الدرس السوسيولوجي بالجامعة المغربية

الدرس السوسيولوجي بالجامعة المغربية

الدرس السوسيولوجي بالجامعة المغربية

مسار تجربة ورهانات

محمد جحاح*

       

تقـديـم

        من خلال تجربتنا المتواضعة كأستاذ باحث في شعبة السوسيولوجيا، وفي إطار هذه الوقفة التأملية/ التقييمية حول ما يمكن أن يشكل رصيد إسهامنا – تحديدا – في مجال الدرس السوسيولوجي بالجامعة المغربية، يمكننا رسم بعض الخطوط العريضة لتلمس مسار هذه التجربة بشروطها وإكراهاتها ورهاناتها أيضا.

لقد كتب الكثير طبعا حول واقع الممارسة السوسيولوجية بالمغرب (كتب، مقالات)، كما تم تنظيم عدة ندوات وأيام دراسية بهذا الخصوص، غير أن الحصيلة تشهد دائما على حصر واختزال هذه الممارسة بالأساس، وتحديدا على مستوى الجامعة، في نطاق منتوج البحث العلمي “السوسيولوجي”: رصدا وتقويما وتوثيقا.. لكن، إذا كان هذا حال البحث السوسيولوجي بالمغرب ونصيبه من التتبع والاهتمام، فأين هو موقع الدرس السوسيولوجي من كل هذا؟ ألا يعتبر التكوين هو الآخر منتجا جامعيا بامتياز؟ وهل يمكن تصور أية إمكانية لقيام وتطور بحث علمي في مجال السوسيولوجيا، كما في غيرها، من دون تكوين نظري ومنهجي في هذا المجال؟ أم أن مسألة تدريس السوسيولوجيا لا تطرح أية مشاكل كي نعيرها نفس الاهتمام؟ ألا يستمد الفاعلون في مجال الحقل الجامعي هويتهم، ومن ثم شرعية وجودهم أيضا كـ”أساتذة باحثين”، من صفتي “التدريس” و”البحث” معا؟ أو أبعد من ذلك، هل يبقى الشأن البيداغوجي بالجامعة المغربية شأنا خاصا بالوزارة الوصية على التعليم العالي، بحيث يتم التشريع له وتنزيله عبر “دفاتر الضوابط البيداغوجية الوطنية” الخاصة بتدبير وتنظيم التكوين بالمسالك، وبخاصة مسلك الإجازة؟ ألن يكون السؤال حول مدى ملائمة هذه “الضوابط” ومسايرتها أيضا لما يستجد من قضايا ومشاكل وتحديات على مستوى الجامعة والمجتمع أيضا، منطلقا لإعادة التفكير جديا في أزمة الجامعة المغربية اليوم؟ وبناء عليه، وفي علاقة بموضوعنا، ألا يجسد واقع الممارسة السوسيولوجية -“درسا” و”بحثا”- وجها من أوجه هذه الأزمة المركبة؟

1– ملاحظات أولية

       بطبيعة الحال، سوف لن يستقيم الحديث هنا عن “درس سوسيولوجي” بصيغة “النموذج” المفرد أو الواحد، بل بصيغة المتفرد والمتعدد أيضا، وذلك بالنظر طبعا لتفرد كل تجربة على حدة واختلاف وتعدد مدخلاتها ومخرجاتها. ولعل نفس الملاحظة قد تنسحب – بشكل أو بآخر- على مستوى تجربة “البحث السوسيولوجي”، من حيث أن التجربتين معا، وعلاوة على كونهما منتجا أكاديميا بامتياز، هما في آخر المطاف حصيلة نسق من الإكراهات كما الاختيارات قد تتجاوز النسق الجامعي نفسه – بما يعنيه من ضوابط والتزامات – إلى ما هو مجتمعي بقضاياه ورهاناته… فهناك أكثر من طريقة، طبعا، لممارسة السوسيولوجيا درسا وبحثا، ولعل هذا ما يحفظ لهذه الممارسة تميزها ويمنحها حيويتها أيضا.

       في الواقع، لا يمكن تناول مسألة تدريس السوسيولوجيا بالجامعة المغربية، بمعزل عن السياق العام الذي أطر توطينها وتطورها أيضا كممارسة معرفية تسعى لفهم وتحليل بنيات المجتمع ودينامياته.. ولعل عودة سريعة إلى بعض الكتابات بهذا الخصوص**، كفيلة بأن تعطينا فكرة حول مدى تأثر الممارسة السوسيولوجية بمحددات وإكراهات هذا السياق، وما يعنيه من مفارقات وتحديات ومقاومات أيضا. هناك مسارات إذن لرصد وتأكيد ذلك بدءا من لحظة التأسيس، حيث ارتباط السوسيولوجيا بالمشروع الكولونيالي للمغرب وشمال أفريقيا، مرورا بلحظة النقد والمراجعة، حيث التأسيس لسوسيولوجيا “وطنية” أو متحررة من الاستعمار، ثم لحظة الاكتساح الأنجلوسكسوني لمجالات البحث السوسيو-أنثروبولوجي بالمغرب، وصولا إلى ما يمكن إدراجه اليوم في إطار نوع من البحث عن هوية، أو بالأحرى عن تقليد سوسيولوجي ناظم.

