التحولات الاجتماعية و الممارسات الدينية

dynia6

التحولات الاجتماعية و الممارسات الدينية

خالد محمد*

هل حقيقة اختفى نمط الحياة الريفية، عبر انتقال جزء من الريف إلى المدينة، و ما تبقى منه تكيف مع نمط الحياة الحضرية؟

إننا نتحفظ من هذا الطرح خاصة المتعلق منه بانتقال نمط الحياة الحضرية إلى الريف، فرغم انتقال بعض مظاهر الحياة الحضرية، فإن عالم الريف ما زال يحتفظ ببنيته التقليدية القبلية، و أسلوب إنتاجه الفلاحي و إدراكه الزماني، قياس الوقت …الخ

من هذه الملاحظات نلج إلى تناول المعتقدات التقليدية و الممارسات الدينية حاضرا عبر التساؤل عن دور المدينة و المدرسة في تبليغ المعرفة الدينية بالحلول مكان المؤسسات التقليدية : المسجد أو الزاوية.

إن الأزمة التي يمر بها مجتمعنا حاضرا هي التي وضعت نمط المعتقدات التقليدية في أزمة، و تبليغ المعرفة الدينية محل تساؤل، لارتباطها بالتحولات التي يمر بها المجتمع و هذه الوضعية ليست جديدة فقد حدث مثلها في مراحل تاريخية معينة كالانتقال من العهد المرابطي إلى العهد الموحدي …إلخ.

و عليه فإن الأزمة و التساؤل ناتج عن علاقته بالطارئ المتغير، لا العادي الثابت، و نابع من السياسي لا الديني، فمصدر الأزمة مرتبط بالصراعات السياسية التي ألقت بظلالها على الممارسة و المعرفة الدينيتين، لأن المعطيات التاريخية والميدانية تمدنا بما يكفي من المعلومات و البيانات التي توضح هذا الطرح، و غنى التجربة التاريخية و التغيرات التي مر بها المجتمع الجزائري في صيرورته التاريخية ابتداء من العصر الحديث ثرية في هذا المجال، فهي تزودنا بما يفسر علاقة العمران بنوعية البدوي و الحضري بالمفهوم الخلدوني مع المجال الحيوي، ووظيفة و مكانته في هذه العلاقة، و التطورات التي مرت بها، عبر مدلول الخطاب الرمزي الأسطوري المستمد من الـدين. فما نوعية هذه العلاقة و ما هي التغيرات التي عرفتها ؟ و ما هي حدودها و درجة تأثيرها ؟ و ما الجديد فيها مقارنة بما قبلها من الفترات؟

المجال الحيوي و المقدس في الخطاب الرمزي الأسطوري :

إن أهم تغير حدث كان في علاقة الأفراد و المجموعات بالمجال الحيوي في العمران البدوي، أو النسيج في العمران الريفي الحضري، حيث أصبحت القداسة تلعب دورا محوريا بين العمران و مختلف مكوناته المادية و البشرية و الروحية، وهذا نتيجة التحول في طبيعة الحركة الصوفية، التي طورت إلى المؤسسة الطرقية، والتحولات التاريخية من سياسية –إقتصادية واجتماعية- ثقافية في نهاية العصور الوسطى، و بداية العصر الحديث، و الذي أدى إلى ضرورة تكيف البنى الاجتماعية مع المؤسسة الطرقية، بسبب الضغط الناتج عن هذه التغيرات. و ضمن هذا التحول سجلنا تطورا على جانب كبير من الأهمية و الخطورة، تجسد في حدوث قطيعة بين البنى الاجتماعية القبلية القديمة و البنى الاجتماعية الناشئة حديثا على أنقاضها، حتى يحدث الانسجام بين هذه الأخيرة و المؤسسة الطرقية، و لا يحدث التصادم في ولاء الأفراد بين انتمائهم إلى طريقة صوفية و في نفس الوقت انتمائهم إلى مجموعة بشرية-قبلية، و قد نتج هذا التطور بأن أصبحت القبائل مبنية على القداسة مجسدة في الولاية الدينية المستمدة من الكرامة الصوفية و النسب الشريف (أولاد سيدي) بدلا من الربطة الدموية حقيقة كانت أم وهمية وحدها، مثلما في ذلك مثل الطريقة الصوفية، مما أدى إلى انكفاء الولي –المرابط- مؤسس المجموعة البشرية-القبلية، لصالح القطب مؤسس الطريقة الصوفية، أو الاندماج في بعضهما البعض (كسيدي الشيخ..) مؤسس القبيلة و الطريقة.

