تحقيق الأمن والسلام الاجتماعي في ظل التعددية

السودان نموذجاً

أ.د. حاتم بابكر هلاوي

جامعة النيلين/ السودان

مقدمة:

علي الرغم من عدم وجود تعريف محدد للأمن المجتمعي لارتباط هذا المفهوم بمفاهييم أخرى كالسلام الاجتماعي والتعايش السلمي إلي أن الجانب النفسي فيما يتعلق بالفرد وإحساسه بأن علاقته بالآخرين إنما هي علاقة أمن وتعاون تشكل نقطة الارتكاز في تحقيق الأمن والسلام في المجتمع.

ولعل الأمن والسلام الاجتماعي تماما كما هي الغرائز الأخري يصعب الإحساس بوجوده ولكن غيابه كافيا لخلق العديد من التعقيدات الحياتية بل وإلي تدمير الحياة الاجتماعية بأسرها. وهكذا فالمطلوب ليس فقط تحقيق الأمن والسلام الاجتماعي ولكن ديمومة الأمن واستمراريته لا يقل أهمية عن وجوده. وبمعني آخر فإن السعي لتحقيق الأمن لا بد أن يرادفه سعي آخر في وجود الأليات التي تجعل منه وضعاً مستقراً ودائماً مما يعني وبصورة مباشرة البحث في تلك البؤر التي يمكن أن تهدد الأمن والسلام لتجفيفها.

ما المقصود بالأمن والسلام الاجتماعي:

إن الحديث عن الأمن والسلام الاجتماعي لا ينبغي أن يعني أن لكل من هذه الكلمات معان منفصلة وذلك لإن الأمن بمفهومه العام وليس الخاص إنما هو يرتبط بالمجتمع تماماً كالسلام ولعل الاستخدامات المهنية جعلت من كلمة الأمن وطيدة الصلة بالدولة وبالنظام السياسي وأن تحقيق الأمن (وظيفة) يقوم بها أفراد بعينهم بمقابل وربما كانوا هم أنفسهم غير آمنين، مما يعني أن الأمن الحقيقي هو أمن مجتمعي فالمجتمع هو الذي يحقق الأمن لنفسه وبنفسه وبمعني آخر فإن الأمن الذي تسعي الدولة لتحقيقه هو أمنها وليس أمن المجتمع.

وعلي ذات النسق يتسق الحديث حول السلام الأجتماعي  وهو مرادف للأمن المجتمعي ذلك لأنه في ظل الأمن المجتمعي ترفرف حالة من السلام الاجتماعي وبصورة أدق فإن استعداد أفراد المجتمع للتعايش معاً في مكان ما ورغبتهم في التعاون مع بعضهم البعض يفرض حالة من السلام الاجتماعي وتعني أن الأمن يصبح سائد وسط الجماعة ويقتصر دور الدولة في هذه الحالة علي المحافظة علي النظام الاجتماعي من أي احتكاكات قد تنتج من المدافعة لتحقيق التوازن بين الأنساق المكونة للكيان الاجتماعي ولكن عندما تصبح الدولة خارج عن المجتمع أو كيان مستقل عنه فإن التعارض بين أمنها وأمن المجتمع قد يؤدي الي اضطراب الحياة الاجتماعية كما أن رؤيتها لتحقيق السلام الاجتماعي ربما لا تكون هي رؤية المجتمع لتحقيق أمنه وسلامته.

إن أراء دوركيم في سيادة القانون العقابي في المجتمع البدائي(باعتبار مجتمع صغير) مقارنة مع مع وجود القانون المدني (أو التعويضي) في المجتمع الأكبر وانتقال التعاون من ميكانيكي الي عضوى إنما تعطي اعتقاداً بأن الصراع يرتبط أكثر بالمجتمع الصغيروالتي تطلبت وجود ( العقاب) علي حين أن الكثير من المفكرين يعتقدون أن التعويض عن الأضرار وتحقيق السلام الاجتماعي إنما يكون في المجتمعات الصغيرة وليست الكبيرة وليس أدل علي ذلك من وجود الشرطة وإلمام المختصين بكل أنواع المجتمعات الكبيرة وغيابها في المجتمع الصغير مما يعني  بالضرورة أن السلام الاجتماعي والأمن هو حالة استقرار نفسي لا يمكن توفره إلا في ظل قواعد تحافظ علي كافة حقوقه الإنسانية مما لا يتعارض ويتضارب مع حقوق وحريات الآخرين.