حتى لا نطيل إذن، هناك ملاحظة أساسية يمكن الخلوص إليها بهذا الصدد، فالسوسيولوجيا كانت ولا تزال – بشكل من الأشكال – ممارسة غير مرحب بها دائما، فسواء من طرف الدولة التي لم تدخر جهدا في محاصرتها لهذا العلم المزعج: (إغلاق معهد السوسيولوجيا في1970 ، محاصرة الدرسين الفلسفي والسوسيولوجي من داخل جامعتي الرباط وفاس، التعريب، خلق شعبة الدراسات الإسلامية، تهريب الدرس السوسيولوجي نحو كليات الحقوق وبعض المعاهد…)، أو من طرف المجتمع نفسه ببنياته الثقافية التقليدية التي لم تسمح بعد بتقبل جرأة السؤال السوسيولوجي و”فضوله”، أو من طرف المقاولة التي يفترض أن تكون الحاضن والداعم للبحث السوسيولوجي، أو حتى على مستوى الجامعة التي لم تحسم بعد نهائيا مع منطق تبخيس – حتى لا نقول – إقصاء دور البحث السوسيولوجي مقارنة بمجالات أخرى (العلوم الدقيقة)..

يبدو من الضروري التأكيد هنا على أن السوسيولوجيا كـ”أداة” أو كممارسة علمية هي وليدة الحداثة والعقلانية الغربية، ولعل هذا ما يجعل السؤال مطروحا وبإلحاح حول علاقتها بـ”موضوع” لم يتكشف بعد كلية من وراء حجب التحريم والحجر والتقديس؛ ولعل هذا ما يفسر مسلسل المقاومات التي ما انفكت السوسيولوجيا تواجهها..

على هذا المستوى من الإدراك إذن، لم يكن حال الدرس السوسيولوجي بأفضل من حال البحث العلمي في هذا المجال. وعلى هذا الأساس، ومن خلال تجربتنا المتواضعة، أي تصور يمكن تقديمه بخصوص هذا الدرس؟ وكيف، ووفق أية شروط، يتم إنتاجه؟ ثم ما هي رهاناته؟

2 في تصور الدرس السوسيولوجي

       بداية يجب التأكيد على ضرورة تمييز الدرس السوسيولوجي عن غيره، خاصة بالنسبة لحقول معرفية قد تكون مجاورة من حيث الانتماء إلى نفس عائلة العلوم الإنسانية، وبالتالي إلى نفس مؤسسة التوطين والانتساب (كلية الآداب والعلوم الإنسانية)؛ لعلنا نعطي النموذج هنا بكل من الفلسفة وعلم النفس والتاريخ واللغات…إلخ. ولئن كنا لا ننفي البتة أي ارتباط لبعض هذه الحقول بالميدان Le terrain – بالرغم من طابعها النظري/ التأملي في الغالب – فالدرس السوسيولوجي هنا، وبامتياز، هو درس لا يستقيم إلا بحضور الميداني، ومقياس نجاح هذا الدرس يبقى مرتهنا بمدى احترام تلك الجدلية القائمة بين النظرية والواقع الإمبريقي، إن لم نقل بين التدريس والبحث الميداني.

كيف يمكن إذن، ووفق هذا التصور، إبداع الدرس السوسيولوجي بالتفكير، موازاة مع ذلك، في قضايا المجتمع والاشتغال ميدانيا على أسئلته وإشكالاته (ولعل هذا هو المعنى الفعلي لترجمة وتنزيل شعار انفتاح الجامعة على محيطها)؟ هل الجامعة المغربية اليوم – ببنياتها وإمكاناتها وسياستها – قادرة على توفير شروط إنجاح هذا الخيار؟ وعلاقة بذلك أيضا، هل هناك تقليد سوسيولوجي “مغربي” يمكن الارتكاز عليه في بناء وتطوير الدرس السوسيولوجي، أم أن المسألة تستدعي المزيد من التجارب والتراكمات؟ ولو سلمنا بهذا الأمر، وفي انتظار تحقق ذلك، هل قدرنا أن نبقى مرتهنين لما يرد علينا من وصفات “الهندسات البيداغوجية” التي استنفذت صلاحيتها أصلا بالجامعات الغربية؟

نطرح هذه الأسئلة وغيرها لأننا لا نرى في الدرس السوسيولوجي- ووعيا منا، طبعا، بكونية المنتج العلمي في هذا المجال – مجرد إعادة إنتاج أو استنساخ هجين لتجارب الغرب؛ هذا برغم ما تكرس له “رسميا” سياسة الدولة (في شخص الوزارة الوصية) من تبعية مفرطة في هذا الشأن. نعم للانفتاح على تجارب الآخر، نعم لانخراط واع ومسئول في مجتمع المعرفة، خاصة ونحن نعيش زمن الطفرة الرقمية.. ووفق ذات المنطق أيضا نقول: نعم لدرس سوسيولوجي واع بشروط إنتاجه ورهاناته أيضا، فبقدر ما يفيد من تجارب الجامعات الغربية ومناهجها وبرامجها، بقدر ما يسمح بهامش معقول من الإبداعية ومن القدرة على توطين ذاته في تضاريس جغرافيته الثقافية والاجتماعية والسياسية.