لقد جاء هذا التحول نتيجة استحالة ارتكاز القبائل على رابطة الدم الحقيقة أو الوهمية وحدها بسبب تنوع العناصر التي تشكلت منها هذه القبائل، من بربر، وعرب، و مهجري الأندلس، و ذلك أن العامل الروحي الديني وحده صار هو الأقدر على تقوية التلاحم بين هذه العناصر و تمتين صلابتها، إضافة لما يرمز إليه المقدس من بعد أسطوري، يمتد فـي أعماق التاريخ الديني، عبر الارتباط الدموي بالنسب النبوي انطلاقا من الرسول (ص)، و انتهاء بسيدنا إبراهيم مرورا بإسماعيل و ما يمثله من رمز ديني حضاري، يعكس اتجاها عاما نحو التحضر، عبر الارتباط بهذه السلسلة ذات الأصول الحضارية النابعة من حضارات بلاد رافدين بالعراق، فالنبي إبراهيم إضافة إلى رسالته الدينية التوحيدية؛ فقد أدى دورا حضاريا هاما، بتأسيسه لمراكز حضارية في بيئات بدوية، فهو مؤسس مدينة حبرون –الخليل جنوب فلسطين، و مكة بالحجاز، و هو العمل الذي أصبح سيرة للأمراء المسلمين في البداية مثل تأسيس القيروان بتونس من طرف عقبة بن نافع، و مدينة فاس بالمغرب من طرف إدريس الأكبر، و واصلها بعدهم الأولياء المسلمين بداية من العصر الحديث[1] مما يبين منذ هذه الفترة على الأقل أن هناك اتجاها عاما للمجتمعات المغاربية نحو التحضر و التمدن، إلا أن الواقع المعيش يبرز عكس ذلك، إلى حد التناقض بين الخطاب الرمزي الأسطوري المتجه نحو التحضر و الحالم به إلى حد الهوس، والواقع الاجتماعي المدعم بآليات الحفاظ على الأمر الواقع، بانتشار العمران البدوي حتى داخل العمران الحضري. والتساؤل المطروح هو، لماذا بقيت الغلبة للطابع الريفي البدوي في المنطقة، و لم تتمكن من تحقيق هدفها في التمدن والتحضر رغم ربطه بهذا البعد الرمزي الديني؟ و هو مجال لعمل مستقل خارج عن هذا الموضوع نعكف حاليا على إنجازه.

حدود التغير في المجتمع الريفي و البدوي :

سنتناول في هذا المحور علاقة هذين النمطين من الحياة الاجتماعية، مع المجال الحيوي لأنها في تقديرنا هي التي تحدد مدى التغير الذي عرفه عالم الريف والبداوة أكثر من غيرها.

إن انتشار بعض القيم المعيارية و الأنماط الثقافية، و أشكال التنظيم المتنوعة، السياسية كالأحزاب، و الاجتماعية كالنقابات، و مختلف أنواع الجمعيات الثقافية والخيرية…الخ، و الاقتصادية كالوحدات الصناعية، والتربوية كالمدارس الحديثة وغيرها، في الأرياف و البوادي، و استهلاك المنتجات و السلع الحديثة، و بعض المظاهر التي تشير إلى تغلغل نمط الحياة الحديثة، و التي تبدو للوهلة الأولى ذات أصول حضرية، هي في الحقيقة واردة من وراء البحر، و ما المدينة إلى محطة عبور لها، عبر الاتصال المباشر في العهد الاستعماري، أو غير المباشر عبر وسائل الاتصال الحديثة في الوقت الراهن.

فالعالم الريفي – البدوي الذي ربما قد يظهر لأول وهلة، انه عرف تغيرا عميقا من خلال انتقال قيم و أشكال الحياة الحضرية، لا يبدو كذلك في الواقع عند التعمق في دراسته، حيث أن البنية الاجتماعية القبلية، و أنماط الملكية المشاعية، و أسلوب الإنتاج الرعوي – الزراعي، لم تعرف تغيرا واضحا وعميقا، ذلك لارتباط هذه العناصر مع بعضها البعض، فالانتماء للقبيلة والارتباط بها، هو الذي يمكن من الإنتفاع بالأرض رعيا و زراعة، لأنها ملك لجميع أفراد القبيلة، فالملكية جماعية والانتفاع شخصي، كونها خاصة بالقبيلة على الشيوع لا على التعيين. و قد طرح هذا الوضع عدة مشاكل وكمثال يوضح ذلك و يبين محدودية التغير قضية ترسيم الحدود بين أراضي القبائل أو فروعها، حيث يعتقد الجميع أن تغيير معالم الحدود –الرسم- ينجم عنه نزع الملكية آليا، و هذا هو الواقع في حالة النزاع بين أولاد ساسي و أولاد حركات المتفرعين عن عرش أولاد زكري بمنطقة أولاد جلال، ولاية بسكرة، حيث يتوفران على ثلاث مخططات لترسيم معالم الحدود بينها، وكل من هذه المخططات يطرح نزاعا بين الفريقين، لعدم ثبات معالم الحدود و تغيرها حسب كل مخطط.

