قضايا الثقافة والشخصية : قراءة أنثروبولوجية

روث بندكت ومرغريت ميد رائدات مدرسة الثقافة والشخصية
روث بندكت ومرغريت ميد رائدات مدرسة الثقافة والشخصية

أ.د.علي أسعد وطفة *

تمهيد:

إن الإنسان وحده هو الذي يملك الثقافة، فله تاريخ مميز عن الماضي، وله قيم مميزة عن الحاجات، وله شعور مميز عن العقل. والإنسان وحده هو القادر علي أن يقيم عالماً مختلفاً نوعاً عن عالم أجداده. فالثقافة إذن تقدم مفتاح الفهم والإداراك لحق الإنسان الشرعي في سيادة الكون [1] كما تساعد في بناء شخصية الإنسان وتأثر فيه.

ويعتبر المدخل الثقافي في دراسة الشخصية من الموضوعات التي يهتم بها علماء الأنثروبولوجيا الثقافية، وقد أدي أهتمام العلماء الأنثروبولوجيين بدراسة التباين بين الشخصيات المختلفة إلي ظهور فرع متخصص يعرف (بالأنثروبولوجيا السيكولوجية) أو (الثقافة والشخصية) الذي يعتبر نقطة لقاء بين الأنثروبولوجيا وعلم النفس.[2]

فإذا كانت هذة العلاقة القوية بين الثقافة والشخصية موجودة فأي مصطلح أفضل من الأخر دلالة علي هذا العلم مصطلح (الثقافة والشخصية) أم مصطلح (الشخصية والثقافة) ؟ وما علاقة هذا العلم بعلوم الأنثروبولوجيا و الأجتماع و النفس؟ والأهم ما هو علاقة هذا العلم بعلم الإنثروبولوجيا الثقافية؟ وأخيرا أيهما يؤثر في الآخر الثقافة أم الشخصية؟؟

في جدل الثقافة والشخصية:

فيما يلي سأتناول ثلاث قضايا في موضوع الثقافة والشخصية وهم علي الترتيب الأتي:

1. أشكالية المصطح.

2. العلاقة بالعلوم المختلفة.

3. علاقة الشخصية بالثقافة ،والثقافة بالشخصية.

أولاً: أشكالية المصطلح:

عرفت الإنثروبولوجيا النفسية عالمياً بعنوان ((الثقافة والشخصية)) وأخذ ينتشر هذا الأصطلاح و يزداد الاهتمام ببحث موضوعاته بصورة سريعة للغاية بالنسبة لحداثة نشأة هذا الفرع.

بالرغم من هذا الانتشار السريع لاصطلاح ((الثقافة والشخصية)) إلا أن صاحبه اعتراضات تنادي بتغييره، فمثلاً يري العالمان ((كلاكوهن)) و ((موراي)) أن أصطلاح ((الثقافة والشخصية)) قد يفهم تناقض وثنائية مثل الذي يوجد في اصطلاح ((الروح والمادة)) ، لذلك يفضلون استخدام اصطلاح ((الثقافة في الشخصية أو الشخصية في الثقافة)). [3]

ويري دكتور محمد الجوهري في كتابه (علم الفلكلور) أنه من الأفضل أطلاق مصطلح ((الثقافة والشخصية )) علي علم الأنثروبولوجيا السيكولوجية وليس مصطلح ((الشخصية والثقافة)) وذلك لأنه بالرغم من أن هناك علاقة تتسم بطابع الأخذ والعطاء والتأثير والتأثر بين الثقافة والشخصية إلا أن الثقافة هي الأكثر عطاء وتأثيراً في الشخصية والعكس غير صحيح ، وهذا ما سوف نناقشه بالتفصيل في موضوع العلاقة بين الثقافة والشخصية.

ثانياً: العلاقة بالعلوم المختلفة:

تلخص موضوع الأنثروبولوجيا النفسية في الدراسة العلمية للعلاقة بين الثقافة والشخصية؛ لذلك يعدها بعضهم فرعاً من فروع الأنثروبولوجيا الثقافية (الذي يجمع بين مفاهيم الأنثروبولوجيا عن الثقافة ومفاهيم علم النفس عن الشخصية) ولذلك يتطلب هذا الفرع من المعرفة تعاوناً وثيقاً بين المتخصصين في الأنثروبولوجيا الثقافية وعلم نفس الشخصية [4] وكذلك مع علماء الإجتماع وذلك لأهتمامهم المشترك بالثقافة والشخصية المكونة للمجتمع موضع دراستهم.