إن الدرس السوسيولوجي إذن هو درس يتموقع بين النظري والميداني، وبناء عليه نحن لا نسعى إلى تدريس طلبتنا محتويات ومضامين معزولة عن سياقاتها، كمدخلات على سبيل الشحن والتلقين، فسواء تعلق الأمر بمفاهيم أو نظريات أو باراديغمات…إلخ، فالمسألة يجب أن تطرح دائما في إطار رؤية إبستيمولوجية نقدية، بقدر ما تنتصر لمبدأ كونية العلم أو “العقل العلمي”، بقدر ما تحرص على رسم مسافات وحدود معقولة بين النماذج النظرية والواقع الإمبريقي، خاصة ونحن هنا بصدد علم يندرج في خانة العلوم المسماة “غير دقيقة”. هنا بالذات تطرح مسألة “النسبية” (بخصوص المفاهيم والنماذج النظرية…)كما “الخصوصية” أيضا (بالنسبة للواقع أو الوقائع المدروسة)، ولعل هذه الحقيقة هي ما جعل طموح السوسيولوجيا في بناء نظرية عامة حول “المجتمع البشري” لم ولن يتحقق (الوظيفية، الماركسية، البنيوية).

لعل الخلاصة الأساسية التي يمكن الخروج بها مما تقدم، هو أن المتن المعرفي الذي نتعاطى معه لبناء الدرس السوسيولوجي (نظريات، مناهج، نماذج مشيدة…)، هو قبل كل شيء منجز له سياقه وتاريخيته، فهو إذن قد تشكل وتطور في – الأصل – ليس من داخل مدرجات الجامعات وعن طريق التلقين والمحاضرات، بل هو حصيلة البحث والاشتغال في الميدان، وفي مواجهة مستمرة بين النماذج والواقع الاجتماعي المتغير باستمرار. هذه الحقيقة طبعا، قد تجعل من الصعب استيعاب واقع بمثل هذه الدينامية والتعقيد في إطار نموذج محدد، هذا حتى من داخل نفس المجتمع أو المجتمعات التي أنتجت بخصوصها هذه المعرفة (المجتمعات الغربية)؛ فما بالك والأمر يتعلق هنا بمواجهة هذه النماذج والبناءات النظرية مع سياقات مجتمعية وتاريخية وثقافية مختلفة (المجتمع المغربي مثلا).

على هذا الأساس إذن، كيف يمكن الاطمئنان لنموذج نظري بعينه، أو لمفهوم محدد في هذا الإطار؟ سواء تعلق الأمر بمفاهيم: الدولة أو الديمقراطية أو الطبقة أو النخبة أو التنظيم أو السياسة أو الحداثة أو المجتمع المدني…إلخ. لعل هذا ما يستفزنا أكثر – كباحثين – ويجعلنا دائمي التفكير في مواجهة هذا المتن بوقائع وظواهر وبنيات المجتمع المفروض أننا ننتمي إليه، ونسعى إلى الإسهام أيضا في تكوين وتخريج باحثين سوسيولوجيين قادرين على إنتاج معرفة علمية حوله.

إن حرصنا على انفتاح السوسيولوجيا، أو بالأحرى الدرس السوسيولوجي، على المجتمع المغربي وقضاياه هنا، يوازيه حرص آخر لطالما كرسنا له كل الجهد والاهتمام، والأمر يتعلق هنا طبعا بانفتاح هذا الدرس على باقي التخصصات المعرفية من داخل حقل الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية، وذلك في إطار رؤية إبستيمولوجية قائمة على مبدأ التداخل والتكامل بين التخصصات L’interdisciplinarité . لعل هذا ما جسدناه عمليا، ليس فقط من خلال الدروس والمحاضرات الموجهة أساسا لطلبة شعبة السوسيولوجيا، بل وبالمثل من خلال تجربة التدريس أيضا – كأستاذ متعاون – مع بعض الشعب والتخصصات الأخرى: (شعبة التاريخ، شعبة القانون وشعبة الاقتصاد).

قبل أن نختم، بقيت هناك مسألة لا تقل أهمية عن سابقتها في إنتاج وإنجاح الدرس السوسيولوجي، الأمر يتعلق هنا طبعا بلغة التدريس.. فبحكم تجربتنا طبعا، وبالنظر لما تشكله عملية التواصل في هذا الإطار، لم نرتح أبدا لمسألة فرض لغة محددة ووحيدة للتدريس، سواء أكانت (عربية، فرنسية أو إنجليزية). فمن منا لا يجد نفسه – في الغالب – يقدم درسه بهذه اللغات مجتمعة أو بعضها، بل قد نحتاج أيضا إلى النهل من قاموس “اللغة العامية” بهدف الحفاظ – ما أمكن – على الدلالات والمضامين الثقافية للمصطلح أو المفهوم؛ وهنا تكمن طبعا قيمة الدرس الإثنوميتودولوجي -On est tous sociologues à l’état pratique. علاوة على ذلك، وهذا سؤال أطرحه على زملائي في “الحرفة”: من منا يحتفظ لنفسه بلغة الخطاب “العالم” بمجرد ما نخرج من المدرج أو قاعة الدرس، حيث يستفسرك بعض طلبتك عن فكرة أو موقف أو إشكال لم تتضح لهم بخصوصه الرؤية كلية أثناء المحاضرة؟ هنا بالذات قد تصبح لغة التواصل هي نفسها لغة التخاطب اليومي “العامية”؛ ولعل نفس الملاحظة قد تنسحب – وبشكل أوضح – على مستوى عملية الإشراف على بحوث الطلبة وتوجيههم. بطبيعة الحال، لسنا هنا بصدد الدفاع عن نوع من “الشعبوية” اللغوية – إن صح هذا التعبير – بقدر ما نحن ننتصر لمبدأ ما فتئت تدافع عنه اليوم بعض الاتجاهات المعاصرة في اللسانيات كما في علوم التربية، والأمر يتعلق هنا بما يعرف بـ”العبر لغوية”Le translinguisme .

