الأســــــــرة

الأسرة

هاني عمران

قد لا تفوق سواسية الناس بانتمائهم إلى أسرهم إلا سواسيتهم بالولادة والموت، فلا يخلو امرؤ من التعرض لآثار أسرية في حياته. وليس أدلّ على كلّية الأسرة وانتظامها الحياة الإنسانية من اشتداد الحاجة إليها أو إلى بدائلها عند فقدها. وما ذلك إلا لأن الأسرة تستجيب لنوازع حيوية عند الإنسان اقتضت وجودها واستمرارها حتى غدت عرفاً ثابتاً ومؤسسة راسخة لا يستغنى عنها.

لقد تنبّه الفلاسفة والمفكرون والمصلحون الاجتماعيون منذ أمد بعيد على أهمية الأسرة، وأدركوا أن المجتمع مؤلف من أسر، وأن التنظيمات الاجتماعية الأخرى تعتمد على نتاجها، فظفرت في نظرياتهم ومشروعاتهم الإصلاحية بنصيب وافر.

تعريف الأسرة

اشتق لفظ «الأُسرة» family من الأَسْر، وهو التقييد أو الشدّ بالإسار، والأسرة هي الدرع الحصينة أيضاً، فهو يتضمن إذن معنيي الإحكام والقوة. وقد أُطلق لفظ الأسرة على عشيرة الإنسان ورهطه الأدنين، لأن الصلات القوية التي توحّد أعضاءها وتحول دون تشتتهم تشبه الإسار الذي يقيّد الأسير، ولأنها توفّر لأعضائها الحماية وأسباب القوة والمنعة بما يتولد من اجتماعهم من تعاون وتناصر وتوادّ وتراحم.

أما اللفظة المولّدة «العائلة» التي تعدّ أقرب مرادف «للأسرة» فتقوم على أصل لغوي آخر، وعيال المرء هم الذين يتدبر أمرهم ويكفل عيشهم.

ومع ازدهار العلوم الاجتماعية في الحقبة الحديثة ووفرة الدراسات العلمية للأسرة صيغت تعريفات كثيرة للأسرة، لكن قسماً كبيراً منها وقع ضحية النظرة الواحدية الجانب أو جاء مخلاً بشروط التعريف العلمي المتمثلة بالشمول والدقة والصحة والموضوعية.

ولعلّ أفضل تعريف للأسرة أنها جماعة من الناس توحدّهم صلات قربى قوية قائمة على روابط الدم أو الزواج أو التبنّي والادعاء، وتجمعهم روابط العيش المشترك الذي تُراوح أنشطته بين اللهو وتمضية وقت الفراغ والعمل وتناول الغذاء والإقامة والتعاون والثقة والسكنى في دار واحدة. وقد انبثقت هذه الجماعة في ظروف الحياة الطبيعية والاجتماعية للإنسان، لتؤدي وظائف ضرورية لكل من الفرد والمجتمع، أقلها الإشباع العاطفي لأفرادها، وتوفير وضع ملائم للتعاون الاقتصادي والتواصل الجنسي والتناسل ورعاية الذرية والحفاظ على مظاهر الحضارة ونقلها من جيل إلى آخر. فتلتقي من خلال الأسرة مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، ويصبح هذا المجتمع الصغير ضامناً شؤون حياة الزوجين ونشأة الأولاد وإعدادهم وانتظام بقاء النوع الإنساني. وللأسرة حجم يكبر أو يصغر، ودورة حياة تطول أو تقصر، ولها نطاق من ذوي القربى يتوسع أو يضيق، وطرائق لاكتساب العضوية، يتبدّل التركيز عليها بتبدّل الحال واختلاف المكان والزمان. وللأسرة أشكال متنوعة مختلفة في بناها ووظائفها وأساليب تكونها ونمط علاقاتها الداخلية والخارجية نشأت في غضون التطور الاجتماعي.

وظائف الأسرة

الأسرة كيان رُتّبت عناصره بطريقة تمكّنه من أداء جملة وظائف يُعدّ إنجازها ضرورياً على صعيدي الفرد والمجتمع، وفي مقدمة هذه الوظائف أنها تهيئ وضعاً ملائماً للتكاثر ورعاية الذرية وتربيتهم وتنشئتهم اجتماعياً، فتحفظ حياة الكائن الإنساني ـ هذا الكائن الذي تطول عنده مدة العجز وسير عملية النضج، والذي تحتاج جملته العصبية المتطورة إلى زمن طويل نسبياً من الرعاية والتعلّم لاكتساب مهارات الحياة ـ وتضمن بقاء النوع البشري واستمرار المجتمع. ومن وظائف الأسرة الأُخر أنها جماعة تمد أعضاءها بالإشباع العاطفي والسكن النفسي، وتضطلع بتنظيم غريزة الحب بين الجنسين وضبطها ـ وهذا ضروري لكل من الفرد والمجتمع كما أشير من قبل.

