الجماعة البشرية الأولى : منظور تطوري – ديني (2 من 2)

65465464تبدأ القصة مع آدم وحواء بعد هبوطهما إلى الأرض ، فالتفاصيل حول الفردوس لا تعنينا هنا !

سيطر بنو آدم على هذا الكوكب ، والنص القرآني أوضح هذا عبر الآية ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء : 70]﴾

قبل هذا ، في الجنة ، آدم كان قد تعلم الأسماء كلها ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [31] قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [32] قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [33] وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [34] (البقرة)﴾

هذه المعرفة ، هي تأهيل للسكنى على الأرض …

وهي تظهر بدءاً مع اللباس ﴿فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ [الأعراف : 22]﴾ ، وهو مرتكز الحماية الأول ، بعده سيأتي المأوى !

وهذا ما فعله آدم بعد الهبوط مباشرة ﴿قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [24] قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [25] يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [26] (الأعراف)﴾

وربطاً بنسخة التطوري من القصة ، لم يكن ما حدث “صدفة/طفرة” بل حدث منبني على خطة مسبقة ! له دلالة وفيه حكمة ، ومنه ستنبثق أهداف ورؤى ، كما تبعات وصيرورات !

لكن ، يتفق التطوري مع الديني على كون اللباس/المأوى هو أول ما بحثه “الإنسان” مع ذاته ! ومع غيره ، وإخترعه ليقي نفسه وجماعته تقلبات المناخ !

لكن أصل النشأة هو أساس الإختلاف ، ولا حل لهذا الخلاف ، إلا بطرح كل قصة لأسانيدها وحججها وبراهينها ! وهذا مقامه ضمن مقال آخر !

إن القفزة النوعية للغة التي حصلت منذ 120 ألف عام فأنتجت سيطرة لإنسان شرق أفريقيا على باقي المجموعات البشرية ! يفسرها التطوري بالطفرة ! ويقابلها الديني بهبوط آدم !

وهذا خلاف جوهري ، بين أصل مكرّم للإنسان ، وبين صدفة دفعته إلى الوجود !

أصل مكرّم له غاية ومرتجى ، أم عبث من عدم إلى عدم !

هذا إشكال لا يجرؤ التطوري على مقاربته !

قلنا أن البــدء كان في البحث عن مأوى (لباس/كهف) ! وهذا أمّن لهذا الكائــن المســتجد على هذا الكـوكـب ، فرصة تأمّله ، معتمداً على مدد إلهي غيبي متدفق ومستمر !

والإختلاف بين الزوجين ، مستمداً من هذه الحكمة في التكوين ، يحيل إلى نتائج مخالفة تماماً لأفكار التطوري ، فالإختلاف ضرورة ، والتكامل لا يحصل بين شبيهين ! وكل الحياة على الأرض معتمدة على قانون الزوجية !

وهو يعني في أصله إختلافاً بين الزوجين ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات : 49]﴾ ، ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرعد : 3]﴾ ، حتى مع أب البشــرية الثاني “نوح” ، كان الأمر أن ﴿…اسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [المؤمنون : 27]﴾ .

سيحضر سؤال ، أسمعه كثيراً : وهل ينبني على هذا الإختلاف الفيزيولوجي ، إختلاف ثقافي ، فكري ، إجتماعي ، معرفي …؟

أرى أن السؤال مهجوس كعادة أسئلة النسويين ، وطرحهم للإشكاليات !

كيف ؟

لأن السؤال يحوي فرضية مسبقة ! فهو يعتبر أولاً أن الإختلاف يوحي بأفضلية ! وثانياً أن هذا الإختلاف الذي كان في البدايـة ، له ما يبرّر بدايـاتـه ، لكنه ليس من الضروري ولا المطلوب له أن يســـتمر ، بإعتبــار أن الأنثى أضحت قويــة ! وقادرة على تحقيق وجودها !

بالنسبة لأولاً ، فهذا غير صحيح ! ووجودها لا يعني أنها بدأت هكذا ! ولا يعني أن هذه هي القاعدة التي يجب (ووجب) أن تُتّبع !