3– في بناء الدرس السوسيولوجي: المضامين والأدوات

       سنسعى من خلال هذا المحور، وبنوع من التركيز، إلى تقديم فكرة عامة حول ما نراه كفيلا برصد ملامح الدرس السوسيولوجي كما نؤسس له ونقدمه، وسوف نحصر اهتمامنا هنا بنقطتين أساسيتين: الأولى وتتعلق بعرض سريع لأهم المضامين، بينما سينصب الاهتمام في النقطة الثانية على وسائل وأدوات بناء وتقديم هذا الدرس. لعلنا نجد أنفسنا – بهذا الصدد – أكثر اقتناعا بواحد من أهم مبادئ السوسيوبنائية Le constructionisme ، إذ ليس هناك في الأصل طريق معد سلفا للمضي فيه، إنما الطريق يبنى ونحن نسير، كما الدرس تماما.. نقول هذا ونحن نستحضر طبعا ما قد تقترحه علينا “هندسات” الضوابط البيداغوجية الوطنية – بهذا الخصوص – من “طرق” ومتاهات..

على مستوى المضامين طبعا، وفي حدود ما يسمح به هذا المقال، لا يمكن الإلمام بكل المواد التي ندرسها (على كثرتها)؛ مما يجعلنا نقتصر فقط على عينة منتقاة نراها تمثيلا – بشكل أو بآخر – لغيرها. وفي هذا الإطار، وقبل الشروع في العرض، نود تسجيل ملاحظة قد تبدو أساسية للوقوف – قبلا – على بعض مشاكل وصعوبات بناء الدرس السوسيولوجي وجودته، والأمر يتعلق هنا أساسا بعدم التناسب المطرد بين عدد الطلبة المتزايد باستمرار (الاكتظاظ) وعدد الأساتذة المحدود جدا، والذي لا يتناسب بالمطلق مع هذا الضغط الكبير (وهذه واحدة من “ثمرات” الاستقطاب المفتوح، في تصور السياسة التعليمية القائمة !!). إن وضعية “الأستاذ الجامعي” هنا أشبه ما يكون بوضعية طبيب في “الطب العام” Généraliste، عليه التدخل في كل حالة مستجدة، حتى الدقيقة منها في غياب بديل… ولعل هذا ما يجعل أستاذ السوسيولوجيا يلعب نفس دور “المسعف”، فهو قد يضطر – في إطار نوع من التدبير الترميقي للأزمة Bricolage – لتدريس مواد قد لا تدخل في نطاق اختصاصه بالمعنى الأكاديمي للكلمة: (علم النفس، علم النفس الاجتماعي، الفلسفة، الديموغرافيا، الأنثروبولوجيا…)، فأين نحن هنا من مطلب جودة التكوين الجامعي؟؟

بخصوص أهم المواد التي قمنا ونقوم بتدريسها، يمكن إعطاء النموذج مثلا بكل من: (أسس علم الاجتماع، السوسيولوجيا الحضرية، الحركات الاجتماعية، سوسيولوجيا الانحراف، التفاعل الاجتماعي، المؤسسات السياسية، ثقافات حضرية، سوسيولوجيا الفعل العمومي، سوسيولوجيا التنظيمات، أنثروبولوجيا الدين…إلخ)؛ غير أننا سنكتفي هنا بتقديم نموذجين منها هما: (أسس علم الاجتماع وسوسيولوجيا الحركات الاجتماعية)، محاولين بذلك الوقوف على أهم المضامين التي نسعى من خلالها إلى تأسيس درس سوسيولوجي وفق التصور الذي عرضنا لبعض ملامحه سابقا.

لنبدأ إذن بمادة “أسس علم الاجتماع”، والتي يمكن إجمالا تلخيص أهم مضامينها في المحاور التالية: (السياق السوسيوتاريخي لنشأة علم الاجتماع – السياق المعرفي/ الإبستيمولوجي – علم الاجتماع ومسألة العلمية – الاتجاه الوضعي في علم الاجتماع – الاتجاه الفينومينولوجي – الاتجاه الجدلي – خلاصات واستنتاجات).

لعل أهم المضامين التي نسعى إلى تقديمها للطالب من خلال هذا الدرس، وعيا منا بأنه درس موجه أساسا للمبتدئين (طلبة السداسي الأول)، هو كيفية التمييز أولا بين الفكر الاجتماعي والسوسيولوجيا كعلم، وهذا يقودنا إلى تعريف مفهوم العلم والعلمية وما يرتبط بهما من مفاهيم كالنسبية والموضوعية…إلخ، ثم تحديد إشكالية نشأة السوسيولوجيا في سؤال: كيف نشأت؟ (مما يسمح بتصور قائم على مفاهيم التراكم والتطور والتجاوز والنسبية، وهذا ما يفيده مفهوم السياق هنا)، بدل السؤال حول: متى نشأت؟ أين؟ ومن هو الأب المؤسس؟ وهي أسئلة بقدر ما تبتعد بنا عن الموضوعية والعلمية، بقدر ما تحصرنا في نطاق الإيديولوجيا والتعصب: (فعند الفرنسيين قد يصبح أوجست كونت أو دوركهايم هو الأب، وعند الإنجليز هربرت سبنسر، وعند الإيطاليين فلفريدو باريتو، وعند البلجيكيين أدولف كيتلي، وعند الألمان جورج سيمل أو ماكس فيبر، كما عند العرب ابن خلدون)، وكأننا هنا بصدد ولادة بيولوجية !!