و قد ازدادت هذه النزاعات حدة عندما شرع في عملية استصلاح الأراضي، والتي تعني خوصصة الملكية القبلية، و ملا ينجم عنه من دخول نمط وأسلوب إنتاج جديدين و قيم غريبة كامتلاك و ثائق الملكية التي تعني الحيازة الدائمة، و تحديد الملكية و تشخصيها برسم معالمها (الزْرَبْ) وبالتالي يمنع الغير من الاستفادة منها ولو باستعمالها كممر عبور. و هذه حال النزاع بين عشائر (رفقة) الخراشفة من عرش أولاد حركات، و النزاع الناشب حديثا بين أعراش النمامشة في صحرائهم جنوب ولاية خنشلة الذي فجرته عمليات الاستصلاح التي شرع فيها حديثا.

و تبدو الوضعية في القرى أقل حدة لدى القبائل الريفية منها لدى البدوية، إلا أن ما يساعد في استمرار سيطرة البنية القبلية في التركيبة الاجتماعية الريفية وجود إمدادات للقبائل البدوية في القرى الريفية بسبب موجات الهجرة البدوية نحوها، مما ساهم في دعم القيم القبيلة فيها، و مكنها من الاستمرار و التأثير في القضايا المصيرية كالانتخابات، و لدى عمليات الحرث في السنوات الجيدة المطر، كالصراع حول معذر، لمحيصر، بين لبوازيد بالدوسن، و سليمة و رحمان بالمغير، و هما قبيلتان ريفيتان، وبصورة أدق تتحولان في هذه المناسبة إلى قبيلتين شبه بدويتين.

دور المؤسسة التقليدية في نقل المعرفة الدينية :

سنتناول في هذا المحور وظيفة المؤسسة الدينية التقليدية، كونها تقوم بدور محوري في تكوين ناقلي المعرفة الدينية، و التطورات التي حدثت المعتقدات التقليدية : عندما اندلعت أحداث جوان 1991 صرح أحد شيوخ الزوايا في المؤتمر الأول لهؤلاء، و الذي كان منعقدا في تلك الفترة : نزعتم منا الأطفال بحجة عدم أهليتنا للتربية الحديثة، و سلمتموهم للمدارس الرسمية والكشافة، و عندما شبوا هاهم يحرقون البلد، و تعجزون عن إيقافهم، فتنادوا لنا للعمل على إطفاء الحريق، حيث حوّلتمونا إلى ما يشبه رجال المطافئ، يتم استدعاؤهم عندما يشب الحريق فقط، فهل عندما تتمكنون من السيطرة على هذا الوضع المشتعل بمساعدتنا، تقولون لنا شكرا على المهمة و مع السلامة، و تهملوننا كما سبق؟ فارتفاع صوت شيخ الزاوية هذا مبني على معطيات ثقافية و تاريخية تدين دور السلطة السياسية المتحالفة مع السلطة الدينية الرسمية، و تفضح دور النخبة الحديثة في تواطئنا مع النخبة الدينية السلفية، بسبب التهميش الذي تعرضت له المؤسسة التي ينتمي إليها. و تؤكد الدور الذي أدته هذه المؤسسة و لا زال مستمرا، و ذلك من خلال المعطيات التالية :

* عجز المؤسسات الرسمية المكلفة بنقل المعرفة الدينية، و في مقدمتها جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، و مختلف المعاهد الدينية، كمؤسسات مكلفة بتكوين الإطارات المالكة للمعرفة الدينية، فقد قامت المؤسسة الدينية التقليدية بتغطية جوانب النقص لدى خريجي المؤسسات الرسمية، حيث وجدنا مجموعة من خريجي الجامعة الإسلامية، عاكفين على حفظ النص القرآني في الزاوية المختارية بأولاد جلال، كتكوين إضافي بعدي و لكنه أساسي، و قد توجد مثل هذه المظاهرة في مناطق أخرى من الوطن، لكن ليست لدينا المعلومات الكافية التي تؤكد أو تنفي هذه المظاهرة.