فإذا كانت ((الانثروبولوجيا الثقافية)) تهتم بدراسة ثقافات الإنسان في المناطق المختلفة في العالم دون الاهتمام بتأثير الثقافة علي شخصية حامليها.

وإذا كان ((علم النفس الشخصية)) -وبخاصة الأطباء النفسيون- يهتم بتحليل شخصيات الأفراد المرضي ويركزون اهتمامهم علي مظاهر الاختلاف والتفرد في شخصيات البشر دون الأهتمام بثقافتهم.

فإنه في الفترة الأخيرة ظهر الاهتمام عند بعض الأنثروبولوجيين بدراسة العلاقة بين الثقافة والشخصية، ووجد هذا الاهتمام تعاوناً وتجاوباً من بعض علماء النفس وبخاصة الأطباء والمحللين النفسيين، كما وجد تجاوب من علماء الاجتماع أيضاً ولقد أعترف هؤلاء وهؤلاء بالثقافة عاملاً محدداً للشخصية لا يمكن إغفاله عند دراسة الشخصية السوية والغير سوية

ولقد عرفت الأنثروبولوجيا النفسية عالمياً بعنوان ((الثقافة والشخصية))، وأخذ ينتشر هذا الاصطلاح ويزداد الاهتمام ببحث موضوعاته بصورة سريعة للغاية بالنسبة لحداثة نشأة هذا الفرع.

ويتعاون الأنثروبولوجيون مع علماء النفس وعلماء الإجتماع في هذا الميدان بصورة واضحة، ومن أمثلة ذلك اعتماد الأنثروبولوجيين علي المحللين النفسيين في إجراء اختبارات الشخصية، في حين يستعين الأطباء النفسيون بالتقارير الأثنوجرافية للأنثروبولوجيين عند دراستهم للشخصيات، ويعتمد علماء الاجتماع علي تقارير الأثنان عند دراسة أفراد المجتمع ما. [5]

ثانياً: علاقة الشخصية بالثقافة، والثقافة بالشخصية:

إن العلاقة بين الثقافة والشخصية (الفردية والجماعية) أكيدة وقوية، وهي علاقة تكاملية تنبني علي أساس التأثير والتأثر، بحيث لا يمكن الجزم بأن الثقافة هي منتوج محض للشخصية كما لا يمكن اعتبار الشخصية بأنها منتوج مطلق للثقافة، ولكن لكل واحد منهما دوراً تأثيريا في الاخر بمقادير متفاوتة.[6]

وسنحاول تحديد أبرز هذة العوامل المزدوجة كل علي حدة فيما يلي:

أولاً: تأثير الثقافة في الشخصية:

تمد الثقافة الفرد بالمادة الخام التي يصنع من خلالها حياته[7] فالمحددات البيولوجية لا تحدد وحدها نمط الشخصية، كما أن الصفات السيكولوجية لا تشكل وحدها الشخصية، إنما تتكون الشخصية بتفاعل كل من المورثات البيولوجية والقدرات السيكولوجية مع البيئة التي يعيش فيها الفرد .

وأن ما تتضمنه البيئة من أشكال ثقافية مادية ولا مادية، تؤثر بشكل واضح في تحديد نمط الشخصية الإنسانية.[8]

ومن هذة الناحية يمكن حصر أوجه التأثير في عوامل أربعة وهي مرتبة حسب تأثيرها كالتالي:

1) التربية.

2) التعليم.

3) التغير الثقافي.

4) الصدمة الثقافية.

1)التربية:

إذا لوحظ بعض الاختلاف بين علماء النفس، وعلماء الاجتماع والنثروبولوجين في النظر إلي محددات الشخصية، ومكوناتها، فإن تأثير التربية في الشخصية أو كما يعرفه البعض بالتنشئة الإجتماعية يعتبر من الأمور المتفق عليها من الأطراف الثلاث.

وهو ما يؤكد الدور الأساسي الذي تؤديه التربية في تكوين الشخصية، وفيما يلي نذكر بعض ما أورده علماء العلوم السابقة في هذا المجال.

واطسون Watson وهو أحد أقطاب علم النفس الفردي وصاحب المدرسة السلوكية يري أن ( طبيعة الطفل تتسم بقدر من المرونة، وقابلية التشكل في أية صورة يريدها أفراد الجماعة).