       السياق العام الذي أطر هذه النشأة إذن هو سياق ثوري، وعلى حد تعبير السوسيولوجي الفرنسي جون ديفينيو، فالعلوم الاجتماعية هي بنات الثورة. هناك ثورات سياسية وصناعية هو ما نؤطره في السياق السوسيو-تاريخي: (الثورة السياسية بفرنسا، الثورة الصناعية بإنجلترا)، كما هناك أيضا ثورات علمية وفكرية هو ما نلخصه في السياق المعرفي/ الإبستيمولوجي: (الثورة الثقافية في ألمانيا، الثورة العلمية في شخص الفيزياء النيوتونية والبيولوجيا التطورية).

بعد عرضنا وتحليلنا لعناصر هذا السياق ودلالاته على مستوى نشأة هذا العلم الجديد، نحاول وضع الطالب أمام سؤال “العلمية”، في العلاقة من جهة بالفلسفة ومن جهة أخرى بالعلوم الطبيعية (الفيزياء والبيولوجيا)، هذا دون أن نغفل طرح السؤال نفسه على مستوى علاقة هذا العلم بالمسألة المجتمعية؛ ولعل هذا ما يشكل المدخل نحو طرح مسألة اختلاف وجهات النظر فيما يمكن أن يكون عليه “علم الاجتماع” من الناحية “العلمية” و”العملية”، سواء في التصور الوضعي أو الفينومينولوجي أو الماركسي.

من الناحية العلمية إذن، يمكن للطالب أن يميز إبستيمولوجيا – بخصوص الاتجاهات الثلاث – بين توجهين اثنين: توجه يسعى إلى جعل علم الاجتماع علما وضعيا/ تفسيريا (على غرار العلوم الطبيعية) بإمكانه الكشف عن القوانين العامة المتحكمة في المجتمع، وتوجه لا يرى أية إمكانية لذلك بدعوى خصوصية الموضوع الاجتماعي. التوجه الأول طبعا (الماركسي والوضعي) هو توجه هوليستي Holiste شمولي، يؤمن بحتمية البنيات مع إلغاء أي دور للفعل والفاعل، بينما التوجه الثاني فرداني – منهجي (الفيبري) يرى الأولوية في فهم وتأويل الفعل الاجتماعي؛ والنتيجة اختلاف على مستوى المفاهيم والمناهج والمرجعيات (مرجعية العلم الطبيعي بالنسبة للتوجه الأول ومرجعية الفلسفة والعلم الإنساني بالنسبة للتوجه الثاني).

إذا كان الأساس الإبستيمولوجي هو ما يوحد الرؤية – بشكل من الأشكال – بين كل من الاتجاهين الماركسي والوضعي، فإن البعد الإيديولوجي هنا يجعلهما متعارضين تماما، ولعل هذا ما يمكن استنتاجه من خلال مساءلة موقف كليهما من المسألة المجتمعية. وهنا بالذات يلتقي كل من دوركهايم وماكس فيبر في موقفهما المحافظ من النظام الرأسمالي القائم، في حين يختار ماركس موقفا ثوريا؛ ولعل هذا ما يعكسه الجهاز المفاهيمي لكل من التوجهين (مفاهيم التوازن والاستقرار بالنسبة للأول ومفاهيم الصراع والتغيير بالنسبة للثاني).

في سياق هذا الدرس طبعا، ومن خلال أهم الخلاصات والاستنتاجات التي ينتهي إليها، نفتح إمكانيات للتفكير النقدي والتركيبي أيضا لدى الطالب، وفي هذا الإطار بقدر ما نضعه أمام مجموعة من الانتقادات الموجهة لهذا الاتجاه أو ذاك، وبقدر ما نجعله أيضا يقف على أهم نقاط الاختلاف والتعارض بينها، نجعله بالمثل يقف على إمكانيات أخرى ترصد بعض مجالات للتداخل والتكامل بينها. في هذا الإطار بالذات، وعلى سبيل الاستئناس بالنسبة لطلبة مبتدئين، نقدم النموذج ببيير بورديو P.Bourdieu في طريقة دمجه لمفاهيم بعضها أخذها من ماركس (الرأسمال الاقتصادي) وأخرى من ماكس فيبر (الرأسمال الثقافي) وأخرى من دوركهايم (الرأسمال الاجتماعي)، مطورا بذلك نظريته حول حقول ومجالات الممارسة الاجتماعية.

أما بخصوص مادة الحركات الاجتماعية، والتي يتم تدريسها لطلبة السداسي الخامس، فيمكن بسط أهم محاورها كالآتي: (الحركات الاجتماعية موضوعا للسوسيولوجيا – الحركات الاجتماعية التقليدية – الحركات الاجتماعية الجديدة – الحركات الاجتماعية بالمغرب والعالم العربي، أي نموذج للمقاربة؟). وحتى لا نسهب في التفاصيل، يمكن الاكتفاء هنا بتلخيص لأهم المضامين.

كما جرت العادة بخصوص طريقة بنائنا للدرس، فإن أول ما يمكن تقديمه للطالب هنا – كمدخل عام – هو الإطار التاريخي لتشكل وتطور الحركات الاجتماعية، غير أن المسألة هنا تبقى مرهونة باستحضار السياق الإبستيمولوجي لتبلور وتطور “مفهوم” الحركة الاجتماعية نفسه. وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار أن أول تداول للمفهوم كان في الأوساط الأنجلوسكسونية (أمريكا وإنجلترا) منذ أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، والنموذج تم إعطاؤه بكل من الثورتين الفرنسية والهايتية؛ لكن فيما بعد سيعرف المفهوم تطوره وتجدره أيضا من داخل السوسيولوجيا، وباختلاف مقارباتها من ماركسية ووظيفية ونسقية وتفاعلية.. وهو تطور يوازي طبعا ذلك التغير والتحول الحاصل أيضا على مستوى طبيعة الحركات الاجتماعية وواقعها (حركات تقليدية وحركات جديدة).

