كتاب: الثقافة، التفسير الأنثروبولوجي

تأليف :آدم كوبر  وترجمة : تراجي فتحي

سلسلة عالم المعرفة العدد 349 سنة2008

الثقافة التفسير الأنثروبولوجي
الثقافة التفسير الأنثروبولوجي

يتناول هذا الكتاب قضية الثقافة من منظور أنثروبولوجي، وهو ينزع في عمومه نحو التشكيك في المراحل التاريخية التي أفضت إلى جعل مفهوم الثقافة يقع في قلب اهتمام الأنثروبولوجيين الغربيين، وبصورة أكثر حضورا ضمن تضاعيف الدراسات الأنثروبولوجية الأمريكية.

ففي إطار اشتغالهم بدراسة مفهوم الثقافة وتطورها، برز على سطح هذا الاهتمام يقين بأن الثقافة تمثل للأنثروبولوجي المحور الرئيسي مثلما يمثل الوعي محور الدراسات النفسية، على سبيل المثال، وهو ما أكده بشده روبرت لوي، وفي مرحلة مبكرة من البحث الأنثروبولوجي، تحديدا سنة 1917، حين قال: “إن الثقافة -بشكل حصري- هي بحق موضوع الإثنولوجيا الوحيد، كما أن الوعي هو موضوع علم النفس، والحياة موضوع علم الأحياء، والكهرباء فرع من علم الفيزياء”.

ويتهكم كوبر من مثل هذه العبارات المتأججة، على حد قوله، ومن وصف قطاع كامل من الأكاديميين الألمان مجال الثقافة بأنه يقع ضمن العلوم الاجتماعية، وليس الإثنولوجيا؛ ذلك أن العلوم الاجتماعية كانت قد شهدت حقبة من الازدهار والانتشار والتأثير في الولايات المتحدة الأمريكية عقب فوزها بالحرب العالمية الثانية، كما أن فروع المعرفة المختلفة أصبحت منذ هذا التاريخ أكثر تخصصا، وبالمثل مُنحت الأنثروبولوجيا الثقافية وقتذاك تصريحا خاصا للعمل في مجال الثقافة.

“اختراع الثقافة”

وفي السبعينيات من القرن الماضي تمكن روي واجننر صاحب كتاب “اختراع الثقافة”، من تقديم مقال عن مفهوم الثقافة لاحظ فيه أن المفهوم أصبح متلازما تماما مع التفكير الأنثروبولوجي، إلى درجة باتت تمكننا من تعريف الأنثروبولوجي كشخص يستخدم كلمة ثقافة باستمرار.

ومع حلول التسعينيات من القرن الماضي أصبح الحديث عن الثقافة أمرا شائعا للغاية في الأوساط العلمية، وطبقا لتعريف واجنر صار من الواجب أن يعد أي شخص يكتب في القضايا الاجتماعية أنثروبولوجيا، كما لو أنه يطابق هنا بين الأنثربولوجي والمثقف ومن ثم بين الثقافة والأنثروبولوجيا على حد سواء.

فما أن انتصرت الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية حتى راحت تبحث عن دور لها في التاريخ، ومع تعزيز هيمنتها الخاصة أصبح الاهتمام بالثقافة بمعناها العام بمثابة حجر الزاوية بالنسبة للأنثروبولوجيين الذين وفدوا إليها من مختلف ربوع أوروبا ومختلف أصقاع العالم، وهنالك أعلن ستيورات تشيس في عام 1948 أن مفهوم الثقافة قد أصبح ينظر إليه بوصفه حجر أساس للعلوم الاجتماعية برمتها، وفي عام 1952 صرح رائديْ علم الأنثروبولوجيا: ألفريد كروبر وكلايد كلاكهون، أن مفهوم الثقافة، بالمعنى العلمي الأنثروبولوجي، هو أحد المفاهيم الأساسية في الفكر الأمريكي المعاصر.

وهكذا باتت مركزية الثقافة عاملا رئيسا في تفسير كافة الظواهر الأخرى، وبدلا من أن تخضع الثقافة بدورها للتفسير أصبحت تفسر بدورها كل شيء. وكانت النتيجة الحتمية لمثل هذا المنحى المتزايد أن أصبح المفهوم مفرطا في مرجعيته العلمية على الرغم من نهوض العديد من المشكلات المعرفية على طول الطريق، والتي لا يمكن حلها من خلال الالتفاف حول هذا المفهوم أو الاكتفاء به في تفسير كافة الظواهر السوسيولوجية والسياسية وحتى الاقتصادية الأخرى.