أما ثانياً ، فهي معطوفة على أولاً ، فإذا كان الأصل تكاملياً ، فلا معنى لدعاوى المساواة ! ولا ضرورة لتحصيل حق تبرّر النسويات بداياته ! إذ لو إنتفت المقدرات والمصادر ، لوجب على الحال أن يبقى على ما هو عليه !

وهذا ، في نظر الديني ، غير مقبول ، فالمبدأ واحد ، وكل ما يصدر عن الواحد ، من تعددية ، منتهاه واحد ! فالزوجية هي صورة تعددية للواحد ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم : 21]﴾

التكامل بين المتعدّد للوصول إلى الواحد ، وهذا لا يحصل إذا كنت مكتملاً ، لذا توق الذكر للأنثى ، وتوق الأنثى للذكر ، هو توق تكاملي هدفه كمالي !

وبهذا يفهم الديني خلق الأنثى ! وبهذا يفهم السر المقدس للزوجية !

نشأت العائلة الأولى من خلال سر مقدس ! تدنس مع الحسد ! هذا الحسد الذي يعتور الأنا كوسوسة إبليسية ، ذات الأنوية التي أرادها إبليس حاكمة لأفضليته على آدم !

لذا أساس الوجود البشري تعاوني ، والأنوية المبثوثة شيطانية !

واللغة قبل هذا كانت ، وبعده إستمرت ، فَهِمَها الإنسان عبر المدد الإلهي ، وتواتر تعليمها أباً عن جد ! وتنوعت مع تنوع التوسع البشري ، إلا أن أصولها واحدة ، وهذا أيضاً حديث يطول !

البدء عند التطوري ، حالة الترحال ، بعدها البستنة ، والتدجين ، والزراعة … وكل هذا لا يخالف أي نص صريح ، لكن يؤكد الديني من خلاله على أن كل قفزة (وأي قفزة) أصلها مَدَد إلهي !

وشاهد هذا ، الآية التالية التي تحدّد بداية ما يطلق عليه العصر الحديدي ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ : 10]﴾ ، كما توضّح الآية التالية إستخدام الحديد كزي عسكري ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء : 80]﴾ .

إذن القفزات النوعية ، مقصودة ، لا صدفوية (وهي كلمة يمكن ببساطة إستبدالها بكلمة عبثية) !

قصة الديني تختصرها الآية التالية ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ [البقرة : 156]﴾

من أيـن ، وإلى أيـن ، وحياتنا الدنيا ، لتحقيق الأفضل على صعيد الذات ، كما على صعيد الجماعة ! عبر صراط مســتقيم !

المشكلة تقع ، عندما يظن الواحد منا ، وبما أنه على الصراط المستقيم ، أن على الباقين (لينجوا) أن يكونوا على ذات الصراط ! فيبدأ بوعظهم ، أو تكفيرهم وقتلهم ! والخطأ هنا في خلطه بين الواحدية والتعدد !!

هناك بداية واحدة ، ونهاية واحدة ، لكن الصراط متعدد !

هذا الفهم للتعدّد يقدّم للمؤمن فرصة أن يعيش طمأنـيـنــة مع ذاته ، ومع طريقه ، دون أن يحمل على إختلاف الآخر عنه ! فإختلافنا يؤدي إلى تكاملنا !

لم تنشأ العبادة بسبب حاجة مدينية ! أو لأسباب زراعية ! أو تطورت كفكرة من أصول مجهولة !

بل بدأت بسبب معرفة آدم لأصله ! وفهمه لرسالته ! وما رسالات الأنبياء إلا لتذكيرنا بهذه الحقيقة ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية : 21]﴾ ، وبهذا الأصل ، تذكيرنا بـ “من أين” وبـ “إلى أين” ، وبإرشادنا إلى الطريق الذي به ننجو ، وبه نعمر الأرض ، وبه نكون مكرمين فعلاً !

لم تكن العبادة للأسلاف ، أو لظواهر الطبيعة ! وبعدها تطورت وأضحت توحيدية !