في الواقع، إن ما يهمنا هنا – وعلى امتداد الدرس – هو وضع الطالب أمام مجموعة من الإشكاليات، مع تحفيزه على البحث أكثر فيما قد تطرحه من أسئلة إبستيمولوجية ونظرية ومنهجية أيضا. فأين يمكن مثلا موقعة سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية، على هذا المستوى، من سوسيولوجيا الفعل الجماعي Sociologie de l’action collective، خاصة وأنها هي الأخرى (سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية)، وإلى جانب سوسيولوجيا التنظيمات وسوسيولوجيا الفعل العمومي Sociologie de l’action publique، تسعى إلى تحليل وفهم منطق النشاط الاجتماعي/ الجماعي المنسق والمنظم؟ ما الذي يحدد ويؤكد خصوصية وتميز المقاربة التي تقدمها سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية في هذا الإطار؟ ثم ما دلالات الحديث هنا عن حركات اجتماعية تقليدية وأخرى جديدة، وما هي معايير وخلفيات هذا التمييز؟ وعلاقة بالسؤال الأخير، إذا كان ما يميز الحركات الاجتماعية الجديدة هو كونها لم تعد مرتبطة بالمطلب السياسي والنقابي (اقتسام السلطة والثروة)، ولم تعد تتبنى دائما أسلوب العنف كاستراتيجية، ولم تعد مرتبطة بطبقة معينة أو بالأغلبيات (الجماهير) بل بالأقليات “الفاعلة”  Les minorités actives…إلخ، فما الذي يعنيه هذا التحول بالنسبة للمقاربة السوسيولوجية؟

هنا بالذات يفتح المجال أمام الطالب للوقوف – ومن خلال عرض تحليلي لأهم النظريات في هذا الشأن: (آلان توران، شارلز تيللي، روبرت غور، إنغل هارت، ويلزل، ألبيرت هيرشمان…) – على أن الأمر يتعلق هنا بمراجعة جذرية للمفاهيم كما المناهج والبراديغمات؛ إنه انتصار لبراديغم “الفعل” ضدا على براديغم “البنية”، الجوازيةLa contingence  ضدا على الحتمية، الفردانية المنهجية ضدا على الهوليستية… وبالموازاة مع ذلك أيضا، يتم استحضار الإسهام الفلسفي في هذا السياق، حيث سيعاد النظر في عدد من المفاهيم، بما فيها مفهوم السلطة الذي اعتبره ميشيل فوكو محوريا في تعريفه للحركة الاجتماعية. فحسب ميشيل فوكو، ووفق تصوره الخاص لميكروفيزياء السلطة، فإن هذه الأخيرة – وبعكس التصور الماركسي – توجد مبثوثة في كل ثنايا المجتمع بمؤسساته وممارساته، ومن ثم فهو يعتبر “حركة اجتماعية” كل فعل منظم وموجه لمقاومة كل أشكال السلطة، عمودية كانت أو أفقية: (سلطة الرجل على المرأة، سلطة الأب على الأبناء، سلطة الطبيب على المرضى، سلطة الدين والأخلاق والمؤسسات…)، كما أن اللغة كخطاب هي الأخرى تمارس سلطة. لعل هذا ما سيضعه بمعية جيل دولوز وغواتاري وفرانسوا ليوطار وآخرين – ممن يحسبون على تيار ما بعد الحداثة – في الطرف النقيض لأطروحات هابرماس حول “الفضاء العمومي” والفعل التواصلي.. بحيث يفتح مجال آخر هنا للتمييز بين خلفيتين فلسفيتين، حداثية ومابعد حداثية، لفهم واقع الحركات الاجتماعية المعاصرة.

في ضوء استعراضنا لهذا المتن النظري حول موضوع الحركات الاجتماعية، واستحضارا منا لما يمكن أن يقدمه الدرس السوسيولوجي – في هذا الإطار- من إمكانيات نظرية ومنهجية في سبيل فهم ما يحصل في مجتمعاتنا العربية اليوم من أحداث، كان لابد من تخصيص محور حول “الحركات الاجتماعية بالمغرب والعالم العربي”.. فهل يمكن الاطمئنان، مثلا، لنموذج نظري بعينه في دراسة وفهم مختلف الأشكال الاحتجاجية والحركات الاجتماعية اليوم بالمغرب (حركة 20 فبراير) كما بباقي المجتمعات العربية؟ وفي علاقة بما أصبح يعرف بـ”الربيع العربي”، من هم الفاعلون الأساسيون؟ ما هي رهاناتهم واستراتيجياتهم؟ ما هي القيم التي يدافعون عنها؟ ما هي العوائق التي تقف وراء نجاح هذه الحركات أو بعضها؟ لماذا انزلق البعض منها نحو خيار العنف؟ وما هي حدود ومعايير التمييز هنا بين “حركة اجتماعية” و”انتفاضة” و”ثورة”؟

هذه الأسئلة وغيرها طبعا، هو ما يشكل محاور لعروض ينجزها الطلبة، كما تتم صياغتها أيضا في إطار إشكاليات لبحوث نهاية السنة بالنسبة لطلبة السداسي السادس: (الحركة النسائية، الحركة الثقافية الأمازيغية، حركات الإسلام السياسي…). وفي سياق نفس الحرص، دائما، على استمرار ربط الدرس السوسيولوجي بالبحث الميداني، يمكن قول الشيء نفسه بخصوص بعض المواد الأخرى،  وبخاصة سوسيولوجيا الانحراف، السوسيولوجيا الحضرية وأنثروبولوجيا الدين.