وبرأي كوبر، فإن الصعوبات تتفاقم كلما تحولت الثقافة من شيء يمكن وصفه وتفسيره، وحتى ربما شرحه وتأويله، ليتم التعامل معها كمصدر للتفسير في حد ذاته؛ لأن الاحتكام إلى الثقافة فقط لا يسعه سوى أن يقدم تفسيرا جزئيا لما يعتقده الناس ويسلكونه في أفعالهم، ولا يمكن أن تُنحى جانبا الاعتبارات الاقتصادية والسياسية ودور المؤسسات الاجتماعية، فضلا عن العمليات البيولوجية، ولا أن تُستوعب كاملة ضمن أنساق المعرفة والاعتقاد.

هنا يستحضر كوبر مقولة ألبرت أو. هيرشمان: “قد يكون هذا هو جل ما يمكن أن يسأله المرء من التاريخ، ومن تاريخ الأفكار على وجه الخصوص، ليس حل القضايا وإنما رفع مستوى الجدل”.

حروب الثقافات

وفي سياق رفع مستوى الجدل هذا يعلن كوبر عن عدم تعاطفه مطلقا مع الحركات التي تستحضر الثقافة من أجل التحريض على فعل سياسي، ففي سبيل المحافظة على الثقافة القومية تنتهك حرمة المواطنين، وفي سبيلها أيضا تتم حروب الثقافات وصدام الحضارات.. إلخ.

ويصر كوبر على القول بأن حروب الثقافة تُشن باستمرار، وعلى أعلى مستوى، وربما تفوق في هيمنتها وضراوتها الحروب العسكرية، وهو قول تؤكده مسيرة الحرب على الإرهاب، والتي هي مجملها حرب ثقافية بامتياز وبالدرجة الأولى أكثر منها حربا عسكرية أو اقتصادية.

وبرأي المؤلف، تشن الأكاديميات الأمريكية بصفة خاصة حروبا ثقافية لا تنتهي، كما يحرض السياسيون الأمريكيون على الثورة الثقافية، لدرجة أنه بات الحديث عن الفروق الثقافية بين فرق كرة القدم أمرا عاديا.

وفي هذا الإطار يتم الزج بالثقافة كتفسير لمختلف الظواهر الأخرى، وحتى على المستوى الاقتصادي، فحينما تفشل شركتان في الاندماج سرعان ما يعزى مثل هذا الفشل لاختلاف ثقافتيهما، وعدم الانسجام بينهما، مما دفع المؤلف لأن يقول إن الجميع في عالمنا هذا مندفع نحو الثقافة للدرجة التي باتت فيها كلمة ثقافة دارجة على كل لسان، ويستشهد على ذلك بما يورده مارشال سالينز من أنه فضلا عن موجة إعادة اكتشاف الهويات والثقافات حتى على مستوى القبائل المحلية، يستخدم مواطنو كايابو الذين لا يتحدثون سوى لغة واحدة ويقطنون الغابات الاستوائية بأمريكا الشمالية، كلمة Cultura لوصف طقوسهم التقليدية.

البعد الثقافي في صراع الحضارات

في مقالة لصامويل هينتجون، يشبهها المؤلف بالنبوءة، سنة 1993 قال فيها: “إن مرحلة جديدة من تاريخ العالم قد بدأت، وفي هذه المرحلة لن تكون المصادر الرئيسية للصراع اقتصادية أو حتى إيديولوجية في المقام الأول، وإنما ستكون الانقسامات العميقة بين أبناء الجنس البشري والمصدر المهيمن على الصراع ذات طابع ثقافي”.

ولاحقا رجح هينتجون في كتابه “صراع الحضارات” حدوث مثل هذا النزاع كنتيجة طبيعية وحتمية للاختلافات الرئيسية الكائنة بين هذه الثقافات، فقد شكلت الهويات الثقافية نماذج الاندماج والاضمحلال والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة، وفي هذا العالم الجديد كان ينظر إلى السياسات المحلية باعتبارها سياسات عرقية، أما السياسات العالمية فكانت تعد، وبالدرجة الأولى، سياسات حضارية من حيث يفضي التنافس بين القوى العظمى إلى حدوث صدام بين الحضارات.

