التنوّع الثقافي والعولمة – قراءة في كتاب أرمان ماتلار

45454

بقلم: محمد بنعياد

يقع كتاب التنوع الثقافي والعولمة[1] لأرمان ماتلار في 231 صفحة، ويتألف من مقدمة وسبعة فصول وخاتمة.

تبدأ مقدمة الكتاب بطرح إشكالي يشد انتباه القارئ إلى موضوع الثقافة والثقافات، والمواضيع المتصلة بها من خلال حضورها المكثف، والذي أضحى يتقدم بكيفيات مضطربة تشكو فلتانًا مفهوميًّا وانزلاقات في المعاني، وإفقارًا يزداد مع سعة الحضور الكلي لمصطلح التعدد الثقافي على عتبة الألفية الثالثة، وما ينطوي عليه من وقائع ومواقف متناقضة، جعل مسألة ما هو ثقافي، وما يتصل به من تنوّع عرضة لتدافع مصالح متباينة، وتنافسية بين دول عديدة، تعكس مخاوف جماعية حول تنميط أشكال الحياة والتفكير. وذلك سعيًا إلى التفكير بجدية في إشكالية الاعتراف بالتنوع الثقافي، واعتباره مكوّنًا أساسيًّا لحقوق الإنسان، وتحييد مصائر التوتر عنه، بمنظور بادر إلى رصد معاني التعريفات المادية للثقافة، والثقافات، والتفاعلات، وظاهرة التثاقف Acculturation، التي طبعت حياة المجتمعات بوصفها تدويلاً ثم عولمة، في أفق تساؤلي ينشد معاودة النظر في المسألة الثقافية وأنماط تداولياتها لدى الإنسان، وكشف المفارقات التي يتقدم بها مفهوم الثقافة، معروضًا على السوق العالمية الديمقراطية، ومفهومًا آخر بوصفه ملكًا عامًا مشتركًا، إنّه نظر في الإشكالية الثقافية من خلال سجالات متباينة، باعتبارها مشروع نظام عالمي جديد، وما يشهده من صناعة ثقافية متنقلة آهلة بالكثافة، تعيد رسم إستراتيجيات القوة، وتيار آخر يسعى إلى تصريف أمر التثاقف مع مبدأ المساواة.