كانت هذه إذن عينة قد تسمح بإعطاء فكرة عامة حول طريقة تصورنا وبنائنا للدرس السوسيولوجي، وذلك من خلال تقديمنا لمضامينه في ضوء أسئلة ثلاث مهيكلة: السؤال الإبستيمولوجي، السؤال النظري ثم السؤال المنهجي؛ فماذا بخصوص الأدوات والوسائل المعتمدة في بناء وتقديم هذا الدرس؟

حقيقة، لا يمكن الادعاء بأننا نمتلك “وصفة” محددة وجاهزة بهذا الخصوص، فالدرس السوسيولوجي لا يمكنه إلا أن يكون مبدعا، سواء في تصوره أو في بناء مضامينه أو في تقديمها أيضا كمنتج معرفي موجه للاستهلاك الجامعي. وكما أشرنا إلى ذلك من قبل، وفي علاقة بطرق تقديم هذا الدرس، ليس هناك طريق ممهد سلفا كي نسلكه (ديداكتيك)، ولعل هذا ما يدفع أكثر نحو الإبداع والابتكار على مستوى الوسائل والطرق.

باختصار شديد، يمكن حصر أهم هذه الوسائل، وعلاوة على المحاضرات طبعا، فيما يلي:

– اقتراح نصوص على الطلبة، بحسب كل مادة على حدة، ودفعهم لإنجاز تقارير مركزة حولها.

– توزيع المحاور الكبرى لبرنامج كل مادة، ما عدا المواد الخاصة بالسداسيين الأول والثاني، كمواضيع لعروض ينجزها الطلبة، كما يتم أحيانا اقتراح قراءات في كتب، ويتم عرضها ومناقشتها داخل الفصل. بطبيعة الحال تنجز هذه العروض بطريقة جماعية (تشجيع روح الفريق)، حيث أن كل مجموعة تتكفل بموضوع، وذلك وفق جدولة زمنية مضبوطة.

– تنظيم خرجات ميدانية للطلبة، قد تكون أحيانا تحت الإشراف الميداني المباشر للأستاذ أو الأساتذة المتدخلين (تجربة ماستر الجريمة والمجتمع، الذي كنت مشرفا على تنسيقه)، أو تكليف الطلبة بإنجاز  استطلاعات ميدانية بخصوص بعض الظواهر/ المواضيع التي تندرج في إطار هذه المادة أو تلك: (ثقافات حضرية، سوسيولوجيا الانحراف، أنثروبولوجيا الدين). وبناء عليه، يكون الطلبة ملزمين بإعداد تقارير مفصلة حول ذلك؛ وهكذا نفتح لهم إمكانيات الاحتكاك بالميدان وتعزيز قدراتهم المنهجية والتقنية.. أليس الرهان هنا هو إعداد “طالب باحث” متمرس؟

– نشر بعض المضامين عبر صفحات الويب، وبهذه الطريقة طبعا يتم فتح مجالات أوسع وأيسر لنشر المعرفة وتعزيز ثقافة النقاش والتواصل، وفي هذا السياق بالذات انخرطنا كما ساهمنا في خلق مجموعات وصفحات عبر الفايس Face book لهذا الغرض: (مجموعة ماستر الجريمة والمجتمع، مجموعة أنثروبولوجيا سوسيولوجيا، مجموعة سوسيولوجيا الانحراف…إلخ).

– في إطار حرصنا الدائم على ربط الدرس السوسيولوجي بالميدان Le terrain، عادة ما تتم دعوة أساتذة باحثين متخصصين في موضوع أو مجال بحث محدد: (الحركات الاجتماعية، السوسيولوجيا الحضرية، سوسيولوجيا الجريمة)، وذلك بهدف تقديم أهم نتائج أبحاثهم ومناقشتها أمام الطلبة.. وبالمثل أيضا، تتم دعوة أطر ومسؤولين عن تدبير بعض القطاعات لتقديم فكرة عن تجربتهم الميدانية/ التدبيرية، هذه المرة من وجهة نظر الفاعل المشرف والمتدخل. من دون شك، هذه طريقة أثبتت فعاليتها وجدتها، خاصة على مستوى تجربة “ماستر الجريمة والمجتمع”، بحيث غالبا ما كنا نسعى إلى تنظيم ورشات عمل يقوم بتنشيطها وتأطيرها معنا ثلة من الأطر الفاعلة في ميدان “مكافحة الجريمة” على مستوى مدينة مكناس ومحيطها.. فسواء تعلق الأمر بالنيابة العامة (السيد وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية)، أو الشرطة القضائية (السيد رئيس المصلحة الولائية للشرطة القضائية)، أو القضاء والمحاماة أيضا، ناهيك عن بعض الفاعلين الذين ينشطون على مستوى المجتمع المدني، خاصة فيما يرتبط بقضايا إعادة إدماج الأحداث الجانحين، أو الأطفال في وضعية الشارع، أو الأمهات العازبات…إلخ؛ (والشكر موصول هنا للكل).