ويبدد كوبر في كافة صفحات كتابه المركزية الأمريكية فيما يتعلق بفهم مدلول الثقافة، ومن ثم الحكم على الثقافات الأخرى بالهمجية تارة أو العنفوية والبدائية تارات أخرى. كما يدحض الفكرة القائلة بإمكانية قياس الثقافات بعضها إلى بعض وميل الأمريكيين إلى إسباغ تقدير أعلى على ثقافتهم مقارنة بالثقافات الأخرى، ويتهكم قائلا: “وربما يعتقدون أيضا أن هناك حضارة واحدة حقيقية، وأنه ليس مستقبل الأمة فقط بل مستقبل العالم بأكمله يعتمد على استمرار ثقافتهم”.

وفي السياق ذاته يستشهد كوبر بمقولة روجر كيمبال والتي يقول فيها: على الرغم من موقف دعاة تعدد الثقافات فإن الخيارات التي تواجهنا اليوم ليست ما بين الثقافة الغربية القمعية، والفردوس متعدد الثقافات، وإنما بين الثقافة والهمجية، فالحضارة ليست هبة ولكنها إنجاز، إنجاز هش يحتاج إلى الدعم والحماية باستمرار ضد المهاجمين في الداخل والخارج معا.

وبحسب هنتجون، فإن صراع الحضارات في عالم ما بعد الحرب الباردة لن يكون إلا حلقة ومرحلة واحدة على طريق الصراع الأممي القادم، وأن الصدام الأعظم والنزاع الحقيقي المعولم سيكون حتما بين قطبين لا ثالث لهما وهما: الحضارة والهمجية.

الثقافة والحضارة.. اندماج أم تداخل؟!

يمكن القول إن ثمة فروقا عدة بين لفظتي الثقافة والحضارة، وقد اهتم المفكرون الفرنسيون والألمان والإنجليز في الفترة من 1930 وحتى 1958 بدراسة كلا المفهومين.

وبحسب لوسيان فيفر، فإنه لكي نعيد بناء تاريخ اللفظة الفرنسية Civilisation أي الحضارة، فإنه يتوجب علينا إعادة تركيب مراحل أعمق الثورات تأثيرا والتي مرت خلالها الروح الفرنسية منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا.

وقد حفز ذلك المفكرين على إعادة النظر مجددا في معنى الثقافة والحضارة، وعلاقتهما بمصائر الأمم، فعلى الرغم من أن نظريات الثقافة والحضارة عرفت بالألفاظ نفسها منذ منتصف القرن الثامن عشر، إلا أنهما لم يصبحا موضوع اهتمام عام إلا في لحظات تاريخية معينة، ولم يستطع عالم الاجتماع فيفر العثور على مصدر استخدام لفظة Civilisation وفق المعنيين المتعارف عليهما حديثا (الثقافة، الحضارة)، قبيل عام 1766؛ حيث كانت تستخدم من قبل بوصفها مصطلحا قانونيا للدلالة على تحويل المحكمة الجنائية لبعض المتهمين إلى محكمة مدنية.

وآية ذلك، أن ألفاظا من مثل: Civilité بمعنى متحضر، كانت تساق للدلالة على الشخص المطيع للقانون الملتزم به إبان القرن السادس عشر، وعلى مدى القرن السابع عشر شاع استخدام لفظة Savage أي وحشي، ولفظة Barbarian أي بربري لوصف أولئك الذين يفتقرون إلى الكياسة والتحضر والحكمة الإدارية. ولاحقا حلت كلمة Civilité أي متحضر، محل لفظة Policé أي مطيع للقانون.

ولكن مع حلول القرن الثامن عشر بدت الحاجة ماسة لاستخدام مصطلح جديد، وبالفعل شهدت فترة السبعينيات من هذا القرن مولد لفظة الحضارة والتي تمكنت بعد طول انتظار من الفوز بأوراق اعتمادها، حسب تعبير فيفر، وسرعان ما اقتحمت بقوة عام 1798 أبواب قاموس الأكاديمية الفرنسية، وسرعان ما حفزت أيضا الأبحاث الأكاديمية واسعة المدى عن الثقافات الغربية والماضي السحيق المزيد من التفكير في النسق العام للتاريخ، وبدأ المفكرون الفرنسيون في رسم مسيرة الحضارة الإنسانية ابتداء من الوحشية ومرورا بالبربرية وانتهاءً بالحضارة الإنسانية.

