البحث الأركيولوجي في مواجهة أنثروبولوجيا التوراة

عماد رحمة*


تشكل دراسة التوراة واليهودية من وجهة النظر التاريخية إحدى أكثر الأمور صعوبة وتعقيداً بالنسبة للدارسين والباحثين في حقل التاريخ.

فالمصدر الأساسي المتوفر بين أيدي الباحثين والمؤرخين هو نصوص التوراة وأسفار الكتبة وما يسمى حسب التعبير اليهودي الأنبياء, بالإضافة إلى الأبوكريفا.‏

ومن النادر جداً أن نحصل على اتفاق بين المعلومات الواردة في تلك الروايات التوراتية وبين المعطيات التاريخية المتحققة في ضوء المكتشفات الآثارية الحديثة, ونحن كمسلمين نعتقد أن القرآن الكريم هو الذي يؤكد أو ينقض أو يصحح ما ورد في تلك الكتب أي (الكتاب المقدس), كما قال تعالى: ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ]سورة النمل: 67[.‏

ولم ننسَ ما قاله الله جل جلاله في الكتاب العزيز عن الذين هادوا بقوله: ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) ]سورة المائدة: 44[.‏

أجمعت الدراسات والأبحاث التي أنتجها الغرب خصوصاً, أن لليهود على مر العصور قيادةً دينيةً عالمية توجّه وتقود النشاط المادي والروحي اليهودي, إلا أن تطورات القرن التاسع عشر ساعدت هذه القيادة على استنباط صيغة جديدة لعملها وهي اهتمام الصهاينة باصطناع ثقافة يهودية تقوم على ربط اليهود بتاريخ فلسطين لغوياً ودينياً وعرقياً, واستخدام المعارف التاريخية الحديثة بعد طمس حقيقتها لإثبات التاريخ التوراتي, لقد استأثرت الدراسات اللاهوتية والدينية من خلال خطاب الدراسات التوراتية بحق تمثيل التاريخ الفلسطيني القديم في فترة العصر البرونزي المتأخر وبداية العصر الحديدي, وفترات أخرى كثيرة غيرها.‏

لقد كان ذلك استمراراَ لحق ادعاه الرحالة الأوروبيون خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر, وخلال هذين القرنين أيضاً أصبح التاريخ الفلسطيني أحد التواريخ الكثيرة المستبعدة من التاريخ من جراء التسلط الذي مارسه المتخصصون في الدراسات التوراتية, وكذلك المؤرخون وعلماء الآثار على تاريخ فلسطين, وكانت نتيجة ذلك حرمان التاريخ الفلسطيني من مكان خاص به في الخطاب الأكاديمي الغربي.‏

ولقد تزامن اهتمام أوروبا الاستراتيجي بفلسطين مع سعيها لمعرفة جذور حضارتها كما حددتها (إسرائيل القديمة والتوراة) وفي قبول المتخصصين التوراتيين عموماً, بتصور الماضي كما جاء في ما يسمى (التراث التوراتي) فقد بدأوا بالبحث عن الوجود المادي ل (إسرائيل) من خلال الآثار والمباني الباقية في تلك الأرض, فكان ما حاولوا إيجاده أو ما كانوا ميالين إلى أن يجدوه هو (إسرائيل) شبيهة بدولهم القومية, فقد صوَّرت (إسرائيل) بأنها (دولة) ناشئة بحيث تبحث عن وطن قومي تستطيع أن تعبر فيه عن وعيها القومي.‏

لكن الدراسات والأبحاث الجادة الإنتروبولوجية والإركيولوجية أكدت على وجود رواية أخرى مناقضة للرواية التوراتية مفادها أن ديانة موسى التوحيدية هي ديانة مصرية, ولا علاقة لليهود فيها, وأن التوراة تم تدوينها بعد موت موسى بحوالي سبعمائة سنة, إلا أن أحبار اليهود الذين دونوا التوراة في الأسر وعلى رأسهم عزرا الكاتب والكاهن عزوها إلى موسى زوراً وبهتاناً.‏