كما نجد في الوقت ذاته رالف لينتون Linton. R الذي يعتبر من الانثروبولوجيين البارزين الذين اهتموا بدور التربية في تكوين الشخصية يري أن (الأطفال الذين ولدوا في مجتمع معين يربون تقريباً بنفس الكيفية من جيل إلي جيل

وتبين أن السنوات الأولي من عمر الفرد تعتبر ذات أهمية قصوي في تكوين الشخصية، وقد تم اكتشاف هذا الأمر عند دراسة أفراد غير أسوياء حيث أتضح أن بعض ماينفردون به من سمات في شخصياتهم يكون مرتبط بكيفية وثيقة بخبرات غير عادية قد تعرضوا لها في مرحلة طفولتهم. وقد دعمت هذة النتائج بدراسات أجريت علي عدد كبير من المجتمعات. [9]

وقد لوحظ أن المجتمعات التي يسود فيها نمط ثقافي يفرض الطاعة المطلقة علي الأطفال للوالدين كشرط أساسي للحصول علي مكافأة فإن شخصية البالغين الاسوياء من هؤلاء الاطفال تتسم بالخضوع والتبعية وعدم الخلق، علي الرغم من أن هؤلاء الافراد يكونون قد نسوا تلك الخبرات التي تشربوها في طفولتهم، الا أن أثارها تبقي ظاهرة المعالم في شخصياتهم لا تفتأ تطبعها بسمات خاصة.[10]

ويظهر تأثير الثقافة في تكوين الشخصية من مصدرين:

الأول: الاختلافات التي تشتق من سلوك الآخرين نحو الطفل، ويبدأ هذا التأثير منذ لحظة الميلاد وله تأثير كبير خلال الطفولة.

الثاني: الاحتلافات التي تشتق من ملاحظة الفرد للأنماط السلوكية التي تميز المجتمع الذي يعيش فيه، وهذة الانماط السلوكية لا تؤثر عليه مباشرة، ولكنها دائماً تقدم له نماذج لتطور أستجاباته المنطقية للمواقف المختلفة.[11] والنوع الثاني هو الذي نتناوله في النقطة التالية بالشرح والتفصيل.

2)التعليم:

إذا كانت التربية تقتصر علي مرحلة الطفولة وتتم بصورة قسرية علي الاطفال في السنوات المبكرة، فإن التعليم علي العكس من ذلك، يمتد مع امتداد عمر الفرد أو من المفروض أن يكون كذلك ، كما أن التعليم يتم بكيفية ارادية غير مفروضة علي الفرد في غالب الاحيان، فهو يتشرب الثقافة، ويتبني القيم ويكتسب الخبرات المختلفة التي توجه سلوكه بحسب مقتضيات الأنماط الثقافية السائدة في المجتمع. ولئن ثبت أن ثقافة أي مجتمع تحدد المستويات العميقة لشخصيات أعضائها بواسطة الأنماط الثقافية الخاصة بتربية الاطفال، فإن الانماط التي لا تنتهي عند مرحلة الطفولة وانما تستمر في تشكيل الكثير من العناصرالباقية في شخصيات أفراد المجتمع، وذلك عن طريق تزويدهم المستمر بنماذج يكتسبونها عن طريق التعلم ويقلدونها في تكيفهم مع بيئتهم الاجتماعية.[12]

وفي هذا الخصوص يرى كامبال يونغ Kimball Young أنه يتوجب أن نميز في داخل كل ثقافة مجموعة من العناصر لكي نستطيع أن تدرك عملية بناء الشخصية وهي :

1) المواظبة ودرجة الشدة في عملية التعليم والتدريب ومدى المواظبة .

2) حجم الاحتياجات التي يتعرض لها الشخص .

3) مدى الحب الذي توفره هذه الثقافة للأفراد .

4) مدى حضور مبدأ العقاب والضبط الأخلاقي .

5) تصور الذات المفروض على الطفل[13]

وفيما سبق يتضح لنا أهمية التعليم كأول عنصر لكي تدرك الثقافة عملية بناء الشخصية.

وتستمر تلك العملية إلي مرحلة متأخرة من عمر الإنسان ولا تقتصر علي مرحلة الطفولة كما هو الحال بالنسبة للانماط الثقافية المتعلقة بتربية الاطفال كما سبق الذكر، وذلك علي أعتبار أن الفرد يصادف دوماً خلال مراحل حياته المختلفة، مواقف تتطلب خبرات جديدة تتلاءم مع المركز الذي يحتله في المجتمع، وفي كل مرحلة من هذة المراحل يجد في الثقافة موئلاً يتزود منه بالنماذج السلوكية التي تلائم موقفه وتجعله ينسجم مع الشخصية الاساسية لافراد المجتمع الذي ينتمي اليه، وقد بات من المؤكد أن الانماط الثقافية في أي مجتمع تتجه نحو الترابط النفسي والانسجام والتناسق.

