التصوف وأسئلة العودة: في سوسيولوجيا الحراك الصوفي بالمغرب

محمد جحاح

التصوف وأسئلة العودة:

في سوسيولوجيا الحراك الصوفي بالمغرب

 

       ذ. محمد جحاح*   

 

تقديم

قد يبدو من السهل جدا ربط هذه الانتعاشة القوية للتصوف اليوم، خاصة في بعض مظاهرها وتعبيراتها الرسمية، بالإرادة السياسية للدولة،


ويمكن اعتبار السياسة الدينية الجديدة التي انتهجها المغرب لتأهيل وإعادة هيكلة الحقل الديني خير شاهد على ذلك. لكن، وبعيدا عن الانحسار في حدود رؤية أداتية ضيقة، إلى أي حد يمكن أن ينسحب هذا التصور نفسه على كافة مظاهر وأبعاد ومحددات هذه الانتعاشة؟ وفي علاقة بذلك أيضا، ما مدى مشروعية الحديث هنا عن “عودة” لتوصيف هذه الانتعاشة؟

وعلى مستوى آخر من التحليل، وبالرجوع إلى مفهوم “العودة” هذا، ما موقع التصوف اليوم من داخل هذه المعادلة؟ هل يتعين الحديث هنا عن عودة من طرف الفاعل السياسي “الدولة” مثلا إلى هذا “الرأسمال الرمزي” لأجل استثماره (العودة إلى التصوف Le recours au Soufisme)؟ أم هي عودة من طرف التصوف نفسه (عودة التصوف Le retour du Soufisme)، كعودة لمكبوت ديني، سياسي وثقافي؟ أم أن هناك بالأحرى طلبا اجتماعيا متزايدا هو ما يفسر- بشكل من الأشكال- هذه الانتعاشة القوية للتصوف، مما يضعنا أمام مفهوم آخر قد يسمح بتجاوز مفهوم العودة هذا بما يطرحه من تناقضات ومفارقات؟

لعلنا ننتصر هنا لمفهوم “الحراك الصوفي”، وهنا ينبغي مغادرة السطح الاجتماعي (بلغة جورج بالاندي)، حيث ينتعش الحس العام وما يوازيه من خطابات أداتية، للنفاذ للعمق حيث تشتغل الديناميات الفعلية؛ وبهذا يتم التأسيس للسؤال السوسيو- أنثروبولوجي الذي لا ينبغي البتة اختزاله في مجرد سؤال حول “العودة”. ربما هنا يفتح مجال آخر للبحث وطرح السؤال مجددا حول موضوع التصوف – بما يعنيه كحقل ممارسة – في علاقة بالاجتماعي والثقافي والسياسي، وهنا بالذات يتعين البحث ليس فقط في البنيات بل وأيضا في الفاعلين والذهنيات والإستراتيجيات. وفق هذه الرؤية إذن سوف نؤسس تحليلاتنا ونتائجنا بالبحث أولا في ممارسات الناس ومعتقداتهم وسلوكاتهم، ومن ثم في المعنى أو المعاني التي يعطونها هم أنفسهم لأشياء العالم الاجتماعي، لا أن نكتفي بإسقاطات متسرعة بهذا الخصوص؛ وهنا سنكون ننتصر بالفعل لمنطق الأشياء لا لأشياء المنطق…

هذه هي الأطروحة الأساسية التي سندافع عنها من خلال مساهمتنا المتواضعة هذه،

وهي مساهمة تتوزع عبر المحاور الثلاثة التالية:

– العودة إلى التصوف: آفاق وحدود المقاربة الأداتية

– عودة التصوف بين التاريخ والأنثروبولوجيا

– الانتعاشة الصوفية كتعبير عن طلب اجتماعي: في طبيعة ودينامية الحراك الصوفي

1– العودة إلى التصوف: آفاق وحدود المقاربة الأداتية

منذ حلول الألفية الثالثة، وفي علاقة بمجموعة من الشروط والمتغيرات – بسياقاتها المحلية والإقليمية والدولية – سيشهد نشاط حركات الإسلام السياسي “الحركي” بالبلدان العربية والإسلامية تعاظما غير مسبوق،(1)  وذلك باكتساحها مجالات شاسعة من الفعل والتأثير، سواء على مستوى اجتماعي أو ثقافي أوسياسي. بل أكثر من ذلك، ستنخرط العديد من هذه الحركات ذات التوجه السلفي في “حرب جهادية” معلنة ضد الداخل والخارج على حد سواء.. لعل النموذج يمكن تقديمه هنا بكل من تنظيم “القاعدة” وتفريعاته و تنظيم “الدولة الإسلامية” اليوم؛ هذا دون أن نغفل عن تنظيمات أخرى قد تكون – بشكل أو بآخر- مستقلة عنهما تنظيميا، ولئن كان الهدف الإستراتيجي للكل هو السعي – كل بطريقته الخاصة – نحو إعادة بناء نموذج “دولة الخلافة الإسلامية”.

لعل أهم مبدأ قد يوحد أطياف هذا التوجه السلفي “الجهادي” يبقى من دون شك تكفيره لكل من الدولة والمجتمع على حد سواء، ولعل هذا ما يبرر أسلوبه المتطرف القائم على العنف والقتل وفق إيديولوجية “الجهاد”، أو ما يمكن التعبير عنه هنا بمفهوم “الإرهاب المتأسلم”.

لقد أصبح خطر “الإرهاب” إذن، يشكل واحدا من أكبر التهديدات التي بإمكانها أن تعصف بأمن واستقرار هذه البلدان، ولعل النموذج تقدمه تفجيرات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية بالولايات المتحدة. وبخصوص المغرب، لطالما ظل الاعتقاد سائدا بأن هناك استثناء يميز وضعه مقارنة بغيره، وبالتالي يجعله في مأمن من هذا الخطر. وما عزز هذا الاعتقاد ورسخه كحقيقة ثابتة لدى الكثيرين، هو خصوصية نظامه السياسي، وما تضطلع به “المؤسسة الملكية” – في هذا الصدد – من أدوار تؤكد تحكمها وهيمنتها المطلقين على الحقل الديني/ السياسي. لعل هذا ما يضمنه حقل إمارة المؤمنين، بما يتأسس عليه من رموز وقيم تكرس لنموذج “الحاكمية” كأساس للإمامة أو الخلافة، وهنا مصدر شرعية ومشروعية سلطة الملك باعتباره أميرا للمؤمنين وخليفة لله في الأرض؛ وهذا كاف لاستبعاد أي منافس سياسي محتمل من داخل ذات الحقل الديني – السياسي.2))

لكن، إلى أي حد سيظل منطق الاستثناء هذا فاعلا؟ وهل يمكن الجزم أصلا بتعميم هذا المنطق على مجمل التاريخ الديني/ السياسي للمغرب، في الوقت الذي تمدنا به المصادر التاريخية بما يثبت العكس تماما، وبأن تاريخ المغرب هو أيضا تاريخ صراع بين الدولة “المخزن” وبين تنظيمات وقوى دينية – سياسية منافسة كالزوايا والطرق الدينية…(3)؟ لنبق إذن في أسئلة الراهن، وليكن تعاطينا هنا مع الوقائع وليس مع ما تم تكريسه كمعتقدات أو تمثلات على مستوى الحس العام.

واقعتان تقوضان في العمق فكرة الاستثناء المغربي هذه، وبالتالي تؤكدان على أن المغرب ليس بمنأى عن خطر التطرف الديني مجتمعا ودولة: الواقعة الأولى هي ما جسدته أحداث 16 مايو 2003 الإرهابية، والتي على إثرها ستنهج الدولة سياسة دينية جديدة لإعادة هيكلة الحقل الديني، حيث كان الرهان الأبرز هنا تجفيف منابع التطرف والإرهاب، أما الواقعة الثانية فهي المتمثلة في استمرار التحاق عدد من الشباب المغاربة، سواء من داخل المغرب أو من بلدان المهجر، بجبهات القتال في كل من سوريا والعراق تحت إمرة ما يسمى بتنظيم “الدولة الإسلامية”. وفي علاقة بالواقعتين طبعا، وجب التنبيه إلى أن التطورات الأخيرة فيما يتعلق بنشاط شبكات الإرهاب المرتبطة بتنظيمي “القاعدة” و”الدولة الإسلامية” – على مستوى المنطقة المغاربية وأفريقيا جنوب الصحراء – تؤكد يوما بعد يوم بأن المغرب لم يعد في مأمن من خطر الإرهاب، ولعل هذا ما تنطق به الإحصائيات الرسمية بخصوص عدد من الخلايا الإرهابية “النائمة” التي يتم تفكيكها بين الحين والآخر في عدد من مدن المغرب و جهاته.

في علاقة بكل هذا، وبالموازاة مع عدد من التدابير الأمنية الرامية إلى تعزيز إستراتيجية الأمن الاستباقي في مواجهة خطر الإرهاب المتأسلم، ستسعى الدولة المغربية بالمثل إلى نهج سياسة دينية جديدة جعلت من سؤال الأمن والاستقرار محورا مركزيا لها. “لقد اتضح جليا، وهذا ما يمكن أن نستشفه من بعض عناصر هذه السياسة الدينية الجديدة، بأن هناك خللا ما في تدبير الشأن الديني، انعكس بشكل أو بآخر على أمن المواطنين الروحي وبالتالي أمنهم الاجتماعي والاقتصادي؛ مما يشكل تهديدا فعليا للاستقرار السياسي للبلاد”.(4)

لقد كان الرهان قويا إذن على الفاعل الصوفي، خاصة وأن التصوف يقدم نموذجا لإسلام مرن ومنفتح وغير مسيس، وهكذا ستتأكد حاجة الدولة أكثر إلى هذا النموذج التديني، وذلك من خلال إستراتجيتها الرامية إلى توظيف ورقة “التصوف” كأداة لمواجهة “التطرف”، خاصة بعد أحداث 16 مايو 2003 الإرهابية كما تقدم، وأيضا من خلال رغبتها في الظهور بمظهر المتبني والراعي لنوع من الحداثة الدينية، كشكل من أشكال “تحديث الإسلام” ضدا على النزوع السلفي نحو “أسلمة الحداثة”.

تأسيسا على ما تقدم إذن، وارتباطا بهذا التصور الأداتي/ التوظيفي، اعتبرت الورقة الصوفية صمام أمان لوقف اكتساح خطر الإسلام الحركي “الجهادي”، بحيث سيتم من خلالها – وعبر كل من المدرسة والمسجد ووسائل الإعلام السمعي/ البصري- الترويج لنموذج معتدل ومتسامح من الإسلام ضدا على النموذج “السلفي” والوهابي المتشدد. وبالموازاة مع ذلك طبعا، سيتم ضرب البنية التحتية المؤسساتية لإنتاج وترويج الفكر السلفي المتطرف، وذلك عبر إغلاق ما يسمى بالمدارس القرآنية، علاوة على إحداث “قناة محمد السادس للقرآن الكريم”، خاصة أمام اكتساح بعض الفضائيات الدعوية المشرقية لبيوت وعقول المغاربة.