غير أنهم لاحظوا فيما بعد هشاشة الطرح القائل بحضارة إنسانية واحدة وكان لابد من الاعتراف باضمحلال مستويات الحضارة تدريجيا، فضلا عن انقسام إمبراطوريات الحضارة العتيدة إلى قطاعات مستقلة، ومن ثم كان لا مناص من الاعتراف بأن الأساليب المتمايزة للتحضر قد تطورت ونمت في أصقاع مختلفة من العالم القديم، وقد استخدمت صيغة الجمع “حضارات” لأول مرة في عام 1819.

لكن على مستوى المفكرين الألمان، كان مفهومهم حول الثقافة مشابها جدا للفكرة الفرنسية عن الحضارة، ومع مرور الوقت حدث تمييز بين الزخرف أو القشرة الخارجية للحضارة والواقع الروحي الداخلي للثقافة، وتبعا لذلك تحدث ألكسندر فون هامبولت مثلا عن وجود حضارة للقبيلة البدائية الوحشية، بمعنى تعارف أعضاء تلك القبائل على نظام سياسي خاص بهم ولكن دون توافر مستوى عال من “الثقافة الروحية”، والعكس صحيح كذلك.

وفي مقال لجان ستاروبنسكي نشر في عام 1989، أشار فيه إلى أن هناك دلالات كثيرة على أن الحضارة قد تغدو عوضا علمانيا عن الدين وتمجيدا للعقل، وقد استوعب الاسم الجديد للحضارة مفاهيم عديدة ذات صلة من قبيل: التهذيب، والصقل، والتقدم الفكري والسياسي.. إلخ.

وقد عمد نوربرت إلياس المفكر اليهودي الألماني، عشية الحرب العالمية الثانية إلى مقارنة تطور المفهوم الألماني للثقافة Kultur والمفهوم الفرنسي للحضارة Civilisation ليخلص إلى القول بأن التقليد الفرنسي كان ينظر إلى الحضارة ككل معقد ومتعدد الزوايا، فضلا عن أنه يتضمن حقائق سياسية واقتصادية واجتماعية.

لكن، وعلى النقيض من ذلك، كان الألمان ينظرون إلى الحضارة على أنها أمر خارجي ونفعي ذو عدة أوجه، فضلا عن أنه غريب عن قيمهم الوطنية.

وفيما تمضي الحضارة قدما مع مرور الزمن متجاوزة الحدود الوطنية، تتسم الثقافة على العكس من ذلك بكونها محدودة الزمان والمكان ومتداخلة في صميم الهوية الوطنية، ومن ثم عندما كان الألمان يعبرون عن مدى افتخارهم بإنجازاتهم، لم يكونوا بصدد الحديث عن حضارتهم وإنما عن “ثقافتهم”، أي أنهم رسموا حدا فاصلا وقاطعا بين الحقائق التي تنتمي إلى هذا النوع (الحضارة) من جهة، وبين الحقائق التي تنتمي إلى ثقافتهم وتعبر عن مضمون هويتهم الوطنية من جهة ثانية.

وقد أُدخل هذا المصطلح الحديث (الثقافة) في البحث العلمي على يد الفيلسوف الألماني يوهان غوتفريد هيردر (1744- 1803)، وقد نقله عن المنظر السياسي الإغريقي ماركوس توليوس سيسرو (106- 43 ق.م) والذي تحدث في كتابه “التثقيف الروحي Cultura Animi” عن فكرة استصلاح الأرض بهدف الزراعة مطبقا إياها على العقل، لذا تضمنت كلمة ثقافة الزراعة والبنية Bildung، ومن ثم كان الشبه واضحا بينها وبين كلمة زراعة Agriculture.

