع الجمعي. فمن خلال الحكاية الشعبية استطاع الإنسان أن ينقل كل تصوراته ومعتقداته وعاداته وتجاربه وخبراته في الحياة، ويقدمها في أسلوب وبناء قصصي محكمين. من هذا المنطلق نجد أن الحكاية الشعبية تستوعب ملامح المأثور الشعبي أكثر مما تستوعبه المرويَّات التراثية الأخرى. ونتيجة سهولتها اللغوية وبساطتها من ناحية الشكل والأسلوب، فقد تم انتشارها على نطاق واسع وانتقالها بحرية من شخصٍ إلى آخر ومن جيلٍ إلى جيل عن طريق الرواية الشفوية.
فالحكاية تُسمعْ، ثم تُكرر بقدر ما تعيها الذاكرة، وقد يضيف إليها الراوي الجديد شيئاً أو يحذف منها. وقد تروى مرة أخرى كما هي من دون حذفٍ أو إضافة، وإن أصابها بعض التغيير في تأخير بعض الفقرات. وقد تدوَّن هذه المرويَّات ويتناقلها بعض الناس عن طريق الكتابة أو القراءة، كما حدث بالنسبة للكثير من النصوص الأدبية مثل «ألف ليلة وليلة» و«كليلة ودمنة».
ولاتزال الحكايات الشعبية تحكى إلى اليوم وإن تراجعت بعض الشيء أمام أشكال قصصية فرضتها طبيعة الحياة المتطورة، إلا أن هناك الكثير من الناس مايزالون يرددون هذه الحكايات ويجدون متعة وتسلية في روايتها. وهو ما يدل على أن هذا النوع الأدبي الضارب في أعماق التاريخ لايزال باقياً في ذاكرة الشعب ومؤثراً في الحياة الثقافية الشعبية. ولهذه الأسباب كلها لابد من أن يُجمع ويُصنًّف ويُدرًّس وفقاً للأساليب والمناهج العلمية في الدراسة والتحليل.
وقد وظفت الحكاية الشعبية في أمور شتى من مجالات الفن والأدب والإبداع عموماً. وهي مادة تتمتع بالخيال والفكرة والتشويق الشديد. وقد استلهم منها الكتَّاب والمهتمون بالإبداع الكثير من الأفكار لصوغ وتشكيل إبداعاتهم في القصص والروايات والإنتاج التلفزيوني والإذاعي، حيث تم تبسيط العديد من الحكايات وأعيد إخراجها بشكلٍ فني يتناسب مع التقنيات الفنية الجديدة والاعتبارات الاجتماعية والثقافية السائدة في المجتمع. وقد عرض كم وافر من الحكايات الشعبية على شاشة التلفزيون، سواء كانت تلك الحكايات ذات طابع محلي أو عربي أو عالمي، وكان لعرضها تأثير متميز في جذب المشاهدين وشد انتباههم.
المسرح من أكثر الفنون إفادة من الموروث الشعبي
يعتبر المسرح من أكثر الفنون الإنسانية إفادة من الموروث الشعبي، فهو منذ نشأته الأولى تعامل مع الحكاية الخرافية والأساطير الشعبية، لما تزخر به تلك الحكايات والأساطير من ملاحم بطولية ومواقف درامية، ثم صوغها على النحو التراجيدي أو الكوميدي. وقد استفاد المسرح البحريني كثيراً من الحكايات الشعبية مثلما استفادت منه الفنون الإبداعية الأخرى. فعالم الحكايات واسع جداً ورحب الخيال، وهذه الحكايات لا تهدف إلى بعث البهجة في قلوب المتلقين فقط، بل تحاول أن تفسر عدداً من الظواهر الاجتماعية والثقافية في المجتمع. كما تقدم رؤية نقدية للصفات غير المحببة في الإنسان، مثل الجشع والتسلط والقسوة والاحتيال والطمع. وهي من جانب آخر تبرز الصفات الحميدة مثل الشجاعة والكرم والتسامح والتواضع. وقد وفق المسرح البحريني كثيراُ في عرضه للنماذج الشعبية من خلال النصوص المسرحية التي قدمت منذ بداية العشرينيات على مسارح المدارس والأندية الأهلية والمسارح المتخصصة فيما بعد. لكن المسرح البحريني لم يبدأ في تقديم عروضه المتميزة إلا مع بداية السبعينات عندما تم تأسيس «مسرح الإتحاد الشعبي» (1970) و«مسرح أوال» و«مسرح الجزيرة» (1973). وترافق مع هذه البدايات عرض الكثير من المسرحيات كان من ضمنها مسرحية «سرور» التي قدمت في العام ,1975 من تأليف إبراهيم بوهندي وإخراج عبد الرحمن بركات. وهذه المسرحية مستوحاة من الحكاية الشعبية «سرور» التي تعتبر من أكثر الحكايات انتشاراً في الثقافة الشعبية على مستوى البحرين والخليج العربي. وتحكي عن الصراع الأزلي القائم بين عنصري الخير والشر، حيث تلعب زوجة الأب دور المرأة الشريرة التي تحاول بأبشع الطرق التخلص من ابن زوجها (سرور) بتقطيع أوصاله ودفنه في إسطبل الخيل. وتدخل قوى غيبية متمثلة في شخصية الأم الحقيقية المتوفاة ويأتي صوتها من العالم الآخر هاتفاً بمكان اختفائه. فيستدل عليه ويعاد تجميع عظامه المتناثرة فتعود إليه الحياة، وينتقم من زوجة الأب شر انتقام حيث يطبخ لحمها في القدر ويرسله إلى بيت أهلها. وتنتهي الحكاية بقول القطة: «كلو من لحم بنتهم وما عطوني منه»، وتردد هذه العبارة أكثر من مرة إلى أن يكتشف الأهل أنهم أكلوا من لحم ابنتهم. وبالرغم من بشاعة بعض الأحداث التي حوتها الحكاية خاصة في وقائعها الختامية إلا أن المسرحية تعاملت مع الحكاية بشكل يتماشى مع الواقع الاجتماعي والنفسي الذي كان يسود المجتمع في ذلك الوقت.