وما خلا ذلك من وظائف تنسب إلى الأسرة تكون إما متضمّنة في الوظائف الأساسية الآنفة الذكر ومتممة لها، وإمّا ثانوية تقوم بها الأسرة نيابة عن مؤسسات اجتماعية أُخر، كالمهام التي تضطلع بها بوصفها الوحدة الأساسية في المجتمع للعمل والإنتاج والاستهلاك وممارسة الشعائر الدينية والمقاضاة وحلّ الخلافات وتوفير الأمن والحماية وتزويد الفرد بالخبرات المهنية وغيرها. ويُرجح أن تكون الوظائف الثانوية كامنة وراء ظهور الأشكال الموسّعة والممتدة للأسرة.

أنماط الأسرة

في مسعى عام لتصنيف الأنماط المتنوعة للأسرة يمكن اللجوء إلى خاصتي البساطة والتركيب، فالبسيط من الأسر هو مادة الأنماط المركبة وهو متضمن في كل تنظيم أسري ـ إنه نواة الأسرة وأسّ تكوّنها.

العنصر البسيط والكامن في كل أسرة هو كونها جماعة مؤلفة من شخصين أو أكثر تجمعهم، إضافة إلى رابطة العيش المشترك، إحدى صلات القربى الآتية على الأقل: الأمومة أو الزواج أو الأبوّة أو الأخوة. يدعى هذا العنصر البسيط الأسرة النووية. فإن اقتصرت على الأب والأم وذريتهما من أصلابهما، دعيت الأسرة الطبيعية أو البيولوجية. وإذا شملت الأدعياء أو الأولاد المتبنين علاوة على أولئك، سميت الأسرة البسيطة أو الأساسية أو المقيّدة أو الزواجية. وثمة أسر نووية تقوم على علاقة الأمومة فحسب وأُخر تقوم على علاقة الأخوة فحسب كما هو معلوم عند بعض الشعوب البدائية. لذلك يمكن القول: إن الأسرة النووية ظاهرة شاملة لكونها متضمنة في جميع النظم الأسرية.

فإذا أضيف إلى الأسرة النووية أفراد إنسانيون آخرون أو نوى أسرية أُخر، تكونت أنماط كثيرة من الأسر تدعى الأسر الموسّعة. فإن وسّعت الأسرة بإضافة الجدين أو الحفيدين لتنتظم أجيالاً ثلاثة أو أربعة كانت الأسرة الناتجة هي الأسرة الممتدة. وتشمل الأسرة الممتدة الأبناء المتزوجين وزوجاتهم أو البنات المتزوجات وأزواجهن أو زوجات الرجل أو أزواج المرأة. وإذا كان للأبناء المتزوجين أو غير المتزوجين بعد وفاة والديهم ملكية مشتركة يتولى إدارتها أحدهم أو يديرونها بصورة مشتركة من دون أن يؤدي ذلك إلى تقسيم الملكية فتلك هي الأسرة المشتركة. ويُضاف إلى الأسرة الأدعياء أو الخدم أو العمال المنزليون، فالأسرة عندئذٍ هي المعزّزة بهؤلاء.

وثمة تصنيفات أخرى للأسر على أساس نوع القرابة أو شكل الوحدة المعيشية أو نمط الزواج أو نظام الشرعية. ومن أشهر أشكال الأسر القائمة على معايير كهذه: الأسرة الطوطمية التي يبنى نظام المحارم فيها على أساس القرابة بالطوطم، والأسرة التعددية التي تسمح بتعدد الزوجات أو الأزواج، والأسرة الواحدية ذات الزوجة الواحدة والزوج الواحد، والأسرة الأمويّة التي تتمتع فيها الزوجة أو الأم بسلطان على زوجها وأبنائها، والأسرة الأبويّة التي يسود فيها الأب.

دورة حياة الأسرة

ليست الأسرة كياناً جامداً، وإنما هي في حركة دائمة. وهي في صيرورتها تمر بدورة حياة ذات أطوار متعاقبة، يمكن حصرها في ثلاثة أطوار عامة هي: التكون فالنمو فالانحلال. تشهد الأسرة إبان كل طورمن دورة حياتها تغيرات مهمة في حجمها وتركيبها ووظائفها والأدوار الاجتماعية المسندة إلى أعضائها وطبيعة المشكلات التي تواجهها. ودورة حياة الأسرة هي موضع اهتمام الدراسات المعاصرة، وفي جملة ما تتناوله هذه الدراسات مواقيت أحداثها وترتيبها.