تعريف المجتمع التعددي:

يعرف البعض المجتمعات التعددية بتلك التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار بواسطة ثقافات أو أجناس أخرى والتي نالت إستقلالها بعد الحرب العالمية الثانية وتسعى الآن للانتقال إلى الدولة الأمة. وتتميز هذه المجتمعات بالتنوع الثقافي بل بسيطرة إحدى المجموعات على المجموعات الأخرى، وعليه فإن الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال يمكن النظر إليها باعتبارها مجتمعاً تعددياً شأنها شأن السودان أو أي دولة من تلك الدول التي نالت استقلالها مؤخراً على أن الخلاف هنا يرتبط بموضوع الديمقراطية والحرية. فعلى حين أن الديمقراطية هي التي تشكل الحياة في المجتمعات المتعددة (الموحدة) فإننا في المجتمعات التعددية (المنظمة) قد تحتاج لإجراءات غير ديمقراطية مما يعني أن المجموعات الثقافية المختلفة مواجهة بين خيار التذويب في المجتمعات الأخرى أو الحفاظ على خصائصها وهويتها الثقافية في علاقات الهيمنة والدونية مع المجموعات الثقافية الأخرى وعلى هذا الأساس فإن الدولة في المجتمع التعددي الموحد هي التعبير عن وحدة الأُمة وتلاحمها على حين أن الدولة في المجتمع التعددي المنظم هي الممثل السياسي للمجموعة الحاكمة وتُعد وسليتها في السيطرة وهي بهذا تعد تعبيراً لعلاقات الهيمنة سواءاً إن كان هذا النظام ديمقراطياً أو شمولياً.

التعدد الثقافي في السودان:

دخل العرب السودان عبر منافذ متعددة فمنهم من جاء من جهة الشمال من مصر ومنهم من دخل عبر البحر الأحمر ومن الهضبة الأثيوبية وهنالك عرب جاءوا من تونس مروراً بتشاد، فغرب السودان هم مجموعات عرب البقارة الجهينية الأصل والحمر وخلافها.

وتعتبر اتفاقية البقط بين العرب وأهل السودان حدثاً مهماً في العلاقات المشتركة فالسودان – وكما هو معلوم يضم القبائل الأصلية التي لم تكن نازحة

إلى السودان وهي في الشمال مجموعات النوبة وتضم الدناقلة والمحس والكنوز والسكوت وفي الجنوب تشمل القبائل النيلية ممثلة في الدينكا والنوير والشلك وفي منطقة جبال النوبة نجد النوبة بجميع فروعهم وهم يمتدون في ولاية جنوب كردفان وهنالك نوبة في غرب كردفان في أبو جولك وطبق ولقاوة وحمرة وتلشي وكذلك نوبة الجبال الصخرية في شمال كردفان وفي دارفور نجد مجموعة الفور وفي جنوب النيل الأزرق هنالك الفنوج والقمر والبرتا هذه هي القبائل السودانية الأصل. وما عداها من القبائل الأخرى التي تشاركها النسبة للسودان وتشاركها الحقوق المدنية والسياسية فهي قبائل وافرة من الجوار الأفريقي أو من الهجرات العربية خاصة وأن السودان يحاط بالعديد من الدول التي أثرت على السودان من الناحية العرقية والثقافية واكتسب السودان تنوعاً على تنوعه، وجعلته يتميز بخصائص قلما توجد في قطر آخر.

هذا وعلى الرغم من أن الديانات المختلفة ومعتقدات الأسلاف والكجور قد وجدت طريقها لمجموعات من القبائل السودانية إلا أن العلاقات بين القبائل المتجّمعة من جذور متباينة قد ظل يسودها الاحترام  ولم يكن الدين عندهم وإن بدت أشكاله متنوعة عنصر خلاف بل هو شأن يخص كل منهم.