وإذا كان للحكايات الشعبية تأثير راسخ وجلي في تأصيل الإبداع الفني والأدبي، فإن تأثير هذه الحكايات أكثر قوة ونفاذاً في تأطير وتأسيس الأدب الموجه للصغار. ويعود الفضل إلى هذه الحكاية الموغلة في القدم في نشأة أدب الأطفال الذي نعاصره كقراء ومربين وكتَّاب، وهو ثمرة ونتاج طبيعي لما أبدعته مخيلة الشعوب من قصص وحكايات خرافية عبرت إلينا من أزمان عبرت إلينا من أزمان سحيقة ومازال صداها يؤثر فينا.
قصص الجان والعفاريت وإشاعة الخوف
عرف المجتمع البحريني مجموعة كبيرة من قصص الجان والعفاريت والتي كانت في يوم ما تشكل مصدر خوف ورعب للكثير من الناس. لقد استخدمت تلك القصص بشكل مباشر في بث وإشاعة الخوف في النفوس. لقد كان العالم السابق مسكون بقصص الأشباح والعفاريت. ولما كان الناس يعيشون على الفطرة والبساطة في التفكير. فكانوا على استعداد تام لتصديق وتأليف الحكايات الخيالية، التي يكون أبطالها عادة من العفاريت الخارقين للعادة. وبمرور الوقت أخذت هذه القصص تردد على السنة الجميع صغاراً وكباراً. وراح الناس يختارون الشخصيات الخرافية، ويوزعها على الأزمنة والأمكنة.
ففي النهار خصوصاً عند اشتداد حرارة الشمس في وقت الظهيرة هناك أشباح تستغل هذه الفترة الهادئة لتخرج وتؤدي الناس.
وفي الليل هناك مجموعة من العفاريت تفضل الخروج في الليل مفضلة الظلام الدامس لتقوم بإشاعة الخوف وسحر الناس.. أما أماكن تواجدهم فهم عادة ما يسكنون الخرائب والآبار والعيون والبساتين.
ولو حاولنا تتبع الموضوع من الناحية النفسية حول الهدف الذي يسعى إليه العديد من الناس في انجذابهم نحو سماع وترديد حكايات الجان والعفاريت لتبين لنا أن ذلك الميل والانجذاب كان يخفف من انفعالاتهم ومخاوفهم الداخلية لأنهم بالحديث عن الساحرات والأشباح. إنما يخففون عما يشعرون به في دواخلهم من احتدامات نفسية. فالخوف منشأة من الداخل وإنما يخرج على هيئة رموز يتم إسقاطها على الخارج. وتلك الأخيلة والتصورات تقوم برسم وتشكيل النماذج والشخوص الخرافية. وعندما تجد تلك النماذج نوعاً من القبول لدى الشعور الجمعي يتم تداولها بين عامة الناس، وتصبح جزءاً أساسياً من المعتقد الشعبي. وهذا المعتقد بدوره يملك سلطاناً قوياً يؤثر في عقلية من يؤمنون بالحكاية الخرافية. ولكن يبقى السؤال الأكثر أهمية هل تم استخدام حكايات الزمن الماضي لأجل التخويف فقط؟
بالطبع، هناك دوافع وحوافز أخرى كان لها تأثير لا يقل أهمية عن التأثيرات الأخرى. ولعل أهم تلك الدوافع هو محاولة فهم الواقع واستيعاب الأمور التي تدخل في نطاق الغيبيات، والإنسان في التقديم عندما يتعذر عليه الفهم والإدراك فانه يلجأ إلى الخيال والعوالم (الميتافيزقية) لحل المسائل والظواهر المعقدة.

