الأنثروبولوجيا الاستعمارية

colonisation-02

الأنثروبولوجيا الاستعمارية

أو الأنثروبولوجيا كأداة استعمارية

 ليث عبد الحسين العتابي

 

إن الفعل الاستعماري قديم قدم التجمعات البشرية ، و لا يمكن لقائل أن يقول بأن الاستعمار قد اتخذ في البداية معنى ايجابياً ثم تحوَّل إلى السلب فيما بعد . فباستثناء تعمير المناطق غير المأهولة ـ على سبيل المثال ـ فإنه ترافقت مع الفعل الاستعماري ردود أفعالٍ شتى كالاستهجان ، و التنديد ، و الاستنكار ، و المعاداة الصريحة ، مضافاً إلى ردود أفعال المناطق المستعمرة ، و كذلك ردود أفعال بعض أفراد المجتمع الاستعماري نفسه .

إن ارتباط نشأة الأنثروبولوجيا , و بداياتها التاريخية بالاستعمار , حيث كانت الدراسات تتم على المجتمعات غير المتحضرة بهدف معرفة بنيتها التركيبية , و طبيعتها الثقافية , ليسهل استعمارها , فأصبحت ( الأنثروبولوجيا ) أداة استعمارية بامتياز هدفها تسهيل مهمة الاستعمار في السيطرة و استعباد الشعوب .

فـ( الاستعمار ) ( Colonization  ) هو : الاستغلال و الاضطهاد السياسي و الاقتصادي و النفوذ الثقافي اللذان تتعرض لهما بلدان هي عادة أقل تطوراً في المجالات الاقتصادية و الاجتماعية من الطبقات السائدة في الدول المستعمرة و التي تكون أكثر تطوراً .

ظهر بعده مصطلح : ( الاستعمار الجديد ) و هو : السياسة الكولونيالية التي تنتهجها الدول الامبريالية في ظروف تفكك و انهيار النظام الكولونيالي , و تعاظم حركة التحرر الوطني , حيث تعمد الدول الامبريالية إلى المحافظة على جوهر السيطرة الكولونيالية ( الاستعمارية ) باللجوء إلى أساليب اقتصادية و سياسية و عسكرية و ثقافية عديدة تنسجم مع الظروف الجديدة , هدفها إخضاع الأقطار المتحررة حديثاً ( المستعمرات السابقة ) إلى السيطرة الفعلية للإمبريالية , لكن بصورة جديدة و أسلوب جديد مخادع ، و تحت عناوين اكثر خداعاً .

لا يمكن إنكار دور المدرسة الأنثروبولوجية التي نشأت في ظل الاستعمار و التي خدمته ، و قدمت له المعلومات اللازمة حتى يتمكن من السيطرة على الشعوب المستعمرة و تحقيق مصالحه على حسابها و حساب مستقبلها .

و إذا ، كان تاريخ العلم الأنثروبولوجي لا ينكر على الإطلاق أن المدرسة الاستعمارية ، و خاصة تلك الموجودة في ردهة من ردهات الخارجية البريطانية لعبت دوراً مهماً في تأسيس العِلم الأنثروبولوجي ، و من ثم تطويره . إلا أن بعض علماء هذا العلم كانت تتنازعهم رغبة التحرر من هذه المدرسة ، و الانطلاق إلى دراسة المجتمعات مدفوعين بغايات إنسانية و منهجية ، من أجل أن يفهم العالم نفسه ، و ما له و ما عليه ، و ما هو المطلوب منه حتى يظفر بالتقدم و خاصة المجتمعات الأقل تطوراً و تقدماً في امريكا اللاتينية و آسيا و أفريقيا[1] .

لقد تحولت ( الأنثروبولوجيا ) أداة بيد السلطة ، أو بالأحرى أداة بيد السلطات الحاكمة في البلدان الأوربية التي كانت تشهد مع توسع البحث الأنثروبولوجي توسعاً جغرافياً مذهلاً حملها من حدودها الضيقة لتجد لها في كل جهة من جهات الأرض موطئ قدم ، و مواقع ، و مساحات جغرافية تفوق مساحاتها الأصلية بمرات . إن العصر الاستعماري الكلاسيكي ، هو عصر البحث عن مستعمرات ، و أسواق ، و عن أيدٍ عاملة ، و عن مواد خام ، و عن زبائن جدد يشترون صناعات غير متوفرة في أراضيهم كل هذا كان المنطلق الاساس للسياسات الاستعمارية الأولى . و الاستعمار ـ بشكل عام ـ لم يكن عسكرياً و حسب ، بل كان استعماراً شكلت الثقافة و في أكثر الأحيان سلاحه الأمضى .

يقول ( جيرار لكلرك ) : ( إن موقف الأنثروبولوجيا الاستعماري لم يتوضح بالفعل إلا بعد أن بدأت مرحلة إنهاء الاستعمار في العالم الثالث … يمكن القول إذن إن الإمبريالية الاستعمارية المعاصرة تتوافق زمنياً مع الأنثروبولوجيا المعاصرة … )[2] .