بعد المقدمة ينتقل الكاتب إلى الفصل الأول: تدجين المتنوع المختلف: وهو عنوان لا يخفى على القارئ من حيث أهمية مشكل المختلف في صيرورة تداولية استقرأت مراحل تاريخية، وفي أنماط تداولية مختلفة منذ القرن التاسع عشر، حيث طرح خلالها سؤال الثقافة في موضوع الأنثروبولوجيا الثقافية(علم الإناسة)، ذلك أنّ مصطلح ثقافة يدل بمعناه الإثنوغرافي الأوسع على الكل المكثف الذي ينطوي في آن على المعرفة، والاعتقادات، والفنون، والقوانين، والعادات، أو كلّ مَلَكة أخرى أو عادة يكتسبها الكائن البشري من حيث هو عضو في المجتمع”. – تعريف شارل 1871 في كتابه: ثقافة بدائية-. فما يميز مجتمعًا عن آخر إنّما هي النماذج الثقافية، حيث لوحظ خلالها وجود أطر تعريف مغايرة مارستها التفسيرات الاستعمارية -البريطانية والفرنسية- في النظر إلى المغايرات الثقافية، والتي كانت تؤسس لعقيدة العجز الإبداعي المصنف في أسفل المسار الحضاري، في ملمح ازدرائي دوني للمجتمعات المحلية وفي تصنيفات وصفية: “البرابرة، الهمجيين الجدد، الخارجين على القانون، المنحرفون، الجماهير المتحركة، الطبقات الخطيرة..” في مساع وغايات سعت إلى تهدئة السكان وضبطهم، واعتبر أنّ كل ما يبتعد من الرحم الحديثة أو الغربية، ومن العرق الأبيض بالنسبة إلى علماء الأعراق يجري ترتيبه وتصنيفه أدنى وسابقًا. وهي معطيات كرّستها غزوات العالم الجديد والرحلات الاستكشافية، والتي تأكد من خلالها أنّنا لسنا إزاء حضارة إنسانية واحدة بل حضارات متنوعة، افترض خلالها تعميق مشكلة النظر في المتنوع والمختلف المتعلق بالأدب ومنتوجات الفكر، حيث غدت الأعمال الروحية ملكًا مشتركًا، في انتقالية متسارعة وتدويل عالمي للأفكار من الخصوصية المحلية إلى ولادة أدب عالمي، تساوق في الآن ذاته مع صعود الحركات القومية وفكرة الأمّة، وما أعقبه من ارتيابات لغوية تخشى من حدة التقلص التداولي، بل لنقل أيضًا تلك التنافسية التي كانت بين اللغة الفرنسية والإنجليزية، والخشية من تقلص نفوذهما اللغوي، ذلك أنّه كان يتوقع للنص الأدبي والفكري الذي أسهم تاريخيًّا في بناء مجال عام للسجالات ولتكوين الآراء أن يتعرض لفقدان قوته التثويرية بقوانين الاستهلاك العالمي، فقد كانت مسألة التنوع تطرح إشكالات عديدة، وهي تلحظ الانتقال من المُتّحد أو الأمّة إلى المجتمع، كأنّ الأول يبرز العلاقات العاطفية والوجودية وكذلك الجماعات الأولية، فيما كان الثاني يقدم الأواصر التعاقدية الناشئة في منظومة علاقات لا شخصية مُغلفة وتنافسية، في زحمة هذه الوتيرة المتسارعة التي أضحى يشهدها العالم: على مستوى الأشخاص والمنتوجات. هذا التدويل العولمي الذي قلّص العالم ما بعد القرن التاسع عشر في ملتقى وقائع متعددة، تديرها مجموعة قوى سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، في تدويل حراكي يفصح عن تبادلات تجارية وتداول السلع الثقافية، ويكشف أيضًا عن العلاقات التسالمية أو التغالبية بين الدول وعن تكاثر معاهداتها التطبيعية في المجالات الأكثر تنوعًا بين بغية إقامة مجال مشترك للمبادلات، أو تكييف الأواصر بين المنظمات الاجتماعية والمهنية الصادرة عن زوايا الكوكب الأربع. ذلك أنّ هذا المنظور العولمي المتسارع بتحوله التقني الفائق.. وهذه الحركة نحو تعالق المجتمعات تبدو أنّها لا تقاوم، إلى درجة أنّها صارت مرآة وعي عالمي، متمفصل على المستويات الجغرافية الأخرى. وهي مجموع معطيات أفضت إلى خلق روابط عضوية، وترابط الجميع، والكل في المكان والزمان، وفي ورشات جديدة قائمة على العون المتبادل تارة، وعلى الأمن المشترك تارة أخرى.

لكن في جدل قوة الاتصال المكثف الذي بات يشهده العالم، لم يُفوّت أرمان ماتلار فرصة الحديث عن حالات التقوّي النفوذي لبعض الدول العظمى كأمريكا من خلال أنموذج الأمركة، الذي كان مخصصًا للداخل في تمازج مع المهاجرين إلى أنطولوجية مترحّلة لمرحلة لاحقة، لتدل على عقيدة جديدة للتوسع الإمبريالي – أمركة العالم- ومرفقات التغييرات التي لحقت العالم الجديد من ضمّ وإلحاق في أروبا، كما في أمريكا اللاتينية بنحو خاص، باعتباره حديثًا عن أنموذج حضاري جديد لثقافة جديدة ذات انعكاس عالمي، ألهمها التوسع في إنشاء أوضاع جديدة خارج حدودها وتحييد أعدائها، بمنظور استباقي أجهد في تجاوز عصبة الأمم المتحدة وتقليص نفوذ تدخّلها.