ولشكل الأسرة صلة بدورة حياتها، فالأسرة الممتدة تعيش دورة حياة أطول بكثير من تلك التي تعيشها الأسرة النووية. وقد تكون الأسرة الممتدة مرحلة أساسية من دور حياة الأسرة النووية، كما هو معروف عن أغلب الأسر العربية المعاصرة، إذ يرجح بقاء الأبناء المتزوجين مع زوجاتهم في دار أبيهم إلى حين قبل الاستقلال بمنزل خاص. وربما أمضى الأبوان ما تبقى من حياتهما ضمن أسرة أحد أبنائهما.

والانحلال هو خاتمة حياة كل أسرة. يحدث الانحلال الطبيعي عند رحيل الأبناء عن الأسرة لتكوين أسرهم الخاصة. أما الضروب الأخرى من الانحلال فتنجم عن إخفاق أعضاء الأسرة، كلهم أو بعضهم، في القيام بواجباتهم الأسرية لأسباب أهمها: خرق الشرعية الذي يحول دون وجود أحد أركانها، كما هي الحال عند عدم وجود الأب الشرعي أو الزوجة الشرعية، والغياب العمدي أو غير العمدي لأحد الزوجين الناجم عن الطلاق أو الهجرة أو الموت أو المرض أو السجن أو ما ماثل ذلك.

مقومات الأسرة

الأسرة كيان مركب، تأتلف فيه عناصر بيولوجية ونفسية واجتماعية وحضارية واقتصادية، وتُعدّ هذه العناصر مقوّمات وجودها وتطورها ومعايير تميّزها من سواها.

الأسس البيولوجية للأسرة: تقع العوامل البيولوجية والطبيعية في مقدمة العوامل «الشارطة» للسلوك الإنساني. ولا ريب في أن تمتع الإنسان بجملة عصبية متطورة تحتاج إلى مدة زمنية طويلة من التعلم واكتساب الخبرة هو أكثر هذه العوامل التي تجعل وجود الأسرة ضرورياً. ومن السمات البيولوجية الأُخر التي ينفرد بها الإنسان من دون سائر الحيوان والتي تُعد أساساً لتكوّن الأسرة طول مرحلة العجز والضعف وعدم النضج عند الوليد الإنساني، وافتقاره إلى الغرائز المبسِّطة لسلوك التكيف مع البيئة، وتمتعه بنزوة جنسية دائمة غير محدودة بفصل شبقي. إن هذه الخصائص مجتمعة تجعل الإنسان بحاجة إلى جماعة أسرية توفر له الغذاء والحماية والرعاية، وتعلّمه ما لم تزوده الطبيعة به، وتوفّر له الإشباع الجنسي لنزوته المتصلة. علاوة على ذلك، فإن للدافع الجنسي وغريزة الأمومة دوراً مهماً في نشوء الأسرة وتطورها.

الأسس النفسية للأسرة:

من أبرز خصائص الأسرة الإنسانية وأشهر أسباب نجاحها في مهامها وأقوى عوامل تمتين اللحمة بين أفرادها أنها اجتماع يقوم على المودة، ينشأ وينمو في جو من عواطف الحب ومشاعر الحنان والاحترام والإيثار والرغبة الصادقة بتحمّل المسؤولية. إن جميع الأدوار الأسرية تحدث في سياق وجداني. وتعدّ الأسرة المكان الأساسي لنماء تلك العواطف الإيجابية، ومحل تفريغ شحنة التوترات النفسية الناجمة عن الحياة الاجتماعية وضغوطها، فتوفّر بذلك للإنسان السكن النفسي والاطمئنان الداخلي، وتمنحه الراحة والسعادة، وتعيده إلى حال الانسجام الضرورية لأداء أدواره الحيوية بفاعلية ونجاح، وترضي في داخله لاعج الرغبة بالخلود والامتداد في الزمان من خلال الذرية.

إن وظيفة السكن النفسي والإشباع العاطفي هي إحدى أهم الوظائف التي تضطلع بها الأسرة. ومن سمات تطور الأسرة المعاصرة أنها تميل إلى تأكيد هذه الوظيفة. ولا شك في أن حدوث خلل في أداء هذه الوظيفة يضع الأسرة أمام مشكلات كبيرة تهدد بانحلالها، لذلك أخذت المشكلات النفسية للأسرة تحظى باهتمام متزايد من الباحثين.

الأسرة جماعة إنسانية:

الأسرة جماعة إنسانية، ولذلك فهي محكومة بالخصائص العامة لكل جماعة إضافة إلى ما يميزها. تتكون الجماعة الأسرية من أفراد إنسانيين، يؤدون أدواراً معينة، يكونون على الأغلب مختلفين بخصائصهم الجنسية (الذكورة والأنوثة) والعمرية. ولهذه الجماعة جوانب اقتصادية وسياسية وحضارية.