حتى لا ندخل في تفاصيل هذه السياسة الدينية، بما تعنيه من إعادة هيكلة شاملة للحقل الديني بالمغرب، وما اقتضته من هندسة جديدة لمؤسسات القرار الديني وهياكله وطنيا وجهويا ومحليا: (وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المجلس العلمي الأعلى، الرابطة المحمدية للعلماء، الهيئة العلمية للإفتاء…)، وجب التأكيد مجددا على المكانة المحورية التي سيحتلها التصوف من داخل هذه الهندسة؛ ولا أدل على ذلك من تعيين أحد مريدي الطريقة البودشيشية على رأس الوزارة الوصية على الشأن الديني. وفي هذا السياق ستسعى الدولة المغربية، وفي إطار سياستها الدينية هذه، إلى بعث روح جديدة في مظاهر شتى من التراث والثقافة الصوفيين، هذا مع التأكيد على الطبيعة السنية للتصوف المغربي كواحد من الثوابت الرسمية الثلاثة للتدين المغربي: (المذهب المالكي، العقيدة الأشعرية والتصوف السني على طريقة الجنيد).

وفق هذه الإستراتيجية إذن، وبتسخير للآلة الإعلامية الرسمية ولكل الأدوات والفعاليات، سيتم التسويق رسميا لعدد من المواسم الدينية المرتبطة بأحد رموز وأقطاب التصوف السني المغربي: (البودشيشية، التيجانية، الحسونية، العيساوية…)، كما ستوجه عناية ملكية خاصة لتنظيم مهرجانات وملتقيات دولية خاصة بالفن والثقافة الصوفيين: (مهرجان فاس الدولي للموسيقى الروحية)، وكذلك لقاءات عالمية للمنتسبين للتصوف “لقاء سيدي شيكر” الذي يكثف حمولة رمزية وتاريخية قويتين، من حيث مكان تنظيمه “رباط سيدي شيكر” أو “شاكر” بقبيلة ركراكة، والذي يعتبر لدى مؤرخي التصوف الإسلامي مهدا لتجمع الصوفية بالمغرب. كل ذلك بالموازاة طبعا مع إحياء وتشجيع عدد من الزوايا والطرق الصوفية، بما فيها الشعبية: (الكناوية، الحمدوشية…)، مع تقديم كافة أشكال الدعم المادي والمعنوي لها، والرهان دائما هو تأكيد مدى التنوع والغنى والتعايش الذي يميز تجارب التدين لدى المغاربة، وفي معاكسة تامة واستفزاز مقصود طبعا للنموذج السلفي الذي حاول أن يقدم نفسه كوصي منافس على أمور “الدين” و”الدنيا” أيضا.

وبعيدا عن المغرب، هناك من حاول ربط الظاهرة بسياقات أشمل وأوسع، ساعيا إلى تفسير هذه العودة إلى التصوف باعتبارها جزءا من إستراتيجية عالمية تقودها الولايات المتحدة في حربها ضد ما أصبح يعرف بالإرهاب الديني الأصولي (تنظيم القاعدة – تنظيم الدولة الإسلامية)، مما يستحيل معه التصوف هنا إلى مجرد أداة للتحكم في المنظومة الدينية/ الأخلاقية وشكل من أشكال “تلطيف الإسلام” في علاقته بالغرب.

لعل ما يدعم هذا الطرح في اعتقادنا، واستحضارا منا لما شهده العالم من أحداث إرهابية منذ تفجيرات 11 سبتمبر 2001 بالولايات المتحدة وإلى اليوم، هو ما يمكن ملاحظته سواء بخصوص الولايات المتحدة الأمريكية أو بعض بلدان أوروبا الغربية. ففي علاقة بقضايا “الإرهاب” والهجرة الدولية، كثيرا ما يتم التركيز – في سياسات الهجرة الجديدة لدى هؤلاء – على مسألة “صراع الهويات الدينية”، بحيث ترد في العديد من التقارير كواحدة من الأسباب الرئيسية المفسرة لسوء اندماج الجاليات العربية والمسلمة وبالتالي استفحال ظاهرة التطرف الديني. وعلى هذا الأساس، وعلاوة على إجراءات وتدابير أخرى، سيعتبر التصوف وسيلة ناجعة لتلطيف إسلام المهاجرين وتوجيههم أكثر نحو التعايش والتسامح عوض التعصب والانعزال. ربما هذا ما يفسر اليوم انتشار عدد من “الزوايا” وفروع الطرق الصوفية بهذه البلدان، وبتشجيع ودعم منها أيضا، كما يفسر ذلك الاكتساح المتنامي من قبل عدد من الأجانب (أوروبيين وأمريكيين) لبعض الطرق الصوفية بالمغرب، خاصة البوتشيشية والتيجانية(5).

في الواقع، لا يمكن اختزال مسألة توظيف التصوف فقط في ضرب الحركات الإسلامية المتطرفة كما تقدم، هذا وإن شكل ذلك واحدا من أهم رهانات السياسة الدينية للدولة في هذا الإطار. لقد كان رهان الدولة أيضا محكوما بحسابات وإستراتيجيات أخرى فرضتها عليها مسألة تدبير بعض القضايا والملفات السياسية والدبلوماسية. فعلى مستوى أول، وارتباطا بسؤال المشروعية الدينية – السياسية للحكم، وجب التنويه هنا إلى أن هذه العودة القوية من طرف الدولة إلى التصوف اليوم، أو إن شئنا الدقة أكثر، هذا التنشيط القوي للفعالية الصوفية، هو بدافع التأكيد أكثر – وأمام خطر إسلام سياسي حركي صاعد مع موجة الربيع العربي – على قوة شرعية الحكم في إطار المؤسسة الملكية وإمارة المؤمنين. لعل المؤسسة الملكية بهذا ستسعى إلى دعم حقل “إمارة المؤمنين”، والذي يستمد أسس شرعيته ومشروعيته أيضا من مبدأ “الحاكمية” الإلهية (الملك كأمير للمؤمنين وخليفة لله في الأرض)، بمبدأ “التحكيم” الذي يستمد دلالاته ورمزياته من ثقافة الزاوية وما يرتبط بها من قيم “الشرف” والبركة”…إلخ(6). فالملك هو، قبل كل شيء، شريف بركة بحكم نسبته إلى آل البيت، وهو بهذا يمتلك صفة “الحياد” لأنه لا عصبية قبلية له، فهو يوجد فوق كل الفرقاء، أو بتعبير جاك بيرك فهو كيان ميتا – اجتماعي Une entité méta sociale، مما يعزز من طبيعته الكاريزمية ويجعل حكمه كـ”حكم” Arbitre ملزما للكل. لقد كان هذا هو مصدر قوة وتجدر تنظيم الزوايا في التاريخ الديني والسياسي للمغرب، فشيخ الزاوية كان يستمد قوة بركته السياسية من مبدأ التحكيم هذا، خاصة في ظل النسق الانقسامي الذي ميز البناء الاجتماعي والسياسي للقبيلة، والذي مكن الزوايا من لعب دورها السياسي في ضبط التوازنات العامة ومنح هذه القبائل المتصارعة حدا أدنى من الاستقرار، أو ما اصطلح عليه إرنست كلنر بالدور التسكيني للصلحاء وشيوخ الزوايا(7). لعل نفس الدور والامتياز يمكن أن تمنحهما آلية التحكيم هنا لشخص الملك، وذلك في علاقته مع كافة الفرقاء السياسيين والاجتماعيين…(أحزاب، نقابات، جمعيات، تنظيمات دينية – سياسية…)(8)؛ وربما هذا ما يفسر اهتمام الدولة بالثقافة الصوفية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الثقافة السياسية القائمة.

على مستوى آخر من التحليل، يمكننا قراءة هذه السياسة الصوفية في سياق جيو- استراتيجي، سواء في علاقة مع المحيط الإقليمي أو الدولي، وهذا ما تعكسه رغبة الدولة في الظهور بمظهر الراعي لنوع من الحداثة الدينية، بل والسعي لتقديم تجربتها بهذا الخصوص كنموذج يحتذى به. لعل هذا ما دفع المغرب، وبرعاية ملكية، للتسويق لنموذجه الديني “الوسطي” و”المعتدل”، بما يضفيه عليه بعده الصوفي من مرونة وقدرة على استيعاب عناصر الغيرية والاختلاف(9). وفي هذا السياق طبعا، يمكن فهم ذلك – واستحضارا أيضا لخطر الاكتساح الشيعي- كرد على النزوعات السلفية المتطرفة التي تسعى، وعن طريق العنف، إلى أسلمة الدولة والمجتمع، سواء بإفريقيا أو ببلدان أوروبا الغربية حيث هناك جاليات مسلمة وازنة. لعل هذا ما يمكن تأطيره ضمن سياق الجيو- تصوف Le géo- soufisme، بحيث أصبحت الورقة الصوفية هنا من ضمن أدوات أخرى لتدبير السياسة الدولية، خاصة فيما يتعلق بقضايا الإرهاب وبعض المنازعات الإقليمية.

ولا ننسى في هذا السياق أيضا استثمار المغرب فيما يعرف بالدبلوماسية الصوفية، كجزء من إستراتيجية جديدة وموازية في إدارة ملف النزاع حول قضية الصحراء. وفي هذا الإطار ستسعى الدولة، وبالارتكاز على بعض الطرق الصوفية ومريديها الكثر – خاصة التيجانية وفيما بعد البودشيشية – إلى الانفتاح والتوسع أكثر من داخل المجال الإفريقي، مما سيمكنها من حشد المزيد من الدعم لصالح الموقف المغربي بهذا الخصوص. وهنا لا بد من استحضار الصراع البوليميكي Polémique القائم اليوم – وعلى مستوى رسمي طبعا – بين المغرب والجزائر حول الطريقة التيجانية، مما يطرح سؤال الأحقية في نسبة هذه الطريقة، وبالتالي شرعية استثمار رأسمالها الرمزي: هل هي مغربية باعتبار وجود ضريح الشيخ أحمد التيجاني بأرض المغرب (فاس)، أم جزائرية أخذا بعين الاعتبار مسألة المنشأ والتربية الصوفية بالنسبة لهذا الشيخ الصوفي(10)؟!

بعد هذا العرض المركز حول أهم الخطوط العريضة للسياسة الدينية الجديدة، يتأكد لنا بأن الرهان كان قويا على الفاعل الصوفي، سواء تعلق الأمر بمسألة تدبير الملف الأمني في علاقة بتهديدات “الإرهاب المتأسلم”، أو ملفات سياسية ودبلوماسية أخرى. وفي علاقة بذلك، قد يبدو السؤال حول مدى نجاح الدولة في رهانها هذا له ما يبرره، وذلك بالنظر طبعا لما تم عقده من آمال عريضة على هذا التوظيف السياسي للتصوف، وما تم استثماره في هذا الإطار من موارد وإمكانات، وبما أثاره الموضوع أيضا من نقاش عمومي يمكن تأطيره أساسا في أسئلة العودة.