باعتبار أن السيطرة و التحكم في النص الديني الأساسي قرآن – حديث، شرطا أساسيا في ناقلي المعرفة الدينية أئمة، خطباء، فإن المؤسسات التقليدية المساجد والزوايا عبر محاضرها “ج محضرة” تلعب دورا مفصليا في نقل المعرفة الدينية بتحفيظ القرآن و الحديث، مما مكنها من القيام بدور رئيسي بالمساهمة في تكوين الإطارات المالكة للمعرفة الدينية، و الواقع يؤكد ذلك، حيث أن 95 من الأئمة والخطباء في مدينة أولاد جلال بولاية بسكرة كمثال لم يدخلوا المدرسة الرسمية قط، رغم أنهم جميعا من مواليد الخمسينات من القرن 20، أما الباقي فقد كانوا حافظين للقرآن بالموازاة مع مداومتهم على الدراسة في المدرسة الرسمية، و منذ إلتحاق الفئتين بمعهد التكوين الديني بسيدي عقبة ولاية بسكرة اضطرت الفئة الأولى لاكتساب المعرفة الحديثة، رياضيات، علوم، تاريخ، جغرافيا، التي كانت مفروضة كشرط إضافي، باللجوء إلى تنظيم دروس خصوصية في هذه المعارف. و قد كان من حسن حظ الدفعات الأولى في بداية الثمانينات الحصول عليها و اكتسابها من الدروس التي كانت تنظمها و تضمنها وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية خلال عقد السبعينات فيما عرف آنذاك بالجامعة الشعبية.

انطلاقا من توفر الريف على المؤسسات التربوية التقليدية، المحاضر الزوايا والمساجد بالمقارنة مع المدن، فإنه مازال يؤدي دورا هاما في مد المجتمع بالإطارات الدينية المكلفة بنقل المعرفة الدينية إلى جميع أفراده.

الحركية الملاحظة على المؤسسة عبر انخراط نوعية جديدة من الأفراد من ذوي المستويات العلمية المرتفعة، أفضت إلى تولي إلى قيادة المؤسسة من طرف إطارات سامية، أساتذة جامعيين…إلخ. و هو ما نعتقد بأنه سينعكس على دور و وظيفة المؤسسة في المجتمع، خاصة في مجال الحياة الدينية، و قد يمتد ربما إلى مختلف ميادين الحياة الاجتماعية، و هو ما يصعب من قدرة المؤسسات المنافسة أو البديلة من التغلب عليها و احتلال مكانها و دورها في الحياة الدينية.

الحركية الاجتماعية و الصراع الفكري و مكانة الدين :

إن التحولات الاجتماعية و الصراعات السياسية و الفكرية المرتبطة بها، هي التي تطرح الكثير من القيم و الممارسات للنقاش و الجدل، مما يحول في كثير من الأحيان المشاكل الحقيقية عن دائرة الاهتمام، و هو ما ينطبق على المعرفة و الممارسة الدينيتين؛ حيث صارتا محل صراع و جدال في ثلاثينيات القرن الماضي، وعادتا للبروز بحدة في التسعينات منه، بعد خمود استمر حوالي نصف قرن، و لعل المقارنة بين ما أثير من صراع و جدال في القرن الماضي و ما يثار حوله راهنا فيه ما يكفي لإلقاء الضوء حول هذا الطرح.

المواقف الفكرية و السياسية و الرؤية الدينية :

إن الحراك الذي عرفه المجتمع الجزائري، نتيجة الهزات التي تعرض لها على مدى قرن من الوجود الاستعماري، كشف عن كثير من التطور والتغير الناتج عن الاختلاط مع الوجود الأجنبي، و انتشار الفكر النهضوي الإصلاحي الوافد من الشرق، بعد الحرب العالمية الأولى، التي ساهمت بدورها في هذه الحركية الإجماعية، التي كانت شبه انفجار فكري و وطني أفرزته ممارسات سابقة، اتخذت الشكل التنظيمي لها في البداية بتشكيل جمعيات مدنية، إجماعية، ثقافية، دينية…الخ، و حركات سياسية، ابتداء بحركة الأمير خالد مرورا بحركة جماعة الإصلاح العائدين من المشرق، و انتهاء بالحركة الوطنية بشقيها الإصلاحي “جماعة النخبة” والثوري “حزب نجم شمال أفريقيا”

لقد أخذ هذا الانفجار شكل الحملة الدينية، باعتبارها السبيل الوحيد الذي كان مسموحا به من السلطة الاستعمارية، و هذا لا يعني أنها كانت سياسية عضوية، بل كانت هناك حدود بين السياسي و الديني، ذلك لأن المناخ العام و السياق التاريخي هو الذي أضفى الصبغة السياسية على هذه الممارسات، فهو الذي فرض على الحركة الدينية أخذ موقعها في المجتمع و التداخل مع الحركة السياسية.