وهكذا استمر الحال فعند دخول المسيحية السودان تعايشت مع الديانات المحلية دون نزاعات بل أن المسيحية لم تكن ديناً شعبياً بل كانت قاصرة على الملوك ذوي الشأن والطبقات العُليا، وحينما جاء الإسلام مع العرب استفاد العرب من هذا الواقع المتسامح وكان أن تحولت الممالك المسيحية للإسلام في أريحية مما أدى لتماذج بين العرب والزنوج وبين الإسلام والديانات المحلية خاصة في السودان الشمالي – حيث يقل هذا التماذج كلما اتجهنا جنوباً إلى منطقة جبال النوبة والأنقسنا حيث تقل المؤثرات العربية الإسلامية إلى أن تختفي في منطقة جنوب السودان، هذا وعلى الرغم من أن بعض الباحثين يرون أن السكان ومن ثم الثقافة السودانية يمكن تقسيمها لثلاث مجموعات حيث نجد العرب والذين ينتمون للثقافة الإسلامية والأفارقة ذوي الديانات المتعددة إضافة بالطبع للمسيحية وخليط يشكل السواد الأعظم بين العرب والأفارقة ويعتمدون على اللغة العربية ويدينون بالإسلام إلا أنه ومن واقع التقسيم اللغوي كما يشير د. جابر محمد جابر يمكن تقسيم السودان لسبع مناطق:

(1) منطقة شمال السودان:

وهذه المنطقة هي التي تسكنها قبائل النوبة والسكوت والمحس والدناقلة وتسود بينها لغات بذات المسميات وهي تندرج تحت اسم اللغات النيلية الصحراوية وتعتبر هذه اللغات لغة أُم مع انتشار اللغة العربية كلغة تخاطُب مشتركة بين العرب وغيرهم وبين المجموعات الفرعية المختلفة الأعراف والألسن.

(2) منطقة شرق السودان:

وتسودها لغة البجا بلهجاتها المختلفة من هدندوة وأمرأر وحلنقة وحباب وهنالك البشاريين والعبابدة والزبيدية والذين يتحدثون العربية كلغة أُم ثم أن قُرب هذه المنطقة من منطقة القرن الأفريقي وتداخل بعض قبائلها مع القبائل الأرترية والأثيوبية قد زاد من التنوع والتداخل اللغوي.

(3) منطقة جبال الأنقسنا:

وهذه المنطقة تسودها لغات نيلية صحراوية كالأنقسنا ومجموعات الفونج والبرتا والقمر وكان لقرب هذه المنطقة من مناطق الفلاتة في نواحي سنار ومايرنو والشيخ طلحة من ناحية ومجموعات عرب البقارة الرُحل من ناحية ثانية قد جعل من هذه المنطقة منطقة تداخل لغوي وتسامح.

(4) منطقة جنوب السودان:

تتحدث المجموعات العرقية واللغوية في جنوب السودان أكثر من خمسين لغة مما جعلها تعتمد على لغة عربية مهجنة في التعامل بين المجموعات المختلفة.

إن الخصوصية الاجتماعية والثقافية لمنطقة جنوب السودان قد نتجت من إطلالها على مناطق كينيا ويوغندا وأثيوبيا وأفريقيا الوسطى وزائير ولمشاركتها تلك الدول هويتها الثقافية ولعل قفل تلك المناطق ومناطق جبال النوبة خلال الإدارة الاستعمارية للبلاد قد لعب دوراً كبيراً في احتواء المؤثرات العربية والإسلامية ووسع من الفروقات الثقافية بينها وبين باقي منطاق السودان.

(5) منطقة جبال النوبة:

تتميز هذه المنطقة بسيادة اللغة العربية كلغة مشتركة بين المجموعات المختلفة ولعل الخاصية التي تميز تلك المنطقة أنها ومن حيث العادات والتقاليد ونتيجة للهجرات الداخلية والخارجية قد شكلت منطقة تباين استناداً لتأثير المسيحية والإسلام في محيط عُرف تاريخياً بأنه ضمن حزام القبائل الوثنية في السودان.

(6) منطقة غرب السودان:

تُعد هذه المنطقة امتداداً للغات الفور والزغاوة والمساليت واللغات الأفريقية كالهوسا والفلاني وتُعد اللغة العربية الدارجة هي اللغة المشتركة بين قبائل هذه المنطقة العربية الأفريقية ويشكل الإسلام دين غالبية السكان.

(7) منطقة أواسط السودان:

والمقصود بذلك هي مناطق السودان الوسطى في ولايتي الجزيرة والنيل الأبيض حيث تسود الثقافة العربية والإسلامية ولا وجود لأي تداخل لغوي في هذه المنطقة.