في الواقع، وحتى نكون موضوعيين، لا يمكن الجزم بتقديم تقييم شامل بهذا الخصوص؛ فالمسألة تحتاج فعلا إلى مزيد من البحث وإلى متسع من الوقت للرصد والتتبع والتحليل. وبالرجوع إلى مسألة “الإرهاب المتأسلم”، والذي يأتي التصدي له ضمن أولويات هذه السياسة، “فكل ما يمكننا أن نسجله بهذا الخصوص – وربما هذا ما تؤكد جوانب منه بعض التقارير الدولية حول الموضوع، ولا ننسى كذلك بعض التقارير الوطنية في شخص: (مركز الأبحاث والدراسات في العلوم الاجتماعية) و(المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة) – هو أن الدولة قد نجحت إلى حد كبير في كبح جماح الحركة الإسلامية بالمغرب، وذلك بتقوية دور وحضور الفاعل الصوفي، باعتباره نموذجا لإسلام منفتح وغير مسيس”(11).

2– “عودة” التصوف بين التاريخ والأنثروبولوجيا

في الواقع، وبالرغم مما قد تقدمه لنا من إمكانية لرصد مؤشرات هذه الانتعاشة الصوفية اليوم، فإن المقاربة الأداتية تظل مع ذلك عاجزة عن تقديم الإطار النظري والتاريخي الملائم لفهم وتحليل ديناميتها. فمن غير المعقول طبعا أن نفسر كل هذا “الحراك” الصوفي، وفي أبعاده المختلفة، بمجرد توظيف أو بالأحرى “تحريك” Manipulation للفاعل الصوفي من طرف الدولة؛ خاصة وأن مثل هذا التصور هو ما جعل الإشكالية تضل محصورة – لدى الكثيرين – في حدود أسئلة العودة ومفارقاتها.

حقيقة، إننا هنا بصدد إشكالية أعقد وأشمل، ولعل الأمر يتعلق بسؤال العلاقة بين التصوف والمجتمع في بعديها التاريخي والأنثروبولوجي. وارتباطا بهذا طبعا، وفي ضوء هذه العلاقة، سنسعى إلى تمحيص فرضية “العودة” هذه، وذلك من خلال تقديم بعض النماذج التي تجعلنا نعيد النظر كلية في مفهوم “العودة” هذا وفي استعمالاته المتناقضة في هذا السياق.

فمن الناحية التاريخية، نجد بأن التصوف كمنظومة دينية وكحقل لممارسات اجتماعية، ومنذ القرن11 م(12) ، لم ينسحب كلية من مجالات الفعل والتأثير، سواء على مستوى الحياة الدينية أو الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية، وقد كان ذلك ولا يزال – بشكل من الأشكال- سواء برعاية الدولة وتدخلها (في إطار نوع من الضبط والاستثمار السياسيين)، أو من غيرها وفي استقلالية عنها، أو في صراع وتنافس معها. ولعل هذا ما دفع البعض، وبكثير من المبالغة والتعميم، إلى اختزال التاريخ السياسي والاجتماعي للمغرب في تاريخه الديني والصوفي تحديدا(13).

لكن، وبقدر اختلافنا مع هذا المنطق التعميمي، وجب التنويه هنا إلى أنه ليس هناك ما يبرر أي حديث عن “عودة” التصوف اليوم، لأن في ذلك تأكيدا لفكرة مغلوطة حول “غيابه” أو انسحابه التام من المشهد الاجتماعي. ويعزو أصحاب هذا الطرح ذلك الغياب – والذي نعتبره تغييبا بالأحرى – إلى الدور الذي قامت به الحركة الوطنية غداة الاستقلال، ووفق نزوعاتها السلفية، في محاربتها للتصوف “الطرقي” لما كان يكرسه – في نظرها – من مظاهر الجهل والتخلف والشعوذة، هذا علاوة على اتهام رجالاته بالتواطؤ مع القوى الاستعمارية، والمقصود هنا طبعا شيوخ الزوايا. لكن حتى وإن سلمنا بقوة وجدية هذه الحملة على التصوف، والتي كانت تحركها في العمق خلفيات سياسية، فهل هذا يكفي لوضع حد لتجربة تعود بتاريخها إلى أواخر الدولة المرابطية في القرن 11 الميلادي كما تقدم؟ وفي علاقة بذلك أيضا، وعلاوة على ما كرسته – تاريخيا – سياسة المخزن في صراعه مع التنظيمات الصوفية(14)، هل من الإنصاف أن يتم القفز على المرحلة الكولونيالية، وما تمخضت عنه سياسة “الحماية” – منذ 1912م – من ضرب لأهم مكونات التصوف المغربي؟ لعل الأمر يتعلق هنا بالزوايا، بحيث تحدد دور فرنسا، وبتنسيق مع المخزن، في مهمة ضرب البنية التحتية لوجودها وتقويض أسس قوتها السياسية وتجدرها الاجتماعي، ولم يتم ذلك إلا حين وضع الفرنسيون حدا للسيبا خلال الثلاثينيات، وبذلك اختفت القاعدة التي كان يقوم عليها نفوذ الزوايا .(15)

لكن هل يعني ذلك بأن الزوايا قد انتهت فعلا؟ وهل الزاوية هي وجود سياسي فقط؟ وهل كان بالإمكان الاستغناء عن الزاوية، أو بالأحرى “ثقافة الزاوية”، حتى من طرف الدولة نفسها؟ أليست هذه الثقافة الصوفية تشكل اليوم، وكما كان الوضع منذ القرن 16 الميلادي، جزءا لا يتجزأ من الثقافة السياسية بالمغرب (مؤسسة السلطان الشريف)؟ وهل بالأحرى يمكن اختزال التصوف في تنظيم الزوايا فقط؟ وما موقع أنماط أخرى كالطريقة والطائفة والصلاح من كل هذا(16)؟ وتأسيسا على ذلك، وباستحضارنا لتاريخ العلاقة بين المجتمع المغربي والتصوف – ولعل هذا ما تسعفنا فيه أيضا كتب المناقب وتراجم الصلحاء(17)- هل توقف الطلب الاجتماعي يوما على التصوف كي نسمه بالغياب؟

بانتقالنا من التاريخ إذن، وبالعودة إلى أهم نتائج البحث الأنثروبولوجي حول الظاهرة الصوفية بالمغرب، وفي علاقة بالبنيات الذهنية والاجتماعية والسياسية، يمكن الجزم بأن التصوف لم يكف يوما عن تشكيل رؤية الناس لأشياء الكون والمجتمع.. ولعل أثر ذلك يظل بارزا على مستوى الذهنيات، خاصة حين نسائل سلوكات الناس وممارساتهم (الطقوسية والاجتماعية) في علاقة بالمعتقدات والمسوغات التي تمنحها منطقها بالنسبة إليهم. وفي هذا السياق، وجب التأكيد مع كليفورد غيرتز وديل إيكلمان وآخرين(18) على أن التصوف لم يكف يوما عن تشكيل ونحث تجربة التدين لدى المغاربة، سواء بالمدن أو القرى. ولعل هذا ما يمكن التأكد منه في ضوء استمرار الاعتقاد في بركة الأولياء، وما يعبأ لأجل ذلك من جهد وموارد مادية ورمزية تتطلبها طقوس المواسم والزيارة، كشكل اجتماعي لتفعيل المقدس الصوفي بما يعنيه من واجبات الولاء الروحي والخدمة للسادات والأشياخ.

بل أكثر من ذلك، ليس هناك ما ينفي اليوم استمرارية هذه الثقافة الصوفية، أو بالأحرى تسربها – بشكل أو بآخر- من المجال الديني إلى السياسي، ولعل هذا ما حاول إثباته الباحث عبد الله حمودي من خلال كتابه “الشيخ والمريد”(19)، بحيث تصبح هذه الخطاطة الناظمة لعلاقات الولاء بين الشيخ ومريديه من داخل الحقل الصوفي، هي نفسها المتحكمة في إنتاج وإعادة إنتاج العلاقات السلطوية، أو بالأحرى التسلطية، وعناصر شرعنتها من داخل النسق السياسي. لعل باحثا آخر، ومن خلال دراسته الأنثروبولوجية حول “المؤسسة الملكية” بالمغرب(20)، سيؤكد على أن النسق السياسي المغربي، وبما يحكمه من توترات، هو نسق انقسامي تستعيد فيه ومن خلاله هذه المؤسسة، وفي علاقتها بالفرقاء السياسيين (الأحزاب)، دور الزاوية. وهكذا إذن يتم التعريف بشخص الملك – وعلاوة على كونه “أميرا للمؤمنين” وإماما يحكم باسم “الحاكمية” الإلهية – كـ”شريف بركة”، ومن ثم التأسيس لنموذج “التحكيم” كشكل من أشكال التعريف بسلطته كملك وشرعنتها أيضا. لعلنا هنا أقرب ما يكون إلى مفهوم السلطة الرمزية عند بيير بورديو، بما تتأسس عليه هذه الأخيرة من عنف لين وخفي – كعنف رمزي – هو الأكثر فعالية واقتصادا لأنه الأكثر تماشيا مع اقتصاد نسق قائم على أخلاقيات الواجب والتقوى والثقة والاعتراف..((21. فهي كسلطة رمزية إذن، تفرض نفسها كطريقة وحيدة لممارسة الهيمنة والسلطة المشروعة، وذلك بالمقارنة مع الأشكال المباشرة التي قد تعتبر الأكثر صعوبة وبعدا عن المشروعية. ووفق هذا التصور بالذات، تصبح السلطة الرمزية سلطة للتعريف بالسلطة وإقرارها، وذلك من خلال تأكيد المشروعية اللازمة التي عن طريقها تصبح السلطة معروفة ومعترف بها كسلطة زمنية/ سياسية(22).

وغير بعيد عن ذلك، وجبت الإحالة أيضا على دراسة ريمي لوفو الموسومة بـ”السيف والعمامة”(23)، وهي دراسة تسعى إلى فهم وتحليل طبيعة العلاقة المعقدة بين المؤسسة العسكرية والنخب السياسية بالمجتمعات المغاربية، ومن خلالها يطرح الباحث سؤال العلاقة بين الإسلام والسياسة، وذلك في ضوء أسئلة السلطة وتنازع الشرعيات بين الدولة والحركات الإسلامية. وبخصوص المغرب، ومقارنة بكل من تونس والجزائر، فإن الباحث يؤكد كيف تمثل تجربته النموذج الأكثر تميزا، وذلك بالنظر إلى توفقه الكبير، وفي شخص المؤسسة الملكية، في ضبط حقله السياسي وتحجيم قوة الحركات الإسلامية من خلال شبكة معقدة تتأرجح بين إستراتيجية التواصل وإستراتيجية العنف والقمع. هكذا إذن يضعنا أمام نموذج تتعاضد من خلاله شرعيتان: الأولى شرعية زمنية، وهو ما يرمز له بـ”السيف” أو القوة العسكرية “العنف المادي المشروع”، والثانية – وهي الأكثر تجدرا – وتتعلق بالشرعية الروحية أو الدينية، وهذا ما ترمز له “العمامة” في إحالة على الأساس الديني (الفقهي والصوفي) أيضا للحكم. ولعل الأطروحة نفسها أكدها – بشكل من الأشكال- رايمون جاموس، وذلك من خلال دراسته الموسومة بـ”العرض والبركة”(24)، بحيث سيميز الباحث بين “بركة محلية”   Baraka locale ومنها يستمد شيوخ الزوايا “سلطتهم الروحية” في حدود مجال نفوذهم القبلي، وبين “بركة” أعم وأشمل هي ما يمتاز به الملك كـ”سلطان شريف”، وهي بركة سياسية بالأساس وتشتغل على مستوى مركزي. وهكذا فإن قوة بركة السلطان تتأكد بإخضاعه لكافة مصادر البركة المحلية، بحيث تطرح العلاقة هنا – وعلى مستوى روحي/ صوفي- كعلاقة بين زاوية كبرى “مركزية”، والتي يرأسها “السلطان الشريف” (المخزن)، وبين زوايا محلية تابعة بحكم ارتباطها الروحي بالمركز. بل أكثر من ذلك، فإذا كان ما يميز “الشيخ الشريف” هو طبيعته المسالمة، فإن “السلطان الشريف” – وعلى عكس شيخ الزاوية – قادر على تجاوز سلطته الروحية والارتقاء بها إلى سلطة سياسية قائمة على ممارسة العنف المادي المشروع، ولعل هذا ما يدعمه عن طريق القوة العسكرية؛ ويبقى بذلك نجاح بركته مؤشرا على نجاح قوته العسكرية والعكس صحيح.