في خضم هذه الأحداث و الظروف التي اكتنفتها، أفرز الواقع فكرتان أو اتجاهان :

المحافظ على القديم المستمسك بالمألوف، و المجدد الإصلاحي المساير للعصر بترك العتيق.

و كان الصراع بين التيارين طبيعيا و منطقيا للمنخرطين فيه، و كانت المنهجية التي اتخذها كلا الطرفين هي :

التركيز على التربية و التعليم، و الدعوة إلى المحافظة على السنة والجماعة بالنسبة للمحافظين.

الصدام مع الأمر الواقع ضد المحافظين و الطرقيين، بالنسبة لتيار الإصلاح و التجديد، من خلال محاربة البدع و الخرافات، و التخلي عن المذاهب القديمة بالعودة إلى الكتاب، و السنة الصحيحة.

أما مدار الصراع و محتواه فقد كان حول المسائل الخلافية بين الفقهاء والحكم عليها، و المتمثلة في كثير من الممارسات، كقراءة القرآن على الأموات، و الوسيلة بالنبي “ص”، و بالأولياء، و الاطعامات الخيرية “الزرد”، التي كان يقيمها أتباع الطرق الصوفية حول الأضرحة، و ما يصاحبها من تجمعات محرمة و رقص وشعوذة.. الخ من البدع و الخرافات.

رغم استنكار التيارين لبعض هذه الممارسات إلا أنهما يختلفان في الحكم عليها، فالمحافظون و بعض المصلحين يحكمون على فاعلها بارتكاب إثم أو مكروه، بينما المتشددون من التيار الإصلاحي يحكمون عليه بالشرك. و تطور الخلاف من النقاش و الجدال إلى السباب و الشتائم ثم إلى القطيعة، و تدخلت الصحافة في خضم هذا الصراع بفتح صفحاتها للكثير من الكتاب شمل حتى من ليس له استعداد علمي كافي في الموضوع.

لقد تم تأسيس جمعية العلماء المسلمين كهيئة تضم شمل الطرفين كمحاولة لتجاوز هذا الوضع، بالاتفاق مبدئيا على ترك المسائل الخلافية التي تثير الصراع والشقاق بين الطرفين، إلا أن هذا لم يدم طويلا، فسرعان ما رجعت تلك الصراعات بعد غياب قليل، و حول نفس المواضيع، التي اشترط عدم الخوض فيها، و ضمّنت في القانون الأساسي للجمعية، و قد بدأت بصورة فردية متقطعة ثم ازدادت حدتها شيئا فشيئا، خاصة من بعض المصلحين الذين اتخذوا فكرتهم كرسالة يجب أداؤها مهما كانت الظروف، و في مقدمتهم الشيخ الطيب العقبي، الذي تمادى في الإساءة للمحافظين، حتى تجرا في أحد دروسه بنادي الترقي بحضور مصطفى القاسمي شيخ زاوية الهامل، و أحمد بن عليوة شيخ الطريقة العلوية بمستغانم، قائلا : “لن ترضى عنك اليهود و لا النصارى – و لا شيوخ الطرق و الطرقيين- حتى تتبع ملتهم”. و هو ما أدى إلى انسحاب الشيخين احتجاجا على هذا السلوك، و كرد فعل على اشتداد هجوم المصلحين عليهم كتب أحد اتباع الصوفية : نبهنا مرارا وتكرارا إلى أن الزوايا يجب إصلاحها لا إعدامها.