نلاحظ مما تقدم إن اللغة العربية في هذا الوضع المتعدد لغوياً قد كانت أداة تواصل سواءاً استخدمت منفردة أو مشتركة مع اللغات المحلية إلا أن هذا الاستخدام للغة العربية لم يرادفه تغير مواز في الأنماط الثقافية أو في التركيب الأثني للمجموعات المختلفة حيث ظلت الانقسامات الحادة بين المجموعات العربية والأفريقية راسخة ولم تتمكن تلك المجموعات من بلورة مفهوم الأُمة السودانية بعد.

مهددات الأمن والسلام الاجتماعي في السودان:

على الرغم من أن مهددات الأمن والسلام الاجتماعي ربما تختلف من دولة إلى أخرى وفق الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي إلا أن العديد من الباحثين قد سعوا لطرح مفهوم جديد يهدف إلى صياغة عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع وهو ما سمّىّ بمفهوم (الحكومة الجيدة) وأطلق عليه آخرون أسلوب الحكم (الموسع). وأسماهُ فريق ثالث بأسلوب (الحكم الجيد) وذهب البعد الآخر إلى تبني (الحكم المتحد) والحكم الشامل والتعبير الأكثر شيوعاً أصبح يتحدث عن (الحكم الراشد) خاصة بعدما بدأت الحكومة تتسم بصفات أكثر انعزالاً عن المواطنين وأكثر إلتصاقاً بالوظائف التنظيمية الإدارية.

إن هذا المفهوم قد كان نتاجاً للتحولات التي صاحبت نهايات القرن الماضي والتي مكن حصرها في الآتي:

1/ تزايد المشكلات العرقية والدينية في أقطار كثيرة من العالم وتفجر العنف بل الإبادة الدموية ليس في بلدان لم تنشر فيها عقيدة الحداثة من بلدان العالم الثالث بل من قبل العالم الغربي وعلى يد قوى كبرى.

2/ نمو الاتجاهات الأصولية المسيحية اليمينية في البلدان التي مثلت مهد التربية اللبرالية قد أدى لمراجعة المفهوم والتأكيد على محوريته لمواجهة هذه الأفكار وآثارها على الواقع السياسي والاجتماعي الغربي المعقد من وجود أقليات عرقية ودينية منها العربي والمسلم.

3/ وصول الفردية كفكرة مثالية لتحقيق حرية وكرامة الفرد إلى منعطف خطير في الواقع اللبرالي بعد أن أدى التطرف في ممارستها وعكوف الأفراد على ذواتهم الضيقة إلى تهديد التضامن الأساسي وتراجع الاهتمام بالشأن العام والصالح الخاص ولعل التحولات التي شهدتها العديد من الدول العربية والإسلامية ويأتي السودان في مقدمة هذه الدول يمكن تلخيصها في أمرين أساسين:

أولاً: الهوية الثقافية حيث تعد هذه القضية من الموضوعات الرئيسية باعتبارها تمثل الجانب الثقافي للأزمة خاصة وأن التعامل معها كان بقصور واضح مما أدى لظهور أزمة هوية بعد أن تعرضت البلاد لمحاولة التفتيت من جهة وإلى سلسلة الاختراقات الاجتماعية والفكرية والنفسية مما عرضها ويعرضها ككيان حضاري إلى التهديد والتشرذم والتمزق ساعدت العوامل الخارجية في جعل هذه العناصر إلى عناصر للقضاء والصراع بدلاً عن الإنسجام.

ثانياً: الاندماج الوطني:

ولعل الشعور بالانتماء قد تأثر كثيراً بفضل جماعات تتكلم العربية ولكنها لا تشارك العرب حسهم القومي كما أن هناك جماعات ذات انتماء عربي لا تتكلم العربية فضلاً عن وجود قبائل لا تتحدث العربية ولا تحس بالانتماء العربي ولو أضفنا إلى ذلك موضوع التباين في الانتماءات الدينية ودور السياسات الاستعمارية وأنظمة الحكم الوطني بالبلاد في تعميق الهوة من خلال عدم وجود نمط اقتصادي يحفظ لجميع الشرائح حقوقها نجد أن هذه التكوينات قد أصبحت تمثل شوكة في خاصرة الوطن وباتت تشكل مهدداً أمنياً خطراً للبلاد.