تأسيسا على ما تقدم إذن، يمكن التأكيد على أن المجتمع المغربي لم يقطع علاقته يوما بالتصوف، ليس فقط على مستوى ديني، كما تعكسه تجارب التدين المختلفة في تقديسها لرموز الولاية والصلاح، بل وعلى مستويات أخرى اقتصادية واجتماعية(25). لعل الأمر نفسه ينطبق على الدولة، وهذا ما ينزع أية مصداقية عن الحديث اليوم عن “عودة التصوف” أو “العودة إليه”.

فبخصوص الدولة، وتحديدا المؤسسة الملكية، لم يحدث أن تم التفريط يوما في التصوف، أو بالأحرى في استثمارها السياسي لرأسماله الرمزي، فبأي حق يمكننا الحديث إذن عن عودتها إليه اليوم؟ فكما تطرقنا إلى ذلك من قبل، فهو يشكل مكونا حيويا من مكونات الإسلام الرسمي للدولة: (العقيدة الأشعرية، المذهب المالكي والتصوف السني). هذا من جهة، أما من جهة أخرى، وكما سبقت الإشارة، فإن أحد الركائز الأساسية التي تبنى عليها الشرعية السياسية للحكم، وعلاوة على الشرعية الدستورية طبعا، هو ما تقدمه ثقافة الزاوية كثقافة صوفية في هذا الإطار. لعل الأمر يتعلق هنا بمفهوم الشرف السلالي (الانتماء إلى آل البيت)، وما يرتبط به من قيم وتمثلات حول مفاهيم “البركة” و”الحياد” و”التحكيم”…إلخ.

وفي علاقة بكل هذا، ومنذ التأسيس لنظام الحكم الشرفاوي بالمغرب (القرن 16م)، لم تكف مؤسسة “السلطان الشريف” وفيما بعد المؤسسة الملكية – وبغض النظر عن أساليب القوة والإخضاع – من اتباع سياسات خاصة لكسب ود أهل التصوف. وفي هذا الإطار، فقد كانت تكرس لهذا الغرض مجموعة من الطقوس والممارسات، بحيث يتم تعيين أبناء الشرفاء وشيوخ الزوايا في مناصب سامية، وبالموازاة مع ذلك كانت تمنح لهم ظهائر التوقير والاحترام، كما يتم تخصيص هبات ملكية خلال كل موسم ديني لهذه الزوايا والقيمين عليها، هذا بالموازاة مع دعم وتشجيع تأسيس جمعيات ورابطات للشرفاء…إلخ؛ ولعل الهدف الأسمى من كل هذا هو العمل على إعادة إنتاج وتقوية ذلك الأساس الإيديولوجي ممثلا في الشرف(26).

في الواقع، لم تكن العلاقة بالتصوف وبتنظيماته المتجدرة تتسم دائما بمثل هذا الود والتقارب، سواء من قبل الدولة أو بعض خدامها و”مثقفيها” من رجال الدين والعلماء؛ مما سينعكس سلبا على طبيعة حضوره وفاعليته على مستوى المجتمع. فقد شكل التصوف دوما مصدر تشويش سياسي بالنسبة “للعقل السلطاني”، ولعل هذا ما يفسر تاريخ العلاقة الصدامية بين المخزن والزوايا، حيث شكلت هذه الأخيرة المنافس الأقوى له من داخل الحقل الديني/ السياسي، كما رأى فيه “العقل الفقهي المالكي” خطرا على وحدة العقيدة وجب التوجس منه ومحاربته.. بحيث تم وصمه وأهله بكل سمات المروق والانحراف عن “صحيح الدين”، كما تم في نفس السياق نزع أية شرعية معرفية عنه، باعتباره هو الآخر يشكل نظاما معرفيا “عرفانيا” قائما بذاته.

وفق هذا المنطق إذن فقد تم قمعه، ومع ذلك فهو لم يكف – بشكل أو بآخر- عن الفعل والتأثير، ولو على مستوى الهامش: سواء أكان هامشا مجاليا أو ثقافيا أو دينيا أو سياسيا أيضا.. وهنا بالذات، قد تفهم “عودته” المفترضة هذه كعودة لمكبوت سياسي، ديني، ثقافي ومعرفي أيضا.

في علاقة بكل ذلك طبعا، وتمهيدا لما سيأتي،  ننطلق هنا من فرضية مفادها أن السياسة الدينية التي اتبعتها الدولة، وبغض النظر عن السؤال حول ما حققته من نتائج على مستوى تطلعات هذه الأخيرة ورهاناتها السياسية، فإن من أهم نتائجها على المستوى السوسيولوجي كانت تيسير ذلك الانتقال – بخصوص الممارسة الصوفية – من مستوى الهامش إلى المركز، بما يعنيه ذلك اجتماعيا من استعادة لحضورها القوي والفاعل كما يعبر عنه هنا مفهوم الحراك الصوفي. لعل هذا ما سوف نتطرق له من خلال المحور التالي، مركزين في ذلك طبعا على طبيعة هذا الحراك وديناميته في علاقة طبعا بالطلب الاجتماعي.

3– الانتعاشة الصوفية كتعبير عن طلب اجتماعي: في طبيعة ودينامية الحراك الصوفي

كما سبق وأكدنا على ذلك من قبل، فإن رهان الدولة كان قويا على الفاعل الصوفي، مما سيجعل من التصوف الركيزة الأساس في هندسة سياستها الدينية الجديدة. وبغض النظر عن السؤال حول مدى نجاعة هذه السياسة الصوفية – وهذا ما سبق التأكيد على صعوبة الحسم فيه، بالنظر طبعا إلى عدم كفاية المعطيات بهذا الخصوص- فإن ما يهمنا هنا هو البحث في النتائج الاجتماعية لهذه السياسة، وتحديدا فيما يتعلق بالممارسة الصوفية، وكيف يمكن ربط هذه الانتعاشة الصوفية اليوم، وبغض النظر عن السياق العام لهذه السياسة الدينية، بذلك الطلب الاجتماعي المتنامي على التصوف؟ وما هي طبيعة ومستويات هذا الطلب؟

في الواقع، لا يمكن نفي أهمية هذه السياسة في تفسير بعض مظاهر هذا الحراك، خاصة لو أخذنا بعين الاعتبار ما أصبحت تعنيه على المستوى الاجتماعي من تنشيط للفعالية الصوفية. بل أبعد من ذلك، فإن الدولة وأمام الاختلالات التي أضحى يعيشها الحقل الديني/ السياسي على مستوى تنظيمه الرسمي، وذلك بفعل المنافسة القوية التي أصبحت تمثلها قوى وتنظيمات فرعية من داخل ذات الحقل (الحركات الإسلامية)، وجدت نفسها ملزمة بالتفاوض مع الفاعل الصوفي الذي قد يمثل بالنسبة إليها نسقا فرعيا مضادا يمكن توظيفه. نحن هنا أمام موقفين إذن، أو بالأحرى إستراتيجيتين: الدولة من جهة وهي تسعى إلى “توظيف” الفاعل الصوفي في إطار إستراتيجية التصدي لحركات الإسلام السياسي الراديكالي، ثم الفاعل الصوفي في الجهة المقابلة، والذي لا يفتقد هو الآخر لإستراتيجية تفاوضية، ولعل هذا ما يتعزز أكثر – وبتعبير ميشيل كروزي – باستغلال مواطن الشك واللايقين التي ما فتئت تتسع على مستوى التدبير الرسمي (البيروقراطي) لهذا الحقل، بما أصبح يعيشه من اختلالات27)). إن مفهوم التفاوض هنا قد يلخص بشكل جيد واقع هذه العلاقة المتناقضة اليوم بين الدولة كفاعل مركزي من داخل الحقل الديني/ السياسي وبين الفاعل الصوفي، وهي علاقة وإن كانت تستند إلى خلفية تاريخية اتسمت في معظمها بالصراع والتصادم، فإنها اليوم أضحت تؤشر على نوع من التقارب الحذر والبراغماتي أيضا في إطار مواجهة خصم مشترك ممثلا في الإسلام السلفي. ولعل نفس الملاحظة يمكن أن تنسحب – بشكل أو بآخر- على تجربة الدولة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي مع الحركات الإسلامية نفسها، فالاثنان معا كان يوحدهما خصم مشترك ممثلا في اليسار الجذري والإسلام الشيعي أيضا، وهكذا ستجد الحركات الإسلامية فرصتها، بحكم موقعها التفاوضي القوي آنذاك، لخوض مغامرتها السياسية التي أربكت حسابات الدولة وخيبت ضنها، مما سيجعل منها اليوم موضوعا لسياستها الدينية الجديدة.

في الواقع، إن استحضارنا لهذا النموذج لا يعني البتة بأننا نسعى إلى تأكيد أي تطابق مع ما تسعى إليه الدولة اليوم في سياستها مع الفاعل الصوفي، ولكن في نفس الوقت فنحن نؤكد على أن التصوف لم يكن أبدا مجرد أداة أو ورقة للتوظيف السياسي كما قد توحي بذلك المقاربة الأداتية، ولعل هذا ما تتيحه المقاربة الإستراتيجية في تصورها لعلاقة الفاعل بالنسق، وما يميز هذه العلاقة من توترات وصراعات وتوافقات وتواطؤات أيضا، قد تستحيل كلها إلى علاقات سلطة ومصلحة متفاوض بشأنها(28).