و قد أدت هذه المهاترات و المشاغبات التي تفيض بالسباب و الشتائم بين أعضاء الجمعية و أتباعهم من مصلحين و محافظين إلى انقسام الجمعية التي لم تمر إلا سنة واحدة على تأسيسها، كانت كلها أو جلها للتخطيط والتبييت، لا لتوطيد ركائز الجمعية و تدعيم و حدتها، بل لفوز أحد التيارين بالغنيمة، المتمثلة بالاستيلاء عليها، و هو الأمر الذي تم للتيار الإصلاحي، وقد دفعت هذه النتيجة بالتيار المحافظ إلى تأسيس جمعية علماء السنة الجزائريين، التي وصف مؤسسوها قانونها الأساسي بالسراط المستقيم للسير عليه في ضوء الحق و الهداية، نحو الهدف المنشود للجمعية، وهو تعليم المسلم و تهذيبه بالثقافة الصحيحة، و حفظ عقيدته من الزيغ والتبديل، وتعريفه فروض دينه، و واجباته من معاملات و عبادات، و تربيته على آداب الشريعة، و حمله على مكارم الأخلاق و فضائل الأعمال، و إبعاده عن الرذيلة و الفحشاء و المنكر، و البدع الضالة على هدي الكتاب و السنة، والمذاهب الأربعة، وأصول الفقه، و التصوف و التَّدّيُّن على عقيدة الأشعري، ولتحقيق شعارها في الدعوة اختارت أسلوب الحكمة و الموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، و عدم التعرض للمسائل الخلافية، و النزاهة عن الشغب و العبث، و الابتعاد عن ممارسيها من المبطلين و المبتدعين، و هي إشارة لموقف جمعية العلماء المسلمين من المذاهب الأربعة التي تدعوا ضد هذه المذاهب، أولا تعتمد عليها، و لا تتقيد بها، وذلك قصد إثبات تأثر المصلحين بالمذهب الوهابي، الذي يعتبره المحافظون خارجا عن السنة والجماعة، و كانت سمعته سيئة لدى الشعب الجزائري، و هو ما يوضحه التعليق الذي ورد بإحدى صحف المحافظين على منع الشيخ الطيب العقبي من إلقاء دروسه بالجامع الكبير و هل تطهير المساجد الجزائرية من داء الوهابية وحلقات القذف و الشتم في أعراض المسلمين أحياء و أمواتا و خدمة الأغراض الانتخابية في المساجد يعتبر إساءة للدين؟

و من هنا فرغم البعد الثقافي الذي كان هو الجامع بين التيارين[2]فإن الاتجاه السياسي و المواقف الفكرية كانت تفرق بينهما، مثل قضية الاندماج التي طالبت بها
جماعة النخبة، و أيدتها في ذلك جمعية العلماء المسلمين عبر بعض أعضائها كالأمين العمودي،و الطيب العقبي، ضمن إطار محدود و هو المحافظة على الأحوال الشخصية، و فصل الدين عن الدولة، مما منح جماعة النخبة الحديثة- التي كانت في منظور النخبة الشعبية موضع ارتياب بسبب هذه السياسة- سند ديني متطور، فقد كانوا يحتجون بموقف العلماء منهم أمام تهجمات نجم شمال أفريقيا حزب الشعب الذي عارض هذه السياسة، واتهم المنادين بها إلى بيع الجزائر بثمن بخس لفرنسا، و أيدته في ذلك ببعض التحفظ جمعية علماء السنة، التي تحولت فيما بعد إلى اتحاد جامعة الزوايا الطرقية التي اتخذ بعض أعضائها موقف المتحفظ، لما يرون في الاندماج بأمة مسيحية من المروق عن الإسلام. و هو نفس الموقف الذي اتخذته هذه التيارات المتصارعة من مشروع “Blum – Violette” الذي تضمن في محتوياته قضية التجنيس و الحقوق السياسية. و لعل أحسن من عبر عم هذه المواقف والصراعات المتمخضة عنها، هو ما كتبه السيد فرحات عباس في تلك الفترة دفاعا عن الشيخ الطيب العقبي، لما منع من إلقاء دروسه في الجامع الكبير إن الذي علمنا إياه أساتذتنا الفرنسيين في المكاتب و الكليات : أن الإسلام الموجود في الجزائر، ما هو إلا صورة إسلام فقط، و أن عبادة الأولياء انقضى عهدها في العصور الوسطى المظلمة، فلم يكن العقبي ليعطينا هذه الحائق و لا الوهابية، و إنما أخذنا من أفواه الفرنسيين، فحياتنا الدينية و إن شئت حركاتنا الظاهرة و الباطنة لا تفي بالمقصود.