والأسرة هي من الوحدات الأساسية للحياة الاجتماعية، وهي خلية المجتمع الأولى التي تعتمد على عطاءاتها الجماعات الأخرى. وتحتل الأسرة منزلة وسطاً بين الفرد والمجتمع تؤدي وظائف حيوية على صعيد المجتمع أهمها الحفاظ على النوع الإنساني، ورفد المجتمع بالأفراد الإنسانيين، وإعدادهم للحياة الاجتماعية، وحفز إسهاماتهم، وتقويم الانحراف الاجتماعي أو ضبطه، وحفظ الموروث الحضاري وضمان نقله بين الأجيال.

المقومات الحضارية في الأسرة أو الشرعية واللاشرعية: إن اكتساب العضوية في الجماعة الأسرية (الذي يحدث بالزواج والولادة والتبني والادعاء) عملية تنظمها الأنماط الحضارية للشرعية واللاشرعية.

يحدث الزواج [ر] غالباً ضمن شروط أو قواعد وقوانين وأعراف اجتماعية تحددها قواعد الشرعية الحضارية، التي يتبناها المجتمع، والتي يحظى احترامها بالقبول والاستحسان وحيازة السمعة الطيبة والشرف والمكافآت، في حين يلقى خرقها الاستنكار وفرض العقوبات. ويتدخل المجتمع بوجه ما، لتحديد شريك الزواج الأنسب من وجهة نظره أو الملائم لمصلحته. وفي جميع المجتمعات قواعد لتنظيم الزواج تدعى نظام المحارم، تحدد أنماط الزواج المشروط بقيود ترجع إلى الاختلافات في العرق والدين والطبقة الاجتماعية، إضافة إلى قيود القرابة والمصاهرة والرضاعة التي هي أكثر أهمية.

لكن المجتمع يعطي الشرعية للزواج من أجل إنتاج الذرية أكثر مما يعطيها من أجل الوصال الجنسي، فهو يحدّد عن طريق قواعد الشرعية واللاشرعية الوحدة الاجتماعية المسؤولة عن التوالد ونقل الحضارة بين الأجيال وإعداد الكائن الاجتماعي ومنحه المكانة الاجتماعية.

أكثر مظاهر اللاشرعية استقباحاً في معظم الحضارات والأمم كان وليد التزاوج بين المحارم كعلاقات الاتصال الجنسي بين أم وابنها أو أب وابنته أو أخ وأخته، أو كزواج المقت (زواج الرجل امرأة أبيه بعده) عند عرب الجاهلية. أما الأولاد المولودون خارج المؤسسة الزواجية فأدنى استقباحاً في سلم اللاشرعية. وأما القيود الاجتماعية الأخرى كالقيود الدينية والطبقية والعرقية فهي على درجات متباينة من القوة، لكن تأثيرها اليوم صائر إلى التضاؤل في معظم المجتمعات الموصوفة بالتحرر.

تختلف الأمم والحضارات في التعويل على قواعد الحظر وشدة التركيز عليها، فتميّز الشريعة الإسلامية مثلاً بين المحرّمات على التأبيد (النسب والرضاعة) والمحرمات على التأقيت (المصاهرة والدين)، وقلما تأخذ الشعوب غير الإسلامية بمحرمات الرضاعة. ولا ريب في أن الفروق الحضارية بهذا الصدد كثيرة.

لنظام المحارم، ولاسيما عند ذويهم، منافع بيولوجية واجتماعية أهمها:

الخاصة الاصطفائية للنسل، ومنع ضَواه (هزاله)، وإزالة التنافسات الجنسية المخلّة بوحدة الجماعة، واستقرار الأسرة، علاوة على منافعه الاقتصادية والاجتماعية الأُخر التي تنجم عن مدّ الصلات بين الأسر وتعاونها معاً وزيادة فاعلية التنشئة الاجتماعية. وقد فسّرت بعض النظريات ظاهرة نشوء نظام المحارم بالعودة إلى هذه المنافع، في حين اعتقدت مذاهب أخرى أنه نشأ نتيجة عادة الزواج الخارجي.

أما التبني والادّعاء فشائع ومشروع لدى معظم الشعوب والحضارات، وله أعراف وقواعد تنظّمه، وتقتضي ممارسات التبني والادّعاء أن تضع الشرعية قواعد دقيقة للميز بين الأبوة البيولوجية والأبوة الاجتماعية: فالأم البيولوجية هي من ولدت، والأم الاجتماعية هي من ربّت ورعت، والأب البيولوجي أو الجيني هو المورِّث للصفات الجسمية، والأب الاجتماعي هو الراعي المسؤول الذي يمنح أبناءه المركز الاجتماعي ويورثهم الثروة الاقتصادية للأسرة.

