الأنثروبولوجيا والحوليات البطولية في قرية سورية

الأنثروبولوجيا والحوليات البطولية في قرية سورية: قبيلة الولدة نموذجا

محمد تركي الربيعو

كان عام 1960 هو العام الذي أطلق فيه الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي شتراوس تمييزه بين المجتمعات «الباردة» والمجتمعات «الحارة»، وهو التمييز الذي سرعان ما أثار نقاشات عديدة استمرت إلى يومنا هذا. فالأولى أي «الباردة» كما يسجل شتراوس تعيش في ظل الحفاظ على كينونتها، في حين أن الثانية تمتلك درجة حرارة أعلى حيال الأحداث، وبشكل أدق تستبطن (إن أمكن القول) التاريخ لتجعل منه محرك تطورها. وبعد عشرين عاماً على طرح تمييزه السابق؛ عاد شتراوس ليؤكد على أن هذا التمييز لم يكن بالأساس يعبر عن حالة واقعية أو تاريخية، بمقدار ما هو نموذج توصيفي، خاصة أن المجتمعات (الباردة والحارة) «لم يسبق لهما الوجود ولن يوجدا على الإطلاق». وبالتالي ووفقاً له فإن كل المجتمعات تاريخية، بيد أن البعض يعترف بذلك صراحة في حين ينكره الآخرون ويفضلون تجاهله. ولذلك، يقترح علينا شتراوس بدلاً من ترتيب المجتمعات حسب درجة تاريخانيتها التي هي نفسها بالنسبة للجميع، أن نقوم بترتيب المجتمعات وفقاً للطريقة التي تستشعر بها التاريخ، ووفقاً للصورة الذاتية التي تكونها عن نفسها وطرق مَفْصَلة الأحداث في الماضي والحاضر والمستقبل.
وكان لهذا الطرح الذي جاء به شتراوس أهمية كبيرة، خاصة على مستوى إعادة الزمن والحيوية إلى تاريخ المجتمعات البدائية، والتأكيد على أن تجاهل هذه الحيوية ناتج بالأساس عن موقف إثني معين، كما يشير إلى ذلك في كتابه «العرق والتاريخ». ولكن ورغم هذه الأهمية، إلا أنه (بحسب فرانسوا هارتوغ في كتابه «تدابير التاريخانية») لم يكن قادراً على استخدام مصطلح أدق لوصف كيفية تدبر المجتمعات «البدائية» لتاريخها ولطريقة صياغتها للأحداث اليومية، ونتيجة لذلك، فقد رأى «هارتوغ» أهمية الإسهام الذي قدمه لاحقاً الأنثروبولوجي الأمريكي مارشال سالان أثناء دراسته لتاريخ بعض الجماعات الموجودة في جزر المحيط الهادئ، إذ وصف الأخير طريقة رؤية ومقاربة هذه المجتمعات لتاريخها باعتبارها تعبر عن وعي ونمط من السرد التاريخي، يدعوه سالان بـ»التاريخ البطولي»، الذي يتسم بكونه تاريخ ملوك ومعارك، كما يقدم هذا التاريخ نفسه بوصفه تاريخ انقطاعات وانقلابات عنيفة وهي التي تؤلف الحياة العادية لحوليات الجماعة. كما أنه وفقاً لهذا التاريخ فإن كل فرد من الجماعة يسير على خطى سابقيه تاركاً الانطباع نفسه بأنهم في مجموعهم يشكلون شخصاً واحداً. وبالتالي، ضمن هذه الشروط تضيع العينات والإحصاءات، لأننا لسنا في عالم «كل شخص يعتبر واحدا»، بل بالأحرى في عالم «كل الأشخاص تعتبر واحدا». وتلك هي أول قاعدة في مجال «الإحصاء البطولي». ورغم أهمية وجدية هذا الطرح، فإن مما يسجله بعض الباحثين حول رؤية سالان السابقة، أن ما ذكره حول فهم وتأويل التاريخ البطولي وفقاً لأزمنة متعددة كان قليل جداً (قبل وأثناء وبعد قدوم الأوروبيين واستعمارهم للجزر، سواء لدى المستعمرين أو من جهة المستعمرين) (ص73 فرانسوا هارتوغ، تدابير التاريخانية).
ولعل الثغرة السابقة في رؤية سالان هي ما حاولت تلافيه الأنثروبولوجية الألمانية كاترينا لانغه أثناء قراءتها لموضوع سرديات التاريخ الشفوي وإنتاج التاريخ. إذ تبين للباحثة (من خلال دراسة إثنوغرافية أعدّتها في إحدى قرى قبيلة الولدة الواقعة على الضفة اليمنى لنهر الفرات بالقرب من مدينة الرقة)، أن النساء كثيراً ما أخبرنها أنهن لا يعرفن شيئاً عن التاريخ. بيد أن ما تبين للباحثة هو خلاف ذلك. فالعديد من السوالف والذكريات الشخصية لبعض النساء الطاعنات في السن كانت حبلى بالتاريخ القبلي وعلاقاتها بالمحيط الاجتماعي والقبائلي. ولعل في ملاحظتها هذه حول ادّعاء النساء بعدم امتلاك أي معرفة بالتاريخ ما يذكرنا بالإشارة المهمة التي أتينا على ذكرها لشتراوس في بداية المقال، والتي ترى أن كل الجماعات تاريخانية إلا أن البعض يدرك ذلك، بينما يتجاهلها آخرون.