الثقافة بين حضارتين

في تقديمها للكتاب أشارت د. ليلى الموسوي إلى أنه بالرغم من أن هذا الكتاب لا يتناول بالطبع الثقافة العربية وليس منصبا عليها بحال من الأحوال، فإنه يطرح في طياته دعوة مثيرة للجدل عن الهوية الثقافية بعد أن أضعنا أكثر من قرن عاجزين عن تحديدها، وأنه بغض النظر عن الاعتبارات التي تدعو البعض لوصفها بالثقافة العربية أو الإسلامية أو حتى العربية- الإسلامية، وأننا لا نزال عند النقطة بعينها، فإن هذا الكتاب من الأهمية بمكان بالنسبة إلى القارئ العربي أن يطلع من خلاله على خارطة التغييرات الفكرية التي لحقت ولاحقت مفهوم الثقافة في سياقها التاريخي-المعرفي، ويقارن تأثير مدها وجزرها على الفكر العربي المعاصر.

غير أنها لم تلتفت إلى حقيقة مهمة يغفلها العديد من الباحثين وهي أننا لا نكاد نعثر على أي أثر لكلمة “مثقف” في الخطاب العربي القديم، مثلما هو الحال في الفكر الغربي؛ حيث تستعمل في الفكر العربي القديم باعتبارها اسم مفعول من “ثَقِفَ” بمعنى حَذِقَ، وكما يقول ابن منظور: “ثقف الشيء ثقفا وثقافة وثقوفة: حذقه، ورجل ثَقِفٌ وثُقُفٌ وثُقْفٌ: حاذق فهم” ففي هذا السياق، ترد لفظة “ثقافة” بمعنى الحذق، أي المهارة، “ثقف الرجل ثقافة: أي صار حاذقا خفيفا”.

أما في اللغة الإنجليزية، فيرقى استعمال لفظة “المثقفون” إلى القرن السابع عشر، بينا لا يتجاوز استعمالها في الخطاب العربي المعاصر حدود نصف قرن من الزمان تقريبا؛ حيث تم ترجمتها عن الكلمة الفرنسية “Intellectuel” والتي بدورها مشتقة من كلمة “Intellect” بمعنى العقل أو الفكر.

ومن ثم فهي تدل، عندما تستعمل وصفا لشيء، على انتماء أو ارتباط هذا الشيء بالعقل كملكة للمعرفة، كقولنا: نشاط عقلي أو فكري، وحين تستعمل اسما فإنها تحيل إلى الشخص الذي لديه ميل قوي إلى شئون الفكر، أو شئون الروح، أي الشخص الذي تطغى عليه الحياة الفكرية أو الروحية على ما عداها.

فيما لا يحيل اللفظ العربي “مثقف”، “إلى الفكر أو الروح، بل إلى لفظ “الثقافة” Culture وهو مترجم عن الفرنسية، وتدل في معناها الحقيقي الأصلي على “فلاحة الأرض”، كما تدل أيضا على “مجموع العمليات التي تمكن من استنبات النباتات النافعة للإنسان والحيوانات الأليفة”.

أما في معناها المجازي فتدل أولا، وكما لاحظ الجابري، على “تنمية بعض الملكات العقلية بواسطة تدريبات وممارسات”، كما تدل ثانيا على “مجموع المعارف المكتسبة التي تمكن من تنمية ملكة النقد والذوق والحكم”.

وتكمن المفارقة هنا في أن الثقافة التي يحيل إليها لفظة “مثقف” في خطابنا العربي المعاصر ليست هي الثقافة كما تفهم من هذا اللفظ في خطابنا العربي القديم، وليست هي أيضا الثقافة بمعناها المتعارف عليه في اللغات الأوروبية؛ إذ لا نعني بكلمة مثقف في الخطاب السياسي الثقافي السوسيولوجي المعاصر، لا الحاذق الماهر، ولا من اكتسب بالمران والتعلم ملكة النقد والحكم، وإنما نعني بالمثقف من يتجاوز هذا المعنى أو ذاك، ويتحدد وضعه، لا بنوع علاقته بالفكر والثقافة، ولا لكونه يكتسب عيشه بفكره وليس بعمل يده، وإنما يتحدد وضعه بالدور الذي يقوم به في المجتمع كمشرع ومعترض ومبشر بمشروع، أي كصاحب رسالة في الحياة، أو على الأقل كصاحب رأي وقضية ينافح من أجلها، وهو ما يتنافى ومدلول لفظة “ثقافة” في كل من الفكر العربي القديم والخطاب العربي المعاصر على حد سواء.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.