ينتقل أرمان ماتلار في الفصل الثاني لمناقشة ما أسماه جيوبوليتيك العلاقات الثقافية: وقد خصّصه للحديث عن التحولات التي شهدتها أروبا ما بعد الحربين العالميتين، حيث كان قلق أروبا وخوفها من فقدان هيبتها وهيمنتها الفكرية، وتحولت العلاقات الثقافية إلى عدة جيوبوليتيكية، إذ تطبّع معنى ضيّق لمفهوم الثقافة المتراكب في الوسائل التقنية والتجارية والمرتبط بالزمانية الإعلامية، والتي يمكن رؤيتها في مشهد تنافسي للإنتاج السينمائي الأمريكي، ونشوء ما يُسمّى بفلسفة الدفاع الأمريكية، وهو ما غذّى إحساسًا أروبيًّا بنهاية الثقافة المحمية، وأزمة فكرية صاحبها إحساس بإفلاس مثال الأنوار عند نهاية الحرب، ويتقاسمه الأروبيون بقولهم: ” نحن الحضارات نعرف الآن أنّنا حضارات فانية”، وذلك باعتباره حديثًا عن مرحلة عصيبة تجتازها الهوية الأروبية وثقافتها، وضع مأساوي عبّر عنه كل أوزفالد شبنغلر 1918 وكذلك بول فاليري. هذا القلق الأروبي العارم من تبدّل موقع الثقافة العليا، جاء ثمرة لظهور الولايات المتحدة الأمريكية، التي استأثرت بتنامي نفوذي استراتيجي عكس قصدياتها الجيوسياسية، التي مسّت التبادل المعرفي والأعمال الفنية، والمقاربة الإعلامية: الإذاعة والصحافة، وذلك بضمان تجسير تداوليتها على نطاق موسّع يخدم أغراضا هادفة، فهو حديث ضمني عن ثقافة وإعلام وتوتّر بين زمانيتين، حملت ما هو ثقافي على الدعاية الإعلامية في الشؤون السياسية. وهي استراتيجية سعت إلى تصنيع القبول، وبلورة الرأي العام وإرادة حكم الرأي، والتي صارت الهندسة الجديدة للإجماع. وقد نظر غرامشي في هذا النظام الإداري مخططًا لإعادة بناء شامل للعلاقات الاجتماعية، التي وسمها بالأمريكانية، مع إظهار ارتيابه في فرص تغلغلها السريع في البلدان ذات التراث الثقافي العريق[2].

هذا الوضع السيادي الذي باشرته الثقافة الأمريكية على المجال الأوروبي، اقتضى من بعض الدول كفرنسا وبريطانيا رسمَ آليات لتقنين المشهد السينمائي الأجنبي، واجتراح أوجه ممانعة لتقوّي مجالهما السينمائي والتحكم فيه، والنهوض بصناعة سينمائية محلية مميزة، تبرز فيها الروح الوطنية.

في الفصل الثالث: نجد حديثًا عن تمأسس الثقافة: ذلك أنّه مع نهاية الحرب العالمية الثانية دخلت الثقافة في حقل صلاحية الأمم المتحدة، ومع ذلك لم يحظ المفهوم بالإجماع والتوافق بين البلدان الأعضاء، حيث وجدت هناك خلافات بين الأمم المتحدة والبلدان الأوروبية، التي رفضت التفاوض الجديد حول السياسات السينمائية الوطنية في إطار خطة مارشال، حيث تشهد هذه الفترة إنشاء منظمة الأمم للتربية والعلوم والثقافة سنة 1946 UNISCO، ما أظهر مصاعب التوافق حول فلسفة عمل مشترك، ومع ذلك بدت كل البلدان الأعضاء أنّها تتقاسم الشعور نفسه حول “البعد الكوني” لتعريف الثقافة والتفكير فيها، ذلك أنّه بعد سنوات الحرب التي انتهت، تعززت مُثُل السلام إنجازًا للمشروع السخي المتواصل العالمي بالأفكار، وذلك إيمانًا بالجامع المشترك بين الأمل والطموح، اللذيْن يربطان معًا كل البشر في العالم برابط، وقد عمدت اليونسكو إلى استعمال موارد الإذاعة والصحافة والسينما ومعلوماتها لتعميق التفاهم والاحترام المتبادلين بين شعوب الأرض. لكن هذا الرهان كثيرًا ما كان يفسح المجال لوجود ممانعات واعتراضات تجاه تسهيل الدوران الحر للأفكار بالكلمة والصورة، هذه الخشية التي أبدتها بريطانيا وغيرها من الدول، من وجوب مواجهة الاجتياح الفوري للأفكار الأمريكية، فقد أطاحت باقتراح الولايات المتحدة لإقامة نظام تواصلي ذي بعد عالمي في نطاق اليونسكو، حيث جعلت واشنطن من التدفق الحر محور سياستها الدولية على صعيد المبادلات الثقافية. وهو ما تجسّد في ظاهرة الخشية من البيروقراطية الثقافية، الموحدة على الصعيد العالمي: بيروقراطية الفن والثقافة. وحيث أضحت الصناعة الثقافية[3] منظورًا إليها باعتبارها سلعة في العلاقات الدولية، وهو السياق الذي اعتبر مواتيًا لنقد طريقة الحياة الأمريكية، ونمط تشكلها الضاغط على دول أروبا، والذي حدد أفقًا للتطور الاجتماعي لا يمكن تجاوزه، ذلك أنّ هذه الرؤية الناقدة للحياة الأمريكية تعززت في الأوساط الفكرية الفرنسية والأروبية بمشاريع التعاون في مجال البحث، التي تقدمت بها المؤسسات الخاصة والحكومات الاتحادية في سياق خطة مارشان، التي تسعى إلى مجابهة تراث سوسيولوجي يوصف بأنّه إيديولوجي وشمولي مفرط، وذلك باستبداله بمقاربات إمبريقية عقلانية يعكسها رهان الإسهام في تقريب الأنظمة السياسية الأروبية، الموصوفة بأنّها استبدادية مفرطة في التمرتُب من المثال الأمريكي.