يؤكد فرويد في كتابه (موسى والتوحيد) المعتمد على كتاب المؤرخ اليهودي يوسيفوس أن النبي موسى كان في بدايته قائداً عسكرياً مصرياً, وكان من أتباع أخناتون فرعون مصر الذي تبنى الديانة التوحيدية وهي ديانة تؤمن بإله واحد (آتون) يقع فيما وراء الشمس (آمون) وخالق الكون كله, وهو رب العالمين وليس إله مصر وحدها, وهو يشبه آلهة أخرى موجودة في أزمنة وأمكنة عديدة, ومن صفاته أنه ليس له صورة وهو لا يُرى ولا يُمَسْ, وتقوم العبادة الأخناتونية على السلم والإخاء الإنساني, وعلى رسالة إنسانية تبنى نشرها الملك امنحوتب الرابع الذي أطلق على نفسه الألوهية التي كان يتمتع بها ملوك الفراعنة, وضحّى بجميع ميزاته كي يؤدي رسالة التوحيد فكان بذلك أشبه بالنبي, وكان قد عمل على إلغاء الآلهة السابقة مثل آمون وإيزيس وحتحور….الخ كي ينادي بإله واحد.‏

وبعد أن مات أخناتون خلفه توت عنخ آمون الذي حارب الكهنة من اتباع آمون فنقض العقيدة التوحيدية, وأعاد البلاد إلى العقيدة الأمونية, ونقل العاصمة من تل العمارنة إلى طيبة, وامتدت موجة الاضطهاد ضد المؤمنين بالتوحيد الأخناتوني, وكان موسى منهم فهاجر إلى سيناء جامعاً بعض المضطهدين الذين آمنوا بالتوحيد, ولكنهم قد أنهكهم التيه في سيناء ثم عادوا إلى عبادتهم السابقة وخذلوا موسى وقتلوه, قال تعالى في كتابه العزيز:(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ) ]سورة آل عمران: 112[.‏

وقال تعالى في كتابه العزيز: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) ]سورة المائدة: 13[ وتولى يشوع بن نون بعد ذلك قيادتهم للتغلغل ودخول فلسطين, والواضح أن هذه المجموعة الغريبة عن فلسطين لم يكن لها أي حضور ثقافي أو سياسي أو ديني, فقد اندمج هؤلاء بالشعب الكنعاني وتكلموا لغته وانصاعوا لقيادته, ومن المؤكد أن اللغة العبرية هي ذاتها اللغة الكنعانية التي سرقها اليهود من أصحابها الكنعانيين وجعلوها لغة أبناءهم وأطلقوا عيها اللغة العبرية بعد أن شوهوها وأضافوا إليها عدداً كبيراً من الكلمات, وأصبح يطلق عليها اللغة الييدية أو الييديش, ولغة البروفنسال, ولغة اللادينو, أو الخورثمو, التي كتبوا فيها حقدهم الأسود ضد الأغيار, وهكذا لم تنتشر العقيدة اليهودية (الأخناتونية) لكنهم أوجدوا عقيدة مشابهة كتبوها في أثناء وبعد السبي البابلي (النفي) عام (539 ق.م) وليس من علاقة بين قوم موسى ويشوع الذين دخلوا فلسطين عام (1350 ق.م) وبين المنفيين إلى بابل عام (586 ق.م).‏

من هنا يتضح أن قوم موسى لم يكونوا من بني إسرائيل, وأن قصة بني إسرائيل أي آل إبراهيم كما وردت في التوراة لا تكرّم أصحابها, وإذا أخذنا التوراة مصدراً أساسياً لتاريخ إبراهيم الخليل فإننا نجده يقول في الإصحاح الرابع عشر من سفر التكوين: (فقال لإبرام: اعلم يقيناً أن نسلك سيكون غريباً في أرض ليست لهم, ويستعبدون لهم فيذلونهم أربعمائة سنة, وبعد ذلك يخرجون بأملاك جزيلة, وأما أنت فتمضي إلى آبائك بسلام وتدفن بشيبة صالحة).‏

*كاتب وباحث في شؤون الصراع العربي الصهيوني‏

عضو اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين, لجنة الدراسات والبحوث‏

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.