تأسيسا على ما تقدم، وجب التنويه إلى أننا لسنا هنا أمام نموذج موحد ومحدد للفاعل الصوفي، فسواء تعلق الأمر بالموقف من السلطة، أو إطار الاشتغال، أو مجاله، أو رهاناته…إلخ. لكن وفي علاقة بموضوعنا، يمكن الاكتفاء هنا بالمعيار الأول، خاصة وأنه قد يتضمن – بشكل من الأشكال – بقية المعايير الأخرى أو معظمها، كما قد يحيلنا على سؤال العلاقة بين الفاعل والنسق، ونعني هنا بالتحديد طبيعة العلاقة بين الفاعل الصوفي والمؤسسة الملكية باعتبارها المسؤول الرسمي عن تدبير وتنظيم هذا النسق كنسق ديني/ سياسي. وعلى هذا الأساس إذن، وبالعودة إلى الطريقة الصوفية الأكثر حضورا وتأثيرا اليوم بالمغرب، ونعني هنا بالتحديد الطريقة القادرية البودشيشية، أمكننا التمييز بين نموذجين: الأول مسيس ويمثل نموذج “التصوف الحركي” الذي يراهن على إعادة تفعيل الإرث النضالي والصدامي كما جسدته مؤسسة الزوايا في علاقتها التاريخية مع المخزن، ولعل هذا هو الخط الذي دافع عنه الشيخ عبد السلام ياسين زعيم حركة العدل والإحسان ومرشدها الروحي (المتوفى سنة 2012 )، وكان سببا في تنحيته من خلافة الطريقة التي كان يرى نفسه هو الأجدر بها(29)، أما الثاني فهو النموذج اللين والمهادن والطيع الذي راهن على الإرث الروحي للطريقة الصوفية، ولعل هذا ما يمثله خليفة الشيخ العباس وابنه الشيخ حمزة البودشيشي (المتوفى في 18 يناير 2017)، والذي سيعين شيخا على الطريقة بعد وفاة والده سنة 1972. لقد كان للدولة، في شخص المؤسسة الملكية طبعا، يد في تيسير انتقال مشيخة الزاوية لهذا الأخير، وضدا على الشيخ عبد السلام ياسين ونزوعاته السياسية “المشوشة”، وذلك في إطار إستراتيجيتها الرامية إلى ضبط ومراقبة الحقل الصوفي كي لا يتحول إلى حقل مضاد. لقد عبر عن ذلك الشيخ حمزة البودشيشي صراحة في إحدى حواراته الصحفية التي تعود لسنة 2009، وهو يقول بهذا الصدد: “إن سبب مغادرة الشيخ ياسين للزاوية البودشيشية هو أنه كان يحاول تسييسها من الداخل، فيما جوهر التصوف يقوم على تربية الروح بدل الدخول في متاهات السياسة”(30).

وحول علاقة الزاوية البودشيشية بالدولة، لم يفت الشيخ حمزة التشديد على أنها علاقة لا تتأسس على “التصادم” و”الشنآن”، بل إن التصوف يربي المريدين على محبة الملك والوطن. وفي هذا السياق سيؤكد على “أن مريديه في الزاوية يتلون أذكارا خاصة بالصحراء المغربية، ويدعون للملك”(31)، مجملا قوله بـ”أن مصلحة البلاد في وجود المؤسسة الملكية”(32).

وعلى مستوى آخر من الرؤية أيضا، وفي علاقة بالشكل الاجتماعي للممارسة الصوفية ومجالاتها ومنطقها أيضا، وجب التأكيد على أنه لا يوجد مجال واحد ولا شكل موحد لهذه الممارسة، كما لايوجد منطق موحد ومحدد يحكم ويوجه انخراط الفاعلين – على اختلاف أصولهم واتجاهاتهم الاجتماعية والثقافية – فيها. إننا هنا أمام ممارسة عابرة للأشكال كما للمجال Trans-spatiale، بحيث لا يمكن حصرها في شكل أو مجال اشتغال محدد، فسواء على مستوى جغرافي: حيث يبدو التصوف حاضرا كممارسة متجدرة – وبأشكال مختلفة – في القرى كما في الحواضر، أو على مستوى سياسي: حيث شكل التصوف وما يزال موضوع صراع وتنافس من داخل الحقل الديني/ السياسي بالمغرب، أو على مستوى اقتصادي: وهذا ما يؤشر عليه اليوم – بخصوص المواسم الصوفية – ذلك التحول الهام من اقتصاد الهبة (بمفهوم مارسيل موس) إلى اقتصاد السوق، أو على مستوى فني، أو طبي – خاصة لما نأخذ المجالين معا في بعدهما الشعبي: (فن شعبي، طب شعبي) – وهنا قد يطرح مجال آخر للتمييز بين تصوف عالم وآخر شعبي.

لعلنا هنا أمام حقل للممارسة الاجتماعية، قد يعكس جزءا من دينامية العلاقة بين مجتمع ونظمه القيمية والدينية والثقافية والاقتصادية، كما يعكس بالمثل جوانب هامة من طبيعة علاقته بنظام حكمه أيضا.

قد تبدو هذه الملاحظات أساسية لفهم طبيعة الحراك الصوفي اليوم، وذلك في العلاقة طبعا بالطلب الاجتماعي الذي يقودنا نحو مساءلة الديناميات الكامنة وراء الأشكال والتمظهرات المرتبطة بهذه الانتعاشة الصوفية. وفيما يلي هذه بعض خلاصات أولية لبحث ميداني لازال في بداياته حول الموضوع، وقد ارتأينا تقديمها موزعة عبر عناصر تلخص لأهم مستويات هذا الحراك.

أ- المستوى السياسي:

انسجاما مع الفرضية التي انطلقنا منها، يمكن اعتبار الحراك الصوفي كواحد من أبرز النتائج الاجتماعية غير المباشرة – حتى لا نقول غير المتوقعة – للسياسة الدينية للدولة، كما عرضنا لأهم عناصرها سابقا. فرهان الدولة طبعا كان سياسيا بالأساس، وهو ما أطرناه في سياق إستراتيجية مواجهة “الإرهاب المتأسلم”، وفي سعيها هذا لتقوية الفاعل الصوفي بقصد توظيفه هنا، ستعمل الدولة – بشكل أو بآخر- على تيسير انتقاله من الهامش إلى المركز، بما يعنيه ذلك طبعا من تحرير لطاقاته وإمكاناته التي ظلت مقموعة بفعل عقود من الرقابة والحصار.

لعل أول مؤشر على هذا الانتقال هو السياسة الدينية نفسها، بحيث سيصبح التصوف الركيزة الأساس لهندسة هذه السياسة، وهكذا سيتعزز هذا الوضع المركزي سياسيا، ليس فقط بالنسبة للفاعل الرسمي ممثلا في المؤسسة الملكية، بل وبالنسبة أيضا لفاعلين آخرين (طرق صوفية، أحزاب). علاوة على ذلك، وجب التنويه هنا إلى أن هذه المركزية التي أضحى يحضا بها التصوف على مستوى سياسي، هي من سيساهم – وبتضافر مع عوامل أخرى مرتبطة بالطلب الاجتماعي – في تحريره من وضع الهامش مجاليا وثقافيا واجتماعيا، وبالتالي اكتساحه مجالات أوسع من الفعل والتأثير.

فعلى مستوى سياسي طبعا، لا نحتاج إلى كثير من التفصيل فيما أصبحت تمثله الثقافة الصوفية بقيمها ورموزها في توجيه السلوكات السياسية للفاعلين، ليس فقط على مستوى التنظيمات الصوفية (الزاوية والطريقة)، بل وعلى مستوى الحزب السياسي أيضا. وهنا يحصل ذلك التمازج الفريد بين منظومتين: الأولى تقليدية كما تجسدها الزاوية، والثانية حديثة أو حداثية ممثلة في الحزب. لعلنا هنا أمام سؤال العلاقة بين مجالين يفترض أنهما متناقضين: مجال القداسة ومجال السياسة، وهي علاقة قد تكتسي أبعادا أخرى من منظور المقاربة السوسيو- دينامية (33). وفق هذا المنظور إذن، فإن العلاقة هنا قد تبدو استعارية من حيث كونها تتأسس على “التعارض” وليس على “التنافي”، كما أن كل طرف منها يمكن أن يتلبس بالطرف الآخر، بحيث أن “التقليدي” قد يتلبس بـ”الحداثي” بمثل ما أن “القداسي” قد يتلبس بـ”السياسي” والعكس صحيح. هي إذن علاقة “ملتبسة” يحكمها التحايل، ومن ثم يصبح “التحكم” قيمتها وغايتها أيضا، إذ يصبح بالإمكان التحكم في السياسة من خلال الدين كما التحكم في الدين من خلال وعبر السياسة. لعل هذا ما تعكس بعضا من جوانبه السياسة الدينية للدولة في العلاقة بالفاعل الصوفي، كما ببقية الفاعلين على مستوى الحقل الديني/ السياسي؛ بل أكثر من ذلك، قد تتضح معالم هذا التحكم في علاقة الدولة نفسها بالمجتمع وبالأحزاب السياسية.

في هذا السياق إذن، وبالرجوع إلى الفاعل الصوفي، يمكننا تقديم النموذج على ذلك بالدور الذي ستلعبه الطريقة البودشيشية في حشد الدعم السياسي لصالح مشروع الدستور الجديد لسنة 2011، كما عرضه ملك البلاد على الاستفتاء الشعبي، بحيث ستقوم بدور الحزب السياسي في التعبئة والتأطير. لقد كانت مسيرة الدار البيضاء التي دعا إليها شيخ الطريقة حمزة البودشيشي، والتي شهدت مشاركة حوالي 300 ألف شخص من مريديها وأنصارها، بمثابة رد سياسي (في لبوس دينية/ صوفية) على معارضي الدستور الجديد(34). وهنا بالذات، وبغض النظر عما يعكسه هذا الموقف من مفارقات، وجب طرح السؤال مجددا: هل كان بالإمكان تعبئة كل هذه الطاقات والحشود لولا ذلك التجدر القوي الذي تعرفه الثقافة الصوفية، والذي يمكن ترجمته سوسيولوجيا باستمرار الطلب الاجتماعي على التصوف؟ وهل كان بإمكان أي حزب سياسي بالمغرب أن يؤكد فعاليته التأطيرية بهذا الشكل؟ لعل الإجابة على السؤالين معا قد تجد أهم عناصرها في طبيعة الثقافة السياسية التي ما تزال مرتهنة بالمقدس.

لعل مثل هذا الارتهان هو ما يجعل الحزب السياسي نفسه، وفي سبيل تعزيز حظوظه الانتخابية، يطرق باب الزاوية أو الطريقة الصوفية بحثا عن البركة السياسية. وبدون الدخول في كثير من التفاصيل، يمكن إعطاء النموذج بما تكرسه الدعاية الانتخابية لكثير من الأحزاب السياسية – في هذا الإطار- من توظيف واستثمار للرأسمال الرمزي المرتبط بذلك(35). بل أكثر من هذا، فقد بدأنا نشهد في السنوات الأخيرة، وموازاة مع الانتعاشة الصوفية التي بدأ يعرفها المغرب غداة تفجيرات الدار البيضاء الإرهابية في 16 مايو 2003، تطورا نوعيا في علاقة زعماء بعض الأحزاب السياسية (اليسارية) بالطرق الصوفية، مما يمكن تفسيره هنا بنوع من الاستجداء السياسي لـ”بركة الأشياخ”؛ ولعل النموذج نقدمه هنا بكل من فتح الله ولعلو ومحمد اليازغي من حزب الاتحاد الاشتراكي(36).