ومن ثم فلا يمكن أن يجبر الفرد الذي يتبني هذة القيم أن يأتي من الأفعال ما من شأنه أن يكون متعارضاً مع شخصيته.[14]

وخلاصة القول: إن الثقافة هي المسؤولة عن الشكل الرئيس للشخصية في أي مجتمع، وباختلاف الثقافات تختلف أشكال الشخصية ، ويقصد بشكل الشخصية مجموعة السمات الأكثر تكراراً بين أفراد المجتمع الواحد.

وقد ميز ((لينتون)) بين شكلين من أشكال الشخصية:

الشكل الرئيس للشخصية: وهو يميز معظم أفراد المجتمع و يتمثل هذا الشكل الرئيس في مجموعة القيم والعادات والاتجاهات العامة.

شخصيات المركز: وهي إلي جانب الشكل الرئيس للشخصية وهم الافراد الذين يشغلون مركزاً اجتماعيا واحداً في المجتمع ويقومون بأداء عدة أدوار متشابهة، ويطبع هذا الأداء شخصياتهم بسمات مشتركة.

فمثلاً في أي مجتمع يوجد اختلاف بين شخصيات النساء وشخصيات الرجال وبين شخصيات الاطفال والبالغين والشيوخ ، كما نلاحظ تشابهاً بين شخصيات الاطباء و ما إلي ذلك من المهن.[15]

وبهذا يؤدي التعلم دوراً كبيراً في عملية أكتساب الافراد لهذة السمات العامة التي تشكل الشخصية الأساسية.

يرى رالف لنتون بأن الافراد يتقاسمون الثقافة على ثلاث مستويات هي : [16]

1. عموميات

2. اختيارات

3. خصوصيات

 

المراجع:

[1] حسين عبد الحميد أحمد رشوان، الثقافة: دراسة في علم الاجتماع الثقافي (الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة، 2006): 195.

[2] محمد حسن غامري، المدخل الثقافي في دراسة الشخصية (الإسكندرية: المكتب الجامعي الحديث، 1989): 15.

[3] عدنان أحمد مسلم، محاضرات في الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) (الرياض: مكتبة العبيكان، 2001): 167:166

[4] عدنان أحمد مسلم، المصدر السابق: 165

[5] عدنان أحمد مسلم، المصدر السابق: 167

[6] أحمد بن نعمان، هذي هي الثقافة (الجزائر: شركة الأمل للطباعة والترجمة والنشر والتوزيع، 1996): 87

[7]علي عبد الرازق جبلي، دراسات في المجتمع والثقافة والشخصية (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 1988): 250.

[8] محمد حسن غامري، المدخل الثقافي في دراسة الشخصية: 66.

[9] أحمد بن نعمان، هذي هي الثقافة: 87-88.

[10] عدنان أحمد مسلم، محاضرات في في الأنثروبولوجيا (علم الإنسان): 169.

[11] محمد حسن غامري، المدخل الثقافي في دراسة الشخصية: 67.

[12] أحمد بن نعمان، هذي هي الثقافة: 88-89.

[13] علي أسعد وطفة، في جدل الثقافة والشخصية : قراءة أنثروبولوجية

المصدر: http://www.watfa.net/PERSON.215.htm

[14] أحمد بن نعمان، هذي هي الثقافة: 89.

[15] عدنان أحمد مسلم، محاضرات في في الأنثروبولوجيا (علم الإنسان): 171.

[16] خضير سعود الخضير، محاضرات علم الإحتماع الصناعي (نسخة إلكترونية عرض power point): 13

[17] أحمد بن نعمان، هذي هي الثقافة: 89-90.

[18] خضير سعود الخضير، محاضرات علم الإحتماع الصناعي (نسخة إلكترونية عرض power point): 12

[19] أحمد بن نعمان، هذي هي الثقافة: 90.

[20] خضير سعود الخضير، محاضرات علم الإحتماع الصناعي (نسخة إلكترونية عرض power point): 12

[21] أحمد بن نعمان، هذي هي الثقافة: 91.

[22] أحمد بن نعمان، هذي هي الثقافة: 91-93.

[23] أحمد بن نعمان، هذي هي الثقافة: 93.

 

 

* أ.د.علي أسعد وطفة . أستاذ علم الاجتماع التربوي في جامعة دمشق

رأي واحد حول “قضايا الثقافة والشخصية : قراءة أنثروبولوجية”

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.