إن اهتمام الدولة بتجفيف بؤر التوتر من شأنه الحيلولة دون استثمار هذا التوتر من قبل الجهات الخارجية والتي ربما لا تريد خيراً للمجتمعات التي تسعى نحو الاستقلالية والحفاظ على هويتها الثقافية ضد التيارات الوافدة.

إن البحث عن الهوية الثقافية للأُمة قد استغرق وقتاً طويلاً دون الوصول إلى نتائج حاسمة فيه، حيث ظل ما يدور في الساحة من جدل حول العربية والأفريقية والإسلام والمسيحية ودور الدين في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمانية … الخ مصدراً للنزاع بين مختلف الكيانات عبر التاريخ ولا يزال يشكل هاجساً يحول دون الانسياب التقليدي للمتماذج الاجتماعي.

أما فيما يتعلق بالانتماء الوطني وهو لصيق الصلة بموضوع الهوية فمن الملاحظ أنه يعاني من ضمور واسع لعدم حسم موضوع الهوية حيث تشير العديد من الدلائل إلى أن الانتماء إلى الجهة أو المنطقة يتعاظم في مقابل الانتماء للوطن الواحد بل أن الكثير من التجمعات القبلية والأثنية على استعداد للدفاع عن ثقافتها المحلية حتى لو كان ثمن ذلك الوقوف ضد مصالح الوطن العليا. إن هذا يعني أن مفهوم المواطنة لا زال قيد التكوين وربما لا تساعد الظروف الدولية في بلورة هذا المفهوم إلا وفق أجندة تسعى لطمس معالم الهوية الثقافية للأُمة.

إن الامكانات الاقتصادية الهائلة التي يزخر بها السودان والتي قلما تتوفر في أي مكان آخر من العالم تجعل منه على الدوام مطمعاً خاصة من الدول المجاورة التي تعاني من شح بالغ في الموارد الطبيعية وهي تحيط بالسودان إحاطة السوار بالمعصم مما يعني أن الشأن السوداني سيظل دائماً عرضة للتدخل والانتهاك سواء إن كان لأسباب سياسية أو غيرها وسيظل موضوع الهوية والانتماء الوطني أمراً غير قابل للحسم لأجيال مقبلة ستأتي وذلك في ظل التدخلات الثقافية والأثنية بين مجموعات السودان ونظائرها في دول أخرى مجاروة.

دور الدين في الأمن المجتمعي والسلام الاجتماعي:

مرت الأفكار حول علاقة الدين بالنظام الاجتماعي بمخاض طويل حمل تباينات كثيرة وقد تأثر هذا المخاض خصوصاً بتجربة النهضة الأوربية التي قللت من قدرة الدين على الصمود في عالم أصبحت العلمانية فيه مذهب للحياة وأعطى الدور الأكبر للعلم والفلسفات العصرية على أن المجتمعات الغربية نفسها انقسمت في فترات لاحقة لثلاث فئات هي:

/ 1فئة ترى دوراً أساسياً للدين في قيادة الوعي الاجتماعي السياسي أو على الأقل في صياغة الشعور العام حيث هنالك من يرى أن تحول الدين من مجرد وصايا وتعاليم إلى أيدولوجية ذات فعالية فكرية ومؤسسية وسلطوية.

/ 2فئة تدعو إلى دين أخلاقي حدوده تكريس مشروعية القيم وعلى ضبط السلوك البشري أثناء تلبية الحاجات والرغبات.

/ 3فئة تدين الدور الاجتماعي للدين وتدعو لأن يحل محله العلم أو الفلسفة أو قيم العمل.

وعلى الرغم من هذه الانقسامات فقد انتهت ثورة العلمانية للاعتقاد بقوة الباعث الديني وأهميته في تأسيس بنى المجتمع حيث يرى دوركايم بأن الدين ليس أوهاماً أو بديلاً لقوى خارج فضاء العلاقات الاجتماعية وإنما هو تصورات ورموز للنسيج الاجتماعي ومن شأن وجوده أن يمنع الدوافع الأنانية ويرسي قواعد الانضباط ويجعل من الممكن إقامة علاقة متزنة بين الإنسان والإنسان وبين دوافع الفرد ودوافع الجماعة مما يمكن أن يجعل الدين ركيزة استقرار ومقوماً للهوية.