جاء الفصل الرابع تحت عنوان: انكشاف التبادل اللامتكافئ: والذي يكشف عن التكاليف الباهظة الآتية جراء التنوع الثقافي من خلال الاختلالات في المبادلات الثقافية على الصعيد العالمي، بل حتى البلدان الصناعية فإنّها تعاني بدورها من خطر اضطراب مؤسسة الخدمة العامة وزعزعتها جراء صناعة الثقافة العابرة للقوميات. وذلك من خلال منظور تحديثي سعى إلى “غَرْبَنَة” الآخر Westernisation، “غربنة” هذه الشعوب المفترض أنّها بلا تاريخ، بلا ثقافة، باستثناء الفلكلور. كما لوحظ أيضًا في برامج اليونسكو هيمنة مفهوم التواصل على مفهوم الثقافة، هذه المرحلة سوف تتسم بتوتر بين إيديولوجيا التواصل التي يدعمها مخططو الشأن الاجتماعي من جهة، وبين المدافعين عن جيل من أهل الثقافة لصالح “الكلي الإنساني” و”تنوع الثقافات” و”إنقاذ تراث الإنسانية” من جهة أخرى. ذلك أنّ إشكالية “عولمة الثقافة” أو ثقافة عالمية، ثقافة كوكبية، ثقافة جماهيرية هي شعارات تنطوي على متعلقات المؤسسات ولا تعرف ما القضية، فهي تختم مسارًا، ذلك أنّ الثقافة إذ تتعولم لا تعود تخضع لمثال أوّلي، لأنموذج ما، فهي حين أضحت متعددة الأشكال ولا متشكّلة، لم تعد تقدّم أي مخطط محدّد للكلام وللفعل، للأحلام والأهواء، للأشغال والتسليات، وهي حين تمضي في كل الاتجاهات، تغدو على التوّ بلا معنى، بلا دلالة، إنّها لا تعود تعطي جوابًا عن القول والفعل، لم تعد تكوينًا، تغدو إعلامًا وتواصلاً. وهذه مغايرات ومفارقات في عوالم أخرى وجب الانتباه إليها، ذلك أنّنا إزاء ما يسمّى بمفهوم الإمبريالية الثقافية – الذي يمارس عنفه الرمزي- ويستنفر المقاومات إلى القطع مع الرؤية الوظيفانية المعالم، التي كانت تتقدم بمثابة طريق خلاصي للجماعات الدنيا، إما أن تضع نفسها مع الحضارة الغربية، وإما أن تكون غير جديرة بالاعتبار بوصفها كيانات قابلة للاحترام، والتي تمت مباشرتها بوسائل إلحاقية، وإكراه ثقافي قسري يحكمه توجه عالمي مستبد ومسيطر، سعى إلى تنميط الثقافات بطريق المحو الثقافي، وتقوّ سلطوي أسهم في تشبيك علاقات لامتكافئة، حيث تُنتج هيمنة لرؤية العالم، في عنف رمزي استند إلى علاقة تواصلية إكراهية لاغتصاب الخضوع، وتكمن خصوصيته هنا في أنّه يُعولم الخصوصيات المتعلقة بتجربة تاريخية فريدة، بتجاهلها كما هي، والاعتراف بها بوصفها عالمية. ذلك أنّ الحديث عن تجليات الإمبريالية لم يعد منحصرًا في تجليات موازين القوى في مضمار وسائل الإعلام والثقافة الجماهيرية… إنّها نماذج مأسسة تكنولوجيات الاتصال والتواصل، أنماط التنظيم المكاني، الأركان العلمية، المخططات للاستهلاك والتطلعات، أنماط تسيير المنشأة المنظومات التحالفات العسكرية.. نمط إجراء علاقة لامتكافئة يقدم نفسه بطريقة لا تمايزية لا تساوقية ولا متوازية حسب درجة نفوذ المناطق وعناصر الحياة الاجتماعية في مواجهة منظومات رُقيت إلى مصاف العالمية. وقد وُوجِهَ هذا العنف الإمبريالي الثقافي بنقد شديد وكذا مجتمع السلعة عندما صادف الحرب الفيتنامية 1967م وحركات التحرر في القارات الثلاث، باعتباره ممانعة اعتراضية لرؤية ارتسمت عن العالم، وتموضعت على السطح الاجتماعي لكل قارة، وانتقد مأزق إيديولوجيا التنمية وتأهيل الثقافات ونظام التواصل، باعتبارها رهانات طرحت كثيرًا في مرحلة ما بعد الاستعمار، إضافة إلى مرفقات أخرى حاسمة مثل: التعادل الوظيفي للثقافات، التعادل بين الثقافات غير الغربية والثقافة الغربية. ذلك أنّ الزعزعة المقاوِمة لمظاهر التحديث الغربي طرحت مسألة الاعتراف بفرادة الثقافات مصدرًا للهوية، للمعنى، والكرامة، وللتجدد الاجتماعي، وكذلك بتأهيل إبداعية الثقافات، وتقوية مشاعر التضامن على الصعيد المحلي والوطني والعالمي معًا، و”تقويم عبقرية المكان”، والضرورة القطعية للمشاركة المواطنيّة، والاهتمام بالتنوع الحيوي في مسارات ومساعٍ جديدة، تتجاوز حالات اللاتكافؤ لتدفقات الإعلام والتواصل، ودفاع حركة بلدان عدم الانحياز من خلال “نظام اقتصادي عالمي جديد” وذلك بتجديد بنيته وتجسير العلاقة بين مفهوم السياسة الثقافية ومفهوم سياسة التواصل، وهو سؤال المأزق بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي تصرّ على التدفق الإعلامي الحرّ، وترى هذا المطلب نفيًا لحرية التعبير، وذلك بالإبقاء على وجود نظام تبادل غير متكافئ. لذلك كثيرًا ما كان رهان المغايرة يصر على الإنماء المتوازن في التنوع، والاحترام المتبادل، في أفق تواصلي يعتدّ بالحديث الإيجابي عن الثقافات المحلية والثقافات القومية، في منأى عن آليات الضغط الإكراهي التضييقي الممارس على الثقافات. بل في انفتاحات تعيد الاعتبار للمعنى الحقيقي لمفاهيم التنوع الثقافي، والهوية الثقافية، والروابط بين الثقافات، وكذا السعي إلى تحويل هذا التعريف من الثقافة إلى أداة حقوقية قادرة على تخليص مجمل التعابير الثقافية من قاعدة السلطة الوحيدة.