الأسرة وحدة قرابة:

الأسرة هي وحدة قرابة قائمة على صلات الدم أو الزواج أو التبني والادّعاء، ولكن ليست كل وحدة قرابية أسرة، فمن الوحدات القرابية ماليس أسرة، كالعشيرة والفخذ والبطن والعمارة والقبيلة. وما يميز الأسرة هو النطاق المحدد الذي يشمل الأقرباء الأدنين.

تتكون الأسرة بصورة أساسية من الوالدين (الأب والأم) وذريتهما الذين يكونون من أصلابهما، فيدعون الأبناء والبنات، أو من أصلاب غيرهما، فيسمون الأدعياء. وتجمع علاقتا الأبوة والبنوة بين الآباء والأبناء. وتقوم بين الأبناء علاقة الأخوّة، فهم إخوة وأخوات بصفة عامة، أو أشقاء وشقيقات أو بنو الأعيان إن تحدّروا من الأبوين معاً، أو بنو العَلاَّت إن كان أبوهم واحداً وأمهاتهم شتى، أو الأخياف إن كانت أمهم واحدة وآباؤهم شتى. وربما اتسع نطاق الأسرة ليشمل الجدّ والجدّة من جهة أحد الأبوين أو كليهما أو بعض أقاربهما الآخرين، إضافة إلى الموالي والخدم.

ترتبط الأسرة بالوحدة القرابية التي هي أوسع بصلات دموية هي روابط العمومة والخؤولة أو صلات الزواج والمصاهرة التي تجعل أهل الزوجة أختان زوجها، وأهل الزوج أحماء زوجته.

وربما قامت الأسرة على أنماط أخرى من القرابة، فقد كان الخال عند بعض الشعوب البدائية أباً اجتماعياً لأبناء أخته، وكان للعمة أو الجدّة أدوار أسرية مهمة.

ويمكن من الناحية الوصفية التفريق بين ثلاثة أنواع عامة للقرابة هي: القرابة الدموية أو ماينوب عنها كالادّعاء والتبني، والقرابة الطوطمية، والقرابة الزواجية. تربط القرابة الدموية أناساً منحدرين من أصل واحد أو من سلف مشترك، فهي رابطة قوية وراسخة وثابتة، لا تؤثر فيها الرغبات الفردية إلا قليلاً لأنها  ليست من صنع الفرد بل المجتمع. قد تكون القرابة الدموية واحدية خط النسب فهي عندئذ أموية (تتبع نسب الأم) أو أبوية (تتبع نسب الأب)، أو ثنائية تأخذ بالنسبين: الأموي والأبوي معاً بالتساوي أو بتأكيد أحدهما أكثر من الآخر. وتتصف الأسرة ذات النسب الدموي في العادة بتماسك أعضائها، وكبر حجمها، وتمتّع الزواج فيها بقيمة ثانوية بالمقارنة مع القربى الدموية، وغلبة الأسباب الاجتماعية على الأسباب الشخصية في حدوث الزواج.

أما التنظيم الأسري القائم بصورة أساسية على القرابة الزواجية، كما هي حال المجتمعات الغربية المعاصرة، فهو على الإجمال أقل تماسكاً واستقراراً، وأصغر حجماً، لكنه يحقق قدراً أكبر من الإشباع العاطفي لأعضائه.

ترى طائفة من علماء الاجتماع (من بينهم دركهايم) أن الشعوب البدائية شهدت أنماطاً من القرابة لا تقوم على صلات الدم أو الزواج، وإنما تنشأ عن تعلّق أفراد الجماعة برمز مقدس واحد مشترك، يدعى «الطوطم» الذي يكون نباتاً أو حيواناً أو جداً أسطورياً أو شخصاً حياً أو ميتاً، تشرئب إليه الأنفس وتتوحّد عنده الرغائب وتلتقي فيه الآمال والآلام، فتتولد في ظلاله المقدسة رابطة الأُخوّة الطوطمية، وتصبح الجماعة كياناً عضوياً واحداً تضيع فيه معالم الفردية يُسمى «العشيرة الطوطمية». وقد تكون الصلة الطوطمية مانعة للزواج أو الوصال الجنسي، فيقوم الزواج عندئذ بين العشائر ذوات الطواطم المختلفة. ويمكن النظر إلى العشيرة الطوطمية من حيث هي أسرة ومجتمع في الوقت نفسه، فهي تمثّل الدرجة الدنيا من التطور الاجتماعي.