في الواقع، هناك أمثلة كثيرة من الحقل السياسي المغربي، والتي لا يتسع المجال هنا لذكرها، تؤكد قوة وتجدر الثقافة الصوفية كما تعكسها استمرارية الطلب الاجتماعي على رأسمالها الرمزي. فماذا عن باقي المستويات الأخرى بهذا الخصوص؟

ب- المستوى الاقتصادي:

قد يبدو هذا المستوى أكثر تجسيدا لاستمرارية الطلب الاجتماعي على التصوف، ولعل هذا ما نلمسه بجلاء من خلال المواسم الصوفية وما يوازيها من حراك اقتصادي. فكما هو معلوم، قد يصبح ضريح أحد الأولياء أو الشيوخ الصوفيين، كما الشأن أيضا بالنسبة لمقر إحدى الزوايا أو الطرق الصوفية، حرما اقتصاديا بامتياز. وهكذا تتحول جغرافية “المقدس” إلى مجال تحكمه “عقلانية” السوق والتبادلات التجارية، كما يتداخل الرأسمالين المادي والرمزي ويتعايشان جنبا إلى جنب في تركيبة اقتصادية فريدة، أو ما نصطلح عليه هنا باقتصاد المواسم الصوفية “اللمة”.

هناك استثمار إذن في “بركة الشيخ/ الولي”، بحيث يتم تفعيل هذا الرأسمال الرمزي La Baraka اجتماعيا عن طريق “الزيارة”(37)، مما يكون له أثره المادي على مستوى الاقتصاد المحلي أو الجهوي، بما يخلقه ذلك طبعا من سوق موسمي للتبادل التجاري. وهكذا يتم ذلك التحول من اقتصاد الهبة Le don إلى اقتصاد السوق، حيث “السياحة الروحية” تصبح بشكل من الأشكال إمكانا  Potentiel للتنمية المحلية.

قد لا نحتاج طبعا إلى الإفاضة في تقديم الأمثلة والنماذج للتدليل على ذلك، فسواء تعلق الأمر بموسم الزاوية الشرقاوية بأبي الجعد، أو موسم مولاي بوعزة بالأطلس المتوسط، أو موسم الشيخ الكامل (الهادي بنعيسى) بمكناس، أو موسم مولاي إدريس زرهون، أو موسم سيدي علي بن حمدوش، أو موسم مولاي بوسلهام…إلخ، يبقى الاقتصادي متعايشا ومتكاملا مع الطقوسي. فبغض النظر عن الحركية التي تشهدها قطاعات مختلفة في مجال التجارة والخدمات أساسا: كالنقل والفنادق والمطاعم والمقاهي…إلخ، قد تبرز مجالات أخرى يمكن إدراجها في إطار اقتصاد غير مهيكل، أو ما يمكن توصيفه – في بعض خصائصه – باقتصاد الظل أو “العتمة”. لعل هذا ما يعطي لهذا النمط من اقتصاد المواسم خصوصيته واستمراريته أيضا، كما يفسر، بشكل من الأشكال، ذلك التعايش الفريد بين مجالات للتبادل والنشاط قد يبدو بعضها، ومن وجهة نظر “متعهدي الأخلاق”(38)، يندرج ضمن دائرة الخرق والمحضور، خاصة ما يتعلق هنا باقتصاد الجنس وممارسات يمكن إدراجها ضمن دائرة الكهانة La sourcellerie والسحر.

على مستوى آخر أيضا، وفي علاقة دائما بالمجال الاقتصادي، يمكن أن نلاحظ كيف اكتسحت الثقافة الصوفية اليوم مجال المقاولة والشغل، كما اكتسحت من قبل مجال السياسة والحزب. فبناء على معطيات ميدانية، أمكننا الوقوف على نماذج في التدبير يمكن اعتبارها مؤشرا على توظيف الثقافة الصوفية، مما يؤكد على أن المقاولة كتنظيم أصبحت تشتغل بمنطق صوفي، خاصة على مستوى حل بعض مشاكل وتوترات النسق. بهذا الشكل إذن، سيتم ابتكار قواعد ومعايير غير رسمية Informelles للتفاوض والتسويات – فيما يتعلق بتدبير المنازعات الخاصة بالشغل- بعيدا عن منطق النقابة وقانون الشغل، وقريبا من منطق الزاوية و”التفويض الصوفي”(39).

ج- المستوى الصحي/ الاستشفائي

لعل مسألة التمثلات حول الصحة والمرض لها أهميتها هنا، خاصة لما يتعلق الأمر بالأمراض المستعصية، والتي تجد أسبابها – في تمثل الكثيرين – فيما هو غامض وخفي، من قبيل السحر والجن والأرواح. فبالرجوع إلى بعض الأبحاث الأنثروبولوجية حول الموضوع، يبدو أن المغرب كغيره من مجتمعات شمال إفريقيا عرف أشكالا مختلفة من التعامل مع الوضع ترسخت تاريخيا في شكل تقاليد خاصة بالتداوي والاستشفاء، وقد شكل التصوف كما السحر في هذا الإطار مصدرا مهما من مصادرها(40).

لكن إذا كان الأمر قد يبدو غير مستغرب بخصوص الماضي، بالنظر طبعا إلى المستوى العلمي والتكنولوجي المتدني، والذي كان من الضروري أن ينعكس على المجال الطبي كما غيره من المجالات، فما الذي يفسر هذا الاستمرار اليوم في الإقبال على الممارسات الاستشفائية التقليدية، هذا في الوقت الذي شهد فيه الطب العصري تطورا غير مسبوق كما ونوعا؟ أو بصيغة أخرى، وفي علاقة بموضوعنا، ما الذي يفسر هذا الطلب الاجتماعي اليوم على “بركة الأولياء” بقصد الاستشفاء، وهل لذلك علاقة بفرضية “العوز”  Le manque أو غياب البدائل، أم أن الأمر قد يجد تفسيره أبعد من ذلك في طبيعة الذهنيات؟

في علاقة بهذه الأسئلة وغيرها، سوف نحاول – وباختصار شديد – البقاء عند حدود بعض الفرضيات، مع الاكتفاء بتقديم ملاحظات عامة وسريعة بخصوص المجتمع المغربي، والتي يمكن تركيزها كالآتي:

– فمن جهة، وجبت الإشارة إلى أن طبيعة المرض قد تكون محددا للتوجه الاستشفائي، بحيث يمكن الاختيار هنا بين الطب العصري (العيادة) أو التقليدي/ الشعبي (المزار الصوفي). وعموما يمكن اعتبار الحالات غير العضوية، خاصة ما يندرج منها في إطار المرض العقلي والنفسي، هي التي تشكل القاعدة العريضة لزبناء “بركة الأضرحة والمزارات”، وذلك بالنظر طبعا إلى طبيعة تمثل المرض وأسبابه الغامضة والخفية(41) .

– ومن جهة ثانية، وجب التأكيد على أن مستوى الطب العقلي والنفسي بالمغرب لم يرق بعد إلى مستوى الطلب، هذا مع تكاليف العلاج المرتفعة، وربما هذا ما يفسر – بشكل من الأشكال- اختيار، أو بالأحرى الاضطرار إلى بدائل أخرى.

– وعلى مستوى آخر من الرؤية أيضا، وفي علاقة بالمستوى الاجتماعي لزبناء “البركة الصوفية”، فالملاحظ هو أن “المزار” قد يكون مقصدا ليس فقط للفقراء والمعدمين، بل وأيضا للميسورين. ولئن كان هذا التوجه يعكس نوعا من استمرارية الثقة – وبغض النظر عن الطبقة الاجتماعية أو المستوى التعليمي – في “بركة الأولياء”، فإن فرضية “الخوف من الوصم الاجتماعي” لها ما يبررها هنا. لعل تفضيل معظم الأسر اللجوء مثلا إلى (ضريح بويا عمر) أو (سيدي علي بوسرغين)(42)، بدل إيداع مرضاها بإحدى المصحات العقلية، لينم فعلا عن فوبيا أو خوف اجتماعي من المرض العقلي، أو بالتحديد من الوصم الاجتماعي الذي قد يلحق عائلة المريض برمتها، أضف إلى ذلك أن معظم هذه الحالات من ضحايا الإدمان على المخدرات الصلبة. قد يكون الهدف من هذا التوجه في الغالب، وحتى لا نسقط في التعميم، هو التخلص من المريض، أو بالأحرى من شبهة الوصم، بطريقة قد تقدمها الثقافة السائدة باعتبارها الأرحم والأنسب؛ وفي هذا السياق ليس بغريب أن يتم إطلاق تسمية “غوانتانامو المغرب” على (ضريح بويا عمر)، بالنظر طبعا لظروف العزل اللا إنسانية التي يخضع لها المريض في إطار طقوس العلاج أو الترويض المعمول بها هناك. بكلمة واحدة، إننا هنا أمام مجتمع لم يتصالح بعد مع نفسه، فكيف تم التصالح مثلا مع أمراض فتاكة من قبيل السرطان والإيدز…إلخ، ولم يتم التصالح مع المرض النفسي والعقلي؟

د- المستوى القيمي

في علاقة بطبيعة نشاطها الاجتماعي، وتحديدا فيما يخص طريقة اشتغالها وإستراتيجيتها التوسعية والتعبوية، تعطي الطريقة البودشيشية النموذج على ما يميز الفاعل الصوفي عن غيره من الحركات الإسلامية والسلفية المنافسة من قيمValeurs .

لعلنا هنا أمام توجهين مختلفين تماما، فمن جهة هناك توجه أصولي/ سلفي يركز على “العمل الإحساني” كأساس للتعبئة، كما يركز على بناء المساجد كموضوع لهذا العمل الإحساني. وهذا التوجه قائم في جوهره على فكرة “الثواب”، بما يعنيه ذلك طبعا من إحالة على “النجاح الأخروي” كقيمة دينية في جوهرها، تجد أساسها في الحديث النبوي: “من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله، بنى الله له بيتا في الجنة”. وفي مقابل ذلك، نجدنا أمام توجه صوفي أقرب ما يكون إلى الحداثة، وهو توجه قائم على فكرة “العمل الاجتماعي”، بما تتأسس عليه من قيم التضامن والتضحية والتعاون، وهي قيم يمكن استثمارها للإسهام في دعم بعض المشاريع التنموية المحلية، بمثل ما تضمن من خلالها الطريقة سبل توسعها وتغلغلها من داخل المجتمع. ففي إحدى المقابلات التي أجريناها مع أحد مريدي الطريقة البودشيشية بفرنسا(43)، يتضح بأن الطريقة البودشيشية انخرطت بشكل كبير، وعبر مريديها وأتباعها من الأطر والمتخصصين في مختلف المجالات، في عدد من مشاريع وأوراش العمل الاجتماعي والتعاوني، فسواء تعلق الأمر بالمساهمة في بناء المدارس والمستوصفات، أو تقديم الخبرة والمساعدة التقنية للفلاحين، أو تجهيز بعض المكتبات بالكتب…إلخ. بل أكثر من ذلك تخصيص مساعدات مالية لبعض الطلبة المعوزين لاستكمال دراستهم الجامعية، وبالمثل تنصيب محامين للترافع عن بعض الأشخاص في المحاكم. إننا هنا أمام إستراتيجية ذكية لاكتساح “المجتمعي” من خلال العمل “الاجتماعي”، وربما هذا ما يجعل الدولة قد لا تنظر دائما بعين الرضا لمثل هذه الأمور. ألم تكن الزوايا تاريخيا تنهج مثل هذه الأساليب، الشئ الذي عزز أكثر من سلطتها التي أصبحت تنافس بها المخزن؟

على سبيل الختم

لعل أهم ما يمكن أن نختم به مساهمتنا هذه، هو أن نترك السؤال مفتوحا حول ما يمكن أن يؤول إليه الوضع أمام هذا الاكتساح الصوفي المتنامي. فسواء في العلاقة مع الدولة أو المجتمع، قد يبدو لنا ضروريا – وبعد تشخيص “واقع الحال”- إعادة طرح سؤال “المآل”، وهو سؤال كنا قد طرحناه من قبل. لقد كان جزء بسيط من الإجابة عن هذا السؤال قد تبلور في إطار كتاب جماعي صدر مؤخرا، ولعل الأمر يتعلق هنا بكتاب “التصوف والسياسة الدينية”، فما الذي يضمن لنا اليوم، وفي علاقة بالسياسة الدينية للدولة أيضا، بألا يقودنا هذا الحراك الصوفي نحو نزعة صوفية متطرفة؟ ألم يحدث نفس الشيئ مع ورقة الإسلاميين حين سعت الدولة إلى توظيفها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي لضرب اليسار الجذري والتصدي للمد الشيعي؟

 

 

الهوامش والإحالات:

* أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة مولاي إسماعيل/ مكناس.