الفصل الخامس جاء حاملاً لعنوان: دائرة الشمولي والمحلي: وذلك من خلال الحديث عن الاقتصاديات المعولمة، وما واكبها من استراتيجيات ذات بعد عالمي، أسفرت عن بروز شركات متعددة الجنسية عابرة للقارات، فتحوّل مصطلح الاقتصاد الشامل إلى موجّه لتوحيد أشكال القول والقراءة لمصير العالم، في سرعة هائلة واكبت ازدهار السوق بنموّ حفنات من الشركات، التي تتكيف في الداخل كما في الخارج، في مساعي الدمج الوظيفي للوحدات الاقتصادية الكبرى. لكن مع هذا كان يُطرح على الدوام مشكل الخصوصية، وكيف يمكن الحفاظ على نسقها في العولمة الموحدة؟ في عالم معاصر نازع إلى حراك سياسي متوتر بمخاضاته وتقلباته المتسارعة: سقوط جدار برلين، حيث أضحت تتقوى فيه عناصر الاندماج من خلال إعادة النظر البحثي في كثير من القضايا وتأويلاتها، في بناءات معرفية تتكيف بدلالاتها الجديدة في التوطن لاحقًا، وذلك على درجات مختلفة بحسب الميادين. ثمّ إنّ البعد الشمولي يساهم في تجديد تصور الهويات، وفي إنشاء متخيلات جديدة، بمعنى ميلاد مجتمعات متخيلة عابرة للقوميات من طراز جديد، اقتضت ضرورة معاودة النظر في الغيرية وفهمها، والتقبل الأريحي لأشكال التنوع، إذ ما تزال ذاكرة المجتمعات الإنسانية آهلة بوجع الإرساليات التبشيرية، وفعلها الإكراهي بالإجبار القسري على المسوح الكنسية، وتعنيف السكان الأصليين والمجتمعات المحلية، التي عبّرت عن أفضلية استقوائية نظرت إلى الثقافات في محدودية دونية ونسبية، تفرغها من سؤال الجدوى والمعنى، في تمجيد بطولي يُصدّر إلى العالم من منطق إبراز ما هو شمولي وقدرته السيادية على غزو ما هو محلي، والتقوّي عليه. لهذا كثيرًا ما كان يطرح سؤال المقاومة والجدوى منه، وهو الذي يقف على مسافات تنتقد المرحلة الجديدة من الرأسمالية المندمجة. ذلك أنّ مجال الخشية ظل واردًا من إزالة الحدود، أو الحديث عن المجال المفقود ما بعد الوطني، الذي يتحدث عن غائب كبير: الدولة-الأمّة، طالما أنّه سيجري إعلان نهايتها، فهناك حضور كلي: ما بعد وطني، وهو مفهوم ذو تخوم غامضة، فهل شارفت أطروحة الدولة على نهايتها في زمن السيادة الشمولي المعولم؟ وهل يمكن الحديث عن سلطة مجتمع مدني سياسي متحرّر من الحدود ومن الآلات الكبرى المقاومة، ويتصدى وحده للجماعات الكبرى العابرة للقوميات؟

