التنكر وتدوين الثقافة الشعبية وتصنيفها

التنكر وتدوين الثقافة الشعبية وتصنيفها

الأنثروبولوجي في ثياب الأعرابي 2-2

التنكر وتدوين الثقافة الشعبية وتصنيفها

فاضل الربيعي*

من المنظور التاريخي، ومع اعترافنا بأن قصيدة صوت صفير البلبل، وحكاية تنكّر الأصمعي في ثياب أعرابي، هي مروية ملفقة، ونحن نرفض اعتبارها مروية إخبارية- تاريخية؛ فإن قيمة هذه الحكاية الشائقة، تكمن وقبل أي اعتبار آخر في أنها تقوم،
ومن دون تردد بتخيّل الأصمعي في صورته التي تجاهلناها طويلاً، أي شخصية الأنثروبولوجي الذي هجر المدن العظيمة وامتيازات العيش في البلاط على مقربة من السلطة، وراح يجوب الآفاق في البوادي والقفار. ولهذا الغرض وحده، وربما بفضله، فهو لن يتمكن من القيام بعمله على أكمل وجه، إلا إذا تنكّر في زي أعرابي.لقد أصبح التنكر شرطاً مُحكماً لا يمكن تخطيه. لكنه من جانب موازٍ، يصبح مصدراً لقوة تمكّنه من الاقتراب من جديد من عالم السلطة، مثلاً يمكنه بفضل ارتداء ثياب الأعرابي لا أن يدخل على الخليفة ويقوم بخداعه وتحديه وحسب، وإنما أن يتماهى مع سكان البوادي والقفار ويغدو شخصاً شبيهاً. لقد مكنّه هذا (التنكّر) المُتخيّل من أن يلعب دور المدّون للثقافة الشفهية الجماعية، وأن يستكشف أسرار اللغة التي شكلّت أمّة العرب.  والأصمعي هو: عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي، أبو سعيد (121 هـ- 216 هـ/ 740 – 831 م). وقد عدّه القدماء أهم رواة العرب، وأحد أئمة العلم باللغة والشعر. ولذلك يقال في المؤلفات الأدبية القديمة (وكان الشعر للأصمعي والأخبار لأبي عبيدة. قال أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي: كان الأصمعي صدوقاً في كل شيء). كان الأصمعي في شبابه كثير التطواف في البوادي والمدن ومضارب البدو، يجمع معارف الجماعات المحلية ويدّون كل شيء يسمعه من أفواههم، حتى قال عن نفسه العبارة الشهيرة : أحفظ عشرة آلاف أرجوزة. وقال بعض العلماء: كان الأصمعي يحفظ ثلث اللغة، وكان أبو زيد يحفظ ثلثي اللغة. وحين تناهت أخباره للخليفة العباسي هارون الرشيد، طلبه وكلفه تأديب أولاده. لكن نقطة التحوّل الكبرى في حياته كانت حين طلب منه الرشيد أن يقوم بمواصلة عمله، وأن يجمع (علوم العرب) القديمة. ولهذا الغرض فقد زوّده بكل ما يلزم من نفقات للقيام برحلات منتظمة وتجواب متواصل في البوادي، حيث أمضى وقتاً طويلاً بين القبائل. لقد وجد الأصمعي في مطلع شبابه بين مدرستين أدبيتين- لغويتين متفلسفتين ومتصارعتين، تهيمنان على طرق وأساليب البحث اللغوي والاجتماعي، هما مدرسة البصرة التي تعتمد طرق وأساليب النقل، أو ما يسمى (مدرسة السماع) ومدرسة الكوفة التي اعتمدت مبدأ المقاربة أو ما يعرف بـ(مدرسة القياس).