وتعدّ القرابة بالتبني والادعاء نوعاً من المحاكاة للقربى الدموية. لقد كان الادعاء في كل من الحضارات اليونانية والرومانية والعربية قبل الإسلام ضرورياً لإثبات القرابة الدموية نفسها، لكنها (أي القرابة الدموية) استقلت عنه الآن، وإن ظلت محكومة بنظام الشرعية.

لكن، مهما كانت القرابة، دموية أو زواجية أو طوطمية، فهي في المقام الأول قائمة على اصطلاحات اجتماعية. فالخصائص البيولوجية التي تقف وراء القرابة الدموية موجودة عند سائر الحيوان من دون أن تؤدي إلى وجود وحدة قرابية أو أسرة، ولكن الإنسان (في مجتمعه وحضارته) هو الذي اصطلح على تلك العلاقة وأوجب اللحمة فيها لما يجني بها من نفع يتجلى في النصرة والمناصرة والتعاون المثمر.

الأسرة وحدة معيشية:

العيش المشترك جانب أساسي من الأسرة، فلكل أسرة حدّ أدنى من المشاركة بين أفرادها في الإقامة والسكنى، وتناول الوجبات الغذائية وإعدادها، وتدبّر أمور الحياة من دخل وإنتاج واستهلاك وإنفاق وادخار، وملكية للمنزل والأثاث والثروة، ومواجهة المخاطر والتهديدات الخارجية. وغير مستبعد أن تكون الجماعة المعنية بالبحث عن الغذاء واستهلاكه أصل نشوء الأسرة أو أية جماعة إنسانية أخرى. وليس هناك ريب في أن توافر الغذاء واستقرار إمداداته، واستيطان الأرض ونمط السكنى فيها كانا عاملين مهمين في تطور الأسرة وظهور ضروبها المختلفة خلال التاريخ.

ويعدّ المنزلُ أولَ مستلزمات العيش المشترك، فهو حاوي أثاث الأسرة وممتلكاتها وهو ملاذ أعضائها في الليل ومعظم النهار. وتتخذ الدراسات المسحية الحديثة المنزل وحدة للمسح في التعدادات السكانية، لأنه المكان الذي تقيم فيه الأسرة.

ومن خصائص الأسرة المتصلة بالعيش المشترك ذات الأثر الكبير في نشأتها وتطورها وجود ملكية مشتركة، فالمنزل وأثاثه والدخل وثروات الأسرة مشاع بين أعضائها. ولا تكمن أهمية الملكية المشتركة في رعاية الأفراد وتزويدهم بالإمدادات المادية الضرورية للحياة فحسب، بل فيما تولِّده هذه الملكية المشتركة من مشاعر الألفة والمودة والتعاون. ولا تقف أهمية الملكية عند هذا الحد فحسب، بل إن أسلوب انتقالها وطريقة تنظيمها يُوجِدان في الأسرة مركز نفوذ وقوة، فتحدد شكل رئاسة الأسرة وممارسة السلطة فيها. والمعروف أن الرئاسة يمكن أن تكون فردية واستبدادية أو جماعية وديمقراطية، وقد تكون أموية أو أبوية، ولهذا كله تأثير بالغ في الأسرة.

بعض الأنماط الحضارية للأسرة

شهدت الحضارات المختلفة أنماطاً من الأسر. وثمة ما يعرف بنمط الأسرة البدائية، وهو نمط لا يحكمه نموذج واحد محدد، فقد عرف النماذج الطوطمية والتعددية والواحدية والأموية والأبوية، لكن يرجح معظم الانتربولوجيين الآخذين بنظريات التطور أن النمط البدائي للأسرة كان أموياً وطوطمياً.

وقد كان للعرب قبل الإسلام وللرومان واليونان القدماء نمطٌ من التنظيم الأسري يدعى «العَصَبَة»، يأخذ نموذج الأسرة الأبوية الموسّعة التي يكون فيها لعميد الأسرة سلطان مطلق على زوجاته وأبنائه وأعضاء أسرته الآخرين من عبيد وموالٍ وغيرهم. ومع أن القرابة الدموية من جهة الذكور هي أساس اللحمة الأسرية فإن لنظام الادعاء والخلع شأناً كبيراً في بناء الأسرة. تؤلف هذه الأسرة جماعة مكتفية ذاتياً وهي الوحدة الرئيسة للعمل والإنتاج والاستهلاك في المجتمع.

أما الأسرة العربية الإسلامية التقليدية فهي أسرة موسّعة تقوم على القرابة الدموية والنسب الأبوي والسلطة الأبوية، وهي أسرة واحدية في الغالب وقد تكون تعددية من جهة الزوجات، يرث فيها الذكور والإناث أبويهم بأنصبة مختلفة.