إنّنا بصدد لاهويّات جديدة، ذلك أنّ “تدمير الرأسمال سيكون من صنع ‘حركة شاملة’ ناجمة عن الكثرة التي لا ترتبط بأي مجال خاص، والتي تنشئ من خلال لوجستيكية الشبكات الجديدة متّحدًا شموليًّا خليطًا.. يبقى المواطن الشمولي العالمي بلا وساطة، بلا مؤسسة، يفكر بالكل، لكنه يصرف النظر عن المحلي، ويسود الانسحار بالتكنولوجيات الجديدة”[4].

أما الفصل السادس فقد جاء عنوانه كالتالي: الاستثناء الثقافي أنموذج أوروبي: والذي جاء مبلورًا لمنظور ثقافي في السياسة الأوروبية من خلال تجارب الاندماج، التي عاشتها أوروبا في بناء سوق كبيرة واحدة استجابة لمنطق اقتصادي، لكن المسألة الثقافية كانت من أولوية الدولة الأمّة، بإنتاج تصوّر خاص لتقسيم المهام بين الحكومات والمفوضية، وقد تبلور هذا الموقف في مبادرات ومشاريع صاغها الأعضاء، ومن هنا كان انزياح الثقافة نحو مفهوم التواصل.

وقد كانت أولوية المسألة الثقافية منظورًا إليها بعناية، ومدرجة في إطار الأهداف الكبرى من خلال معاهدة ماستريخت التي أنشأت الاتحاد الأوروبي سنة 1992 حيث تقول المادة 128: “من هذا القرار يسهم الاتحاد في تفتّح ثقافات الدول الأعضاء، مع احترام تنوّعها الوطني والإقليمي، ومع إبراز الإرث الثقافي المشترك”. وقد تم التطرق إلى المسائل البالغة التنوع، مثل العلاقة بين وسائل الإعلام وحقوق الإنسان، بين الثقافة ووسائل الإعلام، بين الفن والصناعة الثقافية، وكذا الحديث أيضًا عن الشراكات المتعلقة بتنظيم المجال السمعي البصري، والبرمجيات الإذاعية الأوروبية، وكذا تحديد الجدولة المخصصة للإنتاجات الأوروبية، والذي كثيرًا ما كانت فرنسا تدافع فيه عن جدولة زمنية تهمّ إنتاجها الخاص. لكن أمريكا كانت تعترض على الحصص المبرمجة، وتقدم شكوى للكات Gatt، بدعوى أنّه يخالف الواجب المفروض على الدول الأعضاء بعدم التفرقة العنصرية للمنتوجات الأجنبية، وقد صادفت عولمة المبادلات كثيرًا من حالات اللاتفهّم والنزاع، حيث كانت مختلف التدابير المتخذة لبناء المجال السمعي البصري وحفظه معرّضة للزوال، ذلك لأنّ بند الاستثناء الثقافي المقدّم من قِبَل الاتحاد ينطوي على تخصيص هذا القطاع بمعاملة خاصة إزاء قواعد التبادل الحر، ولذلك كثيرًا ما كان الجانب الأوروبي يُبدي جانب الخشية من عدم برمجة المنتوج الأوروبي الوطني، وذلك حرصًا على تطوير الدعم، والدفاع عن خصوصية الاستثناء الثقافي المحلي. لكن أرمان ماتلار يؤكد أنّ “مفهوم التنوع يتميّع في توسيع تشكيلة المنتوجات المعروضة في سوق السلع الثقافية، عندما ستكون المنتوجات في متناول المستهلكين بسهولة أكبر، ستتضاعف إمكانيات التعبير عن تنوع الثقافات واللغات التي تتكاثر في أروبا”[5]. وقد استبدل أعضاء الاتحاد الأوروبي في آخر عام 1999 عبارة ‘الاستثناءات الثقافية’ بعبارة التنوع الثقافي بدعوى أنّها أكثر إيجابية، وأنّها أقل انطواء على موقف دفاعي، لكن تحت طائلة التخلي عن مفهوم مسند قانونيًّا.