– وضع اختبارات (مراقبات) “مفاجئة” للطلبة، ليس – تماما – بالمعنى الوارد في فلسفة المراقبة المستمرة، وتكون هذه المراقبات على شكل سؤال تتحدد مدة الإجابة عنه في 30 دقيقة، وبعدها يتم اختيار عينة من خمس إلى سبع طلبة كل يقوم بقراءة ما كتب، كما يتم تقويم ذلك من داخل الفصل وبإشراك الطلبة. ولئن كان هناك من هدف يرجى من خلال هذه العملية، فلعله تمكين الأستاذ من متابعة مدى مسايرة طلبته وقدرتهم على الاستيعاب، وفق نوع من الاستراتيجية الاستباقية – إن صح هذا التوصيف – علاوة على ما قد يعنيه ذلك بالنسبة للطلبة من “استفزاز” و”توريط” بالمعنى الإيجابي طبعا للكلمة.

على سبيل الختم

       بعد هذا العرض المركز حول تجربتنا المتواضعة في مجال تصور وإنتاج الدرس السوسيولوجي، وبعد وقوفنا على أهم شروط وإكراهات عملية الإنتاج هذه، وجب علينا السؤال إذن حول ما هي رهانات هذا الدرس؟

من دون شك، وكما أكدنا على ذلك – غير ما مرة – على امتداد هذا المقال، فالدرس السوسيولوجي كما نتصوره لا يمكنه أن يكون إلا مبدعا وجريئا ومستفزا أيضا. هو درس لا نريد له أن يرتكن إلى شكل هندسي قائم على خطوط الفصل بين “الدرس” و”البحث” (الهندسة البيداغوجية الوطنية الحالية)، فلا إمكانية لأي إسهام في تطوير الممارسة السوسيولوجية بالمغرب، من دون إعادة النظر في علاقة الدرس السوسيولوجي بالبحث السوسيولوجي كما هي اليوم.

علاوة على ذلك طبعا، فنحن لا نعني بتأكيدنا هذا على ضرورة ربط الدرس السوسيولوجي بالبحث الميداني “الإمبريقي”، أننا ننتصر لموقف “البعض” ممن يرون في هذا الدرس مجرد لحظة، أو “وصفة” لتلقين تقنيات ومناهج البحث Une recette d’enquête sociologique؛ فالواقع الاجتماعي يظل أغنى وأعقد من أن نستوعب منطقه وفق لغة الأرقام والمعطيات، كما أن المسألة هنا – وحسب تقديرنا – تتجاوز بكثير مجرد السؤال المنهجي إلى سؤال إبستيمولوجي . لعلنا هنا أقرب ما يكون إلى سؤال العلاقة بين السوسيولوجيا والفلسفة، بمعنى هل يمكن للسوسيولوجيا أن تكون وتستمر كممارسة علمية من دون الحاجة إلى خلفية فلسفية؟ أم بالعكس، وهذا ما ننتصر له، لا يمكن للحظة نفي تلك الصلة – بشكل أو بآخر- بين الإثنين؟

لعل تاريخ الفكر السوسيولوجي وحاضره أيضا ليؤكدان بقوة هذه الصلة، ولنا أن نستحضر هنا نماذج كثيرة لسوسيولوجيين لم يشكل بالنسبة إليهم عمق ارتباطهم بالفلسفة أي عائق نحو تأكيد علميتهم وصرامة تحليلاتهم: سواء تعلق الأمر بكارل ماركس، أو ماكس فيبر، أو دوركهايم، أو جون ديفينيو، أو بورديو، أو نربرت إلياس، أو هابرماس، أو آلان توران…إلخ. ولعل أكبر رهان يبقى للسوسيولوجيا من خلال ذلك، هو أن تظل  -كما يفترض لها – علما نقديا ومستفزا بأسئلته كما بتحليلاته.. لا مجرد أداة لإنتاج “خبرات” تحت الطلب.

هوامش وإحالات

*- أستاذ باحث بشعبة السوسيولوجيا، كلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة مولاي إسماعيل بمكناس؛ رئيس مجموعة البحث حول الدين والقيم والتغير الاجتماعي؛ مدير مختبر الدراسات والأبحاث في الفلسفة والعلوم الاجتماعية – من داخل نفس الكلية؛ عضو مكتب فضاء الأبحاث والدراسات في العلوم الاجتماعية والإنسانية ERESH بمكناس.

**- بخصوص ذلك يمكن الرجوع مثلا إلى:

– إدموند بورك: البعثة العلمية – العلوم الاجتماعية والسياسة في عصر الإمبريالية، ترجمة زبيدة بورحيل، المجلة المغربية للاقتصاد والبمجتمع – العددين الخامس والسادس، 1981

– عبد الجليل حليم: البحث السوسيولوجي في المغرب، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية – فاس، العددين الثاني والثالث، 1979.

– عبد الكبير الخطيبي: النقد المزدوج، دار العودة، بيروت

– نور الدين الزاهي: المدخل لعلم الاجتماع المغربي، منشورات دفاتر وجهة نظر -( 20).

– André Adam : Bibliographie critique de sociologie, d’ethnographie et de géographie humaine du Maroc, Alger – 1972

– Abdelkébir Khatibi : Bilan de la sociologie au Maroc, Publication de l’association pour la recherche en sciences humaines, 1967.

– Paul Pascon : 30 ans de sociologie du Maroc, textes anciens et inédits – Bulletin économique et social du Maroc, 1986.

 

رأي واحد حول “الدرس السوسيولوجي بالجامعة المغربية”

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.