وتعدّ الأسرة الصينية التقليدية نموذجاً للأسرة الممتدة، فهي أسرة أبوية النسب، والسلطة تضم ثلاثة أجيال أو أربعة، تنتقل الملكية فيها من الأب إلى أبنائه الذكور من دون الإناث بعد وفاته، فيقتسمونها بالتساوي ويختص كل منهم بنصيبه. وهي أسرة واحدية الزواج، لكن الزوج يقتني ما يشاء من المحظيات.

وينظر إلى الأسرة الهندية التقليدية على أنها نموذج جيد للأسرة المشتركة، فالملكية فيها مشتركة بين الأبناء المتزوجين وهي أسرة واحدية وأبوية.

وللسلافيين في أوربة الشرقية نمط حضاري متميز يسمونه «زَدْروكا»أي الأُخوّة، وهي أسرة موسعة واحدية الزواج ذات سلطة أبوية تنتقل فيها رئاسة الأسرة بعد الأب إلى الابن الأكبر.

تشترك معظم الأنماط الحضارية التقليدية الآنفة الذكر ـ ماعدا الأسرة البدائية ـ بكون الأسرة فيها أبوية، موسعة، كبيرة الحجم، ذات قرابة دموية تركّز على الجانب الأبوي، شديدة التماسك، تولي الأطفال الأهمية القصوى، وتنتقل فيها الملكية (أو الميراث) بصورة عمودية أي تنتقل من الأسلاف إلى الأخلاف.

أما الأنماط الحضارية الحديثة المعاصرة للأسرة فتتبع الشكل النووي بصفة عامة، وتنأى بالأسرة عن استبدادية سلطة الفرد، وتحدّ من تسلط أحد الجنسين أو هيمنة الكبار على الصغار، وتشجّع الحجم الصغير للأسرة والعدد القليل من المواليد فيها، وتمضي الملكية فيها في مسار أفقي منتقلة من أسرتي أهل الزوجين إلى الأسرة الجديدة.

ويتصف النمط الغربي الغالب اليوم في أوربة وشمالي أمريكة، فضلاً عن الخصائص السابقة بكون الأسرة واحدية، تعاقدية، ثنائية خط القرابة، تركّز على القرابة الزواجية، وضعيفة الصلات بالقرابة التي هي أبعد. ويتصف النمط الأمريكي اللاتيني المعاصر بغلبة أسرة الزواج العرفي، أي أنها تحررت من القوانين، وتقلّص فيها دور الأب، وتراجعت مسؤولياته، وتحمّلت الأم مسؤولية عظمى في تربية الأطفال.

أما الأسرة العربية المعاصرة، فهي تتجه إلى أن تصبح أسرة نووية مع احتفاظها بتماسك أعضائها وروابطها القوية بالقرابة الدموية والزواجية. غير أن هذه الروابط أخذت تضعف مع الأقرباء أو الأنسباء الأبعدين وتزداد قوة مع الأدنين منهم ولاسيما أعضاء أسرتي الزوجين الأصليتين، ولكنها لم تتوقف عن إعلاء منزلة الزواج وإيلاء أهمية كبيرة للأطفال ومنح الرئاسة للرجال؛ وإن سمحت للنساء بالعمل خارج المنزل والمشاركة بالنشاطات الاجتماعية المختلفة. وقد لا تكون هذه الخصال انتقالية أو مرحلية وعابرة، كما يرى من يسلّم بحتمية انتصار النمط الأوربي الغربي، فقد ظلت الأسرة اليابانية محتفظة بخصائصها القومية الأساسية على الرغم من انفتاح اليابان الحضاري على الغرب، ومضاهاتها له في مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي.

تطور الأسرة

لا توجد حتى اليوم نظرية علمية شاملة تصف بدقة تطور الأسرة أو تقدّم تفسيراً له، مع أن محاولات كثيرة جرت انصرف قسم كبير منها إلى التكهن حول أصل الأسرة ودراسة انتقالها من نمط إلى آخر، ولاسيما الانتقال من الأسرة الممتدة المشاهدة في المجتمعات الزراعية والريفية إلى الأسرة النووية المشاهدة في المجتمعات الصناعية الحديثة. وتكفي هنا الإشارة إلى بعض القضايا الأساسية.