إننا نتخبط في أزمة أخلاقية لم تحل بأمة قبلنا، ذلك لأننا أهملنا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، تحت ضغط الموبقات مثل الربا، الخمر، السرقة، الكذب وأمهات المفاسد : كالجهل و الفقر…الخ و لم يكن في استطاعة برامج التربية والتعليم العتيقة أن تفي بالمقصود، خصوصا لما أهمل الزوايا زوايا هم، و ولوا وجهوهم شطر النيابات السياسية لجمع المال الوفير و النياشين. و أمام هذه الوضعية أبيح لنا أن نفكر في تحسين تربيتنا و إدخال النظام عليها، مثلما هو جار عند الكاثوليك، فقام رجال من ذوي الهمة والإرادة، فأسسوا جمعية المسلمين التي يمثلها الشيخ العقبي الذي يشير إليه القرار الإداري[3].

مكانة الدين و وظيفته في المجتمع المأزوم :

إن الصراعات التي ولدتها الأزمة الحالية، أقحمت الدين في حماتها، وإن لم يكن هذا الأمر وليد الأزمة الراهنة، بل كان قبل ذلك، حيث كانت التيارات المتصارعة، تبحث لنفسها باستمرار عن سند ديني من خلال تأويل النصوص الدينية، حيث تبدوا في الظاهر على الأقل بدون شرعية، و لا يمكن اكتسابها إلا بعد اعتماد شرعية المرجعية الدينية، نظرا للمكانة المتميزة للدين في المجتمع، وذلك منذ أيام الحزب الواحد، و خاصة قي فترة ما عرف بالخيار الاشتراكي، حيث استند التيار اللبرالي المعارض في مواجهته لتيار اليسار المؤيد للخيار، على تأويل النصوص الدينية التي تؤيد وجهة نظره، واليسار آخذ بدوره ما يناسبه من النصوص الدينية التي أولها في صالحه، وشهدت الساحة حرب مفاهيم في ما عرف في تلك الفترة بمفهوم الإسلام الرجعي الذي استند عليه الليبراليون، في مواجهة مفهوم الإسلام التقدمي الذي استند عليه اليسار. و قد امتد هذا الاستغلال للدين إلى أعمق من ذلك باتخاذه نماذج لشخصيات من التاريخ الإسلامي كرموز معبرة، مثل الخلفية عثمان بن عفان كرمز لبرالي، و الصحابي أبو ذر الغفاري كرمز لليسار.

و مع نهاية الثمانينات، و على امتداد عقد التسعينات من القرن الماضي، بسبب تفاقم الأزمة بمختلف أوجهها، السياسية، الاقتصادية الاجتماعية والثقافية … الخ. انفجر الصراع سياسيا و فكريا بين مختلف التيارات المتصارعة متخذا من الساحة الدينية ميدانا له، مما حرف النقاش عن الأزمة، و أسبابها الحقيقية حتى بدا وكأن الصراع جوهره دينيا، خاصة و أن التيار الديني منقسم على نفسه إلى إصلاحيين أعادوا تأسيس جمعية العلماء المسلمين في ماي 1991، و تقليديين محافظين مهيكلين في الجمعية الوطنية للزوايا التي أسست في جوان 1991، كامتداد لاتحاد جامعة الزوايا الطرقية، مع بروز طرف ثالث و هو السلفية بفرعيها العلمي الذي دأب باستمرار على التشكيك في الكفاءة العلمية لرجال الدين المختلفين عنه والجهادي الذي سلك طريق العنف كأسلوب للتـغير، و تحول في النهاية إلى إرهاب أعمى أغرق البلاد في بحر من الدماء، و بانغماس الصحافة في هذا الصراع كما في الفترة السابقة، بفتح صفحاتها للجميع،بما في ذلك من ليس من ذوي الاختصاص لمناقشة مثل هذه القضايا بل امتد و توسع حتى شمل من ليس له المستوى العلمي والفكري لمقاربة مثل هذه المواضيع، و لعلى ذلك التراشق بالبيانات الذي وقع بين الإصلاحيين و التقليديين المحافظين على صفحات الجرائد وانقسام التيارات السياسية و وقوفها إلى جانب هذا التيار أو ذاك يمثل نموذجا حيا لصراع هذه الفترة، و الذي انطلق من محاولة الفريقين الاستيلاء على المساجد، و هي نفس القضية التي كانت محل صراع بين التيارين الإصلاحي و المحافظ في الثلاثينات من القرن الماضي، فالإصلاحيين عبر الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة كانوا يهدفون إلى السيطرة على المساجد، ويرون بأنهم أحق بها من غيرهم لعلمهم، و المحافظون يرون أنهم أحق بذلك لأنهم أصحاب الحق الشرعي الديني و التاريخي. و تـوسـع إلى نبش تاريخ وماضي الفريقين البعيد و القريب و تبادل التهم بينهما على ما وصلت إليه حال البلاد و دور كل فريق في هذا الوضع. فقد ورد في بيان موقع من طرف الشيخ أحمد حماني، باسم جمعية العلماء المسلمين : سمعنا في المدة الأخيرة بعقد مؤتمر لطائفة من الناس لا يؤمن عليهم من الخناس الوسواس… بل يشهد تاريخهم على أنهم كان أسلاف أنهم، غارقين في النوم و الانحطاط، التأخر والافتراق و الطائفية، مما أدى بالأمة إلى الجهل و التأخر والانحراف عن التوحيد. و سمعنا أن هذا المؤتمر يدعوا الأئمة إلى الانحياز و الانخراط في حزب الزوايا، التي كان بعضها أيام النهضة الوطنية في حراسة القبور والقباب و عبادتها و تقديم النذر إليها، و تقديس مشايخها لنسبهم لا لعلمهم، ثم أن بعض هؤلاء المشايخ كانوا منحازين للاستعمار حتى آخر لحظة، و لكننا نراهم في هذه الأيام تحركوا لأنهم حرِّكوا [4].و قد رد على ما ورد في هذا البيان الأمين العام لجمعية الزوايا الطرقية السيد مصطفى السنوسي ببيان مستهلا إياه بالتساؤل عن غضب الله الأئمة الذين تكونوا في الزوايا و لم يغضب عليهم فكيف يغضب عليهم بعد أن صاروا أئمة؟ مشددا على براءة الزوايا مما وصلت إليه أوضاع البلاد لأنها لم تشارك لا في التسيير و لا حتى مجرد إبداء الرأي في شؤون الدولة، متهكما عن دور رجال الإصلاح الديني، و ما نتج عنه افتراق الكلمة و انتشار الفتنة، ودر تلك الملتقيات التي كانوا ينظمونها باسم العلوم و الإسلام و مساهمتنا فيما وصلت إليه الأمور في البلاد [5].