الحكايات الشعبية.. بين الواقعية والخرافات

هناك أنواع عدة من الحكايات الشعبية التي عرفها المجتمع البحريني وقام بتداولها والتفاعل معها عبر حقب زمنية متواصلة.. وأول تلك الحكايات هي:
1- الحكاية الخرافية:
وهي حكاية عادة ما تكون طويلة مليئة بالمغامرات وتعتمد اعتماداً كلياً على الخيال وتتمركز أحداث الحكاية الخرافية حول بطل أو بطلة، ويكون البطل فقيراً وحيداً في بداية الحكاية وبعد سلسة من المخاطر تلعب فيها الخوارق دوراً ملموساً يستطيع البطل أن يصل إلى غرضه فيعيش حياةً سعيدة إلى النهاية وتتميز الحكاية الخرافية بكثرة استخدمها للشخصيات الخارقة كالجان والغول والحيوانات الممسوخة والاعتماد على السحر وأدواته وتحكى بقصد التسلية والترفيه
2 – الحكاية الشعبية «الواقعية»
تتشابه الحكاية الشعبية مع الحكاية الخرافية غير أنها تعتمد على الخوارق التي من الممكن حدوثها أو التي يعترف بها المجتمع ومعظم القصص في «ألف ليلة وليلة» تقترب من هذا النوع الواقعي المبالغ فيه. وتستمد الحكاية الشعبية أحداثها من واقع الناس وحياتهم ويغلب عليها الصفة المحلية والإقليمية من ناحية الشخوص وإبراز الواقع البيئي. وتحكى بهدف التسلية أو تفسير بعض الظواهر المستعصية على الفهم.
3- الحكاية المرحة:
تقترب الحكاية المرحة كثيراً من الحكاية الشعبية إلا أنها أقصر منها وذات بنية بسيطة تعتمد على سرد نادرة أو حدث مضحك. ولا يهم صحة الحدث فيها من عدمه، لأن الراوي للحكاية المرحة يهدف إلى التأثير على المتلقي وإدخال المتعة إلى نفسه. ويقاس نجاح هذه الحكاية أو فشلها بقدر ما تحققه من إشاعة للمرح. ويتواجد هذا النوع من الحكايات في قصص جحا وأبي نواس وغيرهما من الشخصيات المرحلة التي تجمع بين قطبي الذكاء البارع أو السذاجة المبالغ فيها، وكل شعب له حكاياته المرحة التي يتندر من خلالها على بعض الشخصيات التي تكون في موقع نموذجي للتهكم والإضحاك.
4- حكاية الحيوان:
يقوم الحيوان في هذا النوع من الحكايات بدور أساسي في السرد الحدث للحكاية، حيث يصبح الحيوان شخصاً أساسياً من شخوص الحكاية فيتصرف تصرف الإنسان العاقل، وتستخدم هذه الأنواع من الحكاية في الوعظ والإرشاد عن طريق الرمز بالحيوان، أو أن حيواناً يتصرف على أنه إنسان مع الاحتفاظ بصفاته الأساسية كالدهاء للحية، والمكر للثعلب. والقوة للأسد والوداعة للحمامة. والخوف للأرنب، وقد تبدأ حكاية الحيوان بأن يفهم الإنسان ما يتحدث به الحيوان. ونجد هذا النوع من الحكايات كثير الاستخدام في قصص «كليلة ودمنة» حيث يلعب الحيوان الدور الأساسي في القصة.
5- حكاية السيرة الذاتية:
وهي نمط آخر من الحكايات تم إدخاله في الفترة زمنية حديثة ويشيع استخدامه في البحرين وفي كثير من المجتمعات الخليجية الأخرى. حيث يتندر الرجال والنساء بسرد قصصهم وبطولاتهم الخاصة على مسمع المتلقين في المجالس الشعبية وليالي السمر، وقد تم رصد الكثير من هذا النوع من القصص، خصوصاً في مجال البحر والغوص، حيث يتعرض البحارة إلى كثير من المصاعب والأخطار. وبعد عودة البحارة والغاصة من رحلات الغوص تكون أحداث رحلتهم الشاقة مادة خصبة للتعبير عن المعاناة الجسدية والنفسية التي تعرضوا لها في أعماق البحار وصراعهم مع الأهوال والصعاب وهناك الكثير من محبي الاستماع إلى هذا اللون القصصي وتحكى هذه الحكايات بهدف التسلية وإبراز بعض الصفات البطولية.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.