أما في سياق قراءة لانغه لطريقة رواية حوليات القبيلة، أي معظم المرويات الشفوية وحتى بعض الكتب الحديثة التي أخذت تظهر في السوق السورية مع بداية التسعينيات حول تاريخ بعض القبائل، التي كُتبت في أغلبها من قبل مؤلفين ينحدرون من الأوساط القبلية، مثل كتاب صالح هواش المسلط «صفحات منسية من نضال الجزيرة السورية» وكتاب «عشائر الرقة ودير الزور: التاريخ والموروث» لمؤلفه محمد عبد الحميد، فتسجّل الباحثة، أنه غالباً ما كانت هذه المرويات تسرد تاريخها القبلي وفقاً لما كان قد أشار إليه سالان بـ«التاريخ البطولي» وهو التاريخ الذي يتكون من أبطال ومعارك وانقطاعات عنيفة. فمثلاً نجد لها ملاحظة تبين فيها أنه: «عندما أخبرني قرويو الولدة عن الماضي، ذُكِر بفخر اسما محمد الفرج المتوفى عام 1972 وشوّاخ البورسان المتوفى عام 1982 وأُشير إليهما على أنهما آخر شيوخ الولدة العظماء. وعلى سبيل المثال أُخبرت مراراً عن نفي محمد الفرج بين عامي 1942-1945 (انقطاع عنيف) بسبب رفضه بيع محصوله لميرة الحلفاء. وكذلك يُذكر ثاني أشهر شيوخ الولدة في القرن العشرين شوّاخ البورسان بسبب مقاومته للاستعمار (البعد الحربي للسردية البطولية) وسمعت روايات عن عدد من الحوادث واجه فيها مقاتلون من الولدة القوات الفرنسية أو البريطانية، أولها حسب التسلسل الزمني واجه فيها مقاتلون من الولدة القوات البريطانية عام 1919 الذي نسبه التأريخ التقليدي إلى رمضان شلاش، لكن أُخبرت في الحقيقة أن القائد الفعلي كان شوّاخ البورسان».
ورداً على أي تصور يرى أن الروايات الشفوية للجماعات البدائية (القبلية) أقرب ما تكون للأساطير منها للواقع التاريخي، تؤكد الباحثة أن غالب ما سمعته من روايات وأحداث استطاعت أن تعثر على تأييدات قوية لها في الأرشيف الفرنسي.
وفي سياق آخر تشير الباحثة إلى ما ذكره سابقاً سالان أثناء الحديث عن «الإحصاء البطولي»، إذ بدا لها أن السرديات حول الشيوخ كثيراً ما تقدمهم على أنهم أكبر من الحياة، وأنهم الأكثر سخاء، فهم وجه الجماعة البطولي، ووفقاً لسردية القبيلة «ينبغي عدم النظر إلى ذلك الكلام عن الكرم على أنه ميزة فردية تخص الشيوخ وحدهم، بل يجب أن يُفهم على أنه مأثرة جمعية يجب أن تُسجّل للقبيلة برمتها. وفي الواقع كان أبناء القبيلة في زمن الانتداب يزودون أسرة الشيخ بالهدايا والحملان، وطبيعة هذه الهدايا هي محل خلاف، إذ فسرها ضباط الانتداب الفرنسي على أنها علامة على الاستغلال، والحقيقة هو أنني حين سمعت بهذه المساهمة التي تُقدم إلى الشيوخ غالباً ما كانت تصور على أنها طوعية، وليست قسرية على الإطلاق، بمنزلة فعل من أفعال العون لأسرة الشيخ التي تستقبل ضيوفه وتعاملهم باسم القبيلة بأسرها».
ورغم أن التاريخ البطولي لا مكان فيه لعدم التكافؤ الاجتماعي والاقتصادي بين الشيوخ أبناء القبيلة، أو للتوترات والصراعات الأخرى بداخلها، فإن ما ترصده الباحثة في هذا السياق يخالف هذه القناعة (الأمر الذي كان محط نقد وخلاف لميشال سالان). إذ تُظهر بعض المرويات (التي رصدتها الباحثة)، شيوخ القبائل بوصفهم ملاك أراض، بعكس الرؤية البطولية السابقة، كما أن تسجيل الأراضي باسم شيوخ القبائل الذي بدأ أيام الحكم العثماني واستمر وتوسع خلال الانتداب، قد غيّر بين الشيوخ وأبناء القبائل تغييراً جذرياً، ولذلك تغير مكان شيوخ العشائر في السرديات السابقة واستُبدل بمكان جديد في الخمسينيات والستينيات مع بروز الرؤية القومية، إذ فقدوا فيها هالتهم البطولية وبدوا بمظهر ملاك الأرض النفعيين، بل المستغلين الذين انتهى زمنهم ضمناً مع مجيء النظام الاشتراكي والإصلاحات الزراعية.

 

المصدر: القدس العربي

https://goo.gl/umpv14

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.