لقد بدأ علم الأنثروبولوجيا و تحت تأثير الاستعمار المصطبغ بالصبغة الدينية المسيحية ( التبشيرية ) بالتعرف على الشعوب ـ التي سيستعمرها و من كل جوانبها ـ لكي يتعرف على كيفية التعامل معها ، و بالتالي الهيمنة عليها .

لقد اعتمد المستعمرون ـ و تحت تأثير المؤسسات التبشيرية ـ على علماء الأنثروبولوجيا في دراسة ديانات الشعوب ، و طباعهم الاجتماعية و النفسية ، و مواردهم الاقتصادية ، كي يعرفوا كيف تفكر هذه الشعوب ، و كيف تعيش ، و ما هي أهدافها ،  و ما الذي يمكن أن يجتذب الناس في هذه المجتمعات . و مما لا شك فيه أن الدراسات التي قام بها علماء الإنسان لهذه البلدان قد أفادت الدوائر الاستعمارية فائدة كبرى في تسهيل السيطرة عليها ، فكانت نتيجة ذلك انطلاق الحركة الاستعمارية الكبرى و التي طالت أكثر من نصف الكرة الأرضية .

لا شك في أن مشروع ( عسكرة الأنثروبولوجيا ) الذي اعتمده الجيش الأمريكي ـ على سبيل المثال ـ في حروب العراق و افغانستان تحت ما يسمى ببرنامج ( إقحام علماء الأنثروبولوجيا في ميدان الحروب ) ( HTS ) يمثل أوضح صور توظيف الأنثروبولوجيا التطبيقية في ميدان الحروب و النزاعات .

و يشرح العقيد الامريكي ( ستيفن فونداكارو ) أهداف هذا المشروع بالقول : ( إن مهمة العلماء تقوم على تقديم فهم واضح للمشكلات التي يواجهها الجيش مع السكان المحليين ، حيث يتلقى الضباط هذه المعلومات و يقررون بموجبها طبيعة الإجراءات العسكرية التي عليهم اتخاذها )[3] .

لقد أسست الدول الاستعمارية مراكز للبحوث و الدراسات و أوكلت مهامها للأنثروبولوجيين المنضوين تحت سلطتها لدراسة ثقافات الشعوب و كل ما يتعلق بذلك وفق رؤيا ايديولوجية بامتياز .

لا يمكن إنكار الخدمات المتبادلة بين الاستعمار و الأنثروبولوجيا ، فكما قدمت الأنثروبولوجيا خدمات جليلة للحركة الاستعمارية ، فلقد استفادت الأنثروبولوجيا من الحركة الاستعمارية و التي كان لها أثر كبير في ( تقدم الدراسات و المناهج الأنثروبولوجية . فمن المعروف أن القرن ” 19 ” كان يمثل قرن التوسعات الاستعمارية بهدف استعمار المجتمعات البدائية من أجل احكام السيطرة عليها و استغلالها سياسياً و اقتصاديا و ثقافيا و دينياً ، و من هنا نشطت الدراسات الأنثروبولوجية بأهدافها النظرية و التطبيقية متخذة من هذه المجتمعات الصغيرة مجالاً لدراستها )[4] .

نعم ، لقد شغل ( إيفانز بريتشارد ) ، و ( ليتش ) ، و ( نادل ) وظائف في المستعمرات ، كما و ان ( هنري مين ) العضو القانوني في مجلس نائب الملك في الهند يعد واضع أسس علم الإنسان الخاص بدراسات القرية في الهند كما في كتابيه ( القانون القديم ـ 1861 ميلادي ) و ( مجتمعات القرى في الشرق و الغرب ـ 1871 ميلادي ) . و كذلك ( ليال ) الذي أصبح فيما بعد حاكم المقاطعات الشمالية الغربية فقد قام بنشر كتابه ( دراسات آسيوية : عقائدية و اجتماعية ـ 1882 ميلادي ) .

[1] : بحث من أجل مدرسة عربية في الأنثروبولوجيا النقدية ، عز الدين دياب ، ص 2 ، الفكر السياسي ، ص 222 .

[2] : الأنثروبولوجيا و الاستعمار , جيرار لكلرك , ص 12 .

[3] : في الأنثروبولوجيا والمجتمع ، عسكرة الأنثروبولوجيا ، كامل جاسم المراياتي .

[4] : المدخل إلى الأنثروبولوجيا ، وسام العثمان ، ص 72 .

رأي واحد حول “الأنثروبولوجيا الاستعمارية”

  1. حسنا هو مجهود جيد وممتاز ثمة سؤال هل يمكن اعتبار الانثربولوجيا التطبيقية مسمى مخفف للانثربولوجيا الاستعمارية ..

    رد

اترك رداً على مزمل عقاب إلغاء الرد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.