كانت في الأصل توحيدية ، وما التغير إلا إنحراف عن الأصل ، وحرف لمسيرة الإنسانية عن طريقها !

هذا الإنحراف شيطاني ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [168] إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [169] (البقرة)﴾

لماذا الشيطان ؟!

سؤال أيضاً لا معنى له ، لكنه يؤكد الطبيعة الفضولية للإنسان !

فلو لم يكن ، لكان السؤال عن أمر آخر ؟!

كما فكرة لماذا تم الخلق ذكراً وأنثى ؟!

الإشكالية التي برهن “هيوم” (David Hume) بأنها لا معنى لها !

لنعود وننطلق من الوقائع ، هناك ذكر وهناك أنثى ، والحياة لا تكتمل إلا بإجتماعهما !

هناك خير وهناك شر ، ولا معنى للخير إلا عبر مقابلته بالشر ! وإلا لما عرفناه أساساً !

قصة التطوري ، تنطلق من الوقائع ، لكن تحرفها لبناءات مسبقة تريد تأكيدها ! وهي عاجزة عن تقديم براهين تثبت أن الصدفة هي من أوجدت الحياة !

لكنها ذهبت أبعد ، عندما قررت أن أي فرضية مختلفة هي خاطئة لأنها غير علمية ! وفي هذا خالفت أساس الشرط العلمي الذي تنادي به !

الديني بالمقابل ، يؤكد أن وجود كائنات شبيهة بالبشر سابقة لوجود آدم ، لا تعني أننا تطورنا منها ! كما يقدم براهين تثبت فرضية الخلق (وقد سبق أن أشرت إلى أن مقامها ضمن مقال آخر) !

هذا العرض الذي قدمته ، أردت به ثلاث مسائل :

  1. تقديم مطالعة تاريخية موجزة تعتمد على الأنثروبولوجيا في قراءتها لأصل تشكل الجماعة البشرية . وهذا ما لم أجده عند كثير ممن إطلعت على كتاباتهم وأبحاثهم ، وهي ثغرة توحي بأن هناك مشكلة في التعاطي مع البعد التاريخي ! أو فجوة في فهم الأنثروبولوجيا !
  2. مقاربة القصة من منظور التطورية ، بإعتبارها أكثر (وأشهر) من تكلمت بالموضوع !
  3. مقارنة قصة التطوري ، مع الديني ، لأحدّد من خلالها أن هناك وجهة نظر أخرى تتطلب منا تأملها وإعمال العقل فيها !

هذا ما ألهمني لكتابة هذا النص ، يبقى الأهم ، وهو الإستنتاج ، فما الذي وصلت إليه ؟ هناك ثلاثة إستنتاجات أساسية ، وهي :

  1. هناك ثغرات أســاســية في غائية قصة التطوري ، التي تحيل إلى صدفة عبثية ، مقابل فلســفة متكاملة عند الديني ، تحيلنا إلى إستمرارية وتكامل منذ لحظة الهبوط ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها !
  2. التطورية ليست حقيقة علمية ، بل رأي ! له أسانيد وشواهد ، ربما . لكن لم يقدر على تزويدنا بأي دليل حول أصل النشأة ! وهذا ما يقوم به الديني !
  3. لا وجود لتعارض في بعض تفاصيل القصتين ، والإختلاف نابـع من مبدأ الخلق عند الديـنـي ، مقابل نفيه عند التطوري ، كما لم يشــر الديني إلى أن الإنتخاب الطبيعي خاطئ بالمطلق ، بالعكس ، إذا ثبتت صحته ، فهو لا ينفي الخلق ، بل يؤكده من خلال النظام/القانون المسيّر للطبيعة ! هذا إذا تحول إلى قانون !

أخيراً ، السؤال الضروري : إلى أين من هنا ؟

إلى مساءلة ضرورية لكل السرديات ! ولكل المعارف !

إلى أين ؟

إلى اليقظة …

[تمت]

ملاحظة : نشرتها مسبقاً على مدونتي ، على هذا الرابط

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.