و الخلاصة فإن محتوى هذا الصراع و الأشكال التي اتخذها و الأدوات المستخدمة فيه أظهر و كأن الساحة لم تتغير منذ نصف قرن، و هو الأمر الذي حول مجرى النقاش عن الأزمة التي تضرب المجتمع عبر مختلف تجلياتها، و ظهر وكأن أزمة المجتمع هي في العمق أزمة دينية، و إن كان الإصلاح الديني له دور في تطور المجتمع، لكنه ليس هو الدور الالظا&دوات الحاسم وحده في هذا المجال، بل أنه ضيع الوقت والجهد الفكري في التصدي للأزمة الاجتماعية في العمق، و هو وضع يبدو نتيجة الفقر الفكري و الضعف التنظيمي للتيارات المتصارعة في المجتمع.

ملحق 1

ملحق 2


* المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ، الأنثروبولوجية و التاريخ

[1] . خالد، محمد .- العمران و المقدس- المدن المغاربية في العصر الوسيط : تأسيس و تنمية يوم دراسي المركز الوطني للأبحاث عصور ما قبل التاريخ، الأنثروبولوجية و التاريخ، ديسمبر 1997.- ص.ص 17-22.

[2] . حول العلاقة الثقافية بين هذه التيارات يمكن الرجوع إلى شهادة السيد علي كافي التي توضح نوعية العلاقة بين الزوايا و حزب الشعب في الميدان التربوي و التي تبدوا مع حد أدنى من التعاون مذكرات على كافي الملحق رقم 1، الجزائر، 1999.

[3] . لمزيد من التفاصيل حول الصراع بين مختلف التيارات في الساحة و التحالفات التي تبدوا غير طبيعية في خضم هذه الصراعات يمكن الرجوع إلى : عبد الرحمن بن العقون : الكفاح القومي و السياسي. من خلال مذكرات معاصر : الفترة الأولى 1920 – 1963 الجزء الأول المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر 1984 من ص 171 إلى ص 299.

[4] . لمزيد من التفاصيل راجع بيان جمعية العلماء المسلمين بإمضاء الأمين العام، الشيخ أحمد حماني. الملحق رقم2.

[5] . للإطلاع على محتوى رد الجمعية الوطنية للزوايا راجع نص البيان الصادر بإمضاء الأمين العام السيد : مصطفى السنوسي الأمين. ملحق رقم 3.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.