لهذا نجد أن الإسلام ومن أجل تحقيق الأمن والاستقرار في المجتمع فقد سعى ابتداءاً إلى تنمية الوازع الروحي في الحياة وتجسيد روح المجتمع المتضامن وبذلك يشعر الفرد بانتمائه للجماعة وهنا ينظر الإسلام إلى مصالح المجتمع الأساسية وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال وجعله وسيلة الردع هنا (حداً) يقدره الشارع الحكيم.

وهو بهذا يرتكز على منهج متكامل لحماية المجتمع تتمثل في أبعاد ثلاثة:

/ 1البعد البنائي: لحماية المجتمع المتكافل المتكامل.

/ 2البعد الوقائي: تحقيق الوقاية من الجريمة والتحزير منها قبل الوقوع فيها.

/ 3البعد العلاجي: تحقيق الردع والزجر من الجريمة بعد أن تقع وعلاج الوضع لحماية المجتع وإصلاح المجرم على السواء.

كما أن الإسلام يُعد من أول الديانات التي أصلت لحقوق الإنسان انطلاقاً من احترام الذات البشرية وتكريمها وبرهان ذلك على قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم) وهو بذلك قد حاز قصب السبق على غيره من الديانات الأولى وعلى القوانين الوضعية. ومن الجلي أن هذا التناسب المبني على وحدة النشأة والطبيعة والعفيدة والمصير يشير إلى استبعاد كل تمييز بين البشر مما يمكن أن يؤدي إلى زعزعة في الأمن السلم الاجتماعي وقد أبرزت الدساتير الأولية أنماطاً متعددة لحقوق الإنسان أرساها الإسلام من فجر الدعوة إليه وهي:

/ 1حق المساواة: المساواة في الأصل الإنساني وما يترتب عليه من حقوق وواجبات والتي قدرها الإسلام باعتبارها إحدى قواعد الحرية التي تندرج تحتها الكثير من الحقوق.

/ 2حق الحياة: وهي من الكليات الخمس التي أقرت بحفظها كل الأديان وعلى رأسها الإسلام حيث جعل الإسلام حق الحياة قاعدة أساسية تنبني عليها الكثير من الأحكام وجعل الاعتداء على هذا الحق بالقتل أو الاعتداء عليه جريمة شدد العقوبة عليها.

/ 3الحق في العيش بأمان: إن إرساء الإسلام لقاعدة المحافظة على الحياة إنما بتدبير الأمن بكافة صوره ولا يكون العيش بأمان إلا بالمحافظة على الكليات الخمس حيث أن التعدي لأي من هذه الحقوق من شأنه فرط العقد الاجتماعي بل أصبحت المحافظة على هذه الحقوق ورعايتها عبادة وإهمالها أو العدوان عليها منكراً في الدين وكل إنسان مسئول عنها بمفرده والأُمة مسئولة عنها بالتضامن.

هذا وعلى الرغم من تلك المبادئ السامية والأثر الكبير الذي تقوم به اللغة العربية والدين الإسلامي لتحقيق الانسجام بين المجموعات المختلفة إلا أن خصوصية كل مجموعة وطريقة انصهارها ودرجة تكيفها مع هذا الواقع ونسبة العروبة والأفريقية والإسلام والموروثات المحلية قد جعل كل قبيلة تحس أنها تختلف من الأخرى وتتميز عنها مهما دانت بالإسلام وتحدثت بالعربية حتى داخل الإقليم الواحد الشيء الذي أفرز العديد من الاختلافات في التصورات والرؤى للكون والحياة واختلاف التكيف النفسي والعقلاني ومن ثم التوجهات الفكرية والثقافية وكذلك الحياة العامة. مما يشكل تحديات كبيرة أمام موضوع الهوية ومن ثم المواطنة والذان يعدان حجر الزاوية في تحقيق الأمن المجتمعي.

انعكاسات العولمة على الأمن والسلام الإجتماعي:

على الرغم من تعدد تعريفات العولمة عند العديد من الباحثين وترادفها مع كلمات أخرى (كالكوكبة) أو (الكوكبية) أو في التركيز على النواحي الاقتصادية دون غيرها إلا أن المفهوم الذي استقر حول العولمة أنها تقوم على انتقال المتغيرات والظواهر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من مكان لآخر بشكل يؤدي لخلق عالم واحد أساسه توحيد المعايير الكونية وانتشار التقدم التكنولوجي والعلمي ونشر المعلومات وتداول الإنتاج وهي بهذا عملية مستمرة تسعى لتيسير حركة الناس والمعلومات والسلع والأفكار والخدمات والمؤسسات على نطاق الدول بحيث تصبح شعوب العالم متصلة ببعضها في كل أوجه حياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والبيئية.