من قلب صراع المدرستين، شق الأصمعي طريقه نحو منهج جديد يعتمد تدوين الثقافة الشفهية، وتدقيق موادها وتصنيفها وجمعها. قبل هذا العصر، لم يعرف العرب طرق وأساليب التدوين المنهجي، وكانوا – وهم يحثّون الخطا نحو المدنية- يواصلون تقاليد الحفاظ على هويتهم الثقافية كأمّة شفاهية(أمة لسانية). ولأن منهجه الميداني كان يقوم في الأصل على المعايشة اليومية والسماع، فقد وجد نفسه وقد أصبح من أتباع مدرسة البصرة، لكنه وهو يصبح جزءاً منها، لم يكن يدرك ربما إلا بعد وقت متأخر، أن أسلوبه في البحث الميداني، كان يعطي لهذه المدرسة أغلى ما كانت بحاجة إليه في صراعها ضد مدرسة القياس الكوفية، إذ صار بوسعها أن تقدم مادة بحثية ميدانية، شديدة الخصوصية والغنى، يتخطى جمعها أسلوب السماع التقليدي. في هذا السياق، بدا لكثيرين – حتى من بين المعاصرين- أنه كان متشدداً في منهجه، بأكثر ممّا تحتمله مدرسة السماع ذاتها، فقد نظر إلى لهجات القبائل على أنها محكومة (باللحن) والشذوذ. وكان هارون الرشيد يسميه (شيطان الشعر). وقال عنه الأخفش: ما رأينا أحداً أعلم بالشعر من الأصمعي. أما أبو الطيب اللغوي فقال عنه: كان أتقن القوم للغة، وأعلمهم بالشعر، وأحضرهم حفظاً. وبلغت مؤلفاته نحواً من 61 مؤلفاً ضاع معظمها. منها (خلق الإنسان) و(الأجناس) و(الأنواء) و(الخيل) و(الشاء) و(الوحوش) و(اشتقاق الأسماء) و(الأضداد) و(اللغات) و(النوادر) و(نوادر الأعراب) و(فحولة الشعراء) وهو من أشهر مؤلفاته. عاش الأصمعي في عصر كانت فيه البصرة تعجّ بأئمة اللغة والنحو، منهم الخليل بن أحمد، وأبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي، وأبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري. قال الأصمعي ما هبت عالماً قط، ما هبت مالكاً- بن أنس- حتى لحن فذهبت هيبته من قلبي. فقال له أحدهم: كيف لو رأيت ربيعة؟ كنا نقول له كيف أصبحت فيقول: بخيراً.
من المنظور الأسطوري سوف نطرح السؤال الآتي: كيف أنشأ السارد، حكاية الأصمعي والبلبل؟ ومن أين استمد عناصرها ؟ إن العنصر المؤسسّ فيها، يكمن في فكرة التناظر الدلالي بين الصور التي تشكلّت عن طبيعة عمله ونشاطه المعرفي، وهو لشدّة ما امتاز به من قدرة فذّة على المعايشة والترحال وحفظ أشعار العرب من أفواه البدو، فقد كان بوسعه أن يدّقق في كل بيت شعر وكل مروية. وهذه صورة كانت سائدة ومعروفة عنه بين علماء عصره، فعندما يقول الشافعي مثلاً: إنه لا يعرف أحداً من العرب أحسن عبارة منه، فهذا يعني أنه كان قادراً على تقديم مادة ميدانية لا تصمد أمامها كل المرويات المضطربة والشفهية (النيئة) التي لم تطبخها نار التدقيق والتمحيص. وقال الشافعي: ما عبر أحد عن العرب بمثل عبارة الأصمعي.وقيل لأبي نواس: (قد أشخص أبو عبيدة والأصمعي إلى الرشيد؛ فقال: أما أبو عبيدة فإن مكّنوه من سفره، قرأ عليهم أخبار الأولين والآخرين، وأما الأصمعي فبلبل يطربهم بنغماته). هذا التوصيف الجميل، قد يكون العنصر الأصلي الذي بنى عليه المتأخرون، حكاية (صوت صفير البلبل). إن المتأمل في هذه القصيدة الركيكة، الملفقة والموضوعة، سيلاحظ كيف أن الصور تتناظر لتتولد عنها دلالات جديدة، فصورة الاصمعي(البلبل) كما رسمها أبو نؤاس في وصفه، تولّدت عنها صورة الإعرابي الذي (يغرّد) في بلاط الخليفة، ومن هاتين الصورتين أنشأ سارد النص حكاية التنافس بين( البلبل) و( الخليفة). تروي بعض المصادر، أن الأصمعي كان يجوب مضارب بعض القبائل حين قال له أعرابي رآه يكتب:
ما أنت إلا الحفظه
تكتب لفظ اللفظه
وهذا التوصيف المدهش، يحددّ على أكمل وجه طرائق وأساليب جمع المادة الأنثروبولوجية (اللغوية) من أفواه البشر، فهو ليس سوى (حافظ) يدّون ( لفظ اللفظ) ولا يكتفي بما هو مرئي من الدلالات في الكلام. وحين تناظر هو وسيبويه، قال يونس بن حبيب: الحق مع سيبويه، وهذا -رأي الأصمعي- يغلبه بلسانه.فكيف يمكن لهذا الأعرابي أن يتفوق على عالم لغوي مثل سيبويه لو لم تكن للسانه فتنة تغريد البلبل؟ تتضمن فكرة (الحفظ) التي تداولها الرواة والمؤلفون كمزية فريدة في عمل الأصمعي، هذا الجانب الديناميكي من طرائقه في جمع المادة اللغوية والاجتماعية، فهو مدّون لا مثيل له، لا يكاد يترك شاردة أو واردة من كلام العرب، إلا وسجلها بعناية وحرص. ويبدو أن هذا النشاط الاستثنائي وغير المألوف في مجتمع الدولة الإمبراطورية (العباسية) لم يرق لكثير من منافسيّه، ولذا شنوا عليه حملة شعواء، كان الغرض منها التقليل من أهمية وقيمة المادة التي قام بتدوينها، وهذا ابن زاهر يحدثنا أنه سمع الشاذكوني يقول(إذا بعث الله عز وجل الخلق لم يبق بالبادية أعرابي إلا تظلم إلى الله من كذب الأصمعي عليه). وإذا ما قمنا بتجريد هذه العبارة الجارحة من جانبها الشخصي بروحه العدائية، فسوف يتضح لنا بجلاء أن الذين قاموا بهجاء عمله، رسموا -من حيث لا يريدون- صورته نادرة ولا شبيه لها عن رجل لم يترك من كلام العرب أي شيء خارج التدوين. (لاحظ جملة: لم يبق أعرابي في البادية). لكن أبلغ صورة رسمت في المؤلفات التاريخية عن هذا الجانب من شخصيته الأدبية، ما روته كثرة من المصادر نقلاً عنه: قال الأصمعي: حضرت أنا وأبو عبيدة عند الفضل بن الربيع، فقال لي: كمْ كتابك في الخيل؟ فقلت: مجلد واحد. فسأل أبا عبيدة عن كتابه فقال: خمسون مجلداً. فقال له: قم إلى هذا الفرس وأمسك عضواً منه وسمه. فقال: لست بيطاراً، وإنما هذا شيء أخذته عن العرب؟ فقال لي: قم يا أصمعي وافعل ذلك، فقمت وأمسكت ناصيته، وجعلت أذكر عضواً عضواً، وبلغت حافره. فقال: خذه. فأخذت الفرس. قال (فكنت إذا أردت أن أغيظه ركبت ذلك الفرس وأتيته).

*مفكر عربي من العراق

رأي واحد حول “التنكر وتدوين الثقافة الشعبية وتصنيفها”

  1. نشكرك أستاذ على النص و سأبعث لك برنامج اللقاء المزعم عقده من 15 الى 19 و عناوين المحاضرات التى ستلقى شكرا لك و تمنياتى لك بالتوفيق نعم الرجل أنت

    رد

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.