وأخيرًا جاء الفصل السابع مركّزًا على: جيوبوليتيك التنوّع: الرهان الحضاري: ذلك أنّ سؤال التنوع حظي باهتمام في السياسات العامة في صناعة الثقافة، فقد تبنته حكومات ووضعته وكالات الأمم المتحدة على جدول أعمالها. وتعكس المناقشات حول الإستراتيجيات الرامية إلى وضع طاقة التكنولوجيات الفكرية الجديدة في خدمة الحد من التفاوتات العالمية تعريفات التنوع المختلف فيها. وقد لوحظ في ذلك انبعاث الحركات الاستنفارية المقاومة لللّبْرَلَة وضغوطات الاتفاقية التجارية، والحدّ من نفوذها في منطقة التجارة الحرة بين الأمريكيتين ALCA، كما شهد مفهوم التنوع الثقافي تدويلاً موسّعًا في محافل مثل اليونسكو حين دافعت عن توازن “الأنظمة البيئية والثقافية”، واعتماده في مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة والتنمية في استوكهولم منذ سنة 1972 في موضوع الدفاع عن التنوع الحيوي، وفي قمة الأرض بريو دي جانيرو.

لكن مع ذلك يبقى التنوع الثقافي مهددًا بالمنطقيات الافتراسية واللامساواتية للأنموذج الإنمائي الغربي، الذي يحرّكه الاستهلاك المفرط للموارد الطبيعية، وكذلك للخيرات المادية، وهو من ناحية أخرى لا يُخفي الأهمية التي أصبح يحظى بها التنوع الثقافي في عمل المنظمات والدول، والانضمام في تحالفات دولية من أجل التنوع الثقافي، حيث أنّ خطابات التنوع تنحو منحى مغايرًا لأطروحة “صدام الحضارات” لصمويل هنتغتون، التي توقعت بحتمية صراع الأبنية الثقافية والدينية بين ثمانية كيانات ثقافية كبرى: كيان غربي، كونفوشوسي، ياباني، إسلامي، هندوسي، سلافي، أرثوذوكسي، أمريكي لاتيني… بل إنّ هناك من اعتقد بصدقيتها بعد أحداث 11 شتنبر 2001 والحرب ضد الإرهاب، لكن هذا لا يقوّي من صدقيتها، لأنّ عوارض الأحداث التي يشهدها العالم لم تمنع الأمم المتحدة من اعتماد سنة 2001 لحوار الحضارات والثقافات، وكذلك تبني المؤتمر العام الثالث لليونسكو الاتفاق حول التنوع الثقافي الموسوم مجددًا باسم “اتفاق حول حماية التعابير الثقافية وترقيتها” بحضور 154 دولة، إلا أمريكا وإسرائيل فقد صوّتتا ضده.

وقد جرى تعريف التنوّع الثقافي: بأنّه تعدد الوسائل التي تجد فيها تعبيرها عن ذاتها ثقافات المجموعة الإنسانية والمجتمعات. أما التعابير الثقافية فهي تنطوي من جانبها على مفاهيم “المضامين الثقافية” والتعبيرات الفنية، إنّها الطرق المختلفة التي بواسطتها تستطيع السلع والخدمات الثقافية، وكذلك الفعاليات الثقافية الأخرى، أن تكون حمالة لدلالة رمزية، وأن تنقل قيمًا ثقافية.