1- هذا لا يعني طبعا بأن حضور هذه الحركات لم يكن وازنا من قبل، خاصة منذ أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، ولنا أن نحيل هنا فقط على تجربة جبهة الإنقاذ الإسلامي بالجزائر، والعشرية الدموية في تسعينيات القرن الماضي، وكذلك تجربة جماعة الإخوان المسلمين بمصر وسوريا، والشبيبة الإسلامية وجماعة العدل والإحسان بالمغرب وحركة النهضة بتونس…إلخ.

2- لعل التاريخ الديني والسياسي للمغرب يؤكد مدى تهافت هذا الطرح، خاصة حين نستحضر تاريخ العلاقة بين الزوايا والمخزن، وما طبع هذه الأخيرة من صراع وتنافس حول السلطتين الروحية والزمنية… لقد كانت الزوايا بحق تمثل أخطر منافس سياسي للسلطان، خاصة وأن الإثنين معا: السلطان “الشريف” كرئيس للدولة (المخزن) والشيخ “الشريف” كرئيس لتنظيم الزاوية، تجمعهما نفس القرابة مع آل البيت، كما يمتلكان نفس الكاريزما ونفس رموز التقديس والهيبة (البركة)… مما جعل العلاقة بينهما في الغالب يحكمها التنافس والصراع.

3- يمكن الرجوع بهذا الخصوص إلى:

– محمد جحاح : الزاوية بين القبيلة والدولة – في التاريخ الاجتماعي والسياسي للزاوية الخمليشية بالريف، خاصة الفصل الثاني من القسم الثالث، ص ص. 327) – (360 منشورات أفريقيا الشرق 2015 – الدار البيضاء.

– محمد جحاح : الزوايا والمخزن، أو جدلية السلطة والمجتمع بالمغرب الماقبل كولونيالي (ص ص. 11 – 47)، ضمن كتاب التصوف والسياسة الدينية، جماعي، إشراف محمد جحاح، منشورات أفريقيا الشرق 2017 – البيضاء.

– George Drague : Esquisse d’histoire religieuse du Maroc, Editions Peyronnet, Paris 1951.

4 – التصوف والسياسة الدينية، م س، ص. 5

5 –  الزاوية بين القبيلة والدولة،  م س، ص ص. 11 – 12

6- في علاقة بالتصوف والسياسة الدينية الجديدة للدولة، ننطلق من فرضية مفادها أن المؤسسة الملكية – وفي ظل تصاعد موجة الإسلام السياسي، خاصة في أعقاب ما يسمى بالربيع العربي – ستكتشف بأن حقل إمارة المؤمنين في شخص  مبدأ “الحاكمية” أصبح أكثر فأكثر في حاجة إلى دعم من طرف حقل الولاية الصوفية، ولعل هذا ما سيعزز أكثر من سلطة “التحكيم” التي بدورها ستعزز قدرة “التحكم” من طرف هذه المؤسسة في كافة عناصر النسق السياسي، وهنا تتأكد قوة الفاعل الصوفي من داخل الحقل الديني- السياسي.. ومن خلال الورقة الصوفية سيتم من جهة قطع الطريق على المنافس السلفي في شكليه التقليدي والجهادي، وذلك بالتسويق لنموذج ديني معتدل (وسطي) وغير مسيس، وأيضا الرد على نزوعات السلفيين نحو أسلمة الحداثة بتوجه بديل يسعى نحو تحديث الإسلام، وذلك بمصالحته – أو بالأحرى تكييفه – كمنظومة دينية، أخلاقية وسياسية مع معطيات العصر وقيمه الحداثية (التسامح، الاختلاف، الديموقراطية…). إنه استثمار ذكي من قبل المؤسسة الملكية لثقافة الزاوية ولبركة الولي أو الشيخ، التي تترجم سوسيولوجيا إلى قدرته على التحكيم وخلق التوازنات المطلوبة.

هنا المؤسسة الملكية، وهي تعزز “تحكمها” السياسي عبر “الحاكمية” و”التحكيم“، كآليتين تقليديتين، فإنها بالمثل تسعى إلى تحديث حقل ثقافتها السياسية بانخراطها في مشروع “حكامة” سياسية، بما تعنيه من مفاهيم القرب، التشارك، التفويض… ولعل هذا ما تجسد على مستوى السياسات العمومية، بما في ذلك السياسة الدينية التي تعنينا هنا، بحيث أصبح قاموس تدبير الحقل الديني يزخر بهكذا مفاهيم ومصطلحات تعطي الانطباع بأن هناك إشراكا فعليا لعدد من الفاعلين الدينيين في إنتاج السياسة الدينية وفق رؤية تدبيرية  أكثر تشاركية وانفتاحا على روح العصر !!

7- يمكن الرجوع بهذا الخصوص إلى:

– Ernest Gelner, The saints of Atlas, London, Weindefeld and Necolson, 1969

– Raymon Jamouss, Honneur et Baraka : Les structures sociales traditionnelles dans le Rif, Editons la maison des sciences de l’homme, Paris, 1981

8- يمكن الرجوع بهذا الخصوص إلى:

– جون واتربوري: أمير المؤمنين: الملكية والنخبة السياسية بالمغرب، ترجمة ماجد نعمة وعبود عطية، دار الوحدة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى – بيروت 1982

9- لعل هذا ما يمكن تأكيده من خلال سياسة المغرب اليوم، في إطار أوراش إصلاح منظومة التكوين والتأطير بالمعاهد ومؤسسات التعليم الديني، وكذلك الإشراف على تكوين أئمة المساجد والمرشدين الدينيين بهذه البلدان، هذا علاوة على إرسال بعثات علمية – دينية للإشراف على تأطير الجاليات العربية المسلمة هناك، وذلك وفق خطة لتسويق نموذج لإسلام وسطي ومعتدل وقادر على التكيف مع مستجدات العصر، ويحتل فيه المكون الصوفي مكانة خاصة..

10- يجب التنويه هنا إلى الدور الريادي الذي ستلعبه الطريقة التيجانية، ومن خلال مريديها الكثر في كل من السنيغال ومالي والنيجر وغيرها في هذا السياق؛ بحيث ستترجم علاقة الولاء الروحي لهذه الطريقة الصوفية ولشيخها إلى ولاء سياسي على شكل اعتراف رسمي بمغربية الصحراء.

11- التصوف والسياسة الدينية، جماعي، إشراف محمد جحاح، منشورات أفريقيا الشرق، 2017– البيضاء، ص.7

12- يمكن الرجوع بهذا الخصوص إلى:

– إبراهيم القادري بوتشيش: المغرب والأندلس في عصر المرابطين – المجتمع، الذهنيات، الأولياء – دار الطليعة، الطبعة الأولى، لبنان 1993

13- يمكن الرجوع بهذا الخصوص إلى:

– George Drague : Esquisse d’histoire religieuse du Maroc, Editions Peyronnet, Paris 1951.

14- أنظر بهذا الخصوص:

التصوف والسياسة الدينية، م س، ص ص. (11 – 47)

الزاوية بين القبيلة والدولة، م س.

15- جون واتربوري، م س، ص. 31

16- الزاوية بين القبيلة والدولة، نفسه، ص ص. (155 – 156)

17- يمكن إعطاء النموذج هنا بكل من:

– ابن الزيات: التشوف إلى رجال التصوف، تحقيق أدولف فور، الرباط، 1958

– ابن عسكر: دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر، تحقيق محمد حجي، مطبوعات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، الطبعة الثانية، الرباط 1977

– عبد الحق البادسي: المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف، تحقيق سعيد أعراب، المطبعة الملكية، الرباط 1993

18- نكتفي بالإحالة هنا على:

– ديل إيكلمان: الإسلام في المغرب، جزآن، ترجمة محمد أعفيف، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، الدار البيضاء 1989

– C. Geert: Islam observed. Religious development in Morocco and Indonesia, University of Chicago Press, 1979

19- عبد الله حمودي: الشيخ والمريد – النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، البيضاء 2000

20- جون واتربوري، مرجع سابق

21- P. Bourdieu, Le sens pratique, Editions de Minuit, Paris 1980,  p. 219

22- Ibid. pp. 226 – 227

23- Rémy Leveau, Le sabre et le turban – L’avenir du Maghreb, Editions François Bourin, 1993

24- Raymond Jamouss, Honneur et Baraka – Les structures sociales traditionnelles dans le Rif, Ed : La maison des sciences de l’homme, Pais 1981

25-  نقدم النموذج هنا بما يمكن أن نصطلح عليه باقتصاد المواسم، حيث يصبح الموسم الصوفي، وعلاوة على طقوس الزيارة وما يرتبط بها من ممارسات، مجالا للتبادلات التجارية والأنشطة الحرفية والتسويات الاجتماعية…

26- يمكن الرجوع بهذا الخصوص إلى:

– محمد جحاح: الزاوية بين القبيلة والدولة، م س.

27- تعرف هذه المقاربة، في مجال سوسيولوجيا التنظيمات تحديدا، بالمقاربة السياسية أو الإستراتيجية، وهو ما يمثله الباحث السوسيولوجي الفرنسي ميشيل كروزي وإرهارد فريدبيرغ. وهي مقاربة تسعى إلى فهم طبيعة علاقات السلطة من داخل التنظيمات الاجتماعية، بالتركيز على أهمية الفاعل L’acteur واستراتيجياته في مواجهة النسق ببنياته التنظيمية وقواعدها البيروقراطية.. بحيث لا وجود لأهداف رسمية فقط للتنظيم، ولا لنمط واحد ووحيد للسلطة كما تحددها القواعد البيروقراطية للتنظيم، بل هناك أنماط أخرى من السلطة يمكن أن يحولها الفاعل لصالحه متى عزز من قدراته التفاوضية، وذلك بتصيده لمواطن الشك واللايقين التي تسمح له بتحقيق أهدافه الخاصة؛ بكلمة واحدة متى كان استراتيجيا في تفكيره وعلاقاته مع النسق وقادرا على امتلاك وحسن تدبير مصادر السلطة بما يحتكم عليه من معلومات وقدرات… لعلنا هنا نستلهم بعض الخطوط العريضة لهذه المقاربة، وذلك في محاولة فهمنا وتحليلنا لعلاقة الفاعل الصوفي في المغرب بالمؤسسة الملكية، اعتبارا لكون هذه الأخيرة هي المتحكم في مسألة ضبط وتنظيم النسق الديني/ السياسي الذي يعتبر هذا الفاعل جزءا لا يتجزأ منه. ويمكن الإحالة هنا على كتاب الفاعل والنسق، والذي يقدم إطارا نظريا شاملا لأهم قضايا ومفاهيم هذا الاتجاه.