إن خواص العولمة الرئيسية والمتمثلة في (العلمية) و (الشمولية) و (الحتمية) و (الدولية) قد ساعدت في التحمس لها وضرورة الأخذ بها والتعرض لمحاكاتها وتقليدها خاصة وأن اعتمادها على أن العالم بفضل التطور التكنولوجي قد أصبح قرية أو مدينة صغيرة يسهل السيطرة عليها بعد اختزال المسافات وتلاشي الحدود والفواصل.

هذا ولئن كان (للعولمة) العديد من الإيجابيات المتمثلة في الاستفادة من التقدم العلمي والتقني كشبكة الإنترنت والتي توفر المعلومات بيسر وسهولة إضافة إلى زيادة الحس والوعي الأمني لدى الأفراد وفي عدم إمكانية إخفاء أي ممارسات شرطية أو أمنية عن النشر والعلانية سواء أن كانت قانونية أو غير قانونية فضلاً عن انتشار مفاهيم ومبادئ تساعد في القضاء على مشاكل التخلف فإن لها العديد من السلبيات

والتي يمكن إيجازها في الآتي:

(1) إسقاط الحواجز والحدود والفواصل بين الدول أمام عملية التدفق الإعلامي والبث الإذاعي والتلفزيوني في مقابل عدم إمتلاك العديد من الدول الإمكانات والمقومات اللازمة لفرض رقابة كاملة على الإنترنت مما يجعل الدول عرضة للتأثيرات السلبية الوافدة.

(2) انتشار الانعكاسات السلبية والتأثيرات الضارة للعولمة وآلياتها وأدواتها على بعض الفئات الاجتماعية وخاصة النساء والشباب الأمر الذي يزيد إحساسها للاغتراب الاجتماعي مما يضعف من ترابط تلك المجموعات مما يؤدي لزيادة العنف والتفكك الأسري وجرائم الأحداث الجانحين والمخدرات.

(3) زيادة تأثير طوائف معينة من أبناء المجمع الواحد بموجه البث والإعلام وانبهارهم بما يشاهدونه من أنواع ثقافية مختلفة عنهم في السلوك الأمر الذي يؤدي إلى وجود فئة تنفصل عن بقية أبناء المجتمع الواحد وهو ما يؤدي لزيادة انقسام المجموعات وإحداث الفُرقة وعدم التوافق بها.

(4) زيادة تأثير الأفراد بأفلام العنف والجريمة التي تنقل عبر القنوات الفضائية والإنترنت الأمر الذي يدفع بعض الشباب كي يتقمصوا ما يشاهدونه ويحاولون تقليد أبطالها فتزداد أعمال العنف والجريمة.

(5) صعوبة إحكام قبضة القانون على رجال العصابات والجريمة نتيجة لما تقدم لهم التقنية المتطورة من مساعدات تمكنهم من ارتكاب الجريمة بسهولة وهو ما يشكل تحدياً جديداً على رجال الأمن مواجته.

(6) تساعد موجهات العنف والإرهاب وهي من أكثر المشاكل والأزمات التي تمر بها دول العالم ولا يرتبط بأنظمة حكم معينة أو حتى بديانات محددة.

(7) تفاقم مشكلة الهجرة غير المشروعة لاتجاه الشمال المتطور والناتج عن استمرار تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في العديد من الدول الجنوب.

إن هذه السلبيات تجعل من موضوع الأمن والسلام الاجتماعي قضية تتعدى الحدود القطرية أو الإقليمية إلى النطاق الدولي. بمعنى أن زعزعة الأمن الداخلي أو السلام الاجتماعي يمكن أن يكون خاضعاً لتأثيرات وعوامل خارجية ومن ثم فإن مخاطر العولمة والتي تكمن في تذويب تراث الأُمة وتفكك الثقافة القومية وانهيار الهوية الحضارية والغزو القيمي غير المحدود الهوية في حاجة إلى فكر يواكب هذه التطورات ويسعى للاستفادة من معطيات العلم الحديث مما لا يتعارض مع الموروث الثقافي والقيمي للأُمة.