الخاتمة: نحا أرمان ماتلار إلى الدفع بهذا التنوع عن اغتناء متقدم يتعرف إلى مصادر خصوصيته الثقافية، بملمح يسهم في إعادة الاعتبار للمسألة الثقافية ومرفقاتها الهوياتية، باحترام الغيرية والاختلاف والتسامح والتنشئة الحوارية، التي تقيم أشراط تواصل إيجابي في رصد فعل التنوع الثقافي وقوته الحضارية في الاجتماع الإنساني، تجاوزًا لأي إفقار مفاهيمي يبخس من قيمه الثقافية، أو يسعى إلى تحييد مضامين القوة لمعانيه الحضارية؛ بل سعيًا إلى إيجاد العناصر الفلسفية التي تؤكد ضرورة التنوع الثقافي وتقوية مسالكه، باستحداث نظام تكنولوجي جديد للإعلام والتواصل يسهم في إغناء اقتضاءات التنوع بمبادرات المجتمع المدني، الغرض في ذلك ترقية التعابير الثقافية، وحفظ الهويات الثقافية بنظام مواكب يُسهم في تنميتها بمضامين ثقافية، تستحث على قيم التضامن بين شعوب العالم، والتعاون الدولي والتنمية المستدامة في ممكنات وقائع اجتماعية وثقافية واجتماعية، تلتف بالتفكير في إنتاج مجتمع المعرفة، وإعادة تحديد شروط إنتاجها وتداولها في انفتاحات تغالب مصائر الانغلاقات والإيديولوجيات الصدامية. ذلك أنّ ضرورات التواصل أضحت تستحث على إنجاز فعل التبادل، ومصالحة المجتمع المدني بإشراك المواطنين في السجال حول خيارات المجتمع الكبرى. إنّه سؤال الجدوى الذي ينشد إعادة الاعتبار لمسألة التنوع الثقافي في اختيارات ديمقراطية، تواكب نظام العالم الجديد، وخدمة الرهانات المعاصرة بتدبير ثقافي يحسن جودة الالتفاف حول المسألة الثقافية، وفعلها المتعاظم تجاوزًا لخدع الاستهزاء بها، وكذا من الذاكرة، وتحريرهما من سطوة مجتمع الإعلام.




كاتب المقال “محمد بنعياد”: باحث مغربي، حاصل على الدكتوراه من جامعة محمد الخامس بالرباط. مهتم بالحوار بين الأديان والدراسات الدينية المقارنة والفلسفة. نشر أبحاث ومقالات في صحف عربية.




الهوامش:

[1] أرمان ماتلار: التنوع الثقافي والعولمة، ترجمة: خليل أحمد خليل، مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، دار الفارابي، بيروت، لبنان، ط1، 1429-2008

[2] أرمان ماتلار: التنوع الثقافي والعولمة، ص 57

[3] “الصناعة الثقافية مفهوم فلسفي ابتكره عام 1944 فيلسوفا مدرسة فرنكفورت تيودور أدورنو وماكس هوركهيمر، اللذان يدرجانه في تأمل طويل النفس حول صيرورة الثقافة، اغتربا في الولايات المتحدة هربًا من النازية، فتكلما عما استطاعا أن يرياه ينمو هناك قوة الإذاعة والسينما والإعلان، ومولد التلفزيون، بنظرها أنّ الصناعة الثقافية تثبت على نحو مثالي سقوط الثقافة في السلعة، فقد عاينا حركة عامة لإنتاج الثقافة، وأشارا إلى التشابك بين هذه الأخيرة، وبين التكنولوجيا والسلطة والاقتصاد، ويصفان آثار الصناعة الثقافية في المنتوجات ذاتها، إنّها ثقافة مصنوعة من سلسلة أغراض تحمل علامة التصنيع: التسلسل، التنميط (القولبة)، تقسيم العمل، هنا يكتشفون تميّع الثقافة”، أرمان ماتلار: التنوع الثقافي والعولمة، ص 81

[4] أرمان ماتلار: التنوع الثقافي والعولمة، ص 158

[5] أرمان ماتلار: التنوع الثقافي والعولمة، ص 178




المصدر: مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.