– Michel Crozier et Erhard Friedberg, L’acteur et le système. Coll. Point- Seuil, Paris 1977

28- Ibid.

29- لقد تولى الشيخ العباس البودشيشي مشيخة الزاوية سنة 1955، وذلك بعد وفاة الشيخ السابق أبي مدين القادري البودشيشي، واستمر على رأس الزاوية إلى حدود وفاته سنة 1972، وقد كان الشيخ عبد السلام ياسين يرى نفسه الأكثر قربا من الشيخ السابق ومن ثم الأجدر بخلافته.. لكن وفي ظروف غامضة جدا ستنتهي الخلافة للشيخ حمزة، مما أثار غضب الشيخ عبد السلام ياسين الذي سيغادر الزاوية ويؤسس لاحقا جماعة العدل والإحسان. وكما هو معلوم، فإن هذه الجماعة المحسوبة على (حركات الإسلام السياسي الراديكالي) قد شكلت ولا تزال أقوى معارض للمؤسسة الملكية، ويكفي التذكير هنا برسالة “الإسلام أو الطوفان” التي بعث بها الشيخ عبد السلام ياسين سنة 1974 إلى الملك الحسن الثاني، وهي – كما أراد لها صاحبها – كانت رسالة نصح وتهديد في نفس الوقت، الأمر الذي قابله الملك الراحل بإيداع الشيخ ياسين مستشفى المجانين إلى حدود سنة 1978، حيث ستفرض عليه بعدها الإقامة الجبرية بمدينة سلا. وسيتكرر نفس الشيء مع الملك الجديد محمد السادس، حيث وجه له الشيخ “مذكرة إلى من يهمه الأمر”، غير أن رد فعل الملك الجديد كان جد عادي.

30- جريدة المساء، عدد: 19- 03-      2009

31- نفسه

32- نفسه

33- حسب كل من جورج بالاندي وجون ديفينيو، كأبرز ممثلي هذا الاتجاه المعروف بالسوسيو- دينامي، فإنه لا وجود لمجتمعات تقليدية وأخرى حديثة، بحيث لا وجود لنموذج تقليدي خالص وآخر حديث، بل من داخل كل مجتمع قد يتعارض النموذجين (السجلين) ونتيجة لهذه الدينامية يتولد نموذج ثالث… فالتقليد قد يحمل في رحمه بذور التحديث والعكس صحيح، ولعل هذه واحدة من أهم نتائج البحث السوسيو- أنثروبولوجي حول المجتمعات النامية أو في طريق النمو. يمكن الرجوع بهذا الخصوص إلى:

– Georges Balandier, Sens et puissance, Editions PUF, Paris 1971

– Jean Divignaud, Chebika : Etude Sociologique, Editions Galimard, Paris 1968

– Jean Divignaud, Le langage perdu, PUF, Paris 1993

– جورج بالاندي: الأنثروبولوجيا السياسية، ترجمة علي المصري، الطبعة الأولى، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1990

34- كان موقف هذه الطريقة الصوفية بمثابة رد فعل قوي ضدا على قوى سياسية معارضة للدستور الجديد، خاصة جماعة العدل والإحسان وحركة 20 فبراير بكل مكوناتها اليسارية؛ ولعل هذا ما يجعل منها الطريقة الأقرب إلى القصر.

35- معطيات “استطلاع ميداني” حول الحملة الانتخابية الخاصة بالانتخابات التشريعية لسنة 2016، وذلك بمنطقة الريف شمال المغرب. ولعل الأمر لم يتغير كثيرا منذ أول بحث ميداني قمنا به حول نفس المنطقة، وقد كان ذلك ما بين 1996 و 1999، وهو البحث الذي تم نشره في كتاب: الزاوية بين القبيلة والدولة، مرجع سابق.

36- يمكن الرجوع بهذا الخصوص إلى: جريدة المساء، عدد 22 – 03 – 2009.

37- يمكن الرجوع بهذا الخصوص إلى كتاب: الزاوية بين القبيلة والدولة، م س، ص ص. 322 -323.

38- اقتبسنا هذا التعبير من السوسيولوجي الأمريكي هوارد بيكر، وهو ترجمة للمصطلح الفرنسي: Les entrepreneures de la morale، أي متعهدو الأخلاق، ويقصد بهم كل من ينصب نفسه من أفراد ومؤسسات للدفاع عن الأخلاق والقواعد والمعايير الاجتماعية من الخرق، وبالتالي يؤشر على وسم  L’étiquetageكل عملية خرق هذه بالانحراف والخروج عن المعايير  La déviance. وفيما يتعلق بموضوعنا، فالمقصود بمتعهدي الأخلاق هنا، كل من الفقهاء ورجال الدين والدولة…

– Howard. S. Becker, Outsiders : Etudes de sociologie de la déviance, Traduit de l’Américaine par Jean-Pierre Briand, Editions Métailié 2012.

39- نعطي النموذج هنا – وبناء على نتائج بعض المقابلات التي أجريناها في كل من مدينتي مكناس وفاس، بحالتين: الأولى تخص إحدى مقاولات صناعة النسيج بفاس: حيث سيتم استغلال مناسبة حفل تأبيني لأحد أقرباء المسؤول عن المقاولة لحل مشكلة مع العمال، وبتوافق مع المسؤول النقابي الذي هو في الأصل من مريدي الطريقة البودشيشية التي ينتمي إليها المسؤول عن هذه الوحدة الإنتاجية.. فالانتماء الصوفي هنا لكلا الطرفين كان كفيلا بتقريب وجهات النظر بينهما، وبالتالي لتقديم حل للمشكلة بطريقة غير رسمية .Informelle أما الحالة الثانية، فمن مدينة مكناس، والأمر يتعلق بإحدى المقاولات المتخصصة في البناء والتجهيز.. حيث الانتماء الصوفي للطريقة العيساوية يعزز ثقافة الثقة أكثر بين العمال والإدارة، وهذا ما يسهر على تعزيزه المسؤول عن هذه المقاولة من خلال إشراك العمال في الاحتفال بالمناسبات الصوفية (خاصة موسم الشيخ الكامل)، كما يسعى إلى جعل الأخوة الصوفية فوق كل المنازعات.. ولعل هذا ما عبر عنه عدد من العمال المستجوبين بهذا الخصوص.

40- يمكن الإحالة هنا على الأبحاث التالية:

– Edmond Doutté, Magie et religion dans l’Afrique du nord, Alger 1909

– Henri Basset, Le culte des grottes au Maroc, Alger 1920

– Vincent Crapanzano, The Hamadsha: A Study in Moroccan Ethnopsychiatry, Ed University of California Press, 1981.

41- هذا لا يعني طبعا بأن حالات المرض العضوي ليست معنية بهذا التوجه الاستشفائي، بحيث أن المسألة هنا هي مسألة تمثلات بالدرجة الأولى: تمثلات المريض حول طبيعة مرضه وأسباب هذا المرض، مما تصبح معه بعض الأمراض العضوية ناتجة عن أسباب غير عضوية وغير مفهومة، الشيء الذي يتم تفسيره بقوى غير مرئية وغامضة من قبيل: السحر والأرواح والجن والعين… وهذا ما يوجه المريض رأسا نحو المزارات والأضرحة بدل العيادة الطبية… ولأخذ فكرة حول المسألة، يمكن الرجوع إلى كتاب: محمد جحاح، الزاوية بين القبيلة والدولة، مرجع سابق، ص ص. (310 – (312

42- يوجد ضريح (سيدي علي بوسرغين) بضاحية مدينة صفرو، بالأطلس المتوسط، وهو من المزارات المعروفة لدى العامة بعلاج بعض الحالات المستعصية كالصرع وبعض الاضطرابات النفسية الحادة مثل الفصام الذهني وغيره. كما يوجد ضريح (بويا عمر) على بعد 30 كلم من قلعة السراغنة، جهة مراكش. ولعل شهرة هذا الأخير تبقى أكبر، كما يأتيه زوار من خارج المغرب أيضا. وحسب الاعتقاد الشائع، فإن مثل هذه الحالات النفسية المستعصية (الصرع، الفصام الذهني أو السكيزوفرينيا…)، إنما هي ناتجة عن حالات المس أو التلبس بالجن والأرواح الشريرة. لذا وفي غياب أية إمكانية لولوج عيادة الطب النفسي والعقلي، أو خشية الوصم الاجتماعي الذي يمكن أن يلحق عائلة المريض جراء ذلك، يتم اللجوء إلى هذه المزارات، ربما بعد حالات اليأس من تجريب طرق أخرى من قبيل “الرقية الشرعية”، أي التداوي بالقرآن، أو اللجوء إلى طريق السحر. ما يميز هذه الأمكنة، خاصة ضريح بويا عمر، هو طريقة التعامل الوحشية مع المريض والتي تبدأ بعزله في مكان منفرد، وكذلك تقييده مع ضربه وتعذيبه بشكل ممنهج بدعوى طرد الجن أو الروح الشريرة التي تتلبسه L’exorcisme، وذلك في مقابل دفع أموال للقيمين على الضريح ثمنا لكلفة “الإيواء” و”العلاج”. لقد تم مؤخرا، وبفضل نضالات مريرة من قبل نشطاء مدنيين وحقوقيين وغيرهم، إغلاق الضريح الذي أصبح معروفا بـ”غوانتانامو المغرب” تعبيرا عن ظروف الحجز والعزل الفضيعة التي كان يعيشها النزلاء فيه؛ كما تم نقل النزلاء الذين تقدرهم الإحصائيات بحوالي 2000 نزيل، 356 منهم من النساء، إلى مصحات للطب العقلي والنفسي.

43- استمرت هذه المقابلة – التي أنجزت خلال عطلة الصيف الماضي – لمدة خمس ساعات تقريبا، وهي من نوع المقابلات المفتوحة (على شكل محادثة). الشخص المعني بالمقابلة طبيب متخصص في جراحة العظام والمفاصل، له عيادته الخاصة بباريس، يبلغ من العمر حوالي الستين، وينحدر بأصوله من منطقة الغرب المغربي.

 

رأي واحد حول “التصوف وأسئلة العودة: في سوسيولوجيا الحراك الصوفي بالمغرب”

  1. موضوع في غاية الاهمية خاصة ونحن -العالم العربي والافريقي- يعيش الربيع العربي.. في السودان ربما يطرح سؤال الدولة والدين مع ارتفاع صيت الوسطية التي يتبناها حزب الامة ذو المرجعية الصوفية، جماعة الانصار- والان بعد نجاح ثورة سبتمبر علا صيت الجمهوريين -محمود محمد طه- بما يمكن ان اسميه حداثة التصوف في فكره.. ربما السؤال كيف اصبح فجاءة محل اهتمام السلطة الجديدة المدنية. وكيف يؤسس لحكم في ظل ثقافة التصوف التي تسم السودانيين المنفتحين باتجاه العولمة…. الخ؟

    رد

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.