الخاتمة:

إن هدف مناصري التعددية الثقافية من الكثير من المواقف والتي تعمد أحيانا لممارسة العنف مما يهدد الأمن المجتمعي ليس مجرد الاعتراف بها فالتعدد ميزة لا بد منها للمجتممعات الحديثة ولكن الأمر ينطلق من  أهمية الثقافات في تحديد الهوية وتشكيل المؤسسات الثقافية والسياسية وهذا يعني أن تلك الجماعات الثقافية التي همشت من قبل الثقافات المسيطرة بشكل أبرز من المساواة والسلطة والمطالبة بالتعددية الثافية وهي تذهب لأبعد من ذلك بالمطالبة بمساواة الحقوق فضلا علي الاختلافات التي تشكل هويات المواطنين عينها.

والحال هكذا يصبح من الضروري أن يتداعى كل المهتمين بالأمر من ساسة ورجال تربية ودين وعلماء ومفكرين ومنظمات المجتمع المختلفة للتباحث أولاُ في إمكانية تعايش المجموعات السكانية المختلفة في قطر واحد بعيدا عن المصالح الضيقة والمكاسب المؤقتة ذلك لأن القانون مهما كانت حاكميته وعدالته ربما لا يستطيع حفظ النظام الاجتماعي ما لم يكن هنالك رغبة حقيقية للمواطنين في التعايش معاً. رغبة تستند للعديد من المقومات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وعُبر عنها من خلال أهداف وأماني مشتركة.

المراجـــع

1.         السيد يسن – العرب والعولمة – مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت1998

2.         بهاء الدين مكاوي – تسوية النزاعات في السودان – مركز الراصد للدراسات – 2006م

3.         جابر محمد جابر – التنوع الثقافي والتداخل اللغوي – دار جامعة القرآن للطباعة – 2000م

4.         عادل حسن علي السيد – التخطيط الأمني لمواجهة عصر العولمة – مجلة الأمن والحياة – العدد 273 – مارس 2005م – جامعة نايف الأمنية-الرياض

5.         علي بهشتي – الثقافة الأمريكية والجدليات المثارة حولها (ورقة في كتاب الإسلام والمسيحية) – معهد الدراسات الإسلامي للمعارف الحكمية – دار الهادي – بيروت-2003م

6.         فتحية هارون – الحكم الرشيد ومعضلات الدولة الحديثة بدول العالم الثالث – ورقة ضمن اوراق عمل الملتقى الدولي-الجزء الأول – جامعة فرحات عباس – الجزائر2007م

7.         محمد علي الصابوني – روائع البيان وتفسير آيات الأحكام – مكتبة الغزالي – دمشق 1980م

8.         محمد علي محمد – أصول علم الإجتماع السياسي – دار المعرفة الجامعية – القاهرة 1980م

9.         مصطفى الخشاب – علم الإجتماع ومدارسه – الكتاب الأول – الطبعة الأولى – لجنة البيان العربي – القاهرة 1954م

10.       نصر محمد عارف – نظريات التنمية السياسية المعاصرة – دراسة في المنظور الحضاري الإسلامي – المعهد العالي للفكر الإسلامي – القاهرة 1994م

11.       مداولات مؤتمر التعليم والأمن – أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية – الرياض 1994م

4 رأي حول “تحقيق الأمن والسلام الاجتماعي في ظل التعددية”

  1. التعدد في الاساس ايجابي لكن عندنا في السودان الساسة خلقو جفوة بين الشعوب وحصل عدم تجانس ونمت الجهوية فى نفوس الناس لان امورنا تدار بواسطة نخب ان جاز لي ان اقول انهم غير اكفاء لادارة بلد مثل السودان لانهم اصحاب مصالح ذاتية ومطامع حزبية ولاتوجد روى واضحة لاسيعاب التعدديه وتوجية قدرات الكل نحو البناء والتقدم

  2. اخى هذا الموضوع شيق جدا لكن ما هو مفهوم السلم الاجتماعى فى القبائل السودانية

  3. رحم الله استاذنا الكريم البروفيسور حاتم هلاوي ونسأل الله ان يجعل ما كتب في ميزان حسناته ويجعل قبره روضة من رياض الجنة

التعليقات مغلقة.