ما من شك في أن تغيرات جوهرية ألمّت بالأسرة على مدى التاريخ. وقد تدعى هذه التغيرات تطوراً مادامت تمضي نحو تعزيز قدرة الإنسان على التكيف مع واقعه، وتساير تغيرات أخرى في هذا السبيل. ومع أن الأسرة سلكت في تطورها مسارات عدة لا مساراً واحداً حتمياً، فإن اتجاهاً عاماً واحداً يكاد ينتظمها جميعاً تُحدَّد معالمه كما يلي:

إذا استبعدت حال القطيع الفوضوي الابتدائي للبشرية التي سلمت بها بعض النظريات، مع افتقارها إلى البيّنة التاريخية المناسبة والحجة المنطقية السليمة، كان اتجاه التطور هو الانتقال من الأسرة الأموية إلى الأسرة الأبوية، والتحول من أسرة الزواج الجماعي إلى أسرة الزواج التعددي (التي مرت بمرحلتي تعدد الأزواج ثم تعدد الزوجات) فأسرة الزواج الواحدي. وثمة اتجاهات أخرى تمثلت بالانتقال من الأسرة الموسّعة إلى الأسرة النووية، ومن الأسرة المبنية على الروابط الدموية إلى الأسرة التي تركز على الروابط الزواجية، ومن الأسرة ذات الشرعية العرفية إلى الأسرة ذات الشرعية القانونية، إضافة إلى تغيرات الوحدة المعيشية التي ذُكرتْ آنفاً.

تصور بعض النظريات الأسرة بأنها تسير في تطورها نحو تناقص وظائفها وتراجع أهميتها، ولكن هذا الاتجاه في البحث يتجاهل سمة أساسية من سمات التطور هي ازدياد تعقيد الحياة الاجتماعية وتمايز وحداتها. وفي ضوء هذا الملمح التطوري فإن الأسرة كانت عند المستويات الدنيا من التطور مندمجة في غيرها من الوحدات الاجتماعية، فالأسرة والتنظيمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية (حتى المجتمع نفسه) كانت كياناً واحداً غير متمايز، ثم قادها السير في معارج التطور (الذي جاء استجابة لحاجات فرضها التفاعل مع الشروط المحيطية المختلفة) إلى التمايز في وحدات مستقلة (لكنها مترابطة) تؤدي وظائفها بفاعلية أكبر من ذي قبل. وقد رافق اتجاه التمايز المتزايد ازدياد عدد الولاءات أو الانتماءات الاجتماعية للفرد ثم كثرة الأدوار المسندة إليه. ويكون للتعقيد والتمايز المتزايدين وقعهما الكبير في الأسرة وما تواجه من مشكلات. ولما كانت الأسرة من أقدم الوحدات الاجتماعية، أو ربما كانت أصل كل تنظيم اجتماعي آخر والوعاء الحاوي للتنظيمات الأخرى، فقد بدت عملية التمايز الآنفة الذكر كأنها انسلاخ الوحدات الاجتماعية عن الأسرة، أي إن ماحسبته تلك النظريات تقلصاً لوظائف الأسرة وتراجعاً لدورها لم يكن غير توقفها عن قيامها بوظائف سواها وتوقف سواها عن القيام بوظائفها الأساسية.

أما العوامل المسؤولة عن تطور الأسرة فتكمن في تفاعلها مع محيطها الإنساني ذي الأبعاد الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحضارية. لكن أسلوب تفاعلها، أي أسلوب تأثرها بالمحيط وتأثيرها فيه، يختلف باختلاف الزمان والمرحلة التاريخية، فلم تبق للعوامل الاقتصادية الأهمية نفسها التي كانت لها في مراحل التطور السابقة، أي إن أهميتها تتناقص، في حين يزداد دور العوامل الاجتماعية والحضارية. ويعد هذا أحد مظاهر التطور لأنه يعني التحرر المتزايد للإنسان من التبعية للشروط الضرورية ومنها العوامل الطبيعية والاقتصادية.

وتعزو الاتجاهات العالمية المعاصرة تطور الأسرة وما وصلت إليه إلى جملة عوامل أهمها: النهضة الصناعية والثورة الحضرية، والنقلة السكانية (ولاسيما توازن الخصب والوفيات عند مستوى منخفض)، والحراك الجغرافي النشيط للعمل، وتقسيم العمل المتنامي، والتطور الاجتماعي الذي يتجلى في تحسّن التعليم ومشاركة المرأة في العمل والنشاطات العامة خارج المنزل، ونمو خدمات الرفاهية الاجتماعية، والتغير السياسي المتمثّل بالدور المتعاظم للدولة وجهازها الإداري، والاتجاه نحو الديمقراطية والمشاركة الجماهيرية في الحكم، وإشاعة الحريات العامة، ونمو النزعة الفردية، والتحرر النسائي، وانتشار القيم الحديثة وتحديد النسل، علاوة على التقدم العلمي والتقني السريع وتأثيره النامي داخل المنزل وخارجه.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.